الفصل الخامس
فُتحت ابواب المشفى الزجاجية بعنف كاد ان يكسرها، هرول عمر بممر المشفى حتى وصل إلى خاله المكلوم وزوجته، واقفان خارج غرفة العمليات ينتظران ابنتهم.
وقف يلهث عمر بشدة، وتحدث وهو يلهج
_خير يا خالو! حصل إيه
_موتت نفسها.. موتت نفسها ياعمر
قالها بين دمعاته المنهمرة فقام عمر على الفور ب إحتضانه بقوة، اردفت زوجة خاله قائلة
_لو حصلّها حاجة هنكون احنا السبب.. احنا الل ضغطنا عليها، احنا الل صممنا وقررنا وهي نفذت
رفع عمر وجهه إلى زوجة خاله وأردف
_دا في مصلحتها يا طنط، احنا معملناش ليها حاجة تضرها
هدرت زوجة خاله في وجهه
_والل حصل ليها دا مش ضرر!! البنت انتكست اكتر، حالتها ساءت أكتر، عالاقل كانت فالبيت تحت عيني شيفاها وحاسة بيها
رفع الأب وجهه من بين يديه وأردف بصوت متهدج لائم على زوجته
_محدش حس بيها.. محدش ابداً
خرج الطبيب من غرفة العمليات ف أوقفوه
_إيه الأخبار يا دكتور طمنا
_الحمدلله الخطر زال خيطنا الجرح ونقلنا ليها دم لأنها نزفت كتير ودلوقت هتتنقل للرعاية، الف سلامة عليها
تركهم وانصرف، شكروا الله وحمدوه ب ان ادعيتهم استجابت وان كُتب لأبنتهم عمراً جديداً..
بعد مُضي وقت، رآوها خلف زجاج غرفة الإفاقة قابعة خلف الأجهزة والأسلاك الموصلة بجسدها الضئيل، ذرفت والدتها الكثير من الدموع وربت على كتفها الأب الحزين.
تنهد عمر وهو ينظر لها هكذا ممدة بغير حول ولا قوة، أتاه جرس هاتفه ف اخرجه من جيب بنطاله ليجد المتصل إيمان.. تنفس بعمق واجاب الإتصال
_إيه ياعمر طمني
_خرجت من اوضة العمليات ودلوقت فالعناية المركزة، ادعيلها يا إيمان
_ان شاء الله هتبقى كويسة بإذن الله تعالى وهتزول مرحلة الخطر.. متقلقش
_تفتكري كُنا صح؟!
_انتوا مين؟
زفر عمر بعمق وأردف بنفاذ قوة وعزم قائلاً
_أنا.. وخالو ومراته.. كنا صح؟!
ارتجفت شفتيها فقالت تداعى القوة والصلابة
_طبعاً، دا كان في مصلحتها
_بس هي حالتها بتسوء ي ايمان مش بتتحسن
صمتت إيمان، لاتجد ما تقوله يخفف حدة تأنيب الضمير الذي يدق فوق رأس عمر، أتاها صوته منادياً
_إيمان.. انتِ سامعاني؟!
_أيوة
_اعمل إيه، اقولهم يطلعوها وترجع البيت؟
قلقت إيمان وارتبكت ف اردفت
_لو طلعت وراحت البيت احتمالات انها تأذي روحها أكبر ياعمر، والرقابة عليها هتكون أضعف وممكن المرة دي تضيع للأبد.. صدقني هي فمكانها أحسن
_انت ايه عرفك انها فمكانها احسن ي ايمان؟! انا الل حكتلك حكايتها وانا الل قولتلك حصل إيه وعملنا إيه
اكيد مش هتعرفي مصلحتها أكتر مننا
قالها هادراً بها بصوت عالٍ، تحملت إيمان عصبيته، ففي ظروف كهذه عليها أن تصبر كثيراً.. هي تعلم من هو عمر بحماقاته ب اندفاعاته بطيبة قلبه وعصبيته.. تعرف تقلبات حاله وتعرف متى يعتدل مزاجه.
آثرت الصمت كي لا تكبر المشكلة بينهم أكثر، طلب منها إغلاق المكالمة الآن وسيتصل بها لاحقاً.
على صمتها إيمان، ظلت بغرفتها تدور وتفكر، تشعر بقرب نهاية علاقتهما أن لم تخبره بالحقيقة، ولكن غرورها وطموحها في كسب كل شئ حتى لو على حساب الآخرين جعلها لا تفكر إلا في نفسها فقط.
نجاحها بعملها بالمحاماه، تفوقها عليه حتى وان كان حبيب عمرها، نجاحها ك روائية ببداية طريق الشهرة بقصص واقعية مع نسيج خيالي!
ظلّت تطمئن نفسها مرراً وتكرراً لن يحدث الا الخير.. لن يحدث الا الخير، نظمت انفاسها كي تهدء، شهيق وزفير مع العد الرباعي وعندما هدأت تحدثت إلى نفسها قائلة
_هتعدي زي م كل حاجة عدت قبل كدا، انا واثقة
_________
عِديني أن تأتي الليلة ، وأنا أعدك أن أبقى مستيقظا لتسعين فجراً!
ممدة بجسد ضئيل ضعيف القوة والبنيان على فراش معدني، صوت الاجهزة المتصلة برئتاي وقلبي ونبضي مسموعاً إلي، اشعر او لا أشعر.. لا فارق بينهما.
ظللت على حالتي هذا بين عالم الاحياء والاموات حتى ظهرت لي روحه الطيبة، وقف بجانبي إياد ولكنه بصورته العادية الانيقة، كان اكثر زملائي الفتيان اناقة ولباقة وحُسن ذوق، كان مُلفتاً منذ صِغره، يحرص دائماً على أن يكون الأول، وكان يحرص على لفت نظري طوال الوقت، كنا نلعب سوياً بعمر السابعة بفناء المدرسة، كبرنا وكبرت احلامنا، بعمر البلوغ كان يرسل لي الخطابات الغارفة بزخرات العطر باخظ الثمن، من الواضح انه كان سارقاً جيداً لأشياء والده الخاصة!
كان يدون لي كل شئ منذ استيقاظه حتى نومه، تطورت الخطابات، اصبحت ترسل الي ويستقبل مني، كل يوم وكل ليلة، ينتظرني عند باب مركز الدروس الخصوصية، ينظر لي بعينان تتقاطر هياماً دون ان يتحدث، يرسل لي اسمعي الاغنية الفلانية واخبريني عن احساسك..
فتحت ابواب الثانوية العامة لنا، ونحن مازالنا على عهدنا، لن نفترق ولن يحدث هذا، اعترف لي بحبه أخيراً وجهاً لوجه.. اتذكر يومها إن جسدي اجفل كدت اسقط بين رفيقاتي بفناء المدرسة، أنا كنت اشعر بحبه ولكنها المرة الأولى التي يعترف لي بها أحداً، هل حقاً هذا هو الحب؟
علم كل شئ عني، ما احب وما اكره، مما أخاف ومن اي شئ اشعر بالأمان، متى يداهمني الملل؟ وكيف أصبح الشخص الأكثر حماسة!
حفظني وحفظته عن ظهر قلب، كان لي ملاذاً آمناً بين زحام من الانياب والمنافقين.
فتحت عيني بتثاقل وقناع التنفس على انفي وفمي، نظرت إليه مبتسمه ف ابتسم هو لي وأردف بحنو صوته كعهده
_وحشتيني
اخبرته انني افتقده اكثر منه، ظل واقفاً بجانبي وشرد ذهني إلي ذاك اليوم، ذاك الوقت الذي لا اريد تذكره واريد نسيانه ومحوه من ذاكرتي، ولكن ليس كل شئ نريده.. ندركه!
كان يوم الرحلة، قامت مدرستنا بدعوتنا للإلتحاق برحلة مدرسية إلى شاطئ مطروح حيث الهواء العليل والاستجمام بين بحر ومناظر خلابة تبعث في النفس السرور.
بالفعل قام إياد بالاشتراك بها هو وباقِ صديقاتي المقربات، دعوني كي التحق بها وننعم جميعاً بيوم جميل لا مثيل له، كان وقتها مشكلة هواجسي مع الاشباح المظلومة في أوجّها، رفضت أن التحق بالرحلة زاعمة إني نفسياً غير مجهزة وان هناك كثير من المواد مطلوب مني استذكارها ومراجعتها.
ظلّ إياد يرجوني مراراً وتكراراً حتى تحدث إلى والدتي كي تؤثر علي وتجعلني اتراجع عن قراري
_وفيها إيه يا نايا؟ غيري جو واتفسحي
_مش هينفع يا ماما، انا نفسياً مش مهيأة
قُلتها وانا انكس وجههى صوب الأرض لا اريدها ان تلاحظ هالات عيناي السوداء التي لم يفلح مصحح الهالات ان يخفيها.
هتفت إلي انها فرصة قد تساعدني في تخطي هذه المرحلة من تعبي النفسي ومن الممكن أن تساهم في كثير من علاجي.
إحقاقاً للحق، فشلت في إقناعي.. حتى حاول إياد للمرة التي لا اعرف رقمها اقناعي من جديد عبر مكالمتنا الهاتفية الليلية اليومية.
_اعتبريه آخر طلب اطلبه منك ومش هضغط عليكِ حاجة تاني
زفرت بحرارة واردفت له
_انت متمسك اوي اروح الرحلة دي ليه؟ ايه هيفرق سواء طلعتها ولالاء
هتف إياد بصوت منشرح وقال بعدما اعتدل في جلسته
_عشان اول مرة نخرج فحته سوا ونستمتع بعيد عن الدروس بعيد عن الضغط او البيت او حتى مرواح النادي مع عيلتي او تروحي مع عيلتك، فرصة مش هتتكرر كتير يا نايا.. عشان خاطري!
ضحكت انا بخفوت وهتفت ساخرة
_على أساس اننا هندخل السنة الجاية الكلية بقا وكل واحد فينا يتلهي في حياته ودراسته، ف الرحلة دي فرصة مش كدا
سمعت صوت ضحكته الرصينة المعتادة واردف لي بنبرته الغرامية التي اشبعني منها
_اعتبريه آخر ديت مابينا قبل ما نتسحل فالدنيا ومنشوفش بعض تاني
اخذت شهيقاً عميقاً واردفت له بجدية
_موافقة!
________________
ليس علينا التكلف، ف نحن بعفويتنا رائعون!
كانت تترجل إيمان خارج المكتب الذي تعمل به بعدما انتهى يوم العمل بالنسبة لها، شرعت في الإتصال ب عمر كي تطمئن إلى حال إبنة خاله ولكن فاجئها اتصال الرئيس التنفيذي دار النشر التي تقوم بنشر اعمالها الروائية
_مساء الخير يافندم ازي حضرتك
_ازيك يا استاذة إيمان عاملة إيه؟
ابتسمت ايمان في حبور وهي تقوم بفتح باب السيارة الاجرة التي طلبتها كي تقوم بتوصيلها إلى المنزل
واردفت له
_الحمدلله يا ريس بخير والله طول م حضرتك بخير
على الجانب الآخر كان الحاسوب النقال امام الرئيس التنفيذي للدار مفتوحاً على رواية"نايا قلباً يجمع بين الحب والخوف"
على صفحة ما واردف
_عندك تعديل بسيط ف جزء فالرواية يااستاذة ايمان ومتعودناش على دا منك، شكلك كنتِ بتكتبي وانتِ سرحانة
قالها ضاحكًا كي يخفف حدة الموقف، ف ابتسمت ايمان ووعدته ب أنها م ان تصل إلى المنزل ستبذل اقصى جهودها في تصليح هذا الجزء حتى يحظى ب اعجابه بصفه خاصة واعجاب لجنة القراءة بصفة عامة.
اغلقت المكالمة بعدما شرح لها ان التعديلات المطلوبة مرفقه برسالة على بريدها الاليكترونى ستجدها.
وصلت منزلها، ولجت بعدما دغدغت حاسة الشم عندها رائحة طعام شهية، دلفت إلى المطبخ وقامت بمداعبة والدتها
_يا كراملة طابخة إيه الجيران هييحوا عالريحة
ضحكت الأم واخبرتها بعدما وضعت في فم ابنتها ملفوفاً من الكرنب بالارز
_محشي كرنب عشان اطعم ايمي فالدنيا وفراخ مشوية يدوب تغيري هدومك يكون بابا خلص دوش واجهز السفرة
اومأت إيمان برأسها منتشيه واخذت تدندن بكلمات اغنية وهي ذاهبة نحو غرفتها، بدلت ملابسها وذهبت إلى المرحاض وغسلت وجهها ويديها وخرجت تتناول طعامها برفقة عائلتها.
كان الحديث يدور عن يوم عمل لوالدها على بعض المشكلات التي واجهته، ووالدتها كانت تخبرهم بشأن إتصال من ابنتها الكبرى ماليكا اتاها اليوم تطمئن إلى حالهم، اما عنها فقصت مادار بيومها سريعاً وسريعاً نهضت عن طاولة الطعام تخبرهم ب ان لديها عمل مهم لابد وان تنتهي منه اليوم.
صنعت لنفسها كوباً من الشاي، ودلفت وفتحت الحاسوب، تلقت الرسالة الاليكترونية على بريدها وعلمت ماعي الجزئيات المطلوبة..
فتحت الرواية على الجزئية بالتحديد...
*داخل الرواية*
كنت اجلس في غرفتي بين كتبي واوراقي، احاول جمع شتات نفسي بالاستذكار والانهماك بها.
فجأة! إنطفأ المصباح!! أظلمت الغرفة لم اعد ارى شيئاً، نهضت ببطئ امسك هاتفي اضئ مصباحه نحو الباب حتى استطيع ان اخرج لإحضار اي شئ يضئ لي.
اعلم ان امي وابي نائمان الآن وبالتأكيد لن يشعروا بانقطاع التيار فهما يعملان طوال الوقت ويناما متعبين جداً.
وصلت إلى الباب اقتربت بيدي نحوه اجذب المقبضة كي افتحه ف وجدت من يمسك بكف يدي!
اجفل جسدي وارتشعت كلياً وكأن هناك ثلجاً يهطل فوق رأسي يجعل كل مافي ينتفض!!
وجهت اضاءة الهاتف نحو من يمسك بيدي فالظلام فوجدتها طفلة، عدت للخلف وانا انظر لها خائفة ف تعرقلت بشئ كان على الأرض فوقعت لأجد يد صغيرة اخرى على كتفي وجهت الهاتف نحوها فوجدت طفلة اخرى تشبه كثيراً للأولى ولكنها اصغر بالعمر!
صرخت ونهضت مهرولة نحو فراشي ف قامت الساعة بالدوران العكسي وبعدها سارت بصوتها المزعج الذي يطن اذني، جعلني اصرخ واصرخ وانا اشعر انا صوتي لم يخرج خارج حلقي قط.
حتى وجدت من برز إلي من بقعة الظلام ينظر لي بعين واحدة والاخرى ضريرة ويتحدث لي بصوت يشبه الفحيح
_إلحقيهم.. وإلحقيني، عشان هموتهم.. واموت نفسي!
________