قصّة قصيرة
--
رشيد لتحمِل عنّي هذا الجوال بُنيّ.
اِقتربَ منهُ رشيد وحملَ عنهُ الجوال، وقبلَ أنْ يضعهُ أرضًا صرخَ رفيق وحَذَّرهُ ألَّا يفعل.
سألهُ رشيد وكادتْ رقبتهُ أنْ تنكسر من ثِقَلِ ما يحملهُ على عاتقه، كانتْ اِجابة الأبّ غريبة بالنسبةِ لفتًى لم يتجاوز الخامسةَ عشر؛ إذ أخبرهُ أنَّ هذا الجوال يَحمِلُ عِلاجًا لا مَثيلَ له، دواءٌ لكُلِّ داء، الجُرعة الواحدة منهُ تقضي على مجموعةٍ من الأمراض، كما تشفي النفسية من أمراضها.
تعجبَ رشيد الطالب بالصفّ الثالث الإعدادي من حديثِ أبيه، الذي يحملُ بينَ طيّاتهِ كمًّا ماهولًا من الجهل، ثُمَّ أخذَ يوضّح لهُ الصواب لكنَّهُ ما صبرَ عليه، فنهرهُ وطردهُ من البقالة شرّ طردة.
عادَ إلى البيتِ حزينًا مكسور الخاطر، رأتهُ أُمّهُ هكذا فضمّتهُ لصدرها، ثُمَّ سألتهُ السبب، أخبرها بما حَدَثَ فغضبت منهُ وأكدتْ أنَّ الحقَّ مع أبيه، وحذّرتهُ من أنْ يُسمِعَ أحدًا برأيه.
جاءتْ نعسة كما أمرها مبهور بكوخٍ في مكانٍ مهجورٍ من القرية، أعطتهُ ما تحصّلتْ عليهِ من مالٍ وطعامٍ نظير قراءتها البخت والفنجان، ثُمَّ أخبرتهُ بأسماءِ وأحوالِ مَن باعتْ لهم الوهم.
فَرِحَ بها مبهور وفَعَلَ معها ما يَفعلهُ شَّيطانٌ بشَّيطانةٍ إذا هو لقيها في الطريق.
باعَ رفيق جوال البَركة _كما يزعم_ والغريب في الأمرِ أنَّ أهل القرية يُقبلونَ عليهِ كُلّما توّفرَ لديه.
اِمتلأتْ خِزانتهِ السرّية بالنقود، تهللتْ أساريرهُ وعادَ إلى عُلوية يزفّ لها البِشارة؛ حيثُ قَرّرَ أنْ يأتيها بخادمة كي تُعينها على أعباء البيت، سُرَّتْ عُلوية بما سَمِعتْ وراحتْ لتُعِدَّ لهُ الغداء.
دلفَ غُرفة رشيد بعدما طرقَ الباب، جلسَ بجوارهِ على الأريكة، ثُمَّ رَبتَ على كَتفِهِ بحنانٍ قبلَ أنْ يسألهُ عن سببِ شَكّهِ في مبهور المُبارك، وعلاج البَركة الذي يُرسل رفيق لشرائهِ يوميًا من تاجرٍ بعَينه!
لم يستطع رفيق الجواب، لعدم توافر إجابة لديه، سألهُ عن أصلِ مبهور، فأخبرهُ أباهُ أنَّهُ ليسَ من القرية، بل جاءها مُقيمًا قبلَ سبعةَ عشرَ عامًا، ومعهُ بعض الأعشاب والبَخور، إذ كانَ قد اِمتهنَ العِطارة مهنة أبيهِ وأجداده.
تفقدَ مبهور القرية بعدما أَذِنَ لهُ شيخها أبي العزم بالإقامة، فلاحظَ تمسُّكِ أهلها بالوصفاتِ لمُداوةِ الأمراض، واِرتداءِ الأحجبة والتمائم لتسكينِ الأوجاع، المُدهش في الأمرِ أنَّها تسكُن بالفِعل.
ظَلَّ مبهور يُجري بحثًا عن عادات وتقاليد أهل القرية، وعن مدى اِحترامهم للعقل، وتقديرهم للعِلم واِجلالهم للعُلماء، فرأهم لا يُقدّرونَ سوى الخُرافات، ولا يُجلّونَ إلَّا الخُزعبلات، فابتاعَ قطعة أرضٍ وبناها لتكونَ دار المُبارك مبهور فيما بعد، ليستخدمها في علاجِ كافةِ الأسقامِ والأوجاع.
ذُهِلَ رشيد ممّا سَمِعَ وطلبَ من أبيهِ أنْ يذهبَ بهِ إلى بيتِ شيخ القرية، أخذهُ رفيق وذهبَ بعدما أخبرَ عُلوية.
سَعِدَ شيخ القرية بزيارتهما ورَحَّبَ بهما، أخبرهُ رفيق بسببِ الزيارة، ثُمَّ أخذَ رشيد يستفسر منهُ عن مبهور وكذا نعسة الغجرية، وافاهُ أبي العزم الإجابة عن كُلِّ ما استفسرَ عنه.
أقسمَ رشيد لهما أنَّ مبهور ما هو إلَّا دّجّالٌ من الدجاجلة، ونعسة هي خادمتهُ المُطيعة.
ثُمَّ عاهدهُما أنْ يُثبِتَ لهما، ولكنْ لا بُدَّ من مُساعدتهما، سألاهُ عن نوعِ المُساعدة فأجابهما؛ أنَّ شيخ القرية سيُراقب مبهور ونعسة، وأنَّ رفيق سيترك أمر شراء جوال البَركة هذهِ المرّةَ لرشيد، وافقا شريطةَ أنْ يكونَ الجوال الذي سيأتي بهِ آمنًا على الصّحةِ العامّة.
مَضى أسبوعٌ على هذهِ الزيارة، وقد تبيّنَ من مُراقبةِ مبهور ونعسة أنَّهما يتقاسمانِ النصب على أهل القرية، ويعيشانِ في الحرامِ تحتَ سقفِ كوخٍ مهجور بعيدًا عن أعيُنِ الأهالي، بينما تاجر علاج البَركة الذي يبتاع منهُ رفيق ما هو إلَّا سكّيرٌ لا يدري عن البَركةِ شيء!
لكنَّ مبهور بحُكمِ خِبرتهِ في مجالِ العِطارة، كانَ قد اِتفقَ معهُ على خلطةٍ بِعَينها، تتكون من بعضِ الأعشاب المُهدئة والمُفيدة للجهاز الهضمي، كما كانَ يضع لهم نسبةً من النباتات المُخدِّرة؛ لتسكينِ أوجاع مرضى السرطان منهم.
ابتاعَ رشيد جوالًا من الملح، ثُمَّ وضعهُ ببقالةِ أبيهِ على أنَّهُ علاج البَركة ولكنْ في ثوبهِ الجديد، أقبلَ عليهِ الأهالي كعادتهم، أعطاهم جُرعاتهم وطلبَ منهم أنْ يضعونها على الطعامِ بدلًا من الملح؛ فإذا ما ضُبِطَ الطعم حلَّ الشفاء.
فعلَ الأهالي المُغيّبونَ ما طُلِبَ منهم، وراحوا يتغنوا بالعلاجِ الجديد الذي يحلّ محلّ الملح في ضبطِ الطعام.
عَلِمَ مبهور بالخبر فنفى وجود تجديدٍ لعلاجِ البَركة، وأمرهم بأنْ يأتوهُ بجُرعةٍ من العلاجِ الجديد، فعلوا فأخذَ يتذوّق بعض الجُرعاتِ فلم يطقها، لفظها وصاحَ فيهم: إنَّهُ ملحٌ أيُّها الجهلة، ولكنْ مَن الذي تجرأ على مبهور المُبارك؟
رشيد، قالها شيخ القرية أبي العزم وهو يتوكأ على عصاه، ويُجاورهُ رفيق، ويتقدّمهما رشيد.
وقفوا أمامَ مبهور ليُحاسبوهُ على ما فعلهُ بِهم طِيلة سبعةَ عشرَ عامًا مضتْ، دبَّ الخوف في نفسِ مبهور حتّى أنَّهُ لم يستطع أنْ يَنبسَ ببنتِ شفة.
حاولَ الهرب بعدما عرضَ رشيد خُداعهُ أمامَ الأهالي، كما أكدَّ لهم أنَّ ما أخذوهُ مؤخرًا من جُرعاتٍ هو ملح.. مُجرد ملح، لكنَّهُ فعلَ ذلكَ ليُثبِتَ لهم أنَّ مبهور كانوا يُداويهم بالوهم، وما ساعدهُ هو إيمانهم بهذا الوهم، والدليل أنَّهم شعروا بالراحة والسعادة بعد تناولهم جُرعاتِ الملح عن طريقِ وضعها في الطعامِ على أنَّها علاجُ البَركة!!
تَمَّ طرد نعسة من القرية شرّ طردة بعدَ التشهيرِ بها في سائرِ القُرى المُجاورة، بينما حبسوا مبهور بدارهِ التي يُقيمُ بِها، لحين نفاد جوال علاج البَركة الذي أبدلهُ رشيد بجوالِ ملح، ومن ثَمَّ يُقدّمونهُ للعدالة لينالَ جزاءه.
عاهدَ رشيد نفسهُ أنْ يجتهدَ في طلبِ العِلم قدرَ طاقتهِ لينفضَ عن الأهالي غُبار الجهل، ويجلو الظلام بنورِ العِلم.