استيقظت مبكراً كعادتى متوجهاً إلى مكان عملى،كم سئمت من هذا الروتين اليومى الغرف كلها ممتلئة والناس تشكو الظلم الجو ساخن إلى حد الانصهار ،الهواء الساخن بكل مكان والممر مكتظ بالبشر الجميع فى انتظارى وفى طريقى إلى حجرتى ركض أحد ما خلفى وهو يُحدِثنى بعُجالة وقفت لأفك طلامس كلماته لأفهم مايريد وما أن استدرت قلت فى اندهاش
- هذا هو أنت ياعم ''عطية''..خير؟!
- لقد تأخرت كثيراً يا ''محمد بيه''.
دخلت مكتبى واستقريت على أحد الكراسي القابعة خلف لافته من الرخام مطبوع عليها''محمد أبو الوفا'' وكيل نيابة ،وأشرت ل ''عطية'' بإغلاق الباب وقلت له:
- أدر المُبَرد يا عم ''عطية'' واصنع لى فنجاناً من القهوة، وأغلق الباب خلفك
ثم أردفت؛ وكأنى أتذكر شيئاً:
- عم ''عطية'' ..كيف تُحدثنى أمام الناس هكذا؟!
- معذرة يا بيه فهناك أشخاص مهمة فى انتظارك ولهم قضايا
صرخت بوجهه:
- لايوجد أشخاص ذو أهمية.الكل سواء .أليسوا مواطنون عاديون؟!
رد الرجل فى توتر:
- بلي..
واستطردت وأنا ثائر:
-إذن ماهى أهميتهم ياعم ''عطية''؟
همس فى أُذُنى وهو يدنو منى وبصوت يشبه حفيف الأشجار قال:
- الرجل الذى كان على اليمين هو ''عبد الحميد باشا الوالى''رئيس محكمة النقض السابق وله قضية، والجالس أمامه هو ''احمد النبراوى ''رجل الأعمال المعروف وله قضية أيضاً
همست له بطريقة ساخرة :
- وما نوع قضاياهم أكيد مارست هوايتك فى الفضول والثرثرة؟
قال وهو يدنو أكثر وأكثر حتى كاد يصطدم بوجهى ورفع إحدى حاجبيه:
- ''عبد الحميد بيه'' قضية إثبات نسب، و ''أحمد بيه'' رجل الأعمال حاضر مع ابنته قضية هتك عِرض
عُدت للوراء وقلت مشمئزاً:
- ياساتر يارب..ماهذا الصباح؟!
عاد ''عطيه'' للوراء ممسكاً بيديه عصا المكنسة وفى اليد الأخرى قطعة قماش يمسح بها المكاتب:
-سأُحضر القهوة حالاً. تريد شيئاً آخر يابيه ؟
- شكراً ياعم ''عطية'' إذهب الآن
دق هاتفى
- ألو..أسعد الله صباحك حبيبتى
- هل تناولت شيئاً يا ''ميدو''؟
ابتسمت:
- لقد كبرت يا أمى
- لن تكبر فى نظرى أبداً؛اليوم عيد ميلاد ''نوران'' زوجتك فقلت أُنبهك يا ابنى كى لاتنسي كالعادة ادعوها للغداء وأحضر هدية تليق بها
- حاضر يا أمى
- أرجوك إعتنى بها ياابنى انها بنت حلال
-هل أعتنى بها لأنها بنت حلال أم لأنها الدكتورة بنت أخيكِ وابنه الدكتور النفسي المشهور؟
- لا يا حبيبي بل لأنها زوجة ابنى ؛أغلى ماعندى فى الدنيا
أغلقت الهاتف وسرحت قليلاً حتى أننى لم أنتبه أو أشعر بدخول عم ''عطية'' ولا لرائحة قهوته النفاذة التى تعبأ بها الغرفة واستحضرت صورتها بالهاتف وهى تبتسم وتنظر إلىَّ .حدثت نفسي كالمعتوه
- إفتقدتك كثيراً يا ''نسرين'' ؛كم أشتاق إليك.
استفقت على صوت عم ''عطية'':
- هل هناك شيئاً يا ''محمد بيه''؟
وقبل أن أنطق بشئ إقتحمت المكتب إمرأة وهى تصرخ:
- إلحقنى يا ''محمد بيه''..إحمينى منهم
*************
تهبط الحكمة علينا من السماء وأحياناً أخرى نتصنعها ونحن أحوج الناس إليها
أشرت بهدوء للسيدة المذعورة التى تتحدث بصوت عالٍ يصل إلى حد الصراخ:
- إلحقنى يامحمد بيه.أهل زوجى يريدون طردى من الشقة بعد أن اعتدوا علىَّ وضربونى.
وبالرغم من اننى لم أجد أى آثار للضرب أو العدوان إلا أننى أشفقت عليها
جَلَست وراحت تسرد ماحدث والدموع تنهمر من عينيها كالآلئ على وجهها المشرق فهى تتمتع بجمال أخاذ لم أرى مثيله، ووجه برئ يعطيها أقل بكثير من عمرها الحقيقي حينما تفحصت بطاقة الرقم القومى الخاصة بها .طلبت لها كوباً من الماء أحضره عم ''عطية'' وهو ينظر إليها بإعجاب شديد ويدنو منها؛ وكأنه سيأكلها بعيونه
بدأت أشتم رائحة الكذب التى تفوح من فمها، وشفتاها تطبع لوناً أحمر داكن على كوب الماء الذى قدمه لها عم ''عطية'' تنظر إلىَّ بعيون براقه لامعه مليئة بالدموع ونقاط العرق تتجمع فوق جبهتها وأنفها ليزداد وجهها لمعاناً وبعد أن هدأت قليلاً قلت لها :
- ماذا بك ..خير .أكملى؟
بدأت وقد عاودها التوتر:
- أنا أرملة وإخوة زوجى يريدون طردى من المنزل وإعتدوا عليَّ بالسب والضرب
- ولكنى أراك بخير؟!
- لا يابيه..أُنظر
وفتحت أزرار ملابسها من تحت الحجاب وكشفت عن جزء صغير من جسدها ؛وعم ''عطية'' لايزال واقفاً يزداد تركيزه وهو يردد لاحول ولاقوة إلا بالله إهدئ يابنتى، وقد شرع يدنو منها ويربت على كتفها فاستفاق على صوتى وأنا أصرخ فيه كى لاينسي نفسه
- عم ''عطية''..هلا تفضلت مكانى؟!
- العفو يابيه
- إذن أخرج الآن..اخرج
قال بتوتر:
- أمرك يابيه
إلتفت إليها وقلت بوجه مقتضب:
- غطى نفسك وكفى .أنا لست قاضياً
إعتدلت فى جلستها وأغلقت أزرار ملابسها وشدت حجابها الصغير لتخرج خصلة ناعمة شديدة السواد من فوق جبهتها
حدثت نفسي بازدراء: لاحول ولاقوة إلا بالله
ضغطت على جرس المكتب وطلبت الكاتب لتسجيل بياناتها وأقوالها
خَرَجت وهى تلقن الكاتب رقم هاتفها وتنظر إلىَّ مبتسمه وكأنها تعطيه لى
لم ألقى بالاً إليها وناديت على القضية التى تليها
كان يوماً مشحوناً وكله قضايا مشينة هتك عرض وإثبات نسب واعتداءات .أكره هذا النوع من القضايا
وبعد يوم طويل من العمل الشاق أخيراً دخلت غرفتى، واستلقيت على سريرى إصطدمت أصابعى بشئ جاف تحت وسادتى فإذا بها ورقة مطوية فتحتها على الفور لأقرأ مايسطر بها ؛إنه خط ''نوران'' زوجتى جاهدت نفسي لأعرف ماكتبته فمازلت أعانى بعض الالتهاب بعيونى من شدة الحرارة والإجهاد فوجدت شيئاً لا أفهمه فأعدت القرأة بتمعن وفى تلك اللحظة دخلت'' نوران'' واضطربت حينما رأت الورقة بيدى فقرأتها بصوت عالٍ لتسمعنى:
''حينما تمتزج المشاعر والأحاسيس وترغب فى التقرب من شخص تتابعه عيونك فى كل خطواته ويدق قلبك وينبض بعشقه يسير بشرايينك غرامه .حينها ماذا تظن أنك فاعل؟ هل تبوح أم تضمر بنفسك الهوى؟ هل تسيطر على نفسك أم تخضع لحبه؟ إلام يدفعك غرامك وكيف يسطو على قلبك وعقلك . هل يشعر بك وانت بجواره؟
إنه قاسي حاد المشاعر يكسو قلبه الضغينة والكره لايعرف شيئاً من المشاعر والأحاسيس ..قاسي..قاسي لأبعد الحدود أخاف ينقلب هواه دماراً وبغضاً أخاف ان يطيح بى عشقه ..انى ارتعد منه خوفاً حينما أراه لكن قلبى لايزل يهواه''
وأردفت باستهزاء:
-ما معنى هذا يا مدام؟
انتفضت وخطفت الورقة من يدى، وقالت وهى تتلعثم :
- إنه شئ يخصنى
- وأنا زوجك وكل ما يخصك يخصنى..لمن هذا الكلام؟
نظرت إلىَّ وعيناها تبرق بالدموع؛ وردت بحدة وصوتها يعلو :
- هل تتهمنى بشئ ياحضرة وكيل النيابة؟
- لا تردى على سؤالى بسؤال!
- إسأل نفسك من أحببت؟ ومن انتظرت؟ ومن أُجاهد لأجعله سعيداً ؟ومن تركت من أجله عملى؟ وأنا طبيبة مشهورة ومن.....
فأكملت لها وقد ضقت ذرعاً بحديثها المتكرر:
- ومن تساعديه بأموالك انتى وأبيك؟ ومن الذى صنعتى منه حالة لتعالجيها وتثبتوا نجاحكم انتى وأبيك؟ ومن تستغليه؟ وتصنعى منه فأر تجارب و......
فقاطعتنى على الفور:
- أنا لا أقصد؛ولا أستغلك فى شئ..انت تفهمنى خطأ
- بل أفهم جيداً اننى مريض نفسي ،وكنت أتلقى العلاج سراً على يديك أنتى وخالى العزيز حتى لا أفقد وظيفتى؛ وأنقذتوا أسرتى من الدمار بعد وفاة أبى وفقده لكل أمواله؛ ومازال مسلسل التضحيات مستمراً .أليس هذا صحيحاً يادكتورة يابنت خالى العزيز؟
- لا ....ليس كذلك...وكفى.
- لماذا؟ تفضلى قولى ما عندك؟
- ليس لدى شئ أقوله.
قالتها وهى مطأطأة الرأس تخطو نحو باب الغرفة لتخرج منها
فأردفت بإصرار:
- لم تقولى ...لمن تكتبى الشعر وكلمات الحب؟
فعادت لتصرخ بوجهى:
- كفى...قلت لك كفى ...أنا لم أعد أتحمل تلك السخافات
فقلت وقد اتسعت عيناى ذهولاً:
-سخافات!
- نعم ..سخافات ..أنت شخص مريض وراعيتك كثيراً ولا فائدة منك
- وبما أنا مريض يا دكتورة؟
- لا تثيرنى أكثر..اصمت أرجوك.
- لا لن أصمت ..انتم جميعاً فاشلون وتعلقون فشلكم بى..مريض بأى شئ..قولى..انطقى؟
- مريض ب ''نسرين''
نزلت الكلمات على رأسي كالرصاص ولم أتفوه بشئ ولم أتمالك نفسي وسبقت الدموع لسانى
وأردفت بكلمات كلها اتهامات:
- هل تعرف من هى ''نسرين''؟ وماذا تعنى لك؟ وماذا تعنى لى أيضاً
وانهارت هى الأخرى ؛وجثت على ركبتيها وراحت فى نوبة من البكاء والصراخ
*****************
لم أعرف كم مر من الوقت؟ وإلام انتهى هذا الحوار .كل ما أعرفه أننى أفقت على صوت ''نسرين'' وهى توقظنى من النوم
- اصحى ياحبيبي..لقد تأخرت كثيراً على عملك
''نسرين'' حبيبه عمرى وابنه خالى التى تربيت معها، وزوجتى وأجمل ماعشقت من النساء هاهى بوجهها الملئ بالبراءة والجمال
نهضت من الفراش وأمسكت بيديها الناعمة وخطيت معها بضع خطوات حتى وصلنا إلى مائدة الافطار وجلست هى أمامى مبتسمه فقلت :
-إنهم أغبياء..كلهم أغبياء ..كيف يتجرأون ويقولون هذا فى حقك؟
ردت والسعادة تملؤ عينيها:
- وماذا يقولون يا حبيبي؟
-لا عليك زوجتى العزيزة هيا لتأكلى معى ..خذى هذه من يدى
وبعد أن تناولنا الافطار والفرحة تملأ قلوبنا إرتديت ملابسي فى عجالة وأنا مازلت أنظر إلى وجهها الجميل:
- عندى الكثير من العمل اليوم
نظرت إلى وقالت فى حنو شديد:
- اجلس اليوم معى فأنا أشتاق إليك كثيراً
قلت وقد استعددت للإنصراف:
- غداً عطلة وسأظل معك طيلة اليوم
قالت فى توسل:
-أرجوك عزيزى
قبلتها بجبهتها وأنا أفتح الباب:
- ارجوكِ أنت ..لن أتأخر عليك
فتحت الباب؛ وفجأة وجدت اثنين من الرجال الأشداء يمسكون بى ويلقون بى على السرير؛ ويربطون يدى وأقدامى ليتقدم رجل يرتدى معطفاً أبيض يغرز إبرة حادة بذراعى أشعر ببرودتها تسير بشريانى وأنا أصرخ:
- من هؤلاء يا ''نسرين''؟ أجيبينى؟!
و''نسرين'' لايسعها سوى البكاء تنظرى إلى الرجل الذى وخزنى بالإبرة وتقول:
- هل هناك تحسن يا دكتور؟
أيقنت أنه طبيب وظللت أصرخ:
- اتركونى...قولى لهم يا''نسرين'' ..اتركونى ياجبناء
لازالت ''نسرين'' تبكى وتخاطب الطبيب ؛ولاتنظر إلىَّ:
- متى نخبره؟
أشار إليها الطبيب لتصمت حتى لا أسمعها فتظاهرت بالهدوء والنوم لأفهم مايدور حولى
استطردت ''نسرين'':
- متى سنخبره بوفاة ''نسرين''؟
قال الطبيبب باقتضاب:
- ليس الآن.
فعادت لتسأل بإلحاح والدموع تتساقط علىَّ يدى وهى تتشبث بها، وتقبض عليها بشدة:
- وإلى متى سأظل أُمَثل عليه دور ''نسرين''؟
قال الطبيب:
- أنا أُقدر تضحيتك يا ابنتى من أجل ابن عمتك وزوجك ..انها مسألة وقت يا''نوران''
سمعت اسمها الذى صم أُذُنى ...''نوران''
خرج الطبيب، وشعرت بيدها تمسك بيدى وتقبض عليها أكثر وأكثر وتهمس بأذنى:
- الجميع يعتقدون أننى أضحى من أجل إنقاذ سمعة العائلة، وتزوجتك عندما توفت خطيبتك ..أختى ''نسرين''..ولكنى كنت أعشقك منذ زمن ولا يشعر بى أحد ومللت من التمثيل فأنا ''نوران'' زوجتك وحبيبتك ولست'' نسرين ''
هنا لم أتحمل كذبها، وفتحت عيونى ،وأشحت بيدها عنى؛ وصرخت بأعلى صوتى:
- كاذبة...انتى كاذبة..كلكم تكذبون ...''نسرين''..أين أنتى؟
ظللت أصرخ حتى صدمتنى الكهرباء، واسترخى جسدى ؛ورحت فى نوبةلا أعرف متى أفيق منها؟
''تمت بحمد لله''