تواصلا مع منشوري السابق أجيب عن سؤال طرحته قبلا : كيف تلقيت عن سيدي الوالد رضي الله عنه العبادات ، وممارسة الدين كخلق وسلوك ؟
أقول : كان تصوف والدي رضي الله عنه تصوف فقهاء علماء مربين ( فقه- عبادة - تربية - تزكية )
وكان سبيله رضي الله عنه حتى ألتزم بكل هذه الآداب والمعاني هو إدخالي على الله تعالى من باب المحبة …
نعم … المحبة
يعني:
أعبد الله لأني أحبه أولا ، لأن من أحب الله استشعر معيته وأحب طاعته ،فهي السبيل إلى هذه المعية ، ومع المعصية تأتي الحجب ، والصالحون يحترقون من هذه الحالة فيبكون ويتضرعون حتى ترفع عنهم ، أما غيرهم فلا تزال ترتفع الحجب بينهم وبين ربهم بالمداومة على المعاصي ، حتى يران على قلوبهم ولاينتبهون " كلا بل ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون "
ثم يقول لي رضي الله عنه "كل إنسان يدعي محبة الله فانتبهي " فالحب بالأفعال وليس بالأقوال "
وهذه العبارة كان يقولها لي شبه مغناة ، بإطالة كسرة اللام في كلمتي " بالأفعال وبالأقوال " حتى أحفظها .
أقول : بكل حب تعلمت الصلاة، فمذ وعيت على الدنيا وأنا أصلي والحمد لله ، نعم صليت منذ سن باكرة لاأدري متى تحديدا ، لأني وجدت أبي لايعظم عملا يعمله في يومه كالصلاة، وأقسم بالله على ذلك .
فقد كان رضي الله عنه يترقب وقت الصلاة بلهفة فائقة ، حتى كانت هي المحور الذي يدير عليه يومه كله .
فقبل صلاة الظهر لديه موعد كذا ،وبعدها سيفعل كذا وكذا ،وقبل العصر سيفعل كذا وبعده كذا ، أما وقت أداء الصلاة نفسه فهو مقدس ، فلا ينشغل أول وقت الصلاة بغير أدائها جماعة في مسجده مهما كانت الدواعي.
وهذا كلام يعرفه كل من لازم الشيخ ، فما تخلف عن الجماعة قط إلا لمرض قاهر .
وكان رحمه الله يركز كثيرا على قضية الخشوع في الصلاة ، وكان يراه ركنا من أركانها -كأبي حامد الغزالي رحمه الله -والذي لايخشع في صلاته لم يصل حقيقة ، استشهادا بقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته " ارجع فصل فإنك لم تصل "
فالصلاة كما لقنني والدي وشهدته من سلوكه ، هي الصلة بين العبد وربه ، وهي نور المؤمن من أقامها أقام الدين ومن هدمها هدمه ، وليست حركات تؤدى ، ولكنها خشوع لله وخضوع .
وأقرب مايكون العبد من ربه وهو ساجد ، ومفتاحها التكبير الذي يصحبه اطراح الدنيا كلها خلف ظهر المصلي ، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى حتى يفرغ من صلاته ، واذا فرغ كان عليه أن يجلس لختم الصلاة حتى تسري أنوار ها وسرها الى قلبه وأعضائه ،وبهذا يجلله النور.
وبذا عشقت الصلاة حتى أصبحت أهم ماأصنعه في يومي أسوة بوالدي ، ولاأهدأ حتى أؤديها ولازلت على ذلك والحمد لله.
- أما صيام رمضان فهو اختبار في المراقبة
كان يقول لى رضي الله عنه : أنت تؤمنين بأن الله يراك ، فأقول نعم ، فيقول : لو أكلت أو شربت لايمكنني أن أعلم ، ولكن ربك يعلم وهو الذي سيؤاخذك ، وإذا لم يفلح المسلم في التحكم في بطنه فلن يتحكم في جميع شهواته .
وكان يركز معي على أن يكون صومي صوما عن شهوة الكلام والقيل والقال واللهو واللغو
ومالايعنيني ، وإلا ضاع ثواب الصوم وثمرته .
- أما عن تدريبي على ممارسة الدين كخلق وسلوك فأقول :
ببساطة : كان والدي رضي الله عنه بارعا في تهذيب نفسه وخلقه والتزام مقام التقوى والإحسان ، وما وجهني قط إلى فضيلة إلا وقد تخلق بها أولا والتزمها، وما رأيته إلا وقد صدق قوله فعله ، من صدق وأمانة ورضى وتسليم وتوقير لربه وإجادة لعمله ورعاية لأسرته وذوي رحمه وجيرانه وطلابه ، والمعوزين والمحتاجين والأرامل والمساكين ، حتى صار هيئة اجتماعية خدمية متنقلة ، يعطي عطاء من لايخشى الفقر رضي الله عنه .
،وهذا سلوك معروف عن الشيخ رحمه الله ، ويشهد به كل من عرفه من الخاصة والعامة .
وقد مكن الله تعالى له في الوقت تمكينا عجبا ، فيومه بأيام ، وما يفعله في اليوم لايمكن تصوره ….
اما عن أبرز ماتعلمته من والدي من سلوكيات ، فأبرزها :
- احترام الوقت
فقد كان رحمه الله يراقب وقته بحرص شديد ، وكان يقول : كل دقيقة لها عبادتها، ففي الدقيقة يمكن تسبيح سبعين تسبيحة فلم نضيعها ؟
نعم ، أقسم بالله هذا مما تلقيته عن أبي الصوفي .
وكان ينقل لي قول الإمام الشافعي " صحبت الصوفية فتعلمت منهم " الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ، ونفسك إن لم تشغلها بخير شغلتك بشر "
وكان يحرص على تحذيرى من السلوكيات التي تهدر الوقت وتضيع الأجر ، كالغيبة والنميمة وشغل النفس بمالايعنيني.
-كما كان رحمه الله يحرص حين يوجهني إلى خلق أو فضيلة ما على الاستشهاد عليها من الكتاب أو السنة الصحيحة :
فالدين خلق
"وإنك لعلى خلق عظيم"
والدين سماحة مع كل إنسان، بل والكائنات
" لكم دينكم ولي دين"
" وإن من شيء إلا يسبح بحمده "
والدين حياء
" الحياء من الايمان "
والدين إحسان وجودة وإتقان
" وأحسنوا إن الله يحب المحسنين "
والدين تواضع
"واخفض جناحك للمؤمنين "
والله لايحب المستكبرين "
والدين رفق
"فما كان الرفق في شيء إلا زانه "
والدين استغناء وعزة
"ومن يستغن يغنه الله"
والدين كرامة
فقد لقنني في صباي الباكر
" واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك "
والدين رضا وتسليم
" وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"
والدين تعلم مستمر
"وقل رب زدني علما"
طبت حيا وميتا ياوالدي :
فقد تلقيت منك الشريعة (فقها وعلما و سلوكا ) سمحة سهلة ، وحفظت السنة من تمثلك بها ، وتلقيت منك العقيدة غضة وبلا مذاهب "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد "
وبعد ….
فهذا هو التصوف الذي تلقيته عن سيدي الوالد رضي الله عنه ،فهل يختلف عليه اثنان مسلمان ؟
لقد اكتسب والدي رضي الله عنه بتصوفه هذا محبة واحترام الجميع ، واجتمعت الطوائف كلها على توقيره ، وقد بادلهم رحمه الله حبا بحب وتوقيرا بتوقير ، فكان أحرص مايكون على مودة الجميع ،وعدم إثارة مايفرق الناس شيعا، أو أن يكون سببا في ذلك .
ويكفي أن أذكر هنا : أنه حين قام محافظ الغربية الأسبق د أحمد القصبي رحمه الله بإصدار أمر بإقامة ضريح لوالدي في مسجده العامر " المتولي" أكبر وأقدم مسجد بالمحلة الكبرى ، رفض رحمه الله أن يدفن بهذا الضريح ، واشترى مقبرة وسط مقابر البلدة ، وأشرف بنفسه على بنائها لتكون وفق السنة تماما ، ثم دفن بها رضي الله عنه وأرضاه .
ولما سئل عن سبب رفضه للدفن في الضربح الذي أعد له في ناحية من المسجد قال : البعد عن الخلاف مستحب ،و لاأحب أن أكون مصدر فتنة للمسلمين "
رضي الله تعالى عنه وأنزله منازل الأبرار والصديقين . آمين يارب العالمين .