كُلٌّ منّا لديهِ أسلوبهِ الخاصّ في التعبير عمّا يدورُ بداخلهِ من مشاعرٍ وأفكار، ولكنْ ليسَ كُلّنا ينجح في طريقة نقلهِ إلى العامّة، فهُناكَ مَن يُقنع ويُمتع القُرّاء، وهُناكَ مَن يقتل قُبولهِ لديهم، وما هذا وذاك إلَّا بالأسلوب الأدبي للكاتب والخلفية الثقافية التي يمتلكها.
حينَ ينسج الكاتب بقلمهِ مزيجًا من مشاعرهِ وأفكارهِ على هيئةِ كِتابٍ فإنَّهُ بذلك يضع نفسهُ بينَ أمرينِ، إمَّا أنْ يُساهمَ في رُقي الأدب، وإمَّا أنْ يَحُطّ من شأنهِ، والذي يفصل بينَ هذا وذاك هو جمهور القُرّاء؛ فالقُرّاء هم شُركاء الكُتّاب في ذلك.
قديمًا كانَ مَن يكتُب يؤثر على القارئ بجذالة لُغتهِ وجميلِ أسلوبهِ وجودة أفكارهِ، بالإضافة إلى امتلاكهِ إرثًا من الثقافة لا بأسَ بهِ، فهو قارئ ومُثّقف قبلَ أنْ يكونَ كاتبًا، وإلَّا ما نَجحَ عباقرة الأدب القُدامى في الإحتفاظِ بتربُعهم على عرش الأدب حتّى حالَ رحيلهم، فأمثال هؤلاء يظلّونَ أحياءً بأفكارهم التي أثرّت في القُرّاء عقلًا ووجدانًا.
ومِن المُفرِح أنَّ مُعظم القُرّاء يُصبحونَ في الأمد البعيد كُتّابًا إنْ كانوا مُؤَهلينَ لذلك، فالموهبة والمَلكَة، والخلفية الثقافية الناتجة عن القراءة والمُطالعة، من أهم الأدوات التي يستخدمها الكاتب في الشروع في الكتابة.
هذا جانب من تأثير الكُتّاب على القُرّاء، وبالتالي ينعكس هذا التأثير إمَّا إيجابًا أو سلبًا على الإرتقاء بالأدب من خلال القُرّاء أنفسهم؟
حيثُ يُعَدُّ القُرّاء هم السبب الأهم في إنجاح ودعم الكُتّاب؛ بتفضيلهم لأعمالهم واقتناءها أو الإعراض عنها، فإذا كانَ القارئ مُثّقفًا مُطلعًا عَالمًا بأنَّ القراءة مسؤولية _أجل مسؤولية فليسَ كُلّ ما يُكتَب يستحقّ القراءة_ لن تُغريهِ أفكار مُلوثة متسترة بثوبِ غيرها، ولن يستنزف وقتهُ بينَ الإطلاع على ما لا فائدة منهُ، فهو واعٍ عَالم بما يقرأ، حَذِرٌ لِمَا يقتنيهِ من كُتب؛ وذلكَ لعِلمهِ بأنَّ الكتاب الواحد كفيلٌ أن يؤثر في قارئهِ حدَّ التغيُّر.
لذا فإنَّ الإرتقاء بالأدب ليسَ محمولًا على كاهلِ الكاتب وحدهُ، فللقارئ دوره أيضًا.
حديثًا وتحديدًا في وقتنا الحالي ظهرت أشياء غريبة ودخيلة على عَالم الكتابة؛ حيثُ تصاعدت الكتابات التي لا تُغني ولا تُسمن من جوعِ العقولِ والوجدان، فاللعب على أوتارٍ حسّاسة (كالغرائز) عنوانٌ لها والتفاهة مُحتواها، كتابات لا تَمُّت للكتابة بصلة لا من قريبٍ ولا من بعيد، بل إنَّ بعضها يدفعُكَ لأن تترحم على الأدب دفعًا، كما أنَّ مُعظمها لا يُمكن أنْ ينتمي للأدب بل إنَّ الأدبَ منهُ براء.
وهُنا يطرح السؤال نفسهُ: لمصلحةِ مَن تحدُث هذهِ المهزلة؟
لمصلحةِ مَن يُدّمَر الشباب بوريقاتٍ الحبر التي كُتبَت بهِ أنفس من مُحتواها؟
لمصلحةِ مَن إعلاء التفاهة وإعطاءها الحقّ في دحض وتدمير الأدب من خلال التشويش على إرث القُدامى؟
بل لمصلحةِ مَن ما نحنُ فيهِ من شبهِ ضياعٍ لمفهوم الأدب وغاية الكتابة؟
لمصلحةِ مَن تغييب العقول بالتركيز على الغرائز وجعلها أساسًا وأسلوب حياة؟
أينَ الأدبُ منّا وأينَ نَحنُ من الأدب؟؟!
إننا نندثرُ أدبيًا وثقافيًا شيئًا فشيئًا.. حينَ تُصبحُ الكتابة سِلعةً فحدّث ولا حرج، وهذا بالنسبةِ للبعض لكن هُناكَ مَن هو قائمٌ على مبدئهِ قابضًا عليهِ رُغم ما يُلاقيهِ من صعوبة الظروف وقهر الأوضاع.
بل إنَّ هُناكَ مَن يكتفي بطبعِ تُراث الأُدباء القُدامى إنْ لم يجد إلى الإرتقاء بالأدبِ سبيلًا.
وليعلم كُلّ قارئ بأنَّهُ جانٍ بحقِّ نفسهِ قبل الأدب باقتنائهِ ما لا ينفع وإنَّما يضُرّ.. فالقُرّاء هم مَن يُعلونَ الكُتّاب أو يَحطّونَ من شأنهم، لأنَّهم السبب الفعّال في تقدّم أو تخلُف مُجتمعاتهم الأدبية الثقافية، فلأجلهم يجتهد الكُتّاب وتُطبع الكُتب.