ما إنْ شقت صرخاته الحادة المتتابعة أذنيها، حتى هرولت بقدمين عفيتين نحوه. رفعته إلى صدرها، قطعة من اللحم الأحمر، دافئًا ونقيًا. تشممته، فكانت له رائحة الندى. هدَّأتْ من روعه، وهي تشبعه بقبلاتها الحنون. حتى استكانت الصرخات، زفيرات وشهيقات صغيرة. بعينين مغمضتين راح ينقب عن ثديها بشفتيه، يلتقمه في نهم، وهي تضحك. تخبئه في صدرها الغض. تخاف عليه أعين الحاسدين الباردة.
تتذكر الغائب الذي تركها في مساء حزين، وارتحل. تشعر بأصابع الوحدة، والوحشة تضغط على صدرها، فتبقي وليدها في حضنها؛ لتشعر بالدفء، يتسلل إلى قلبها. تتأمل ملامحه، التي تذكرها به. أنفه الدقيق، وجبينه المضيء، وسمرة لامعة تكسو وجهه.تتذكر كلماتها له حين علمت برغبته بالرحيل، وراء رزقه الذي ضاق في بلده: (لا أريد شيئًا سواكَ أنتَ .ابقَ معي، يكفينا رغيفٌ نقتسمه معًا، وجلبابٌ يستر البدن، وبابٌ نغلقه علينا، لا تدخل منه الريح. تكفيني دخلتك عليَّ؛ تُدفئ القلب، وتسعد الروح. أخشى عليك من بلاد لا نعرف لنا بها أحدًا. يقولون إنَّ بناتها يسرقن رجالنا بفتنة، وجرأة لا نملكها. يسرقونك مني، وأنت (نن العين)، لا أكتحل إلَّا لك، وبك. أضمُّ الرموش عليك. أخاف أن تغيب عني؛ فتنطفئ شمسي. ما لنا نحن، وتلك البلاد، وبيننا، وبينها بحار، وسفر طويل. لكنك تتركني وترحل، فأنت الرجل الشرقي الذي لا تنكسر له كلمة. ينتفض بدني كله. وأكاد يغشى عليَّ، وأنا أحتضنك ببطني الذي تركت به بعض روحك، وسافرت. أنتظر خطاباتك، والأيام تمر عليَّ كجبل يثقل على نفسي. أبثك مخاوفي في كل مرة أرسل لك خطابات، لا أملك سواها وسيلة تربطني بك، كحبل سُرِّي. ترسل لي، لتقول إنك رضعت من ثدي أمك، وشربت من مياه النيل، وتشبعت برائحة الخبز البيتي، وأنك تفتقد البيت، والوطن، والمرأة التي تملأ عليك القلب فرحة، والولد الذي يدب في أحشائها. فأنتِ يا حبيبتي، وطني، وأرضي. كيف أتوه منكِ، وأنتِ تجرين في دمي؟
وقتها انتشيت، وتعلقت بحبال الوقت، الذي كان يمرُّ بطيئًا؛ أنتظر عودة الغائب، وقرب وصول الحبيب، الذي يدبُّ في أحشائي بقدميه؛ ليكون العوض، والسند لأرى في وجهه، ملامحه، وأشمّ رائحته، التي أفتقدتها منذ ذهب.
تمسح حبات دموع خانتها، وهي تقبل وليدها، وتضعه بحرص شديد على سريرها، مكان أبيه الخالي، تحكم غطاء رأسها، وهي تطأ بقدميها، شرفة البيت. يعود لصوتها المتحشرج استقامته، وهي ترد لجارتها تحية الصباح بصوت مفعم بالامتنان. تتذكر أنَّها وزوجها هما من حملاها للمستشفى قبل الجميع، حين هاجمتها آلام المخاض، وظلت إلى جوارها لسبعة أيام كاملة، وكأنَّها أمها التي أنجبتها، ولا تتذكر من ملامح هذه الأم، إلَّا وجهًا غائمًا، تاه في مخيلتها لسنينَ طويلة، بعد رحيلها عن الدنيا دون أن تترك لها أخًا تستند إليه، ولا أختًا تبث لها كل همومها، وأفراحها. تسألها جارتها عن زوجها. تتنهد، وهي تحكي لها عن فرحته بالوليد، التي تنطق بها كلماته فى التليفون، كاد يبكي، وهو يتمنى لو أنَّه معهما الآن؛ ليحمل وليده في صدره، ويتشمم عبقه، لكنها لقمة العيش التي أجبرته على الرحيل، والبقاء هناك. تدعو لها الجارة بالبركة، وبلم الشمل، وتدخل لشقتها. ترفع هي عينيها للسماء. كانت الشمس ترتفع ببطء فوق البيوت الكهلة. خذلها البصر. رمت بنظراتها لبنات الحارة، اللاتي يلعبن الحجلة، أمام بيوتهن. تضحك وهي تتذكر أنَّها كانت مثلهن، منذ أعوام طويلة مضت. تتحجج لأبيها باللعب مع البنات أمام باب البيت، حتى تراه وهو عائد من مدرسته الثانوية يافعًا وبهيًّا. كان قلبها لايزال غضًّا، وجسدها يبدأ في دورة فورانه، ولم تكن تفهم بعد معنى لذلك الوجيب، والرفرفة التي كانت تغزو القلب حين تراه قادمًا نحوها. تضحك، وهي تدندن:(حبيب قلبي، يا قلبي عليه، ولو حتى يخاصمني، ويعجبني خضوعي إليه، وأسامحه، وهو ظالمني)، كان يحمر وجهها خجلًا حين تراه في شرفة بيتهم المقابل. يختلس لوجهها النظر، وهي تنعم بنسمة العصاري. تهرب من نظراته، وتبقى في الغرفة تدندن مع "أم كلثوم" التي كان يحلو له كل يوم أنْ يبثها أشواقه من خلال صوتها، والحنين يلهب القلب الغض. أحبه أبوها كثيرًا، قال لها يوم طلبها للزواج، بعد أن أتمت دراستها بالمدرسة الثانوية التجارية : محمد رجل حقيقي، ولن أخاف عليكِ وأنتِ تعيشين في كنفه.
ويوم زواجهما كانت ملامحه تنطق بالسعادة، كمن ولدت له زوجته توءمًا من الذكور. أصرَّ يومها على أنْ يبقيا ليعيشا معه. كان يراه ولده، الذي تمنى أن ينجبه. وأحبه محمدٌ كثيرًا. كان يرى فيه هيأة أبيه، الذي مات منذ سنين طويلة. (رحم الله أبي، كأنَّما كان يستشعر أنَّ العمر لم يعد به إلَّا القليل، فأصرَّ على أنْ يتم الزواج سريعًا، وألا يرهق محمدًا بطلبات مادية لا داعي لها، وهو يذكره دائمًا بأنَّه يشتري رجلًا، وأنَّه يترك ابنته أمانة بين يديه).
أهدت إلى أبيها فاتحة الكتاب؛ لتذهب إليه على طبق من ذهب، وهي تشرد في كلمات خطابات زوجها الأخيرة، والصور التي أرسلها لها من ذلك البلد الأجنبي الذي يعيش به. تشعر أن بعينيه شيئًا ما قد انكسر، وأنَّ النظرات الدافئة، التي كانت تعرفها جلية من عينيه - انزوت، ودخان سجائره يرتفع في إحدى الصور فوق رأسه، وهو الذي لم يفعلها، ويدخن من قبل. يأكل قلبها الخوف، وهي ترى النساء المتحلقات حوله، بشعورهن الصفراء، وألوان عيونهن، ونظراتهن التي تفضح ما بها، وثيابهن المكشوفة. تراهن وحدهن دون الرجال المتحلقين حوله، وهو يرسل لها صوره مع زملاء العمل؛ ليطمئن قلبها الذي لايطمئن أبدًا. ترفع الغطاء عن إناء الحساء؛ فيتصاعد البخار لافحًا، ومتوغلًا لملامحها. تحاول أن تفهم معنى كلماته في رسائله الأخيرة، تلك التي كان يدور فيها حول المعاني ولا يفصح. يتحدث عن الفرصة، التي تجيء مرة واحدة، وعن الظروف التي تجبرنا على قبول أشياء لم نكن نجرؤ على التفكير فيها، وقلبها يحدثها أنَّه لم يقل بعد ما يريد. يحدثها كل مرة عن أصدقاء غربة من نفس الوطن، ممن اضطروا للزواج من نساء ذلك البلد حتى يحصلوا على أوراق إقامة رسمية دونها يأكل الجوع أبدانهم وأسرهم، حين لايتحصلون على أعمال تقيم الأود، ويعودون لبلدانهم محملين بالفقر، والخزي كما ذهبوا، وبذكريات تنخر أرواحهم للغربة، وللتوهة في بلاد كانوا يخطفون بها لقمة العيش، رغم الثلوج التي ترتفع فوق أرصفة الشوارع، والصقيع الذي يملأ القلوب أكلها الخوف منه، وعليه معًا، ولأول مرة، لا تشعر بوقع كلماته على قلبها، تلك التي طالما بثها في رسائله لها، بأنَّها وطنه الذي لن يفرط فيه أبدًا،وأنَّها الروح التي تسري في دمه، ولم تعد تملأ كيانها وعقلها.
تبتعد عن البخار الذي غطى عينيها؛ حتى ترى الوعاء جيدًا من الداخل، وهي تضع تقلية الملوخية. تحكم أغلاق الإناء بعد أن انتشر العبق في المكان، تتشممه بعمق، وهي تتذكر كلماته، حين كان يعود من صلاة الجمعة في المسجد القريب. كان يدخل للشقة متهللًا، وهو يتشمم بعمق رائحة الملوخية التي كان يعشقها. يجلس على المائدة التي كانت تجمعهما، ويتناولان غداءهما معًا. نفضت عن رأسها كل الهموم والأفكار التي صارت تتعايش معها كل يوم، وهي تضع على المائدة طبقًا واحدًا ورغيفًا واحدًا، تهرول لداخل غرفة نومها حين تسمع صرخات وليدها، تتشممه من جديد، كانت له رائحة الخبز الطازج، والفجر الندي. تضمه إليها ليصبحا كونًا واحدًا، وهي تدعو الله بأنْ يعود الغائب؛ ليغلق بيديه بابًا يدخل منه الصقيع.