بعد صلاة العشاء، قاعدين متونسين بصوت بابا وهو بيرتل القرآن، وماما بتتابع معاه في المصحف، وانا على اللاب توب باكمل الشغل المطلوب مني.
حبوبة بصوتها اللي في وداني يشبه هدير الماية في عذوبته، وقدرته على ري روحي، قالت:
_ماما عايزة أسألك سؤال..
(تنويه مهم: والله والله -ولا لكم عليا حلفان????- لما حبيبة بتقول لي عايزة أسألك سؤال، أو عايزة أتكلم معاكي شوية، أنا باترعب، وبرغم كل التفسيرات الممكنة، بس بجد مش عارفة إيه السبب المباشر للقلق اللي بحس بيه ده!)
قلت لها بصوت متظاهر بال (بيس يا مان)???? :
_اتفضلي يا حبوبة..
_هوا احنا أي حلم نحلمه يبقى رسالة من ربنا؟
_الأحلام لها تفسيرات في علم النفس كتير يا حبوبة، ساعات بتكون صور لمخاوفنا وأفكارنا، اللي مش بنتكلم فيها كتير، أو مش واعيين ليها، وممكن تكون صور للحاجات اللي واعيين ليها بس شاغلانا في الفترة دي أكتر من غيرها. ليه بتسألي السؤال ده؟ إنتي حلمتي حلم وعايزة تفهميه؟
_لا بسأل عشان في القرآن بيكون الحلم رسالة من ربنا؟
_ رسايل ربنا موجودة في كل لحظة، وكل حاجة حوالينا يا حبوبة، واللي بيقراها هو اللي بيدور عليها، وبيرصدها، والقرآن كله رسالة من ربنا مش بس الآيات اللي بتتكلم عن الأحلام.
_واحنا ازاي نشوف الرسايل دي يا ماما؟
_بيشوفها بوضوح، اللي قلبه صافي من المشاعر السلبية، وماعندوش غيرة ولا حسد و لا كره.
_يعني يا ماما إحنا ما ينفعش نكره حد، حتى الغلطان؟
_إحنا نكره الغلط طبعا، والغلطان يتحاسب على أد غلطه. والغلط بره الحقوق العامة، ملناش إننا نحكم عليه، لكن من حقنا وواجبنا تقاوم الغلط والظلم اللي بيإذينا وبياخد من حقوقنا. دي مش مشاعر سلبية، بالعكس دي تصرفات صح، بتدينا مشاعر صح، زي الإحساس بالعزة، والقوة، اللي بيحسسونا بالسلام النفسي.
_بس إحنا ممكن غصب عنها نحس بالكراهية للأشخاص الوحشين اللي بيظلموا الناس وياخدوا حقوقهم.
_ ممكن طبعا والكراهية بتزيد كل ما خفنا وماخدناش حقنا. لإن الكراهية دي ساعتها بتكون انعكاس لكراهيتنا لضعفنا، وخوفنا، كراهيتنا لنفسنا إننا مش قادرين نواجههم ولا نقاومهم. والكراهية دي بتزود الضرر والعقوبة ليناإحنا مش للي غلط في حقنا.
المشكلة يا حبوبة إن كل شعور سلبي، بيخصم من طاقتنا وسلامنا، له وجه تاني ممكن يكون جميل، بيخلينا نبرره، زي مثلا وجهين الغيرة والحب، والحسد والطموح، والطمع والنجاح، والكراهية والمقاومة.
_إيه علاقة ده بإننا نشوف رسايل ربنا يا ماما؟
_كل ما نقدر نرصد جوا نفوسنا الخلط ده في مشاعرنا بين الجميل والحقيقي وبين الأناني والمزيف، ونرصد الخيط الأبيض من الإسود، ونقدر نعيش ونحقق معنى الحب الحقيقي اللي بنحس فيه بوجع بعض، وأفراح بعض، واحتياجات بعض، وإذا لازم غيرة، يبقى نغير على بعض من الغلط، من الضعف، من الضيق، ومن الحاجة اللي ممكن تإذينا.
ساعتها بنحس بالتحقق والأمان والرضا دايما، مش بس مع كل إنجاز فردي، لأ مع كل إنجاز جميل كمان للآخرين، والنفسية السليمة دي، هي اللي بتساعدنا ننجح أكتر ونحقق طموحنا، بسلام وصفاء من غير غل وقلق. وحتى الأوقات الصعبة بنقدر نجتازها بأقل قدر من التوتر والضعف. وبنقدر...
قاطعتني حبوبة بصوت متحمس:
_وبنقدر نشوف رسايل ربنا، صح؟
_بالضبط لإن الصفاء النفسي ده بيساعدنا تكون الرؤية أعمق وأسرع، ويكون فيه بصيرة تساعد على فهم وقراءة حكمة ربنا، ورسالته في كل موقف.
_طيب يا ماما هوا ليه لما سيدنا إبراهيم عليه السلام شاف في الحلم إنه بيدبح ابنه، اعتبر ده رسالة من ربنا؟! والأصعب إنه ابنه قال له: (يا أبت أفعل ما تؤمر)، هو يا ماما ده طلب صعب قوي، يعني حتى لو هما أنبياء، بس هما برضه بشر! صعب قوي نطلب من إنسان يدبح ابنه!
ليه يا ماما ربنا قال لنا كده في القرآن؟!
_سؤالك وملاحظتك أجمل من بعض يا حبوبة، إيه رأيك نفكر في السبب مع بعض؟
_ السبب اللي فهمته في المدرسة من الميس، إن ربنا كان عايز يشوفهم هما واثقين في رحمته ولا لأ! عشان كده لما لقاهم واثقين فيه، بقى فيه فدو، وسيدنا إبراهيم ما دبحش ابنه.
بس برضه لسة شايفاه اختبار صعب قوي يا ماما!
_شوفي بقى يا حبوبة القرآن الكريم مش كتاب تاريخ، ولا علوم. القرآن الكريم آيات ومعاني فيها إعجاز.
_يعني إيه إعجاز؟
_ يعني اللي يقراه يعجز عن حصر وفهم كل المعاني اللي فيه، بس المطلوب منا نتفكر ونتأمل، ونجتهد على قد ما نقدر، ونقرأ ونسمع الاجتهادات كلها، وإحنا فاهمين إن دي اجتهادات ممكن تكون صح أو غلط، ولازم إحنا كمان نشغل دماغنا ونفكر.
_أيوة ما أنا بافكر أهو وبسأل يا ماما! وبعدين تقصدي إيه مش كتاب تاريخ ولا علوم؟!
_يعني يا حبوبة مش لازم نتوقف عند تفاصيل القَصَص القرآني، وننسى الأهم اللي ربنا سبحانه وتعالى قاله لنا في أكتر من آية: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
الهدف الأساسي من القصص القرآني، هو الحث على التفكر، وأخذ العظة اللي تساعدنا؛ إن إحنا نعيش حياتنا صح.
_طيب يبقى العبرة هنا في قصة الدبح، إن إحنا دايما نثق في إن ربنا هيحمينا، ومش هيسيبنا يحصل لنا حاجة وحشة مادام إحنا واثقين في رحمته؟
_ممكن يكون المعنى ده واحد من العبر، بس هنا لازم نحدد الأول يعني إيه هيا الحاجة الوحشة؟ حاجات كتيرة بنشوفها وحشة في وقت من الأوقات، وهي نفسها في وقت تاني بنشوفها خير كبير، والعكس.
فيه حاجة في اللغة هتفهميها أكتر بعد كده ياحبوبة، اسمها المجاز، ساعات بيكون المفردات عايزة تعبر عن معنى أهم من شكل الكلمات المباشرة، يعني العبرة هنا ممكن تكون موجودة كمان في قول الابن: (يا أبت افعل ما تؤمر).
_ازاي يا ماما؟
_صورة الدبح فيها تجسيد لأقصى احتمالات الخسارة اللي ممكن حد يختبرها، يعني لو هانفذ اللي انا شايفه صح، وبيرضي ربنا -بيرضي الحق، العادل، الرحمن، العزيز، القوي، الغني، الجبار، ذو الجلال والإكرام- ممكن ده يحطني أحيانا في موقف، يخليني أخسر حاجة عظيمة جدا، قصاد تحقيق الرضا ده.
ومفيش أعظم من مشاعر الأبوة، وكأني هنا باختياري لفعل الصح، الأب اللي بيدبح ابنه بإيديه، بس لما الناس بتسلم قلوبها لله، وما تتنازلش عن الصح، وهم راضيين بكل اللي ممكن يحصل لهم، ومستعدين ليه، ساعتها بتكون الحماية والفداء، على قدر الاستعداد للتخلي.
_مش فاهمة يا ماما وضحي لي بمثال...
_يعني مثلا لو حد في وظيفة، ومديره طلب منه يشهد زور، وإلا هيرفده، وبالتالي مش هيقدر يصرف على ولاده وهيجوعوا، وممكن يحصل لهم مشاكل كتيرة، فيروح البيت زعلان ومحتار، بس ولاده يقولوا له يا بابا اعمل الصح، وإحنا معاك وهنستحمل، ساعتها هوا بيتحرر من خوفه، وبيواجه المدير وما بيخالفش
مبادئه.
_ساعتها ممكن المدير هو اللي يترفد، وهو يترقى.
_ممكن، وممكن إحساسه بالرضا عن نفسه يخليه قادر يبدع، ويفكر في أبواب رزق تانية، وساعتها برضه الفدو بيكون حصل.
فيه يا حبوبة قصص ناس عظيمة كتير اختارت الصح وهم مستعدين لتحمل كل العواقب، وكسبوا حاجات كتير قوي، بس المهم الأول إن احنا نراجع في قلوبنا معنى التسليم لله، نراجع في عقولنا معاني المكسب والخسارة ونتأكد إن إحنا فاهمينهم صح.
كتابة بتاريخ أبريل 2021