------
لملمتْ أوراقها المُبعثرة في كُلّ مكانٍ بغُرفتها الصغيرة كرّوحها البرئية، ثُمَّ وضعتها بصندوقها الأسود وأغلقتهُ بإحكامٍ شديد قبل أن ترتدي زّيها المدرسي وتذهبَ في الحال.
نور فتاةٌ في الثامنة عشر من عُمرها، وُلِدَتْ لأُسرةٍ فقيرة، أبّ مُتواكل، أُمٌّ عاملة ومُكافحة، بالإضافة لأربعةٍ من الإخوة.
مُنذُ تعلمتْ القراءة والكتابة وهي تكتُبُ ما يُؤرق ليلها على هيئةِ مُذكّرات، لذا فصندوقها الأسود مليءٌ بالعديد من الرسائل السّرية، ولكن لماذا خبأتها بعيدًا عن أيدي أفراد الأسرة؟
بل لماذا تضعها في صندوقٍ أسود؟
أنهتْ يومها الدراسي وهَمّت عائدة إلى البيتِ لولا مَنَعها مانع قهري؛ فلديها رغبة مُلّحة في دخول دورة المياه، حاولتْ أنْ تتحمّل حتّى أحسّت ألمًا بكليتها اليُمنى، لم تتمالك نفسها فأسرعتْ إلى دورةِ المياه الخاصّة بالمدرسة، بينما تنتظرها إحدى صديقاتها.
قضتْ حاجتها وعادت ليسَ كما ذهبت!!
بعدَ أنْ خرجت من دورةِ المياه سَمِعت صوت طفلٍ قادمٍ من غُرفةِ المُدير، تساءلتْ كيف لطفلٍ أنْ يكونَ هُنا بل وبغُرفةِ المُدير؟
سارتْ خُطاها على أطرافِ قدميها كي لا يُشعَر بوجودها.
اِقتربتْ من الغُرفة وأنصتت لتسمع ما أخافها.. سَمِعت المُدير يقول لمُحدّثهِ عبرَ الهاتف أنَّهُ قد أتى لهُ بما طَلب، فَهِمَت مَقصِده، إنَّهُ يعي الطفل لا غيره، ولكن ما الذي سيفعلهُ بهِ؟
بل ما الذي سيجنيهِ من وراءِ فِعلته الشنعاء؟
أخذها التفكير حتّى تنبهت لصوتِ عواد (خفير المدرسة) قادم من أسفل، نزلت من السُلَّم الخلفي دونَ أن يراها أحد.
تظاهرت بالتمالُك أمامَ صديقتها ثُمَّ خرجتا من المدرسة.
عادت صديقتها لبيتها بينما هي لم يهنأ لها بال، فعقلها يكاد يفقد عمله من فرط تفكيرها، لم تظلّ هكذا طويلًا فذهبت إلى المدرسة مرّةً أُخرى لترى ما الذي يحدث؟
وصلت قبلَ أنْ يخرج المُدير حاملًا الطفل على يديهِ وكأنَّهُ غائبٌ عن الوعي، اختبأت وأخذت ترقُبهُ حتّى ذهبَ بسيارته، أسرعت في السيرِ خلفه بعدَ أنْ ذهبَ عواد لبيتهِ ولكنَّها لم تلحقهُ؛ للسُرعة الهائلة التي يقود بها.
أصابها الغضب ولكنَّها لم تيأس فأخذتْ تجري وتجري وتجري حتّى رأت سيارة يقودها عجوز، أَذِنَ لها بالركوب وأسرع خلفَ سيارة المُدير كما طلبت منهُ، ثُمَّ سألها عن سببِ ما يدفعها لمُلاحقةِ تلك السيارة.. أجابتهُ بأنَّهُ من ذوي قُربتها نَسيَ بعض أغراضهِ الهامّة أثناء زيارتهِ لهم، قَبِلَ العجوز أُكذوبتها وزادَ في سُرعته.
وصلَ المُدير لمُبتغاهُ، فيلا مهجورة كما يبدو، نزلت هي بعيدًا عن الفيلا كي لا يراها المُدير ومَن هُناك، وَدّعها العجوز وغادر.
أخذت ترقُب المكان هُنا وهُناكَ حتّى غابَ الجميع في الداخل، اِقتربتْ من السور الحجري المُحيط بالفيلا، ثُمَّ اختبأت خلفهُ لتراهم دونَ أن يرونها.
رأت المُدير وقد أخذ ظرفًا ضخمًا بعض الشيء، ثُمَّ حيّاهم ببسمةٍ ساخرة وغادر، في حين أنَّ الطفل لا زالَ موجودًا بالداخل لا تعلم ما الذي سيحدُثُ له؟
لحظات وأُغلِقَت جميع نوافذ الفيلا فلم تَعُد ترى شيئًا.
أدارت ظهرها لتُغادر فإذ بالعجوزِ ينتظرها!
أخذها وأسرعَ بقيادة السيارة، سألتهُ عن سبب إيهامها بالمُغادرة؟
تبسمَ لها وأضاف: ما كُنتُ لأتركَ فتاة مثلكِ في مكانٍ مهجورٍ كهذا، ثُمَّ سألها عن سبب ما فعلت؟
قَصّت عليهِ ما رأت.. غابَ الحديث لحظات ليسود الصمت، الصمت لا غيره، حتّى سألها إن كانتْ تُريدُهُ بجوارها أم لا؟
رَحَّبت بهِ وفرحت بمقالته.
وعدها بأنَّهُ سيظل معها حتّى يهتديانِ إلى الحقيقة.
أوصلها بيتها في أحد أحياء الجيزة ثُمَّ غادر.
دلفت غُرفتها دونَ إلقاءِ السلام، خلعت حجابها ووضعتهُ جانبًا ثُمَّ جلستْ على سريرها لتُبحِرَ بعقلها في أمرِ الطفل.
دلفتْ أُمّها لترى ما بها؟
لم تنبس ببنت شفة حتّى ألّحتْ عليها فأسرّت لها بما يُشغل تفكيرها، شَهَقت الأُمّ من الفزع وأمرتها بترك ما يدور بعقلها، والتركيز على دراستها وحسب.
تظاهرتْ بالإمتثالِ لأمرِ أُمّها وتأكيدًا على ذلك أمسكتْ بأحد الكُتب وأخذتْ تُذاكر.
وفي اليومِ التالي لم تذهب إلى المدرسة بل ذهبتْ برِفقةِ العجوز إلى حيثُ الفيلا بعد أن أكّدتْ عليهِ البارحة، وصلا وأخذا يرقُبانِ المكان ثُمَّ تسللتْ هي لخِفةِ وزنها من أحدِ الأسوار الخلفية ونجحتْ في الوصولِ إلى المستودع السرّي.
أخرجتْ هاتفها الذكي وأخذتْ تُصور ما يقومونَ بهِ من قتلٍ للأطفالِ ثُمَّ وضعهم على المِقصلة ليتمَّ أخذ أعضائهم بمُعاونةِ طبيبٍ مُختص!
راعها المشهد فتحاملتْ على نفسها وكتمتْ رغبتها في التقيؤ، لحظاتٍ وخرجَ أحدهم ليُغلِقَ النافذة كما أمرهُ الطبيب؛ إذ أشّعة الشَّمس تُسبب لهُ الإزعاج.
أسرعتْ هي للخروجِ ومن ثَمَّ العودة إلى البيت، دلفتْ غُرفتها وأغلقتْ على نفسها الباب، ثُمَّ أخذتْ تُدوّن ما رأتهُ بمُذكّراتها ووضعتهُ بالصندوقِ الأسود، وتوسّدتْ بعد أن كادَ البُكاء يُنضج كبدها.
مَرَّ يومانِ وهي مُتغيبة عن المدرسة لا تستطيع أن ترى وجه ذاك المُدير النذل، كما لم تستسلم لمُحاولاتِ أُمّها في إقناعها بالعودة إلى دراستها والكفّ عن الدلال الزائد.
فكّرتْ ماذا تفعل؟
فكّرتْ وفكّرتْ وفكّرتْ حتّى هداها تفكيرها لأنْ تُخبِرَ العجوز بأمرِ الصور التي بحوزةِ هاتفها، ذهبتْ إليهِ في الموعدِ المُحَدَد مُسبقًا ومعها الهاتف المحمول، أخذتْ تَقُصّ عليه ما رأتْ ثُمَّ أخبرتهُ بأنَّها ستُخبر قوات الأمن لعملِ اللازم وإنقاذ مَن يُمكن إنقاذهم من الأطفال.
شرد ذهنهِ للحظاتٍ قبلَ أن يقترحَ عليها الذهاب إلى الفيلا لتصويرِ بعض الصور الأُخرى كي تُساعد قوات الأمن في القبضِ على أولئك المُجرمين.
ذهبتُ معهُ حيثُ أرادَ وهُناكَ كانت المُفاجأة!
حينَ دلفتْ الفيلا كالمرّة السابقة وجدتْ بعض حُرّاسها قد أمسكوا بها وقيّدوها ثُمَّ وضعوها بإحدى الغُرف، وبعد دقائق جاء رئيسهم ذاك العجوز الذي أوهمها بأنَّهُ سائق ويسعى معها في طريقِ الكشفِ عن الحقيقة!
أُصيبَتْ بالذهولِ حينَ رأتهُ وأخذتْ تبكي حتّى فقدتْ وعيها.
أخذَ هاتفها ووضعهُ بالمِحرقة حتّى ذابَ واختفى أثره.
كادَ اليومُ أنْ يمضي ونور لم ترجع بيتها بعد، جلستْ أُمّها تُبكيها وإخوتها يبحثونَ عنها هُنا وهُناكَ لكن دونَ جدوى.
مَرّت ثلاثة أيَّام وهي لم تحضر بعد، أبلغتْ الأُمّ قوات الأمن فأخذوا في البحثِ عنها لكنَّهم لم يجدوا إلى معرفةِ مكانها سبيلًا، سأل أحد الضُباط الأُمّ عن صاحبتها المُقرّبة وعناوين دروسها وتحرّوا عن ذلك ولم يوفقوا أيضًا.
تذكّرتْ الأُمّ حديث ابنتها عن المُديرِ والطفلِ والفيلا وأسرعتْ بإخبارِ قوات الأمن.
أخذ الضابط يُحلّل كلامها ثُمَّ استأذنها في الذهابِ إلى بيتها للبحثِ عن دليل، أَذِنَتْ لهم فأسرعوا إلى البيت.
دلفَ الضابط غُرفتها وأخذ يبحث حتّى عثر على صندوقها الأسود المُخبأ بخِزانةِ ملابسها، أخذهُ ووضعهُ على السريرِ وحاولَ فتحهُ لكن دونَ جدوى؛ إذ يحتاج فتحهِ إلى مِفتاحٍ خاصّ، حاولَ وحاولَ وحاول فلم يستطع فتحهُ سوى بكسرِ قِفله، وهُنا كانتْ الصدمة!
فتحَ الصندوق فوجدَ كلماتٍ حُفِرَتْ على غطائهِ من الداخل، وجَّه نحوها إضاءة هاتفهِ المحمول وأخذ يقرأها: مُذكّرات نور الظلام، أخرجها ووجدها مُرّقمة، بدأ قراءتها من الواحدة ظُهرًا وحتّى الثالثة عصرًا، ثُمَّ أسرعَ بجمعِ قواتهِ والإستعانة بقواتِ الدعم من مُديرية الأمن العام، ومنها ذهبَ إلى العنوانِ المسطور بمُذكّراتِ نور بعدما تأكد لديهِ أنَّهُ سيأتي بها لأُمّها ولكن جُثّة هامدة!
حملها على عاتقهِ ثُمَّ وضعها على المِقصلة إستعدادًا لقتلها ومن ثَمَّ أخذ أعضائها كما يفعلونَ بالأطفال.
أخذتْ تصرخ ولكن لا صوتَ لها؛ إذ لم يُطعموها سوى مرّتينِ مُنذُ قدومها وإلى الآن، أثناء ذلك وصلَتْ قوات الأمن فداهمتْ المكان، وألقتْ القبضِ على مَن فيهِ بينما أسرعَ الضابط لفكِ قيود نور.
مَرّت الأيَّام وأضحت تلك الواقعة الأليمة ذِكرى مسطورة بمُذكّراتي وهانذا أذكُرها بعدما حالتْ الأحوال وبلغتُ من العِمرِ ما جعلني هَرِمَة، كافحتْ لأجلِ أحفادها _من ولدها يوسف_ بعد موتِ أبويهم ونجحتْ في جعلهم مؤثرين في المُجتمع؛ فهُدى طبيبة نساء وتوليد ماهرة، وعربي مُهندس معماري متفوق في عمله، وسلمى خبيرة تغذية علاجية، وعادل عالِم كيمياء حيوية شهير، بالإضافة لآخر العنقود حمزة ضابط شرطة.
وسأُضيفُ الجديد من الذكرياتِ إلى صندوقي الأسود.. أتدرونَ لماذا خصصتُهُ باللون الأسودِ تحديدًا؟
لأنَّ السواد ثُقبٌ هائل يبتلع ما يقترب منهُ وهكذا ذكرياتي لا أُحِبُّ أن يراها سواي، وقد أسميتها نور الظلام لغموضي وتفضيلي عدم الوضوح إلى الحد الذي يجعلني كتابًا مفتوحًا يسهل قراءته، كما أنَّها تحوي أشخاص غيري لذا من الواجبِ عليَّ إحترامهم وعدم الخوض في سيرتهم، وما ذكرتهم إلَّا لتأثيرهم بيَّ أو عليَّ.