هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • بونبونايه بدون الكتاب
  • ظاهرة القبلات بين الرجال و النساء!
  • أمي القوية
  • ذكرينــي
  • شكرا لسيدنا يوسف
  • المهر كان غالي 
  • نختلف، ولا نحتد
  • قماصين وقماصات
  • بين العمل والنتائج،، مقال
  • ما بال هذا الهيام..
  • مَواسم الفُراق
  • التسويق في مصر بعافية ١
  • حسان و السمان
  • تداعيات إشكالية
  • عندما يكون الإسهال عرضا جانبيا لدواء ..
  • كتابي السِفر
  • لغة البتاع
  • وطأت قدم
  • أتدري أنها فانية؟!
  • كلمتي الختامية من ندوة مناقشة رواية حيوات الكائن الأخير في مختبر السرديات 
  1. الرئيسية
  2. مدونة د حنان طنطاوي
  3. بين مستهل العمر وجواب التنسيق

 

ما هو جواب التنسيق؟ ..لو سُئل عنه موظف في الجامعة، سيفيد: بأنه المستند الذي يثبت حق الطالب في الالتحاق بكلية ما، أما موظف الأمن فسيؤكد أنه الورقة التي تُمكن الطالب المستجد من المرور عبر بوابة الجامعة؛ وذلك إلى أن يقوم باستخراج أول (كارنيه) جامعي له. (على الأقل كانت تلك إجابة موظف الأمن في جامعة حلوان في أواخر التسعينات ومطلع الألفية الجديدة).

 

بالنسبة لي، جواب التنسيق هو جواب واحد من أهم الأسئلة؛ التي ألحّت عليّ مرارا و تكرارا، منذ أن كنت في العاشرة من عمري أوربما أصغر قليلا.

ماذا سأكون؟ أو كما ترسمت في ذهني وقتها (هادخل كلية إيه لما أكبر؟) .

ما يُكتب في جواب التنسيق، ليس مجرد كلمات يقوم أحد الموظفين بطباعاتها، ليسلمها لنا موظف آخر يعمل في مكتب البريد، إنه جواب القدر الذي كُتب لنا قبل أن نصل إلى هذه الدنيا! 

 

(كلية الصيدلة _جامعة حلوان) كانت هذه إجابة السؤال الذي حاولت لسنوات طويلة أن أقدم له إجابات افتراضية. ثم تعلمت أن الإجابات الحقيقية لا يمكن التوصل إليها، إلا بالانتظار حتى يحين وقتها.

 

في طفولتي، تخيلت نفسي معلمة، وكثيرا ما كنت أصحح دفاتري القديمة المُصحّحة سلفا! ولم أتردد في إعطاء الأصفار لطلبة وهميين، نالوا مني الكثير من التوبيخ، لأنهم لم يحفظوا دروسهم.

 

 تخيلت نفسي طبيبة، وكان ما أعرفه عن الأطباء -وقتها- أدين به للدراما المصرية، فهم بالنسبة لي أناس يرتدون معاطف بيضاء، ويمسكون بيد المريض، بينما ينظرون في الساعة، ثم يقولون: (لاااا إحنا اتحسنا خااالص!). لم أكن أفهم حينها أن هذه الحركة تعني قياس النبض، كانت أختي الصغرى هي الضحية الدائمة في مشاهد المستشفى؛ التي ابتكرناها في غرفة نومنا أنا وأختيّ ، فلا نلبث أن ننتهي من إجراء عملية جراحية و همية لها، حتى ندخلها الطوارئ من جديد؛ في حالة مختلفة، أكثر خطورة ووهما! والحق يُقال أنها كانت تجيد القيام بدورها، خاصة وأنه لم يكن يتطلب منها سوى الاستلقاء على السرير! أما أختي الوسطى فكانت تتبادل الأدوار بين أن تكون مساعدتي، أو مريضة ثانية في مشفانا الخيالي، وكنت أضطر أحيانا لأحتواء لحظات تمردهما -النادرة- لأن أتقمص أنا أيضا دور المريضة لبعض الوقت.

 

تخيلت نفسي ممثلة، محامية، سيدة أعمال، حتى أني تخيلت نفسي ضابطة شرطة! وكان ذلك تأثرا بأحد الأدوار التي قدمتها "سماح أنور"، إلى أن وصلت إلى الصف الأول ثانوي، وعرفت فيه إحدى أنعم الله عليّ ؛ مدرسة مادة الأدب والبلاغة؛ أستاذة أمل.

 

 أستاذة أمل بالنسبة لي ساحرة في ثوب معلمة، كنت أنتظر حصتها بفارغ الصبر! لأشعر بالنفس ساريا بارتياح وسلاسة تامة بين أحشائي، وأنا أسمع صوتها وهي تلقي الشعر، أو حين أقرأ النصوص التي تغدق بها علينا–ضمن كل ما تهبنا من كنوز- لنتأملها.

 

 تعلمت معها أن لكل نص حالة تحركه، تنفخ فيه الروح لكي يلاحق الصور، ويطارد الخيال، فيستعير من أفقه خطوات رحبة؛ يطبع بها أثر وإحساس هذه الحالة، أو ربما يتوحد مع فضائه؛ فينفث فيه ضغطها، في محاولة للتنفيس عن الإحساس لا تكريسه، وتظل النصوص الصادقة أكبر من كل ما ينجبها، فهي بمجرد ولادتها تغدو قادرة على تبني كل لحظة صدق تحاكي لحظتها، فتهبها من نبضها، وتعكس فيها بهاءها ورونقها ومتعتها وحليها، حتى لوخلقت هذه اللحظة بعد خلق النص بسنوات طويلة، لكنها تسلم له بفرح وحب مقاليد معانيها، ليتولاها، لحين اختمارها وقدرتها على إنجاب نصها الخاص بها. 

 

حصة الأدب هي شهيقي الذي يتمنع عني لوقت طويل،  

وسط مسائل الرياضيات، ومعادلات الكيمياء، وذلك الشيء المبهم المسمى فيزياء! ثم تأتي أبيات الشعر لتخرس جميع الأصوات، ماعدا صوت موسيقى، أشعر بها وكأنها نابعة مني، يتراقص قلبي على أنغامها، ليكمل بدقاته سيمفونية يتوهج فيها كل كياني!

 أشعرتني أستاذتي التي نالت من اسمها الكثير (أمل)، أني متفردة في قراءتي للقصائد؛ كانت تسمع من كل الطالبات محاولات شرحهن للأبيات، ثم تنتهي بي، وتقول: أسمعينا ماعندك يا حنان. لا أعرف إن كان استقرائي لأبيات الشعر بهذه الروعة التي أشعرتني بها معلمتي –حقا-؟ أو أنها روعة فهمها لدور الأستاذ، القادر على إلهام طلابه، واكتشاف مواهبهم. 

 

تنامى لدي في تلك المرحلة أيضا اهتمامي بمتابعة بعض القضايا السياسية، وشغفي الدائم بجعل أي تجمع هو أشبه بحفلة تتلاقى فيها الأفكار، و تتقارب فيها الشخصيات، فكنت أستمتع جدا بتصميم المسابقات، ويظل ذهني يقظا لإبقاء شعلة الحوار متقدة، فسرعان ما يقفز السؤال من رأسي ليدير دفة الحوار في طريق يسمح بالسير في اتجاهين؛ (هات وخد)، وعندما فكرت فيما يمكن أن يبلور اهتماماتي وشغفي، فلم أجد أفضل من كلية الإعلام سبيلا أخطو فيه نحو تحققي. لكنها لم تكن إجابة القدر، وكان من السهل إقناعي بالعدول عنها!

وصل جواب التنسيق الخاص بي بعد بدء الدراسة في الجامعات بحوالي أسبوع؛ وذلك لأن شهادات (المعادلة) يتأخر تنسيقها عن تنسيق شهادات الثانوية العامة المصرية، وهو ما اعتبرته واحدا من تداعيات الغربة، التي لم أتوقع أن تنتهي هنا.

 

كنت أرغب في البدء بالدراسة من أول يوم –كسائر زملائي- لكني حاولت استغلال الأيام الأخيرة قبيل وصول الجواب، وسافرت إلى الأسكندرية ليومين، أودع فيهما رائحة البحر ونسيمه العليل! وأُشبع عينيّ من لوني سيارات الأجرة الخاصة بها -الأصفر والأسود- كنت مفتونة ب (تكاسي) الأسكندرية، لا أعلم تماما لماذا؟! ربما لأنها كانت أول ما ألاحظه من شباك (السوبر جيت) حين ندخل الأسكندرية؟ فأعتبرها أول إشارة تؤكد لي أننا وصلنا لعروس بحرنا ...وعروس صيفنا، فيها قضينا أجمل لحظات أجازاتنا، واصدق ضحكاتنا، كانت تلك فرصتي لتنشق بعض الهواء النقي، قبل أن تتلقفني أعاصير الدراسة في الكلية. 

 

وفرت على نفسي مشقة الذهاب للقصر العيني، واشتريت من الأسكندرية كل مستلزمات ال (سكاشن) التي قد يحتاجها طالب في صيدلة، ليس فقط في (الترم) الأول أوفي السنة الأولى، بل ربما في الخمس سنوات جميعها! أدوات تشريح، كمامات، جوانتيات، وزجاجيات معمل ...إلى آخر كل ما قد أحتاجه، وضعت كل هذه الأدوات بشكل متناسق، وغلفتها بطريقة لا تسمح لأي شيء بأن يكسرها، ولم تسمح لي أيضا بفتحها وإعادة فحصها قبل الذهاب إلى الكلية! لذلك قررت أن آخذها كلها، في أول يوم من باب الاحتياط! وعذري أنه من يعلم ما الذي قد يطلبه معيدو أول معمل أحضره في حياتي؟

 

ها هو اليوم المنشود، أول يوم لي في الدراسة، تتناوب على فؤادي مشاعر الفرحة، والرهبة، والتفاؤل! أحاول أن ألملم شتات أفكاري، كي لا أنسى الطريق الذي حفظته بصعوبة، فلست معتادة بعد على السير وحدي في الشوارع؛ فقد كان ممنوعا –وفق قوانين البلد الذي نشأنا فيه- أن أخرج بمفردي، برغم أن الشوارع هناك كانت هادئة وواضحة المعالم، أما الآن فأنا اخطو في طرق القاهرة؛ القاهرة التي قهرت النوم والهدوء وقواعد المرور!

 

علمني الطريق كما لا يستهان به من العبر، أول درس تعلمته كان أهمية الرياضة، وتعلم الركض والتدافع حتى أستطيع النفاذ وسط الزحام إلى (الميكروباص)، والذي كان وسيلتي الوحيدة من (المترو) للجامعة، وعلى ذكر (المترو) فقد علمني بدوره دروسا غاية في الأهمية: أدركت بفضله كيف تتجسد مشاعر القناعة، وأعيشها بشكل فعلي؛ فحين يجد الإنسان مكانا ليقف فيه داخل المترو، لا يعنى ذلك أن يتمادى في تطلعاته، ليتخيل أن من حقه الجلوس في أي محطة من المحطات في أي يوم من الأيام! 

 

حتى عندما كان يهيأ لي أن هناك كرسيا شاغرا، كانت طرفة عين كافية كي أستفيق من هذا الوهم، وأجد أن من الركاب من شغله من جديد! خُيل إلي للحظة أن صانعي المترو ربما وضعوا في كراسيه قدرة خارقة على استحداث البشر! وكأن الإنسان يخرج من الكرسي نفسه، لا يأتيه من مكان آخر!

 

ل(المترو) ومحطاته مكانتهم الخاصة عندي عبر السنوات، تعلمت منهم كيف يكون التأني، والتوقف بين كل محطة وأخرى ضرورة؛ لتفادي الحوادث التي قد تزهق الأرواح، وكيف يكون المضي قدما باستمرار، ودون توقف، واجب يلبي احتياجا جمعيا للوصول، وللتحقق، وللتاثير.

 

 في ذلك النظام ما يطمئنك بأن ما هو مقدر لك سينتظرك، وما أنت مقدر له ستتحرك بكل حواسك صوبه، ومهما تباينت توقيتات ساعتك مع ساعة (المترو)، ستظل ساعته هي الحكم، ولن تستطيع مغافلة قوتها، تلك القوة الأكبر التي لا تستطيع دوما التحكم بها، لكنك تتحكم في تقبلك لها، ورضاك بما تمليه عليك، والثابت والأكيد أنك لن تشعر بتلك الدفعة الباطنية الخفية؛ التي تجعلك تركض بكل خلاياك وأنسجتك، مغامرا بنبضاتك ولهثك وأنفاسك، نحو باب عربة مفتوح؛ لتدركه قبل أن يُغلق، إلا لو كنت تعرف أن هذا الاتجاه سيوصلك لمحطتك المنشودة!

 

وصلت أخيرا لبوابة جامعة حلوان، أشهرت جواب التنسيق أمام موظف الأمن؛ حتى يسمح لي بالدخول، سَرَت في أوصالي رعشة خفيفة، واعتراني بعض من الزهو، بعد أن رأيت مساحات الجامعة الشاسعة، وكل ما افترش أرضها من أشجار وحشائش وورود، يتوسطها ممرات وسلالم توصلنا لمباني المدرجات و(سنتر) الجامعة والكليات، كنت أخطو فيها خطواتي الأولى، أحاول تفادي صهد الشمس المحرقة، برفع حقيبتي في مواجهتها، وأعول على ما تبقى من آثار مساحيق التجميل؛ كشاهد على صدقي في محاولتي الجادة للتأنق قدر استطاعتي، وأني لم اكن أنوي على الإطلاق إفزاع أي أحد بما آل إليه مظهري؛ بعد كل ما مررت به في الطريق. 

 

حمدت الله –كثيرا- أن لا أحد يعرف حجم ما أشعر به من آلام في كتفي ورقبتي؛ بسبب حمل كل تلك الأدوات الطبية التي لم أستخدم عُشرها حتى تخرجت! كانت خطواتي بطيئة يعيقها الكعب العالي الذي ودعته تماما بعد ذلك اليوم.

 

برغم ذلك الشعور الكبير بالإنهاك والترقب، إلا أنه لم يكن شيئا يُذكر أمام روعة إحساسي؛ بأني أقترب من المكان الذي انتظرت عمرا حتى أعرفه يقينا، وهو بكل ما مر قبله وما سيمر معه، يستحق أن أنفق كل ما استطيع من طاقة للبذل والسعي؛ حتى تأتي تلك اللحظة التي سأموج فيها تماما ضمن نسيجه، وأتخفف فيها -ولو قليلا- مما ما يكبل خطواتي.

 

يذكرني أول يوم في الجامعة، بأول عيد ميلاد، أقامه لي أبي وأمي، خطوت في ذلك اليوم أولى خطواتي، ولم أكن أدرك -بالتأكيد- عظم ما يعنيه هذا الشيء، كوني طفلة تتعلم الخطو وحدها نحو ما تنشده، فأتعلم ضمن ذلك كيف أحقق التوازن بين حركتي وتريثي ووقوفي حتى لا أسقط!

 

من البديهي أني لم أفهم ذلك تلقائيا، لكن ربما حدسا أقوى مني، أرغمني على المحاولة، حتى وإن تعثرت في بدايتها، يحكي لي أبي عن ذلك اليوم، وكيف كان يهتف لي كلما تحركت وكلما توقفت، ويقول: (يلا يا حنان لسه المشوار طويل)..

 

في طريقي للبيت وبعد يوم طويل من (السكاشن)، كنت أدفع ثمن تذكرة ال (ميني باص) الذي ركبته، ولم أنس أن أتمم على جواب التنسيق بأناملي؛ أنه لازال في مكانه في المحفظة، أدار السائق مؤشر المحطة فانطلقت أغنية "منير": "جمر الهوا"، رشقت في قلبي وذهني، وعلقت بعضا من مقاطعها في وجداني، وأحب أن أدندنها بيني وبين نفسي حتى يومنا هذا: 

 

( آه يا عشاق الحياة.. جمر الهوى والع والع.. لو غاب قمر.. مليون قمر طالع طالع.. بافتح سبيل في المستحيل..مدوا الخطاوي.. مشوارنا لسه طويل.. وملوش بديل.. وكل خطوة ع الطريق قنديل.. وازاي نميل.. ده بكره جايب نهار يستاهل المشوار.. وحلمنا لو ينضرب هنصد ونرد.. ولابد يبقى المصير في اليد).... 

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

766 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع