ذكر الشيخ محمد الغزالي في كتابه «الطريق من هنا» حدثاً مؤلماً جداً، حيث كان هناك أستاذ فرنسي بجامعة تونس، يُدرِّس علم الضوء أو البصريات، وكان الأستاذ معجباً كُلَّ الإعجاب بقانون «الهازان» الذي اكتشفه أحد علماء العصور الوسطى، وسَبقَ به سبقاً بعيداً، وفتح به فتحاً جديداً...
وسأله الطلاب: مَن «الهازان» هذا يا أستاذ؟ فقال: أظنهُ من كبار العلماء الأسبان!.
فذهب الطلاب إلى الدكتور بشير التركي، فأجاب في اندهاش: هذا هو الحسن بن الهيثم العالم العربي المسلم الشهير، وهو راسخُ في علم البصريات، وله نظريات يُضارع بها أعظم علماء عصرنا، ولا تقل مكانته عن أيشتاين وأمثاله، لأن العالم ما زال ينهل من كشوفه وأبحاثه، وقد يبقى العالم معتمداً عليه ألف سنة أخرى، وهو من أوائل الأستاذة الذين درِّسوا في الجامع الأزهر.....إلى أن قال: وأما قانونا الضوء المنسوبان لديكارت فالحسن بن الهيثم هو صاحبها، وواضعهما قبل ديكارت بستة قرون، وكتاب «علم المناظير» لا يزال مرجعاً في موضوعه....
وذهب الطلاب بهذه الأجابة للأستاذ الفرنسي فلم ينطق بكلمة، وكل ما حدث منه أن أضرب إضراباً عن الإشارة من قريب أو بعيد إلى قانون «الهازان» هذا، فما ذكره بعد ذلك بخير ولا شر.
يُعلِّق الشيخ الغزالي على هذا فيقول: «بعدما سمعتُ هذه القصة، عُدتُ إلى نفسي وإلى قومي أوجهُ اللومَ بعد اللومِ، وأتساءل بغيظ: ما مكانة الحسن بن الهيثم في تاريخنا؟ وأين مكانة غيره من العلماء في حياتنا؟
إننا قبل أعداءنا كُنَّا أسرع في إهالة التراب عليهم، ربما ظفر بالشهرة أبو نواس قديما، وعبد الحليم حافظ حديثاً، أما الراسخون في العلم فهم يسيرون إلى جوانب الجدران، وينسحبون عن الحياة كما جاءوها على استحياء أو استخفاء...».
نعم، والله، لقد صدق الغزالي في قوله: «إننا قبل أعداءنا كُنَّا أسرع في إهالة التراب عليهم».
فكم من أبناء المسلمين يعرف أن الحسن بن الهيثم هو صاحب فكرة السد العالي بأسوان، وهو الذي اخترع فكرة الكامير؟!.
كم من أبناء المسلمين يعلم أن الزهراوي هو أبو الطب، وهو أول من تخلَّص من حصوات الكلى والمثانة بالتفتيت؟!
كم من أبناء المسلمين يعلم أن ثابت بن قرة هو أبو طب العيون، وهو أول إنسان على وجه الأرض شرَّح العين تشريحا علميًا تفصيلياً، وهو صاحب الفضل في حضارة أوروبا كما يقول ديورانت ويل؟!
كم من أبناء المسلمين يعرف أن جابر بن حيان هو أول من جعل الكيمياء علماً له أصوله وقواعده، ووضع أساس العلم التجريبي، ويُلقبه الغرب بأنه أبو الكيمياء، وهو أول مَن أذاب الذهب بالماء الملكي؟!
كم من أبناء المسلمين يعلم أن ابن النفيس هو أول مَن اكتشف الدورة الدموية الصغرى في الإنسان؟!
كم من أبناء المسلمين يعلم أن الخوارزمي هو مخترع علم الجبر؟!
كم من أبناء المسلمين يعلم أن أول مرصد فلكي عرفته البشرية كان الذي بناه هو أبو الريحان البيروني؟!
كم من أبناء المسلمين يعلم أن الفارابي قال بجاذبية الأرض قبل نيوتن؟!
كم من أبناء المسلمين يعرف أن ابن البيطار قد وصف ١٤٠٠ نباتاً منها ٣٠٠ من اكتشافه، وأن كتبه مرجعًا أساسياً للصيادلة في علم النباتات الطبية؟!
كم من أبناء المسلمين يعرف أن الإدريسي هو أول من رسم خريطة للأرض؟!
كم من أبناء المسلمين يعلم أن المسلمين اكتشفوا أمريكا ودخلوها قبل كريستوفر كولومبس كما يقول «اليون فيرنيل» في كتابه «أفريقيا واكتشاف أمريكا»؟!
كم من أبناء المسلمين يعلم أن القزوينى هو أول من أثبت حركة دوران الأرض قبل كوبرنيكس بثلاثة قرون؟!
كم من أبناء المسلمين يعلم أن عباس ابن فرناس هو مخترع فكرة الطائرة؟!
كم من أبناء المسلمين يعلم أن محمد بن أحمد التميمي هو أول مَنْ وضع علماً للبيئة، من خلال كتابه «مادة البقاء في إصلاح فساد الهواء والتحرز من ضرر الأوباء»؟!
كم من أبناء المسلمين يعلم أن منهجية ابن سينا في التأليف ما زالت هي الطريقة الأمثل المعمول بها في ربوع العالم إلى يومنا هذا؟!
كم وكم وكم وكم...لاشك إننا مقصرون غاية التقصير حيال حضارتنا وعلماءنا ومجدنا، ويجب علينا ان نقف وقفة مع أنفسنا، كي نتدارك ما فات وأن نصلح ما فسد.
إن عدونا يستخدم اليوم سلاحاً ممقوتاً، متمثلاً في تشوية رموز وتاريخنا، وهذا معلوم عنهم، ولكن أكثر الناس لا يعتبرون.. عندما هزمت اليونان أسبرطة، قال أحد الشعراء اليونانيين: "هزمناهم ليس حين غزوناهم، هزمناهم حين أنسيناهم تاريخهم وحضارتهم".
نحن جميعاً نتطلع لمستقبل أفضل، وحياة أفضل، لكن في الحقيقة ليس المستقبل المشرق بالتمني ولكن بالعمل والتحلي، والرجوع لتاريخ الأمة ذو العبر والدروس الكثيرة... معرفة التاريخ أمل وقوة ودفع للأفضل...معرفة التاريخ خير سلاح لرد غيبة الإسلام والمسلمين.
أسأل الله أن يُعيد للمسلمين مجدهم وعزهم، اللهم آمين.