على مسرح الخدع الضوئية يسود الصمت، وتستعد أوتار البيانو لرحلة آلامها بعد أن تجمد المشهد، وتحول اللحن الشجي في ذلك اليوم الموعود إلى معزوفة كئيبة تفتت القلب، حينما كان ذلك المطرب الشهير يترنح على شفا الانهيار، يحاول أن يسترد وضوح بصره الزائغ ولكن كل شئ قد تشوه أمامه في غضون تلك اللحظة التي شم فيها رائحة الفراق تفوح من ثغر ذلك الطبيب، والحيرة تغلف ملامحه وهو يسدل ليل النهاية على وجه طفله الذي رُزِقَ حبه حبًا مس شغاف قلبه، وكان يهدهده ويدلله بالأغاني، ويطلب منه التغني بها في الحفلات التي يحضرها معه، والآن رحل طفله إلى موطنه الأخير، وكان على ذلك المطرب أن يغني في نفس تلك الليلة التي مات فيها طفله الأغنية التي نثرها له من روحه، والتي كانت بعنوان "الولد المشرق"
فنهض من على مقعده المكلوم، تاركًا آلامه، ومصطحبًا معه وعده، ودار بأنينه حول البيانو، وشرع يستدعي شعور الألفة من غموضه،
ودعا خياله إلى ركن قصي في آفاق عقله؛ ليجمعه بعناق ابنه ولو للحظات هاربة يقتنصها منه على جناحيّ الشرود والحلم المهيض، فانعكست له صورة ابنه المشرق أمامه؛ فأسرع يملأ عينيه وروحه من وجهه الصافي، ورحل معه إلى عالم حالم من الراحة والسلام، يعانق بأصابع قلبه رجيف البيانو، ويهيم مع لحنه الذي عزفه له بنبضه،
والسكون يبسط نفوزه على أنفاس المسرح الذي يضج بكل شئ ونقيضه، يتدفق صوته بالغناء المترنم على أوتار الألم التي صارت تتهدج مع الأنوار الخافتة والمتراقصة على الجدران والقلوب، فأضفت على الأجواء سحرًا باكيًا يسلب الألباب، رغم ملامح الشجن الناطقة خلف أستار الفراق،
أتم وعده على نصل جرحه النازف، وانتزعه من شروده آخر حرف من رنيمه الذي أعده لطفله، فأنهى عزفه، وشرع يستجمع الحقيقة المؤكدة من رفات أوهامه المبعثرة!
وانحدرت دموع (العقاد) لتحفر في أرواحنا وشمًا من الوجع لا ينسى، وطلسمًا من الإنسانية لا يمحه أمد، ولا يراه ولا يشعر به إلا من كان له قلب يفقه معنى الحِس.
ما ألطف الخيال، وما أنبل الأحلام حين يمضي فينا سيف الواقع وينتزع جزءًا منا، أو يميت فينا أرواحنا رغمًا عنا؛ فتأتينا الأحلام في أسمال الخيال، وتروادنا عن لقاء نتزاور فيه مع حلمنا الموؤد، فنستيقظ من غفوة شرودنا ونحن مغمورين بالجبر، ومكتملين بأرواحنا التي ردت فينا بعد لقاء دام ثوان تعادل العمر بين أنفاس الأحلام.