لم يَكُن التلفاز في صِغري كما هو الحال هذهِ الأيَّام، أو قُلْ الأعمال الدرامية لنكونَ أكثر وضوحًا.
كانتْ الدراما وسيلة تربية لا وسيلة تسلية، بل كانتْ عونًا لكثيرٍ من الأُسرِ في تربيةِ أبناءهم، وما كانَ هذا ليحدُث إنْ كانَ ما تُقدّمهُ مُنافيًا للقِيَمِ والأخلاقِ، والمبادئ والآداب.
لم يَكُن العمل الدرامي مُجرّد تفريغ طاقة ونَيل شُهرة بقدرِ ما كانَ رسالة سامية الأهداف، نبيلة المَقصِد، قيّمة المُبتغى.
وعلى سبيلِ المثال لا الحصر، مُسلسل لن أعيشَ في جلبابِ أبي، تلك التُحفة الفنية التي أثّرت في المُشاهد، وجعلتهُ يتعايش معها حلقة تلو الأُخرى.
لن أعيشَ في جلبابِ أبي، تأليف: الكبير الراحل (إحسان عبد القدوس)، سيناريو وحوار: الكاتب والسيناريست الراحل (مُصطفى مُحرّم)، إخراج: الرائع الراحل (أحمد توفيق)، بطولة المُميّز الراحل (نور الشريف)، والفريدة (عبلة كامل)، وكوكبة من النجوم.
لن أعيشَ في جلبابِ أبي، رغم أنَّهُ لم يَكُن العمل الدرامي الهادف الوحيد في تلكَ الحِقبة من الزمن، إلَّا أنَّهُ تفرَّدَ بطابعٍ من الأُلفة بينهُ وبينَ جمهور المُشاهدين؛ حيثُ التوظيف السليم للأدوار، وحُسن اختيار الفنّانين، وتقمّصهم المُمتاز للشخصياتِ بطريقةٍ بارعة.
لن أعيشَ في جلبابِ أبي، مُسلسلٌ اجتماعيٌ توعويٌ هادف، لا يخلو من الواقعية المُضاف إليها بعض الرتوش.
ستةٌ وثلاثونَ حلقة اِستطاعتْ أنْ تحتلَّ مكانة خاصّة في قلوبِ المُشاهدين على مدارِ الزمان، والغريبِ في الأمرِ أنَّهُ كُلّما مرَّ الزمان اِزدادَ ذاكَ المُسلسل شعبيةً فوقَ شعبيته، وصارَ لهُ جمهورٌ آخر غير الذي عاصرهُ في بدءِ عرضهِ عام ألف وتسعمائة وستة وتسعون من الميلاد.
حلقاتٌ هادفة ملئية بالقيَمِ والأخلاق، والاحترام والأدب، قُدِّمَتْ بطريقةٍ مُميّزة غير معهودة، جعلتهُ مُسلسلًا عائليًا من الدرجةِ الأُولى، يحتوي على الآداب العامّة، ولا يحتوي على لفظةٍ واحدة تخدش الحياء، وبهِ من احترامِ وتقديرِ العِلم وأهلهِ ما كانَ ملحوظًا، والحثّ على التعلُّم والاجتهاد في العمل.
لم يَكُن الحاج عبد الغفور البُرعي (نور الشريف) ديكتاتوريًا في تربيتهِ لأبنائه، عكس ما كانَ سائدًا من التمييزِ بينَ البنين والبنات، والجور على حقٍّ الفتاة من التعليم، بل كانَ رغم عدم تعلُّمهِ ألمعيًا شديد الفَهم، حادّ الذكاء، رَجُلًا قبلَ أنْ يكونَ أبًا.
شَّجعَ أولادهُ على طلبِ العِلم، والذي يَعي هو قيمتهُ بكُلِّ تأكيد؛ نظرًا لحرمانهِ من تلكَ النعمة، كما كانَ يُعاملهم بحُرّيةٍ بالغة بعيدًا عن القهرِ والظُلم.
لم يقتصر دور عبد الغفور البُرعي الأبّ على المادّياتِ وجلبِ المال، وتوفير اِحتياجات بيتهِ وفقط، بل كانَ شريكًا بالمعنى الحرفي للكلمة، شريكًا لزوجهِ فاطمة كُشري (عبلة كامل)، يُشاركها تربية الأبناء، ويحمل عنها همومهم ومسؤولياتهم، بجانبِ توفيرهِ ما يحتاجونَ إليهِ من أساسياتِ الحياة.
شخصية عبد الغفور البُرعي شخصيةٌ فَذّة وجذّابة؛ لاشتمالِها على المبادئ والقيم، وتحدّي الظروف، والواقعية المُفرطة، بالإضافةِ للخبرة الحياتية التي اِكتسبها صاحبها من واقع حياته، وقد نجحَ المُميّز الراحل (نور الشريف) نجاحًا باهرًا في أدائهِ للشخصية ممّا جعلها شخصية درامية تُذكَر ولا تُنسَى.
أمَّا عن الزوجة فاطمة كُشري (عبلة كامل) شريكة عبد الغفور البُرعي وحبيبته، فكانتْ شخصية مثالية في عالَمِ الأزواج؛ حيثُ المعرفة التامّة بواجبها نحو بيتها وزوجها، والحُبّ الصادق الصافي الذي لا تَشوبهُ شائبة، والصُحبة الصّالحة بينها وبينَ زوجها، والناصحة الأمينة لهُ، كاتمة أسرارهِ حتّى عن أبنائهِ، حافظة العِشرة، أصيلة الطِباع، طيّبة المَعشر، تتمتع بالفِطنة، تتميّز بجمالِ روحها، رقيقةٌ، حنونةٌ، شهمةٌ، شُجاعة، هي بذاتها كانتْ لزوجها نِعمَ الدعم والسند، بل كانتْ لهُ عِوضٌ عن أهله.
شخصية فاطمة كُشري لم تَكُن لتنجحَ لولا الأداء القوي للفريدة (عبلة كامل)، تقمّصتْ الشخصية حتّى جعلت المُشاهد يتشَّكك في كونها عبلة كامل من فاطمة كُشري.
أمَّا عن باقي الشخصيات فقد تمَّ توزيعهم بعنايةٍ فائقة، كُلٌّ يعرفُ دوره، مع تسليطِ الضوء على الحياة الأُسرية وما بها من أدوارٍ كَالأبِّ والأُمِّ والأبناء، وعَلاقة كُلٌّ منهم بالآخر، والتركيز على واجبات وحقوق كُلّ دور بمُنتهى الشفافية والمِصداقية.
مُسلسل لن أعيشَ في جلبابِ أبي تُحفة فنّية ازدانتْ بها حصيلة الدراما المصرية، لصدق الهدف وطِيبِ المُبتغى.
مريم توركان
16/5/2024