كيف لعالم استغرقني أعواما لأبنيه أن يهدم بلحظة؟!
هذه الجملة الوحيدة التي كانت تدور كحجر طاحون في دماغي بلا توقف، تطحنني أسفلها وتكسر قلبي أجزاء وأنا أقف أمام حطام مبناي العزيز، والغبار يغطيني من رأسي حتى أخمص قدمي، والدماء تسيل من بعض أجزائي دون أن أشعر بأي ألم، فوجع الفقد أكبر من أي ألم جسدي.
شريط ذكرياتي كان يعرض أمام عيني وكأنني أراه يحدث الآن، كنت فتاة فقيرة للغاية، كل ما تمنيته يوما هو أن أشعر ببعض الكرامة لا أكثر، أن يتوقف الأغنياء عن نعتي بالمتسولة، وأن يأتي يوم أتوقف فيه عن أكل فضلاتهم وستر عورتي بملابسهم التي يودون التخلص منها، لم يكن أمامي سبيلا سوى النجاح، درست ودرست حتى بت الأولى على مدرستي، لا بل على مدينتي، ولذلك منحتني الدولة منحة لدراسة الطب في إحدى جامعاتها، وبعد انتهاءي من الدراسة بتفوق كما هو متوقع مني، تم توظيفي في أحد المستشفيات الحكومية في إحدى المناطق المدقعة الفقر، كنت أظن أن دراستي ستكون سبيلي الوحيد للتخلص مما أنا فيه، ولم أكن أعلم أنها ستكون السبب في دماري.
حاولت بذل كل طاقتي لكي أحسن من الوضع هناك ووضعي معه، ولكن الراتب الحكومي بالكاد كان يكفيني غذاء ولباسا وأجرة للمسكن، وفي نهاية الشهر أضطر للتقشف؛ لأنني لا أعرف أحدا بإمكانه إقراضي أي مبلغ مهما كان بسيطا، أمضيت سنوات على هذا الحال ولكن لا شيء يتغير، سخطت أكثر وأكثر على واقعي الأليم، وبت مستعدة لفعل كل شيء وأي شيء للتخلص مما أنا فيه، وكأن القدر كان ينتظر قراري فقط، وربما كان ينتظر انهياري لا أكثر واستسلامي للنفس الأمارة، فلم يلبث أن أرسل إلي رسولا من عنده، كنت أظنه هدية الله لي، ولكنني عرفت فيما بعد أنه كان اختباري الذي رسبت فيه بجدارة.
ففي أحد الأيام جاءني مبعوث لرجل غني، اصطحبني في سيارته الفارهة إلى أحد القصور التي يمتلكها، كاد أن يغمى علي لحظة دخولي إياه من شدة جماله، أدخلني الخادم إلى حجرة كل ما فيها مذهب وفخم، وفي منتصفها سرير يستلقي عليه رجل في الستين من عمره، موصولاً بالأجهزة الطبية لتبقيه على قيد الحياة.
همس من بين أقنعة التنفس لي بأن أقترب، وهو يشير لي بأنامل مرتعشة، قال لي أنه مصاب بتشمع في الكبد في مراحله الأخيرة، وإن لم يجد متبرعا مطابقا سيموت خلال بضعة أسابيع، وربما لن يتخطاها أيضا، نظرت نحوه ووجهي تعلوه الحيرة، وسألته: وما شأني أنا بذلك؟ أليس هناك أقرباء لك ليتبرعوا لك؟ ألست غنيا للدرجة التي تمكنك من رشوة القائمين على قائمة زراعة الأعضاء لكي يضعوك أعلاها؟
- ضحك بصوت بالكاد يسمع ضحكة كلها مرارة، وأجاب: حتى أبنائي يتمنون موتي لكي يرثوا أملاكي، من سيتبرع لأجلي بقطعة من جسده؟! أما بالنسبة للرشوة فأي شخص قد يغامر بأن يضع شخصا بحالتي المتردية أعلى القائمة، فسني عمري الستين، وإصابتي بتصلب الشرايين، وفيروس الكبد سي يجعلونني خارج القائمة تماما.
- صمت لا أعرف ماذا أقول، فوجدته يهمس مرة أخرى قائلا: لقد اخترتك من بين الجميع لأنني أعرف أنك تعانين الأمرين في واقعك القميء، ما رأيك أن أنتشلك من هذا العالم، وفي المقابل تجدين من يتبرع لي بجزء من كبده؟ أنت تعرفين أن التبرع بالكبد لا يضر المتبرع بشيء، ولا تقلقي أياً كان المبلغ الذي يطلبه فأنا جاهز لمنحه إياه.
جلست أمامه مفكرة بما قاله، صحيح أن هذا يخالف قسمي الذي قطعته على نفسي عندما أنهيت دراستي، ولكن بماذا أفادتني الأمانة وخدمة الناس، وأنا أمضي أيامي بالتقشف وبالكاد أجد ما يسد رمقي؟
همست موافقة، أخذت عينات من دمه فقد كان المنزل مجهزا وكأنه مشفى، وأعادوني إلى مكان سكني، احتفظت بالعينات وبدأت رحلة البحث، لحسن حظي لم يستمر بحثي طويلا، في أحد الأيام جاءني شاب فقير تعرض للسقوط من أعلى مكان عمله فكسرت ساقيه الاثنتين، وكان لزاما علينا أن ندخله لجراحة مستعجلة، وقبل العملية قمنا بسحب الدم لكي نقوم بعمل الفحوصات الروتينية، طلبت من أخصائي التحاليل المناوب أن يقوم بعمل فحص التطابق مع العينات التي أمتلكها وقد كانت مطابقة، طلبت التحدث مع المريض لشرح تفاصيل العملية قبل إدخاله إليها وقد كان، أقنعته بأنني سأمنحه قدرا كبيرا من المال، وسأنقله لإجراء عمليته في أفضل المستشفيات إن وافق على منح جزء من كبده لمريض يكاد يموت.
وافق طبعا وطلبت نقله من فوري لأحد مستشفيات ذلك الثري، وتمت العملية بنجاح، لقد كانت هذه البداية فقط، لم يكفني أن أعمل في مشفى ذلك الطبيب وأن أصبح غنية جدا، بل ويشار لي بالبنان أيضا لتفوقي، لقد أعمى الطمع بصري وبصيرتي، تركت عائلتي وانتقلت إلى مدينة أخرى، وتنكرت لكل ما يمت لماضي بصلة، بنيت عالما جديدا ينسيني كل ما قاسيته في سني عمري السابقة، ألا يحق لي بعد كل ما عانيته أن أهنأ قليلا بحياتي؟!
لم أتوقف عند هذا بل لقد عرفت المدخل الذي سيدر هلي ربحا وفيرا، وسيغنيني حتى لما بعد مماتي، فتحت عيادة مجانية في المشفى لمعالجة الفقراء، هذا كان ظاهرها، ولكن في الخفاء كنت أقنع المرضى بالتبرع بأعضائهم مقابل مبالغ من المال لم يكونوا يحلمون بها يوما، فما فائدة كلية زائدة عن الحاجة إن لم تجد في الجسد ما تعمل عليه، حتما ستفشل ذات يوم من قلة المياه الصالحة للشرب، وما فائدة كبد لا يجد ما يعمل عليه من عناصر غذائية؟
لقد كان الفقر وألم الجوع أكبر من أن يردعهم عن الموافقة، وبالطبع كنت أقبض مبلغا مهولا مقابل كل عضو أحضره، كنت أستغل ضعفهم وحاجتهم، وأمنحهم فتاتا مما أحصل عليه، لأحيا أنا برغد العيش، واستمرت الحياة تمنحني ما كنت أظنه وجهها، حتى حان الوقت الذي تديره لي به، وترد لي ما فعلته كصفعة محكمة.
حدث ذلك حينما جاء ذلك اليوم الذي ماتت فيه مريضة تحت العملية، ولم أكن أعلم أنها قد أخبرت زوجها بأنها ستتبرع بجزء من رئتها لمريض آخر، مقابل المال الذي سينتشل أبناءهما من وهدة الجوع، وأخبرته ان المشفى يرفض أي مرافقين لها، وعليه البقاء في المنزل لرعاية أطفالهما، لا أعرف حقا كيف استطاعت إقناعه بأن يتركها وحيدة في ذلك اليوم، ربما لم تفعل هي، بل بكاء أبناءهما من شدة الجوع هو من فعل.
أثناء العملية أصابها نزيف حاد لم نستطع إيقافه، وماتت على طاولة العمليات، أعماني الطمع وأنا أرى كل هذه الأعضاء النابضة بالحياة أمامي، وتساءلت ما نفعها في جسد ميت سيوارى التراب ويأكله الدود قريبا؟
استأصلت كل ما أمكنني من أعضاء جسدها، وتخلصت من جثتها بأن وضعتها في محرقة النفايات الطبية حتى غدت رمادا كبقية النفايات، جاء زوجها بقلب مفطور في اليوم التالي بحثا عنها ولكننا أنكرنا رؤيتنا لها، ولكنه كان متأكدا فهي قد أخبرته بلسانها، هذا ما صرخ به في وجهي به، عندما وقفت أمامه بثيابي الفخمة وبرودي الصارخ وأنا أرد عليه؛ بأن من مثلهم لا يمكنهم أن يدخلوا إلى مستشفى كمشفانا إلا في أحلامهم، فكيف تتهمنا بأننا قتلنا زوجتك؟ يا لك من مخادع! من الذي أرسلك لتلعب علينا هذا الدور، أم أنك تظن أنك ستبتزنا بكلامك هذا وقد نلقي لك ببضع أوراق من النقود؟
خرج من المشفى يجر ذيول خيبته وظننت أن الأمر انتهى، فهو لا يملك دليلا سوى أقوال زوجته، ولم أكن أعلم أنه يكن من الحب والثقة لها ما يؤهله ليدمرني ويدمر عالمي كله، ولكن ها هو اليوم يمسك بيدي يجرني بعيدا عن أنقاض مبناي المتهدم، بعد أن فجره تسرب الغاز الذي افتعله في مطبخ المشفى الذي شيدته بعد سنوات من الجهد، وها هو الآن يمثل دور المنقذ بإتقان كما كنت أفعل سابقا.
يبدو أنهم كانوا محقين فمال الحرام يأكل بعضه حقا.