أذكر مرة أن أحدهم قد انتقدني في مقال، وقال بملء فِيه: كل الموضوع أنك تريد الظهور للناس بمظهر المثقف!! وكان يمكن لهذا النقد الجارح، أن يحزن قلمي قبل نفسي، ويعرضه لموجات من اليأس المحبط، لكنني لم أكن في البدايات، حتى تكون نفسي مؤهلة لحدوث هذه الانتكاسة، لأنني أراني تخطيت كلمة المثقف منذ زمن بعيد، كان من الممكن أن ينال مني كلامه هذا قبل عشرين سنة أو أكثر، لكنني اليوم أتطلع لكلمة وحيز أعلى من كلمة مثقف، وأمام هذه الكملة التي تفكرت فيها، تحركت عيني قبل لساني، لتبصر هذا الكم الكبير من الإنجاز، والذي تمثل في كتب متعددة متنوعة، ومئات المقالات الفكرية والأدبية، التي تمثل وتعبر عن زمن كبير، وأياما طويلة قضيتها في رحاب الفكر والقلم، وأمام هذا النظر، لم تعد هذه الكلمة، إلا أن تكون أضحوكة بلهاء ارتسمت على وجه جاهل، أو نكتة نطق بها لسان غر أبله، لا يدري ولا يعرف أي شيء من أمور الثقافة والمعرفة، والتقييم الحقيقي للأقلام الموهوبة، والكتاب المبدعين.
وأنت اليوم أيها الكاتب الذي تخشى غوائل المحبطين، سارع وانطلق لصنع إنجازك الذي يحميك ويقيك شرور الكارهين، وضربات الميئسين، سارع بصنع حائط الصد الكبير الذي يحافظ على مسيرتك ويمنع عنك ما يعجر مزاجك ويهلك نفسك، ويطفئ فرحتك بقلمك.
لقد كانت هذه عدتي حينما تطاول علي أحد المعلقين محاولا تسفيه ما كتب، وقال بملء فمه: "اني بحثت عن إنجازات حضرتك العلمية والأكاديمية فلم تجد إلا بعض المقالات الوصفية التي تعتمد في معظمها على شذرات تاريخية دون تحليل معجز أو اكتشاف مذهل كما يوحي منشورك"
وهنا قامت قيامتي وقد حاولت أن ألزم نفسي أدب الرد، ولكن الرجل يتهمني في أعز ما أملك، ويحاول تصويري للناس: أنني نبات طفيلي يتسلق على غيره دون أن يكون له صلبه الملموس.. أو أنه يهذي بكلام فارغ لا قيمة له.
يمكن لك أن تتدعي أنك صاحب رأي، ولابد للغير أن يتحرم رأيك ويستمع إليك، لكنك أحيانا تغفل أنك أعمى، ورأيك الذي قدمته لم تقمه إلا على ظلام وعتمة.
يا عزيزي.. إن اليوم الذي أكتب فيه مقالة لا تقدم جديدًا ولا تعرض تحليلا دقيقًا، ولا تمنح الناس كشفا مثيرًا، فلن أمسك القلم بعدها، ولن أزعج الناس بحرف.
يا عزيزي إن لي جمهورا يفرض علي أن أحترمه، ومن العبث أن أهذي بقلمي في أي مجال وفي أي كلام لا يفيد ولا يثمر.
وإذا كان هذا الكلام المرصوص لم يحمل ما يفيد الناس، فكيف لي أن أستمر في هذا الهرج؟ وهؤلاء الذين يناقشونني ويخالفونني في أفكاري، ما معنى نزولهم في ساحة النقاش، إلا أنهم وجدوا نتيجة جديدة قد يقبلون بها أو يرفضونها، لكن المهم لدي ولديهم أنها جديدة.
أحيانا يدفع الحقد صاحبه لأني يتقول بكلام فارغ وتهما باطلة، لم تبعث بها قناعاته ويقينه، وإنما دفعه إليها هواه المغرض الحسود.
أشعر أنني تخطيت مرحلة هذا الاتهام الصبياني منذ زمن كبير، كان يمكن له أن يتقول به صاحبة في بدايات نشأتي الكتابية، لكن اليوم، ومع احتدام العقل في معارك الفكر، لا يليق أبدا أن يصفني الواصف بهذه البله.
يمكن لكتاباتي أن لا تروقك، ولا تعبر عن الصورة الثقافية التي تتبعها وتهواها، ولكن ليس معنى هذا أن الكاتب فارغ لا يقدم قيمة، بل أنت الذي لا تدرك معنى هذه القيمة.
هبني اليوم قرأت كتابا قيما في الطب أو الهندسة أو الفلك، إنه لا يمثل قيمة لدي، لكنني أبدا لا يمكن أن أتهمه بأنه كتاب لا قيمة له، لأن المحنة نتاج جهالتي أنا بهذا العلم، وليس في ازدراء العلم نفسه.
لقد تضايق المعلق المتهم بأنني قلت: "إنني أكتب المقالة على غرار الأفذاذ من أدباء الجيل الماضي" ولقد توهم من الجملة أنني من المتكبرين الذي يحملون أنفسهم مالا يطيقون، وأنني أعد نفسي من هؤلاء الأفذاذ، ومن ثم تفجرت كلماتي بروائح الكبر الكريهة.
فقلت: سبحان الله وهل لو قلت: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتي، فهل يعني هذا أنني رسول؟!
وهل حينما أقتفي أثر العظماء، فهل يعني هذا أنني عظيم؟!
إن تصيد الأخطاء وتحميل الكلمات فوق حقيقتها فعل الصبية الذين لم ينضجوا بعد.
والحمد لله أن هناك شهادات من علماء أفذاذ وأدباء كبار وباحثين منصفين، أعتز بها وأضعها وساما على صدري، ولو لا هذه الشهادات التي بنيت على غير مجاملة، لعصفت بي صفعات الحاقدين، وسفاهات الجاهلين.