……و بينما اقوم بعمل فحص اشعة بالصبغة لطفل صغير ، و احمل فوق كتفي نصف هموم الارض كعادتي حين اري اي طفل صغير مريض ، جاء زميلي من قسم الجراحة يطلب ان انتقل لوحدة السونار للكشف علي حالة حادث سيارة ،….. انهيت ما اقوم به ،و في غرفة الموجات فوق الصوتية وجدتها …… ملاك برىء دون العاشرة ….. مضطربة الوعي قليلا ….و وراءها ام شابة باكية بلوعة و تلهف شديد !!!!
– سألتها محاولا الابتسام : اسمك ايه يا عسل !!!?
اجابت بصوت متهدج : (ريم ) ….. عاوزه بابا !!!!
سألت الام الباكية عن والدها ، فعرفت انه في (الكويت) ،حاولت طمأنة الام التي شعرت ان لوعتها تتجاوز اسوار المكان …..فعرفت ان ( ريم ) ليست الابنة الوحيدة في الحادث …..لكنها الاشد اصابة بينهم ،بينما لا يزال في مستشفي البلينا اختها الكبيرة (رحاب) و الصغري (رويدا) !!!!!
انتهيت من فحصي ،و مضت (ريم) علي سريرها المتنقل ،خاطفة قلبي علي اصابتها التي خدعت فيها و ظننتها حروقا سطحية ….. و وراءها امها الباكية الملتاعة !!!!
* لا ادري لماذا ، رغم انتهاء دوري كطبيب اشعه بالنسبة لحالة (ريم) ، الا اني اني قد وجدت نفسي اذهب الي عناية التجميل و الحروق حيث هي …. سالت والدتها عن حالة اختيها فعرفت انهن في الطريق الي هنا ،علي الاقل حتي يكونوا ثلاثتهن تحت رعايتها *
….عاوزه بابا !!!!
سألتُ الام عن والدها مرة اخري فعرفت انه في طريقه من الكويت الي هنا بعد سماعه الخبر المؤلم ….
اشفقت عليه كثيرا ، سمعتها تهمس *…..عاوزة خوخ !!!
ودت ان احضره لها لكن للاسف لم يحن موسمه , كان وعيها لا يزال مضطربا من شدة الاصابة ، فلقد انقلبت بهم سيارة المدرسة , و سائق المدرسة الارعن الذي كدس التلاميذ فيها لينقلهم في دور واحد ، فانفتح ماء الرادياتير المغلي علي الاخوات الثلاثة ، الا ان جسد (ريم ) الصغير كان له النصيب الاكبر في هذا الماء المغلي المنهمر ….. اصيب الاطفال ، و هرب السائق الجبان ، تمنيت وقتها ان امسك به فاصب له نحاسا مغليا في عينيه علي ما اقترف برعونته في حق هذا الملاك الصغير !!!!
طلبت من الام ان تعتبرني اخاها و تأمر باي شىء لحين وصول والد (ريم) ، فشكرتني باكية ….انصرفت و انا لا يشغل بالي ….سوي ريم و ما حدث لها !!!!
– اليوم التالي
(عناية التجميل و الحروق )
……. انهيت اعمالي الصباحية بالقسم ، و قبل صعودي لاستراحة الاطباء في الطابق التالي للعناية ، ذهبت للاطمئنان علي ( ريم ) …. فاستقبلني شاب في اواخر الثلاثينات …مبتسما و ممتنا * , و قائلا :
انا (حسين) والد (ريم) … والدة ريم حكيت لي علي موقفك النبيل معهم ، لذا اشكرك بشدة !!!
كان شكره و امتنانه اكبر مما فعلت ، فانا لم افعل شيئا غير واجبي في حقيقة الامر ،
• دي رحاب ….. و دي رويدا !!!
اخذ (حسين) يعرفنى باخوات ريم , اللاتى وصلن بالامس للمستشفى ,
– ابتسمت لهن و اطماننت علي حالتهن ، لكن ظلت ( ريم ) من يشغل تفكيري و بجذب انتباهي الاكبر
. ….عرفت من صديقي “د. شريف” ان حروق ريم شديدة ،و مساحتها واسعه لذا انخدعت فيها عيني الغير متخصصة ، و ان حالتها ستستدعي جراحات ، و ان نسبة الشفاء ليست كبيرة !!!!
مايو 2008
مضت الايام و الاسابيع ….. و توطدت صداقة ”حسين“ والد ( ريم ) معي و مع فريق قسم جراحة التجميل الطبي ، الذي بذل كل ما بوسعه في علاج حالة ( ريم ) ، حيث اجروا لها العملية تلو الاخري ، و تبرع لها والدها بحزء من جلد ساقه لعمل ترقيع لبعض من اصاباتها ، كانت جلسات حواري مع ريم و الاستماع لذكرياتها من والدها غاية الود و الامتاع رغم ما يحيط الموقف من سياج الخوف و الالم !!!!
تعددت جلسات صداقتنا ما بين وجود ( حسين ) في غرفتنا باستراحة الاطباء مع صديقاي و رفيقا اقامتي د.”ناصر” طبيب الاطفال ، و “د. محمود” جراح التجميل ، و توطدت اكثر علاقتي الابوية بصغيرتي (ريم) ، اناديها قطتي ، تضحك بخجل طفولي حين الاعبها ، و نتذكر مع والديها ذكرياتها و دعاباتها الرقيقة , فقد كانت ذات روح جميلة جذابة لكل من يعرفها ……فتبتسم بخجل امامى …..و تنادي علي بعلو الصوت (عاوزه د. احمد ….عاااوزه عمو احمد ) اذا ما ضايقها اي شىء فى غير وجودى !!!!
يونيو 2008
توالت الايام ، و كان اول من تعافي “رويدا” حيث كانت اقلهم اصابة ، بينما تحسنت حالة “رحاب” كثيرا التي طالما كنا نمازحها لضجرها المستمر ….تحسنت حالة الاختين ، و تاخرت حالة ( ريم ) !!!!
طالت فترة علاجها ، و معاناتها و الامها ،و الامنا لذلك ،كنت اجادل زملائي جميعا في حالتها و تحملوا مني كثيرا ، فكنت كنت اتعامل معهم فيما يخص حالة ريم كمرافق سئيل لا كطبيب زميل …….. و مرت الايام علي هذه الوتيرة …الي ان جاء يوم الرحيل !!!!
اواخر يونيو 2008
يوم الرحيل
كنت قد اقتنعت اخيرا ان حالة “ريم” في تأخر ، بعدما كنت رافضا تصديق هذه الحقيقة …..و في ظهر هذا اليوم و كعادة كل يوم مررت علي ريم في العناية بعد انتهاء اعمال اليوم ، لكني لم امكث الا دقائق جوارها …نظراتها مشتته لمن حولها، و نظرة مختلفه نحو السماء تتبعها ابتسامه ، ….لقد كانت ترى عصافيرا لا نراها ….. لقد كانت اشارات النهاية ، الصادقة ، انسحبت من الموقف الصعب سريعا و انا متوقع اللحظة التالية !!!!!
سمعت صراخها ….. نعم ، انه صوت والدة ريم ، وجدت نفسي في بضع خطوات واسعه علي السلم ، لكن لم تطاوعني قدماي ان اكمل خطواتي الي العناية ، جذبت صديقي طبيب الاطفال “ناصر” و دفعته دون نقاش الي السلم لينزل و يري ما يجري ، بينما تسمرت مكاني اسمع صوت الدموع و النحيب ، و التي اجابته عيناي بدموع منهمرة !!!!
رجع “ناصر” متباطئا حزينا ومتاثرا ، لامني علي دفعي اياه في موقف كهذا ، فقد كان شانه شان كان المحيطين بها قد ارتبط بها كثيرا . نزلت بعدما انتهي كل شىء ، عانقت (حسين) و انا حزينا باكيا فوجدته صابرا محتسبا ، و اذا به يتفقد موبايله الذي يحوي كل صور و مقاطع فيديو لريم فلا يجده ……لقد اختفي الموبايل ، و كان ريم ابت الا ان ترحل و ترحل معها اغلب الذكريات الملموسة ، لتبقي ذكراها عطرة جميلة في قلوب كل من عرفها !!!!
————————————————————
و بعد رحيل ريم بعام تقريبا ، وجدت رسالة من حسين بان الله رزقه بطفلة جميلة …… سماها “ريم” …..”ريم الفلا” كما كان يسمي ريم دوما ….و مرت السنوات ……. و بعد ثمان سنوات تقريبا من رحيل الجميلة (ريم) , جاء موعد زفاف اختها الكبري و رفيقة محنتها “رحاب” التى تركت ذكرى هذه الرحلة الطويلة من العلاج الما فى نفسها لم يندمل حتى الان…… لم اتمكن للاسف من حضور زفافها لوفاة اخوين عزيزين لي فجأة واحد تلو الاخر رغم اني كنت اتمني بشده حضوره الا ان جرح قلبي النازف علي ابن عمي ”حاتم“ و الذى تضاعف بوفاة “الشيخ نصر الدين” ابن عمتى , جعلني غير لائقا لاي مناسبة سارة , ربما الى الان ….. و بعد الزفاف عرفت من صديقي “حسين” ان العروس ”رحاب“ عندما رأت زملائي طاقم اطباء قسم التجميل يدخلون الفرح ، تركت مجلسها ”كوشتها“ و نزلت بين الصفوف لتسلم عليهم و ترحب بهم غير منتظرة صعودهم اليها !!!
…….ّلقد كانت لمسة وفاء و امتنان منها ….و من يدري ، عل روح (ريم الفلا) هي من اوحت لها بذلك ….فقد كنت اشعر اني لو تواجدت معهم لاحسست بروحها الطيبة حولي. . …كما كانت حولى و انا اكتب هذه السطور , بينما افاجأ اننى لست وحدى من كان يتذكر و يذكر ريم فى هذه الايام …لست وحدى من هبت عليه نسمات… روح قطتي الصغيرة ،……”ريم الفلا” !!!!!
.