هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • الحب علامة بسيطة
  • جمال مصطنع
  • عدالة الأرض وعدالة السماء
  • عندما يغيب النور 
  • مش هاسمح لحلمي يموت
  • اعط تعطى
  • فتاه من الفيوم 
  • سيكون هناك
  • تتجول في ظلام السماء
  • أمانة يا صاحبي
  • قراءتي لكتاب لعنة فستان فرح لمايكل يوسف
  • خلاصة الكلام في حدود البدعة المذمومة:
  • زيارة القبور و الدعاء .. جائز
  • "بدون سابق انذار" نوعه إيه ؟
  • زمان بعيد فكريا
  • حبل المشنقة
  • رسالة إلى الله
  • رحلة سافاري
  • ألم أقل إنني
  • يا رعاكَ اللَّه
  1. الرئيسية
  2. مدونة جهاد غازي
  3. عبوس

آخر موعد : 24 أكتوبر

إضغط هنا لمزيد من التفاصيل 😋

منذ ما يقارب العشرين عاماً تركنا منزلنا وحططنا رحالنا في مدينة أخرى، سكنتها جسداً ولكنها لم تسكنني يوماً، ولكن الظروف أجبرتني على احتمالها، منذ يومين مررت أمام أمام تلك المكتبة القائمة في مكانها ربما قبل مولدي بسنوات، رأيتها كما عادتها كل صباح منذ رأيتها أول مرة، قبل ثمانية عشرة عاماً ترص البضائع وتزيح عنها الغبار في دأب دودة قز في فصل الربيع، وعبوس يرسم خطوطه ببراعة على جبينها؛ عبوس لا يليق سوى بعجوز ستينية وحتماً لا يليق بفتاة بجمالها الساحر الذي يقف متحدياً الزمن على وضع بصماته عليه، لكن الزمن يقف متخاذلاً أمام فتنته، لطالما كنت أظنها تسبقني بعقود كثيرة لأفاجئ أنها ليست بذاك الكبر!

لطالما تساءلت عن سبب لؤمها وكنت أتحاشى إلقاء التحية عليها، فقد كانت نظرتها تنصب علي كحمم بركانية تكاد تصهرني، وكلما اضطررت للشراء من مكتبتها كنت أشعر بكم هائل من الطاقة السلبية يسكن روحي، أثارت حيرتي حتى أنني ظننتها فتاة تاه عنها قطار الزواج وأخطأ عنوانها، فباتت حاقدة على كل فتاة لم تصل لسن الزواج بعد، أو لا زالت في محطاته تختار بدلال في أي محطة ستترجل، ولم أعلم أنه من داس روحها تحت عجلاته وفرم أحلامها وأحال قلبها فتاتاً، سألت أمي ذات مرة؛ لماذا لا تبتسم ابتسام -فهذا هو اسمها- على الإطلاق؟ لتبدأ أمي بقص حكايتها المؤلمة حد الموت على مسمعي.

تنهدت والدتي بحسرة واستهلت حديثها قائلة والألم يملأ صوتها: لقد كانت ابتسام أجمل بنات عائلتها؛ فاتنة القد بهية الطلة أنثوية التضاريس ببشرة لامستها الشمس عشقاً فمنحتها لوناً برونزياً لامعاً، وتمتلك شعراً أهداه الليل قبساً من لونه الدامس ينسدل على ظهرها كشلال حبري، كل ذلك جعل أبناء عمومتها يتصارعون لأجلها ويقدمون فروض الولاء لتتعطف عليهم وتقبل بأحدهم زوجاً لها، ولكنها لم تعشق سواه ولم تكن ترتضي غيره ولم يستطع قلبها ولا عيناها رؤية أي شخص في العالم إلا هو.. ابن خالتها الوحيدة، الذي كان لا يزور منزلهم إلا ليروي عطشه من جمالها الفتان، معركة حامية الوطيس كانت تدور رحاها بين لحاظهم لحظة التقاءهما، عشق بلا حدود جعلهما يقدمان على تحدي الجميع ليتحدوا تحت سقف واحد، حب أجبر الجميع على الرضوخ لهم في النهاية.

حبهما وتفاهمهما كان مثاراً لحسد الكثيرين وكل من وقعت أنظاره عليهما كان يقسم أنه لم ير حباً كهذا قط، وأن لا شيء بإمكانه تحطيم عراه الوثيقة مهما حصل...

ولكنهم جميعاً كانوا مخطئين؛ فحبه لها لم يكن أكثر من قناع يرتديه لينال مراده من جميلة الجميلات، لتكون فتاة أخرى ضمن من اجتاحهن بوسامته ولسانه المعسول، وبعد أن نهل من رحيقها حتى البطر، ألقى بها على قارعة الطريق تصارع النزف المؤلم لقلبها المكلوم.

فذات يوم كانت عائدة من منزل والدتها، في وقت مبكر من النهار كان يفترض أن يكون هو في عمله حينها، فتحت الباب لتصدمها الأصوات الصادرة عن غرفة نومها، في البداية ظنت أن هناك لصاً اغتنم غيابهم عن المنزل للسطو عليه مما أثار الهلع في أحشاءها، ولكن عندما أصاخت السمع أكثر وهي تسير بتؤدة، وجدت أن الصوت ليس سوى خيانة بينة تحمل في طياتها طعنة رعناء سددها من كان حياتها إلى كبرياءها وأنوثتها ليسلبها حياتها للأبد، طلبت الطلاق رغم رفض أهلها وتركته يرتع مع من خانها معها.

الغريب في الموضوع، كيف استطاع إحضار تلك الفتاة إلى منزله القائم ضمن مساحة صغيرة تتجمع فيها بيوت العائلة دون أن يلاحظه أحد، ليس مرة واحدة بل مرات لا يعلم عددها سوى الله؟!

حتى الآن أنا بسذاجة فتاة لم تكن قد جربت الحب بعد، ولا تعرف ماذا تعني الخيانة لم أكن قادرة على استيعاب موقفها، فبنظري لم يكن هذا مبرراً لتدفن أنوثتها وتكمل حياتها وحيدةً بلا سند، استنكرت عليها عدم زواجها مرة أخرى من رجل ربما كان عوضاً من الله لها، يرمم قلبها ويعيد بث الروح فيها ويمحو ذلك المسخ من حياتها وكأنه لم يمر فيها أساساً، حتى جاءتني الإجابة على كل تساؤلاتي دفعة واحدة صادمة موجعة، حينما أصبحت في وضع يشبه وضعها -لا أعني الخيانة- ولكن الطلاق، عرفت حينها كم الأذى الذي سيكون على أي امرأة احتماله بسبب وصمة العار التي يوسمونها بها، فتغدو كأنها تحمل وباءً خطيراً يخافون تفشيه فيتحاشونها، حتى لو كانت مظلومة دوما ًستكون هي الملامة على عدم تحملها.

 وفي مساء صيفي كنا في زيارة لإحدى قريباتها نتحادث ونتسامر، ليقطع حديثنا فجأة دخول شاب في نهاية مراهقته بهي الطلعة طويل القامة عريض المنكبين يتمتع بأدبٍ جم، لاحظت مضيفتنا الحيرة المرتسمة على محياي ووالدتي، فقالت باسمة: ألم تعرفيه يا أم أحمد؟ موجهة حديثها لوالدتي، إنه ابن ابتسام وحسن!

وقع علي الخبر كالصاعقة، فخيانته لم تحرمها حبها وثقتها بالرجال فقط، بل أجبرتها على وأد جمالها وإقامة ضريح أبدي لأنوثتها وتكريس سنين عمرها لتربيته، ففي قانوننا لو تزوجت سيحرمونها من فلذة كبدها ويعيدونه لذلك الخائن إن لم تستطع عائلتها تولي أمره، ولمن تعيده ولماذا؟ ألكي يتشرب منه أخلاقه الرديئة؟ ألا يكفي أنه يحمل جيناته القذرة والذي بفضل تربيتها لم يظهر منها شيء فيه!

على مدى تسعة عشرة عاماً دأبت على فتح باب رزقها قبل أي شخص آخر في السوق، وإقفاله بعد الجميع، تترك فلذة كبدها في رعاية جدته العجوز لتكفيه حاجته ولا تمد يدها لأي كان، استطاعت تربيته وتعليمه وتنشأته أفضل تنشأة وفي الطريق خسرت نفسها، لا زالت كما هي تتمتع بجسد منحوت وجمال ساحر وعينين سوداوين كسواد الحزن الذي يعشش فيهما.

بالنسبة لي عرفت سبب عبوسها، فبعد كل ما مرت به يحق لها أن تعبس قليلاً وتسخط كثيراً على قدرها البائس، وربما نظراتها لنا لم تكن أكثر من تحذير مما سيحدق بنا من ألم لو أننا لم نحسن الاختيار، ولكنني كنت حانقة على ذلك المغرور لاستمتاعه بفعلته وإكمال حياته وكأن شيئاً لم يكن دون أن يحاسب حتى، لا من المجتمع ولا من القانون، فقد تزوج تلك الخائنة وهكذا أصبحت نزوته شرعية.

لكن الله يمهل ولا يهمل؛ ففي أحد أيام عملي العادية كنت أقوم بسحب عينات الدم من المرضى لأسمع صوت أعرفه عز المعرفة، فقد كنا جيراناً لفترة لا بأس بها، رفعت نظري لأجده يقف أمامي ومعه طفل في الثانية عشرة من عمره ضخم البنيان يبتسم ببلاهة، وحينما هممت بتحضيره للفحص نطق الخائن بمرارة أسعدتني قائلاً: أرجوك تعاملي معه بروية فهو لا يستطيع استيعاب ما تفعلين.

التفت ناحية الطفل لإتمام عملي بحرفية وخاطبته بسؤاله عن اسمه تلطيفاً للجو ولمحاولة تخفيف توتره، لكنه لم يعرف كيف يجيب مما أثار حيرتي، رددت بصري نحو والده ليقول بمرارة إنه "معاق" الكلمة التي أثارت حفيظتي عليه أكثر، فكيف يقولها أمامه؟! لقد كان طفلاً في الثانية عشرة بعقل طفل في الثانية، دائم المرض بأوردة لا تكاد تظهر مما يجعل استخراج عينة دم صغيرة من جسده تبدو عملية شبه مستحيلة.

هو كسر قلبها وحرمها أنوثتها والله عاقبه بطفل سيظل يكبر جسداً لا عقلاً، سيكون عبئاً على روحه حتى مماته وما بعده أيضاً، سيؤلمه بكاءه في كل فحص يضطر لعمله له مهما كان بسيطاً، وسيكسر روحه رويداً.. رويداً.

عندما انتهينا من سحب العينة هممت بالخروج من الغرفة، لتهمس والدته التي لم أنتبه لوجودها قبلاً متسائلة عن المدة التي يستغرقها الفحص، نظرت نحوها وأنا أتوقع فتاة صارخة الجمال، لكنني وجدت امرأة أكل الدهر عليها وشرب حتى بدت هرمةً جداً، ولم أتبين أية ملامح جمال بائد عليها، أهذه من كسر قلب الفاتنة لأجلها!

سحقاً لأشباه الرجال ونزواتهم، يتزوجون الجميلة ليضمنوا وجودها الذي يستكثرونه على من يستحقها ويكملون عبثهم وكأن لا وجود لها، وكأنها مزهرية جميلة يؤثثون بها رفوف حياتهم، يستعرضونها في اجتماعاتهم ثم يعيدون تلميعها وإعادتها إلى ركنها ليحط عليها غبار النسيان، وكأنها بلا قلب، وكأن لا روح لها، وحتى لو كسر قلبها وباتت خاوية كإناء يعصف الفراغ بداخله، ستظل بنظرهم قطعة لا تكسر مضمونة الوجود، ستبقى في مكانها كلما عادوا إليها يتمننون عليها لو نفضوا عنها ذرة غبار ذات لحظة كرم، ولا بد أن تكون حامدةً شاكرةً لفضلهم، راضخةً لطلباتهم، متناسية لطعناتهم، بل وتستقبلها بابتسامة تغتصب ثغرها وتواري كرامتها في تراب مقبرة يدعونها جزافاً باسم الحب.

تمت

 

 

 

 

 

 

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

977 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع