آخر الموثقات

  • إحذر و تيقن
  • ستجبرون...٤
  • حسنًا.. إنها الجمعة..
  • لا تحزني يا عين..
  • حبل الذكريات
  • [النقطة التي أكلتني] قصة قصيرة 
  • الاستقرار سنة كونية واجتماعية  
  • أتسمح لي..
  • فنجاني وحده يعرفني
  • هل هذا …..إنتصار ؟!!!!!
  • صرخة حوائط
  • هل يمكن حقًا تركيب جيب فستان من الخارج بدون أي خياطة مرئية؟ 
  • لا مبالاة ...
  • وأنتَ ملاذي...
  • ٣ كيلو لحمة
  • يتوسدون المياه والأوحال ويلتحفون الزمهرير
  • الثانية فجرا: وعلى سبيل الاعتراف..
  • عمر الحب ما شفته مشين
  • لزاما عليك ألا تعجز ... 
  • لعنة المعرفة
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة صفا غنيم
  5. أخبرت البحر عنك

 

" إهداء "

إلى الروح التي غادرتني، وكانت دوما بالنسبة لي استقامة ظهري، إلى "أبي" رحمة الله عليه.

إلى ما تبقى لي ومعي من الحياة, إلى "أمي".

إلى  كل من أحبني وتحملني وظل بجانبي.

                                                                       صفا غنيم

-مقدمة-

مهما كبرنا وغطى الشيب سواد شعرنا.

مهما حققنا من مكاسب وما وصلنا إليه من مناصب.

وما امتلكنا من ملك وصولجان.

يظل بداخلنا جزء يشبه الطفل، يحتاج دوما لكلمة تهدهده، ولمسة تمسح عنه ترسيبات زمن بخيل.

فقوتنا تكمن دوما فيمن نحب, ليبقى دوما ميراثنا الحقيقي، هم من ظلوا معنا رغم ضربات القدر.

لتبقى في النهاية حقيقة واحدة فقط تقسم لنا:

بأن الحب هو الشفاء لكل الشرور والآثام.

"الفصل الأول"

"صدفة"

أختار لنفسه مكانا قصيا داخل الحفل الصاخب المزدحم بوجوه كثيرة أخفت حقيقتها كثرة الألوان والأصباغ.

 أخذ يراقب في صمت، النفاق الاجتماعي والمجاملات الخالية من أي روح أو حياة.
 تارة ينظر في ساعة معصمه، يستحلف عقاربها أن تجري كي ينهي هذه المهمة ثقيلة الدم, وتارة أخرى يشعل تبغه باهظ الثمن يتشاغل به عمن حوله.
فحياته قبطان بحري، غلفته بالخصوصية والبعد عن ضجيج ونفاق البشر حتى وجدها تقف تائهة وسط زحام الحفل تتألق في فستان من الحرير المطرز بزهرات بنفسج صغيرة، مكشوف الرقبة والذراعين تاركة شعرها الأسود الناعم يحتضن وجهها الأبيض البلوري وعينيها السوداوين الواسعتين ليشعر أن عشرات الأسئلة تدق قلبه لا عقله.
من أنتِ؟ وأين كنتِ؟ وما اسمك؟

 يقترب منها صديقه "أحمد", يصافحها مصطحبها إلى أقرب مقعد.

 يتبادلان حديثا سريعا, يرحب بوجودها, يتركها ليذهب إلى صديق عمره الشارد فيها.

يقف أمامه مداعبا إياه قائلا :

-سيادة القبطان "حسن الشاذلي" , إلى أي مرسى سافرت يا رجل؟
يجيب حسن بضحكة قائلا :

 " أحمد " من هذه السيدة ؟

 -أي سيدة تقصد؟ الحفل مليء بالسيدات.
-هذه السيدة صاحبة الرداء ذي اللون البنفسجي.

 ينظر أحمد خلفه حيث أشار حسن, يراها تجلس كما تركها, يعود ببصره مرة أخرى إلى "حسن" وقد رفع حاجبيه قائلا بخبث:

"حسن" هل وقعت يا صديقي؟

يجيبه "حسن" بضحكة ساخرة قائلا:

من يسكن البحر مثلي لا يكون بمقدور المرأة أن تستوطنه, كل ما في الأمر أنها المرة الأولى التي أراها في حفلة من حفلاتك.
يجلس "أحمد " بجواره وقد مد يده إلى علبة السجائر التي وضعها "حسن" أمامه, يشعل واحدة منها قائلا :

هذه السيدة تدعى "حياة الألفى", أكبر سيدة أعمال في مصر، تمتلك شركة الحياة لمستحضرات التجميل, ومن أشهر راقصات الباليه, تبلغ من العمر أربعين عاما ولم نسمع أنها ارتبطت بقصة حب واحدة حتى الآن، الجميع يطلق عليها سيدة الأربعين, مغرورة وغامضة كزهرة البنفسج التي تعشقها يا أبا علي.

ينهض أحمد يستقبل المدعوين, تاركا "حسنًا" في شروده ولسان حاله يقول:
-أغبياء جميعكم دون استثناء؛ فهي اسمها طفلة الأربعين، وليست سيدة الأربعين.
هي ليست مغرورة متعجرفة؛ بل هي كالجواد الحر الأصيل كل ما يحتاجه هو فارس حر نبيل يكون بمقدوره أن يروضه ويمسك لجامه كي يطمئن ويسكن.

جميعكم حمقى: لأنكم ترون بأعينكم وليس بقلوبكم.
ينهض فجأة ممسكا بهاتفه وسلسلة مفاتيحه, يهم بالانصراف, وما أن رآه "أحمد" حتى ذهب إليه يسأله: "إلى أين ما زال الوقت باكرا؟".
- إني مسافر غدا وعليَّ أن أذهب لأنهي بعض أعمالي.
 -كم ستغيب هذه المرة؟
-ثلاثة أشهر بمشيئة الرحمن.
-إلى أي ميناء ستكون رحلتك؟
-إلى ميناء مرسيليا، حيث الجمال يا صديقي.
-تصحبك السلامة، سأفتقدك.
- ألا تريد شيء شيئا أحضره لك معي؟
-أريد صديقي فقط, عد إليَّ سريعا.
يعانق كل منهما الآخر.

 يتركه حسن ويتجه ناحية الباب، يقف فجأة مستديرا ناحية صاحبة الرداء البنفسجي ناظرا إليها, مناديا أحمد قائلا :-

" أحمد"، أريد هاتفك دقيقة، أجري إحدى المكالمات؛ لقد نفد رصيدي.

يضحك "أحمد"  مادا إليه يده بهاتفه.

يمسك "حسن" بالهاتف يكتب اسم "حياة " ليظهر الاسم وبجانبه أحد عشر رقما, يكتبها سريعا على هاتفه, وينادي "أحمد" قائلا :-

-خذ هاتفك شكرا لك.
يركب سيارته ينهب الأرض نهبا إلى بيته في حي المعادي الهادئ صاعدا إلى شقته بالدور العاشر في إحدى البنايات الراقية أمام النيل، وما أن وضع المفتاح في الباب دالفا داخل شقته التي ما من أحد يراها حتى يظل مشدوها، مبهورا بجمال أثاثها الذي تم اختياره بعناية شديدة، توحي بأرستقراطية طاغية وما يشغل الحائط من لوحات فنية عتيقة تجعل من يراها يشعر أنه يحيا في القرون الوسطى, كان قد اشتراها "حسن" من أحد المزادات في فيينا.

 يقبع في وسط الصالة الواسعة بيانو أسود كبير.

يمكث بجواره في هدوء، جرامافون قديم إنتاج الأربعينيات.

تعلوه اسطوانات سوداء لسيد درويش وعبد الوهاب وفيروز.

في أحد الأركان مكتبة أنيقة ضمت أمهات الكتب وأشعار نزار وفاروق جويدة.

فرشت الأرض بسجاد فارسي منقوش بورود حمراء بارزة.

في أقصى اليسار "بلكون" يطل على النيل القابع بين شاطئية في هدوء غريب.

 شعر "حسن " أن كل ما يحتاجه هو فنجان من القهوة.

وقد تشاغل "حسن"  في إعداد حقيبة ملابسه استعدادا لسفر الغد، أخذ يضع أشياءه داخل الحقيبة في محاولة يائسة منه، أن يسقط من ذاكرته صاحبة الرداء الأسود؛ أخذ يطوى وجهها مع كل قطعة ملابس يضعها في حقيبة سفره وكأنه أراد أن يصحبها ضمن أشيائه في رحلته.

بسرعة أغلق الحقيبة وذهب لإعداد فنجان قهوته المسائية، خرج من المطبخ يحمل فنجانه بين يديه. وأدار الجرامافون  على أغنية "أنا لحبيبي" مستسلما لصوت فيروز، مغمض العينين مدندنا معها ، شاعرا بشيء من الدفء يسري إليه, ليذهب في سبات عميق.

تنام "حياة الألفي " في مكان آخر، وهي لا تعلم أنها قد شغلت حيزا بين أضلع أحدهم دون أن تدري.
يستيقظ "حسن" مبكرا، يرتدي حلته البيضاء، يحمل حقيبة سفره ذاهبا إلى ميناء الإسكندرية حيث البحر والموج وطيور النورس البيضاء، استعدادا لـيستقل الباخرة المتجه إلى ميناء مرسيليا.

وما إن صعد ظهر الباخرة حتى وقف بعيدا عن الزحام ناظر إلى ما وراء الموج, تخرج منه تنهيدة، بها الكثير من المشاعر والقليل من الكلام، ظل هكذا حتى رأى أمامه على

الشاطئ متجرا صغيرا لبيع الورود.

يبتسم فجأة كمن تذكر شيئا يحبه, يلقي بسيجارته التي كانت بيده ناظرا  في ساعة معصمه ليجد أن الزمن المتبقي على إقلاع رحلته حوالي نصف ساعة.

يهبط السلم الخشبي المربوط بحبل غليظ بالباخرة قاصدا ذلك المتجر الصغير، وما إن وصل إليه حتى دفع بابه ببطء شديد داخلا إليه ليرى أشكالا كثيرة متنوعة وخلابة من الورود.

فى تلك اللحظة الشارد وهو شارد في جمال الورود جاءه صوت عميق كمن هو آتٍ من زمن مضى قائلا:-

-أهلا بك في متجري المتواضع  أيها القبطان.

يلتفت "حسن" تجاه الصوت ليجد رجلا عجوزا انحنى ظهره, وظهرت خطوط يده، أبيض البشرة عميق العينين، يجبر من يراه أن يبتسم وإن لم يكن يعرفه، يكمل الرجل قائلا :  "هل تريد شيء شيئا من الورود يا بني؟".

-نعم سيدي أريد أن أبتاع صحبة من هذا البنفسج.

 وأشار بيده إلى صحبة بنفسج كبيرة تقبع في كبرياء بأحد الأركان.

أشار الرجل العجوز إلى أحد الكراسي قائلا :

-تفضل بالجلوس وسوف أعد لك ما طلبت.

يجلس "حسن" شاردا في الرجل وفي الورود حوله وفي تصرفه هذا هامسا لنفسه : "ماذا بك أيها القبطان؟ تلك هي المرة الأولى التى تبتاع فيها ورودا لامرأة بعد أمك, هل جننت؟ أم أن "حياة الألفي"  بدون قصد ملكت عليك لبك؟".

يقطع شروده صوت الرجل وهو يمد له يده بباقة من البنفسج الخلاب، وما أن رآها "حسن" حتى خطفت بصره؛ لجمالها مادا يده للرجل، حاملا عنه تلك الباقة قائلا :

 -يا " ألله " كم هي جميلة حقا! شكرا لك أيها الرجل الطيب.

ابتسم الرجل ابتسامة واسعة أظهرت نواجذه قائلا:

- اسمي "إبراهيم" ومن الممكن أن تناديني "عصفور الجنة" هذا اسمي المحبب إليَّ, كل من بالميناء يناديني به.

-شكرا لك عصفور الجنة لكن لماذا هذا الاسم بالذات؟

-لأن عصفور الجنة من أكثر الزهور التي أحبها لذا أطلقوا عليَّ "عصفور الجنة".

-اسم جميل كروحك أيها الرجل الطيب.

-وتلك الباقة من البنفسج التى تحملها بين يديك هي الأخرى جميلة كمن صنعت لأجلها.

يفتر فم القبطان "حسن " عن ابتسامة خجلة قائلا :

-ومن أين علمت أنني سأهديها إلى امرأة؟

يتنهد الرجل قائلا : انظر إلى هذا الشيب الذي غطى رأسي، لم يغطه هباء، بل تعلمت معه أشياء وأشياء, ورائحة العاشقين دوما تشي بهم وأنت عاشق يا بني.

يعلو صفير الباخرة معلنا عن بدأ الرحلة.

يقف "حسن" مسرعا, وترك للعم "إبراهيم" أو عصفور الجنة كما أخبره

 باقة البنفسج، وكتب له بإحدى قصاصات الورق الملقاة بالمتجر، عنوان "حياة "

قائلا له : أرجو منك  يا عم "إبراهيم" أن ترسل لي بتلك الباقة إلى هذا العنوان؛ لا وقت لدي الباخرة ستقلع حالا.

-أراك بخير أيها الرجل الطيب.

-تصحبك السلامة يا بني، ويحفظك الله في ودائعه.

يصعد "حسن" إلى ظهر الباخرة يتبعه "إبراهيم" ببصره حيث وقف "حسن" يلوح له وهو واقف يودعه بابتسامته الحلوة.

تشق الباخرة أمواج البحر، و"حسن" واقف مكانه يراقب شاطئ الإسكندرية الجميل حتى غاب عن ناظره, وطيور النورس تملأ السماء والفضاء من حوله ولسان حاله يقول لها :-

-آه لو كان بإمكانك أن تَصِلي حيث هي تسألينها شيء شيئا واحدا؛ أي سر تحمله جعلني أترك روحي حيث مقامها؟!

…………………………… …………...

"الفصل الثاني"

"ذكرى"

تثاءبت حياة في كسل شديد وهي تمد أصابعها الرقيقة إلى "الكوميدينو"، والقابع بجوار سريرها تنظر في ساعتها وقد جلست نصف جلسة في فراشها واضعة خلف ظهرها الكثير من الوسائد, ممسكة بهاتفها تتابع أخبار البورصة.

يقطع انشغالها بما تتابعه صوت دقات صغيرة على باب غرفتها.

تترك هاتفها وتضحك قائلة : تعالَي يا "ليلى"

يُفتح الباب وتطل من خلفه شابة جميلة تشبهها إلى حد كبير، تقفز داخل حضنها، فتحت لها ذراعيها على آخرهما، تضمها في حب وشوق كبيرين.

تقبلها "ليلي" في رأسها قائلة : لقد اشتقت إليك "حياة ", أمس تأخرتِ كثيرا عن موعدك نمت دون أن أراكِ.

تزيح "حياة " خصلة شعر بني كانت قد غطت عين" ليلى" قائلة : آسفة يا حبيبتي لقد كنت مدعوة في إحدى الحفلات.

-"حياة " أريد أن أطلب منك شيء شيئا؛ لكني أخاف أن أغضبك.

- اطلبي ما تشائين حبيبتي ولا تخافي.

-أريد أن أذهب لرؤية أبي؛ لقد اشتقت إليه كثيرا.

يمتعض وجه "حياة" بمعانٍ كثيرة في وقت واحد وشردت عبر زجاج نافذتها.

أنت أكبر غلطة في حياتي ومن هذه اللحظة سأنهيها وبدون ندم؛ يكفى ما تحملته من أجلك، وما فعلته لك؛ يكفي العمر الذي ضاع مني تحت قدميك ولم أحصد غير المرار والعار.

-"إبراهيم" أرجوك سامحني, كنت دوما متسامحا معي، وتحملتني كثيرا وصبرت على جنوني وهفواتي اجعل قلبك يسامحني كما عودتني, ووعد مني لن أعود لمثل هذا الطريق مرة أخرى, سامحني من أجل "حياة وليلى".

- فقط من أجل "حياة وليلى" سأترك لك الدنيا, افعلي بهما ما تشائين؛ لقد كرهتك وكرهت نفسي.

-"حياة " فيمَ أنت شاردة هكذا؟

تنتبه "حياة " على صوت" ليلى" عائدة من شرودها قائلة :-

-لا شيء حبيبتي متى تريدين الذهاب لرؤية أبي؟

تقف " ليلى" قائلة :

- اليوم، أريد أن أسافر اليوم.

- اليوم يا ليلى؟ ألا يمكنك الانتظار للغد؟

 - كما تحبين حياة؛ كنت أود فقط أن أمكث مع أبي يومين.

- لكِ ما تشائين يا ليلى, لكن لا تغيبي عني؛ فأنت تعلمين أنكِ لستِ شقيقتي الصغيرة, بل أنتِ ابنتي وصديقتي.

-وأنت أمي التي لم أرها "حياة".

-إذن اذهبي، واستعدي للسفر وأنا سأطلب من عم "عبد الله " السائق أن يصحبكِ إلى الإسكندرية.

-"حياة" ألم يحن الوقت أن تبعثي لأبي بسلام.

- " ليلى" اذهبي واستعدي لسفرك واتركيني أستعد أنا الأخرى لعملي.

تضع " ليلى" قبلة على وجه "حياة" وتتركها وتذهب لتعد نفسها للسفر إلى الإسكندرية.

تنهض "حياة" ذاهبة إلى النافذة، تقف خلف ستائرها البيضاء شاردة مرة أخرى فى زهورالبنفسج والتوليب الأحمر وعصفور الجنة الذي يملأ حديقة الفيلا.

-أبي لا تتركني بمفردي ابق معنا وأمي لن تغيب ثانية عن البيت هي قالت ذلك.

-"حياة" استمعي لي جيدا، أمك لن تتغير, أنت يا ابنتي، ما تزالين صغيرة, هناك أشياء لن تستطيعي أن تدركي حقيقتها اليوم؛ غدا تعرفين كل شيء.

كل ما أحتاجه منك أن تنتبهي لحالك وحال " ليلى"؛ لا تتركي "ليلى" لأمك.

سأترك لك شركة مستحضرات التجميل، عليك أن تديريها.

وأنا عندما يستقر بي المقام، سأرسل لك مع "عبد الله " السائق؛ فهو أكثر شخص أمين؛

 وهو أيضا الوحيد الذي يعرف الحقيقة.

عديني يا ابنتي أن تكوني قوية، وتحافظي على شقيقتك، وما تركته لك من أموال.

-أعدك أبي.

يغلق الباب خلفه محدثا صوتا مرتفعا، شرخ شيئا بروحها لم تستوعبه وقتها. لتشعر بيد حانية تربت كتفيها تناديها قائلة: "حياة".

تنتفض في مكانها ناظرة خلفها لتجد دادة " فاطمة " تنظر إليها بوجهها الصبوح الطيب.

قائلة لها: "فيمَ أنتِ شاردة بنيتي؟ أنا هنا منذ عشر دقائق".

تميل "حياة "على جبينها تقبله، قائلة لها: "لا شيء يا دادة ؛ "ليلى" ستسافر إلى الإسكندرية اليوم.

- وما الجديد؟ "ليلى" تسافر إلى أبيها كل شهر.

- لا أعرف، لم أعد أطيق أن تذهب إليه.

-هو أبوها، لا تنسَي أنتِ ذلك.

- وهل أن نسيت أنه أبي, يكن بمقدوري أن أنسى أنه تركنا بمفردنا أنا وليلى وأمي, تركني أواجه حياة شرسة, أمسك أمي بيد, وباليد الأخرى أمسك" ليلى" التي لم تكن تستوعب، أي شيء بالحياة.

تركني وأنا ابنة الثامنة عشرة دون مساعدة في بحر خضم من صراعات ومشاكل.

وضع صبية صغيرة وسط حيتان في سوق لا يرحم ضعيفا اسمه سوق المال والمصلحة. تركني بمفردي. صدقيني يا دادة، أنا حتى الآن لا أعرف كيف تجلدت بهذا الشكل؟ وكيف استطعت أن أقف أمام كل ما واجهني وأحافظ على حقي وحق "ليلى" وأجعل شركتي من أكبر الشركات في مصر، كل ما أعرفه حقا أنه لولا وجود الله معى ووصاية أبي لي بأن أحافظ على ماله ومال "ليلى" صدقيني لكنت انتهيت.

-لا تحكمي على الأمور من ظاهرها بنيتي, هناك الكثير الذي لا يعلمه إلا الله.

-أنت يا دادة و"عبد الله " السائق تعرفان شيئا أنا لا أعرفه.

يقطع حديثَ "حياة" مع دادة "فاطمة" صوتُ "ليلى" التي أتت إلى حياة تودعها قبل سفرها، وقد ارتدت فستانا أبيضَ بورود حمراء يقف عند ركبتيها, وقصت شعرها بشريط من الستان الأحمر أضفى على وجنتيها لونا أحمر زادها بهاء.

وما إن رأتها "حياة" حتى ابتسمت قائلة لها :

- تعالَي إلى هنا أعطني قبلة كبيرة قدر حبي لك.

تتعلق "ليلى" برقبة شقيقتها التي تراها أمها وسند الحياة لها, وتطبع على خدها قبلة قائلة:

- سوف أمضي الآن يا حياة ولن أتأخر عليك, يومان فقط وأعود.

-سأنتظرك حبيبتي فلا تتأخري.

تمضي "ليلى" ناحية الباب وهي تلوح "لحياة" بيديها, ظلت تتبعها بعينيها حتى اختفت.

تبادرها دادة "فاطمة" التي وقفت صامتة وبداخلها يحمد "الله" أن "ليلى" أتت في الوقت المناسب كي تقطع حديثها مع "حياة ", التي عرجت مرة ثانية على سر مدفون منذ عشرين عاما قائلة:

-هيا يا ابنتي ارتدي ملابسك وانهي صلاتك وأنا سأعد لك طعام الإفطار  قبل ذهابك إلى الشركة.

-شكرا يا دادة.

تدلف "حياة" إلى الحمام، تقف تحت الماء، مغمضة العينين، تاركة نفسها لقطرات الماء الدافئ تلامسها كمن يبحث عن أي شيء يربت أكتافه حتى ولو كانت قطرة ماء.

فما عاشته "حياة "بمفردها علمها ألا تحتاج إلى أحد, ألا تطلب مساعدة من أحد، ألا تظهر ضعفها مهما كان.

حتى بات كل من يعرفها يظن أنها امرأة حديدية وهي في الحقيقة هشة من داخلها تحتاج إلى من تسند رأسها فوق كتفه فيحمل عنها كل شيء.

وما إن انتهت من حمامها حتى وقفت أمام مرآتها تمشط شعرها وقد توقفت فجأة تمد أناملها إلى وجهها تتحسس ملامحها وكأنها تخبرها أنها اشتاقت إلى نفسها التي لم تعد تتذكر متى كانت المرة الأخيرة التي داعبتها فيها, أو أخبرتها أنها تحبها؟

هي فقط تحب الجميع وتهتم بالجميع إلا شخصا واحدا فقط دوما ما تسقطه من ذاكرتها هو "حياة الألفي".

تنتبه فجأة على صوت طرقات خفيفة على باب غرفتها لتجيب الطارق قائلة :

-حاضر يا دادة أنا قادمة.

تهبط "حياة " الدرج إلى الدورالأول بفيلتها التي تتكون من غرفة معيشة كبيرة أثاثها كله بلون البنفسج، تتوسط الغرفة مدفأة مملوءة بالحطب وفي أحد أركانها بجوارها منضدة فضية تناثرت عليها صورحياة وليلى وأمهما.

حتى أبوها الذي تكرهه أو تدعي إنها تكرهه وضعت له صورة بين تلك الصور.

وفي الطرف الآخر من الدور الأول للفيلا توجد غرفة مكتب "حياة " تقضى بها معظم وقتها ما بين مقابلات وإنهاء أعمالها.

في المنتصف غرفة السفرة التي تزورها مرة واحدة فقط وهي ذاهبة إلى شركتها كل صباح. تجلس على الطرف الأمامي لمنضدة طويلة فضية اللون محاطة باثني عشر كرسيا.

تجلس "حياة " تتناول طعام إفطارها ناظرة عن يمينها فلم تجد "ليلى" التي تشاركها طعام الإفطار كل يوم، بل وتشاركها حياتها بأكملها, منذ رحيل أمها عن البيت, ورحيل أبيهم

 دون سبب مفهوم تاركا لها طفلة صغيرة لا تتجاوز الثلاثة أعوام، وشركة كبيرة، وقبل هذا وذاك رحل الاثنان عن حياتها تاركين خلفهما جرحا لا يندمل، وسؤالا لا تجد له إجابة طيلة عشرين عاما، وهو "لماذا تركهم أبوهم دون سبب؟"

وإن كانت "حياة " تعرف أن هناك سرا لا يعرفه أحد غير دادة " فاطمة" التي لم تتركهما للحظة طيلة هذه السنوات.

 اقتربت دادة "فاطمة "  لتجلس بجوار "حياة" التي لم تتناول أي شيء من طعام فطورها

قائلة لها:

- "حياة"، لمَ لا تتناولين إفطارك؟

-لا شيء يا دادة لم أستطع أن أتناول شيئا و"ليلى" ليست معي.

- يا ابنتي, " ليلى" بخير هي مع أبيها الآن, عليك أن تتناولي طعامك، فلديك أعمال كثيرة.

-سأتناول قهوتي فقط، وإذا شعرت بالجوع سأتناول أي شيء في الشركة مع "يسر".

تمسك "حياة" بفنجان قهوتها تتناوله، يدق جرس الباب، تذهب دادة "فاطمة" ترى من الطارق في مثل هذا الوقت المبكر؟

………………………………………...

"الفصل الثالث"

"باقة بنفسج "

-صباح الخير , هل السيدة "حياة الألفي" هنا؟

تنظر دادة" فاطمة " إلى الشاب الذي وقف بالباب يحمل بين يديه باقة جميلة من زهر البنفسج تدل على أن من جمعها يمتلك ذوقا رفيعا وحاسة تتذوق كل شيء.

تجاوبه دادة " فاطمة" قائلة:

-نعم "حياة "هنا, من أنت؟ ولمن هذه الباقة من البنفسج؟

-إنها للسيدة "حياة ".

تنادي "حياة " على دادة" فاطمة " التي تأخرت عليها قائلة :

- دادة يا دادة, ماذا هناك؟ ومن بالباب.

تعود دادة فاطمة إلى غرفة السفرة حيث تجلس"حياة " تتناول فنجان قهوتها الصباحية حاملة بيديها باقة البنفسج والتي ما أن رأتها "حياة" حتى شهقت من جمال ألوانها وطريقة تنسيقها قائلة:

-"الله" يا دادة، ما هذا الجمال؟

-جميلة فعلا "حياة" تشبهك كثيرا.

-من الذي أرسلها؟

-لا أعرف ابنتي.

-ألا يوجد بها بطاقة باسم من أرسلها؟

-لا حبيبتي.

تمد " حياة" يدها تتناول باقة البنفسج، تتحسسها كمن يتحسس وجه مولود رقيق، وقد قربتها من أنفها تستنشقها ليتسرب إلى أعماقها إحساس خفي بأن هناك قصة بطلها مجهول وراء باقة البنفسج هذه.

تضع الباقة جانبا ممسكة بحقيبة يديها قاصدة باب فيلتها، ذاهبة إلى عملها, وما إن وصلت إلى سيارتها حتى تذكرت أن " عبد الله " السائق قد ذهب إلى الإسكندرية مع "ليلى"، فتنهدت ولسان حالها يقول :

-تأخذين روحي معك حينما تغادرين يا " ليلى", أسأل الله أن يردك إليَّ سالمة.

تستقل سيارتها واضعة بمسجل السيارة إحدى أسطوانات فيروز، يتسرب صوتها العذب الرقيق إلى سمعها.

تقفز فجأة أمام عينيها باقة البنفسج تتنهد هامسة:

-ما سرك الخفي أيتها الباقة الجميلة؟

تصل إلى مقر شركتها شركة الحياة لمستحضرات التجميل.

 تدلف من بابها الرئيسي وما إن انتبه العاملون بالشركة لوجودها حتى وقفوا جميعا منتبهين: لأن "حياة " شخصية قوية في عملها والجميع يحسب لها ألف حساب إلا واحدة فقط وهي "يسر"، صديقة عمرها؛ فهى أكثر من يرى "حياة " من الداخل وتعلم أنها أرق مخلوقات الله.

تصل "حياة " إلى مكتبها, تجلس عليه, تدخل إليها "يسر" وعلى وجهها ابتسامة قائلة : - حمدا لله على سلامتك.

- سلمك الله صديقتي.

-هل تريدين تناول قهوتك أولا؟ أم ترغبين معرفة خطة عملنا اليوم أولا؟

-أجلس أولا نتناول قهوتنا معا، وبعد ذلك نرى كيف سيكون اليوم؟

ترفع "يسر" سماعة التليفون القابع على مكتب "حياة" تطلب من عامل البوفيه أن يأتيهم بفنجانين من القهوة.

تجلس "يسر" أمام "حياة" مداعبة إياها قائلة لها :

-أشعر أن هناك خطبا ما هل إحساسي صادق؟

تنظر إليها "حياة" شاردة في ملامحها كمن يبحث عن إجابة سؤالها، تخرج منها تنهيدة قوية

قائلة :

-ومنذ متى وإحساسك تجاه أي شيء يتعلق بي يكون خطأ يا رفيقة دربي، أنت أكثر شخص يشعر بما يختلج بصدري.

- إذن أخبريني ما يزعجك.

وقبل أن تنطق" حياة" يدق الباب برفق.

 عامل البوفية يدخل حاملا صينية عليها فنجانين من القهوة، يضعهما أمامهما ويغادر.

تعود" يسر " مرة ثانية تسأل "حياة " قائلة:

-ماذا هناك يا "حياة"؟

-لا شيء يقلق حبيبتي،كل ما هناك أن "ليلى" سافرت هذا الصباح إلى الإسكندرية.

-وما الجديد في الأمر؟ "ليلي" دائما ما تسافر إلى أبيها.

 - أبوها؟! وأبوها منذ متى، وهو يعلم عنها شيئا؟

-" حياة " كوني منصفة، فليس من طبعك الظلم, صديقتي، أنت من أبعدتِ "ليلى" عن أبيها منذ صغرها، وأنت من أبعدتِ نفسك أنت الأخرى عنه رغم احتياجك الشديد إليه.

- أنا لا أحتاجه في شيء، كل ما أحتاجه أن يبتعد عنا نهائيا، ولا يفكر بشيء يتعلق بحياتنا, أحتاج منه أن ينسى" ليلي" كما نسيني.

-ومن قال لك أنه نسيك حياة، ليس هناك أب يستطع أن ينسى أبناءه مهما حدث بينهم.

تضحك "حياة" ضحكة ساخرة قائلة:

-بأي أمارة يتذكرني يا "يسر"، أخبريني بأي أمارة، إنه لا يشعر بوجودي.

-مخطئة أنت يا "حياة"، أبوكِ يسأل عنك دوما، ويعرف كل شيء عنك، دون أن تدري.

- "يسر" أتركينا من هذا الموضوع, وهيا نبدأ عملنا، أخبريني ما هي مواعيدنا اليوم؟ وما آخر أخبار صفقة الكريمات التى طلبناها من الشركة الفرنسية؟

-لديك اليوم موعد الساعة الثانية عشرة مع صاحب شركة "روز" لمستحضرات التجميل, وهناك موعد الساعة الواحدة ظهرا مع الدكتور" إيهاب".

-دكتور إيهاب؟ خير ليس موعد لقائنا اليوم, إننا نتقابل كل شهر تقريبا، موعدنا ليس اليوم.

- لا داعي للقلق يا  "حياة " من الممكن أن يطلعك على بعض تقارير حالة والدتك.

-لا أعرف يا "يسر" أشعر أن هناك ثمة خطب ما.

-أنت فقط ترهقين نفسك أكثر من اللازم يا "حياة" بتخيلات ليس لها أساس من الصحة، الحمد لله حالة والدتك تحسنت كثيرا وتتحسن مع الوقت.

-أتمنى من الله يا "يسر", أتمنى من الله.

يقطع صوت طرقات على الباب حديثهما معا, تجاوب "يسر" قائلة :

- تفضل

يُفتح الباب، ويدلف حيث "حياة ويسر " شاب في الخامسة والعشرين من عمره, أشقر البشرة مشربة بحمرة خفيفة له عينان عسليتان وشعر بني كثيف.

يقف أمام "حياة"، يحيها بابتسامة رقيقة.

 تعلقت عينا "حياة" بباقة توليب أحمر رائعة الجمال، يمسكها بين يديه، وقبل أن تنبس "حياة "بكلمة بادرها قائلا :

-من منكما الآنسة "حياة الألفي"؟

تجيبه "حياة" بعد أن تبادلت هي و"يسر" النظرات قائلة:

-أنا من تسأل عنها؟ من أنت؟

وبنفس الابتسامة والهدوء يجاوبها قائلا:

-أنا "خالد"، مندوب من محل "فلورز" لبيع الورود سيدتي، تلك الباقة من أجلك.

تعود "حياة" تنظر إلى" يسر" التي ظلت صامتة تتابع ما يحدث في صمت.

 سألته "حياة" قائلة :

-من بعث بتلك الباقة من البنفسج؟

-لا أعلم سيدتي، لكن هناك بطاقة بين الزهور من الممكن أن تدلك على صاحبها, من فضلك وقعي هنا بالتسلم.

يمد يده إلى "حياة " بورقة بيضاء كتب بأعلاها "إيصال استلام"، تمسك "حياة"

 بالقلم وتوقع باسمها.

يتركها "خالد" ويمضي إلى الباب تستوقفه "حياة" قائلة :

-من فضلك.

يستدير"خالد " إليها قائلا :

- هل من خطب ما سيدة "حياة"؟

-لا شيء فقط أردت أن أعطيك أجر تعبك وتوصيل باقة التوليب هذه إلى هنا.

 مدت يدها إليه بمبلغ مائة جنيه، نظر"خالد" إلي يدها الممدودة إليه بالنقود، وعاود النظر إلى وجهها مرة أخرى وما تزال تلك الابتسامة الحلوة على ثغره قائلا لها

- شكرا لك، أنا آخذ أجرا على عملي من محل الزهور ولا أتقاضى نقودا من أحد

-لم أقصد شيئا صدقني.

-أنا أعلم، لكن ما لا تعلمينه سيدة "حياة" أنني خريج تجارة، قسم محاسبة بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، لكن مهمة القوى العاملة في بلادنا أن تلقي بنا إلى الشارع وكلما كنت شريفا، ضعفت فرصة أن تعيش إنسانا.

-أنت شاب مكافح، أحييك على كفاحك.

-شكرا لك، هل لي أن أغادر الآن؟

تجاوبه "حياة" بإيماءة من رأسها يترك على إثرها المكان ويغادر.

تمسك "حياة " بالبطاقة الموضوعة بين زهرات التوليب، تقرأ ما كتب بها، وإذ بجملة واحدة تقول: "أتمنى أن تكون باقة البنفسج قد أعجبتك".

………………………………………....

"الفصل الرابع"

" رسالة بحر"

كان آخر شعاع ترسله الشمس ليقبل موج البحر منسحبة على استحياء، معلنة الرحيل.

 وقف "حسن" يراقبها من فوق ظهر الباخرة وقد أخذ يهمس لها قائلا :

-أحملك سلاما لمن سكنت الروح قبلي ملامحها.

أخبريها أن تكون بخير من أجل روح ترتوي بوجودها، وإن كانت لا تعلم عنها شيء شيئا.

تخرج منه تنهيدة قوية يزفر معها دخان سيجارته, لم يخرجه من شروده هذا غير صوت أحد العاملين بالباخرة قائلا له :

-سيد "حسن" اتجاه الريح الآن خمسين عقدة في الساعة ما هي حساباتك في سرعة سير الباخرة؟

-سر بنفس السرعة التى نحن عليها الآن، فالسماء صافية ولا أعتقد أن هناك احتمالية لتزيد سرعة الرياح.

-كما تريد أيها القبطان.

يتركه الرجل وينصرف إلى كابينة الباخرة يكمل عمله.

يظل "حسن " واقفا مكانه، يرقب الأمواج وطيور النورس البيضاء التي تحلق فوق رأسه وكأنها ترحب به, فهما أصدقاء منذ زمن, منذ أن ركب "حسن" البحر واتخذ منه حبيبا وخليلا.

تظل عينا "حسن" معلقة بطيور النورس تنظر إليها، مبتسما لها، وما كاد أن ينظر حوله حتى وقعت عيناه على زجاجة فارغة كان قد نسيها أحدهم على سطح الباخرة،

 اقترب منها، ممسكا بها بين يديه ولم يكن هناك شيء برأسه غير شيء واحد فقط هو "حياة الألفي".

مد يديه إلى جيب حلته البحرية البيضاء وأخرج دفتر ورق وقلما يدون عليهما اتجاه وسرعة الرياح.

يجذب إحدى الورقات ويخط عليها رسالة تقول:

-عزيزتى حياة أعلم أن رسالتي تلك لن تقرأيها ولن تعلمي أن أحدهم يحبك، دون أن تدري, ودون أن تعلم عنه شيئا، لكن عزائي الوحيد هو أن هناك بداخلي أملا يخبرني إنني ذات يوم سأقف معك يدي بيدك، وربما أحطك بذراعي، وأخفيتك بحضني, واقفين في مثل هذا المكان، نروي لطيور النورس وموج البحر قصة حب ولدت دون اختيار, أو إرادة من أحدنا, علك الآن تشعرين بدبيب عجيب في روحك وتجهلين مصدرها.

سأخبرك أنا ما هو سر هذا الدبيب عزيزتي؟

السر هوأن أحدهم يهمس باسمك، كل يوم في صلاته أن تكوني معه أبد الدهر.

إلى لقاء جديد أيتها الحياة.

يمسك "حسن" بالرسالة، يطويها واضعا إياها داخل الزجاجة الفارغة، ملقى بها داخل الأمواج قائلا :

-أيتها الأمواج، كوني أمينة على رسالتى تلك أوصليها ذات يوم إلى من أحب فأنا أعلم أنك وفية صادقة.

- " ليلى ", اشتقت إليك كثيرا حبيبتي.

- وأنا أيضا يا أبي، اشتقت إليك كثيرا.

- إذن تعالي إلى حضني أضمك إليَّ وأستنشق رائحتك.

تجرى "ليلى" إلى حضن أبيها الذي فتح لها ذراعيه على وسعهما وما أن ضمها إليه حتى أغلق عليها ذراعيه بشدة كمن يريد أن يأخذ جزءا من غيره، يسكنه بداخله.

تضحك "ليلى " قائلة:

- لهذا الحد تشتاق إليَّ يا أبي؟

-أنا لا أضمك بمفردك حبيبتي، بل أضم معك "حياة " التي أشتاقها هي الأخرى كثيرا كثيرا.

- "حياة"؟ لا أعرف يا أبي السبب وراء رفضها أن تزورك أو تتحدث إليك، حاولت كثيرا معها لمعرفة السبب، لكن دون جدوى.

- "ليلى ", شقيقتك تحبك كثيرا، وتحبني أيضا, لكن ما وراءها من أعمال يمنعها من أن تأتي لتزورني.

وقبل أن تهم "ليلي" بالكلام بادرها أبوها قائلا:

-انظري هناك، إنه عصفور الجنة الذي تحبينه، ظللت أرويه لك، وأهتم به حتى تحضري وتريه.

تسير" ليلى" حيث أشار لها أبوها، تقف أمام عصفور الجنة تشاهده.

 ينظر "إبراهيم" أو "عصفور الجنة " كما يطلقون عليه حيث وقف "عبد الله" السائق، مادا إليه يده قائلا :

-أهلا يا "عبد الله"، اعذرني لقد انشغلت عنك ب " ليلى".

يسير إليه "عبد الله" وعلى وجهه ابتسامة صافية، يصافحه قائلا:

-لا عليك سيد "إبراهيم" فأنا أعلم مدى اشتياقك إلى" ليلى" ونحن أيضا اشتقنا إليك، وكم نتمنى أن تعود إلينا ثانيا تحيا معنا.

-لا أعتقد أنه أصبح من الممكن يا "عبد الله".

- لمَ سيدي؟ هذه الشركات والأموال كلها ملك لك، فلمَ لا تحاول أن تعود؟ وتترك محل الزهور الذي لا يليق بالسيد" إبراهيم الألفي" صاحب أكبر شركات بمصر.

- "عبد الله", انسَ هذا الموضوع برمته ولا تتحدث فيه أمام "ليلى" فهي لا تعرف شيئا.

-وإلى متى سيد "إبراهيم" ؟ إلى متى ستظل صامتا؟ ولا تخبر أحدا بالحقيقة، حتى "حياة " كل ما بعقلها أنك تركتهما وهما صغيرتان، وكنت السبب فيما لحق بأمها وإدخالها مستشفى للأمراض العصبية، إلى متى ستظل ضحية سيدة أنانية خائنة؟

-اصمت يا "عبد الله "، ولا تخبر أحدا بشيء, اتركهما كما هما يعيشان بسلام .

-ومن قال لك إنهما يعيشان بسلام؟, "حياة" نسيت نفسها، كرهت جميع الرجال, وجعلت حياتها بأكملها في عملها وإدارة الشركات وفوق كل هذا تكرهك, و"ليلى" ممزقة ما بينك وبين "حياة " وتشعر أن هناك سرا تخفيه عنها هو السبب وراء بعدك عن حياتهم ورفض "حياة" أن تزورك أو تراك, وأمهم تحيا بالمصحة النفسية، وأنت رافض أن تذهب إليها تسامحها على ما فعلته بك وبحياتك في الماضي, وأنت تارك حياتك كلها بما فيها من مكانة اجتماعية ومعارف وأموال, وهارب هنا على شاطئ البحر, مختفٍ ببيع الزهور، إلى متى سيظل هذا الوضع؟

يقف" إبراهيم" متجها خارج محل الزهور، واقفا على رصيف الميناء، ناظرا بعيدا حيث الشاطئ الآخر من البحر, ويتبعه "عبد الله " واقفا بجانبه، ناظرا هو الآخر حيث ينظر قائلا :

-منذ أن كنا صغارا، وأبي يعمل لدى والدك سائقا، لم أشعر معك يوما يا "إبراهيم" إنني ابن السائق, وأنت لم تشعرني أنني غريب عنك, دوما ما كنت تعاملني بحميمية حتى بت لا أشعر أنك غريب عني، أو أني أعمل لديك، كنت دوما مرآتك وأنت مرآتي, كنا وجهين لعملة واحدة، أنت تعلم جيدا كم أحبك، وأتمنى من الله أن تعود مرة ثانية، لحياتك وشركتك فلا شيء يستحق أن تترك روحك، في مكان وجسدك في مكان آخر, أنا أعرف أن روحك حيث ابنتك "حياة".

تخرج من" إبراهيم " تنهيدة قوية قائلا:

-"حياة " ،هي أكثر من أحبه بتلك الحياة، لأنها تشبهني كثيرا؛ فهي قوية وعنيدة، ولولا هذا لهزمت منذ زمن، وأضاعت ثروتي، لكن ليتها تعرف الحقيقة, ليتها.

-كم مرة طلبت منك، أن تتركني أخبرها, لكنك دائما ما ترفض.

-لا يا "عبد الله"، لا أريدها أن تكره أمها، وينكسر قلبها مرة أخرى، دعها تظن إنني أنا المجرم, والآن هيا عد إلى القاهرة، فقد تأخر الوقت وعد بعد يومين، تصطحب" ليلى" إلى أختها "حياة ".

-أترككم في رعاية الله، صديقي العزيز.

-تصحبك السلامة.

يستقل "عبد الله" السيارة تنهب الأرض نهبا في طريقه إلى القاهرة.

وقف "إبراهيم" يودعه بعينيه ولسان حاله يقول:

-أبلغ سلامي إلى "حياة القلب".

"الفصل الخامس "

"فرصة جديدة"

أشارت عقارب الساعة إلى العاشرة صباحا عندما توقفت" حياة" بسيارتها الحمراء أمام محل "فلورز " لبيع الورود، ترجلت من السيارة قاصدة باب المحل، لتجد ، رجلا خمسينيا يقف في منتصف المحل، يهذب باقات الزهور المختلفة.

 وقعت عينها على زهرة البنفسج، ظلت محدقة سائلة إياها بصمت قائلة :

-بربك، اخرجي من صمتك، وأخبريني من بعثك إلي، من هو ذاك المجهول الذي يحدثني عن طريق الورد.

يقطع حديثها الصامت صوت الرجل الذى رأته حينما دلفت داخل المحل قائلا:

- صباح الخير سيدتي، هل لي أن أساعدك؟

تجاوبه "حياة" بابتسامة رقيقة قائلة :

-صباح الخير، أود فقط مقابلة السيد "خالد" مندوب المحل عندك.

-"خالد" ! هل من ثمة مشكلة معه؟

-لا إطلاقا، هو شخص مهذب كثيرا.

-فعلا "خالد " من أفضل العاملين هنا، لكن حظه في الحياة قليل.

-لا بأس سيدي، كل شيء سيصبح على ما يرام.

 -تفضلي بالجلوس، دقائق ويصل "خالد", أتودين شرب فنجان قهوة ؟

-لا شكرا لك.

مضت دقائق، وحياة تجوب المحل بعينيها, شاردة في ألوان الورود المختلفة، وقد أحست أن كل زهرة لها معنى.

لم يخرجها من شرودها غير ذلك الرجل الذى تبادلت معه الحديث منذ أن دلفت داخل المحل قائلا :

- "خالد" السيدة بانتظارك منذ أكثر من نصف ساعة.

ينظر "خالد" بدهشة ناحية "حياة" وما إن رآها حتى اقترب منها.

 قائلا: سيدة "حياة الألفي"، أليس كذلك؟

تضحك "حياة" مادة إليه يدها قائلة :

- هو كذلك يا "خالد".

يمد "خالد" يده إليها يصافحها، وكل ما بعقله سؤال واحد فقط:

- ماذا هناك؟ وما السبب وراء تلك الزيارة؟

تلتقط "حياة" سؤاله الصامت من عينيه الحائرة لتجاوبه قائلة:

-أود الحديث معك قليلا هل هناك مانع؟

-تفضلي بالجلوس أولا، دعيني اطلب لك فنجان قهوة، أو بمعنى أدق، دعينا نتناول قهوتنا معا, دقائق أعد فنجاني قهوة لي ولك، وآتي أستمع إليك.

تركها ومضى، داخل المحل, وقد تسرب إليها إحساس دافئ قلما تشعر به مع أحد، متذكرة شقيقتها "ليلى"؛ فهناك شيء مشترك بينهما عله ذلك الدفء.

يعود "خالد" حاملا فنجانين من القهوة, يضع أحدهما أمام "حياة" التي ظلت الابتسامة مرسومة على شفتيه.

يرتشف خالد أول رشفة من فنجان قهوته قائلا :

- أعلم أن المحل لا يليق بك سيدة "حياة"، وأعلم أن قهوتي متواضعة بجانب القهوة التي تقدم لك بشركتك.

-لا يهم من يقدم لك القهوة يا "خالد", ولا في أي فنجان تُقدم، أوقات كثيرة يصير الفنجان الفخار أثمن من فنجان منقوش بماء الذهب.

العبرة مع من تتناول فنجان قهوتك………

******

ترسي الباخرة على رصيف ميناء مرسيليا فجرا.

 وقف "حسن" يستنشق هواء الفجر النقي الخالي من أنفاس البشر, ظل يراقب شعاع الشمس وهي تفتح جفونها كطفل وليد يتثاءب في كسل, حتى دبت الحياة فجأة على رصيف الميناء, باعة جائلون ينادون على بضاعتهم، وعمال شحن وتفريغ يقومون بشحن سفن قابعة بجوار الرصيف في انتظار دورها للرحيل.

أشعل "حسن" سيجارة وهو يراقب ما يموج به الشاطئ من بشر حتى وقعت عيناه على رجل عجوز افترش الأرض بورود متنوعة الأشكال والألوان, ليسمع صوتا يهمس له قائلا: "حياة".

ينزل السلم الخشبي الذي علق بالباخرة، يذهب حيث جلس الرجل ملقي عليه التحية باللغة الإيطالية التي يتقنها هي والكثير من اللغات.

يجاوبه الرجل، بوجه بشوش سائلا إياه :

-هل بإمكاني مساعدتك؟

-نعم أريد باقة بنفسج.

-هل تحب؟

-أعتقد أنها بداية قصة حب.

-ليس هناك شيء في الوجود أجمل من أن تحب، الحب وحده قادر على أن يعيدك للحياة،

أَحْبِبْ يا بني ولا تخف.

يجاوب" حسن" بضحكة حلوة دون كلام.

ينهمك الرجل في تجميع باقة البنفسج التي طلبها "حسن"  وما هي إلا دقائق حتى كانت بيد "حسن" أجمل وأرق باقة بنفسج.

 مد إليه الرجل يده بقلم كي يكتب, إهداءه والعنوان الذي يود أن يبعث عليه باقة البنفسج.

أمسك "حسن" بالقلم يخط كلماته ومشاعره إلى "حياة " قائلا :

-إلى أرق زهرة، أحبك.

وأعطى الرجل الباقة والعنوان بمصر .

********

جلست "حياة" تتناول قهوتها مع "خالد" الذي ظل يراقبها بصمت في انتظار أن تخبره عن سبب زيارتها المفاجئة إليه حتى لاحظت "حياة" قلقله البادي على قسمات وجهه, فتناولت أطراف الحديث قائلة:

- أعلم أنك تتساءل عن سبب زيارتي إليك؟ دون سابق معرفة, لن أطيل عليك الانتظار لأن عليَّ الذهاب إلى الشركة, "خالد" أنا أحتاج إليك معي في الشركة.

-تحتاجين إليَّ؟ لا أفهم ماذا تقصدين.

-أريدك أن تعمل معي، فأنا أحتاج إلى محاسب.

-وهل شركتك بضخامتها وعدد موظفيها تنقصني أنا؟

- نعم تنقصك أنت، تنقص من هو مثلك, كما رأيت يا "خالد"، فلدي الكثير من الموظفين والمحاسبين، لكن جميعهم لصوص، وأعلم أنهم لصوص، أنا بحاجة لشخص أمين.

-كيف تضمنين إنني أمين؟ أنت لم تعرفني بعد.

-من لديه عزة نفسك، حتما يكون أمينا، استمع إليَّ جيدا ، أنا أعمل بالسوق منذ أن كان سني ثمانية عشر عام عاما، مررت بالكثير وعرفت الكثير ومن السهل أن أعرف الأشخاص من حولي، لن تندم على عملك معي، لك ما تشاء من راتب وامتيازات، ومن الآن لن تكون مجرد محاسب, أو موظف بالشركة، بل ستكون رئيس قسم الحسابات, فكر بالأمر وسأنتظرك غدا بمكتبي إن شاء الله.

نهضت "حياة"  تصافح "خالدًا"، الذى وقف مذهولا مما قالته "حياة"، لا يعرف بأي شيء يجيب غير أنه اكتفى بإيماءة بسيطة من رأسه وظل واقفا مكانه حتى ربت كتفه برفق ذلك الرجل الذى يمتلك محل الزهور قائلا له:

- وافق يا بني, وافق على عرض تلك السيدة؛ فقد سمعت حديثكم دون قصد.

ينظر إليه "خالد" كمن يستنجد به قائلا :

-خائف من كل ما يحدث.

-لا تخف بنى، أنت مجتهد، وكم تعبت في حياتك, منذ وفاة والدك وأنت تحمل مسؤولية أمك وأخواتك، وراتب الشركة سيكون أفضل عشر مرات من الراتب الذي تتقاضاه هنا.

يحتضن" خالد " الرجل شاكرا إياه, مغادرا المكان.

*********

جلس" إبراهيم " و " ليلى" إلى الطاولة يتناولان طعام الغذاء، وقد ظلت ليلى صامتة على غير عادتها مع أبيها كلما أتت لزيارته ليظل أبوها يختلس النظرات إليها، وقد شعر أن بنفسها شيئا تود أن تبوح به, لكنها تخفيه.

يسألها قائلا :

-"ليلى "، هل أعجبك الطعام؟

-نعم أبي.

-ماذا بك يا "ليلى"؟ أشعر أن هناك ثمة خطب تخفينه علي؟

تتنهد "ليلى"، تاركة ما بيديها من طعام ناظرة إلى عيني أبيها قائلة:

- حقا يا أبي، هناك ما يشغل روحي، لكنني لا أود البوح به، لأنني في النهاية لن أصل لإجابة السؤال الذي طالما سألتك إياه أنت و"حياة" وكلاكما يتهرب من الإجابة علي فلم أعد أجد حيلة أمامي غير الصمت.

-تكلمي يا "ليلى" وأخبريني ماذا هناك؟

-أبي أود معرفة سبب تلك الفجوة التي بينك وبين "حياة" لم هذا البعد وتلك القطيعة؟

-لا شيء "ليلى"، كل ما في الأمر أنك تعلمين أن "حياة" مشغولة دائما وأنا أيضا.

أخذت" ليلى" تدق بأناملها فوق منضدة الطعام بعصبية واضحة قائلة :

-لأول مرة يا أبي أعلم أن انشغال الناس يمنعهم من أن يتزاوروا، من أن يروا بعضهم البعض, وخصوصا إذا كان هؤلاء الناس أب وابنته, كفى يا أبي، لا أريد معرفة شيء، ولن أجبرك لا أنت ولا "حياة "  على إخباري بشيء.

هبت واقفة، قاصدة الباب ليسألها أبوها قائلا :

-إلى أين أنت ذاهبة "ليلي"؟

توقفت مستديرة إليه قائلة :

-إلى البحر يا أبي، إلى البحر، سأجلس معه قليلا، لأنني مغادرة غدا إلى القاهرة.

-غدا! لم تلك السرعة "ليلى"؟

-بعد غد موعد تقديم أوراقي بالجامعة يا أبي، ولدي اختبارات يجب أن أتقدم لها.

تركته " ليلى" غارقا في أفكاره، وغادرت إلى البحر , وظل يردد بداخله كلمة "يا رب" وكأن ما يختلج بأعماقه لا يقدر أن يترجم  إلى كلام غير تلك الكلمة.

******

ظل "حسن" يجوب شوارع مارسيليا بعد أن اطمأن على باقة البنفسج التي بعث بها إلى "حياة"، وعلم من الرجل صاحب الورود أنها ستصل إلى القاهرة في غضون أسبوع.

أخذ يشاهد أوجه المحلات وما تعرضه من أزياء وهدايا ويشاهد الرسامين وهم يرسمون وجوه الناس بمهارة شديدة حتى استوقفته قدماه أمام أحد المحال وقد تعلقت عيناه بقلادة لها قلب صغير على شكل قلب من الكريستال الأزرق يشع بريقا يخطف الأنظار، ضحك ضحكة صغيرة دون كلام ودلف داخل المتجر، طلب من صاحبه الذي وقف يستقبله بابتسامة مهذبة وكلمات ترحيب بالإيطالية رد عليها "حسن" طالبا منه أن يحضر له القلادة التي رآها، وخطفت نظره.

يحضر الرجل القلادة، واضعا إياها في علبة زرقاء مقدمها إلى "حسن" قائلا له:

تلك القلادة هي أجمل قلادة لدي بالمتجر، وكلما مر الوقت علمت أنه لن يبتاعها

 إلا شخص يرى بقلبه وله حبيبة تشبه تلك القلادة في جمالها.

يتناول "حسن" القلادة من يد الرجل قائلا :

-هي فعلا جميلة شكرا لك.

…………………………………………

"الفصل السادس"

"زيارة مفاجئة"

جلست "حياة" تتصفح إحدى المجلات الطبية الملقاة فوق منضدة داخل مكتب الدكتور "إيهاب " أستاذ الطب النفسي بإحدى المصحات النفسية, محاولة أن تضيع بعض الوقت حتى ينتهي من مروره على الحالات التي تخضع لإشرافه الطبي.

وقد جذبها عنوان موضوع يقول:

" الحب يشفي من الأمراض النفسية" وما كادت أن تقرأ سطرين حتى فتح باب مكتب دكتور "إيهاب" ودخل بوجهه البشوش وابتسامته التي لا تغادره مطلقا.

وما إن رأى "حياة "، حتى هلل قائلا :

- أهلا بأجمل راقصة بالية في مصر .

تغلق "حياة "المجلة التي كانت بيدها واضعة إياها فوق المنضدة التي أمامها وهي تضحك قائلة :

-ما زلت تتذكر دكتور "إيهاب " إنني كنت راقصة باليه، أنت الوحيد حتى الآن الذي دوما ما يذكرني بهذا الشيء الذي كدت أن أنساه.

يجلس الدكتور "إيهاب" خلف مكتبه واضعا يديه فوق المكتب وقد شبك أصابعه ببعضها

ناظرا إلى "حياة" قائلا :

- ولن أتوقف عن مناداتك بهذا الاسم "حياة" لأنك حقا أجمل راقصة بالية رأتها عيني، وأستمتع بفنها, لا أعرف لم لا تحاولين الرجوع ثانية إلى ممارسة رقص الباليه, إنه من أرقى الفنون وأرقها؟

تعبث "حياة " ببعض الأوراق الملقاة على المكتب أمامها قائلة:

-لم يعد لدي وقت، والأهم أنه لم يعد لدي شغف بالأشياء كسابق عهدي كل ما يشغلني الآن هو "ليلى" وأمي .

-لقد طلبت مقابلتك لهذا السبب "حياة".

-أخبرني هل من جديد في حالتها؟

-نعم هناك الجديد لقد تقدمت حالتها كثيرا ومن المفترض أن تترك المصحة قريبا جدا.

-حقا ما تقوله؟ لقد دب بداخلي الأمل من جديد, لا أعرف كيف أشكرك على كل ما فعلته دكتور "إيهاب ".

-هل بين الأصدقاء شكر يا "حياة"، ما يربط بيننا ليست علاقة طبيب بمريضة فمنذ أن التقينا قبل عشرة أعوام في إحدى حفلاتك ونحن أصدقاء أم تراك قد نسيتِ؟

تضحك "حياة " قائلة:

- وكيف أنسى أوفى صديق أنعمت به علي الأيام؟ صدقني أنت أكثر صديق مقرب إلى قلبي، ويعرف عني كل صغيرة وكبيرة.

- اتركي تلك الرسميات جانبا والآن اذهبي إلى غرفة والدتك كي تطمئني عليها.

تنهض "حياة" مصافحة الدكتور "إيهاب" الذي أمسك بكفها بين راحتيه حتى شعر أن داخله يذوب دون كلام.

تسحب "حياة " كفها ببطء تاركة إياه مغادرة حيث والدتها.

يظل دكتور "إيهاب " جالسا بمكتبه، شاردا في تلك الزائرة  التي تركته للتو فكم من مشاعر يحملها لها بين ضلوعه دون أن يبوح بها؛ فقد مرت عشر سنوات وهو يحب "حياة "، ويحيا الحياة على أمل أن يأتي اليوم الذي يبوح لها بحبه، لكن خوفه من أن يقابل حبه بالرفض جعله يدفن هذا الحب بداخله، ويكتفي بصداقته لها كي يكون دائما بقربها.

*******

دق "خالد" باب مكتب "حياة" على استحياء تجاوبه "يسر" من داخل المكتب قائلة :

-تفضل.

يدفع "خالد" الباب برفق ويدلف حيث جلست "يسر" خلف مكتب "حياة " غارقة في كثير من الأوراق والملفات وما أن رآها "خالد" حتى صمت غير مستوعب ما يجري ف "حياة" ليست موجودة ومن المفترض أنها بانتظاره.

لم يدم صمته كثيرا حتى رفعت "يسر" عينيها عن الأوراق التي كانت تمسك بها بين يديها, وما إن رأت "خالدا" حتى تهللت أساريرها قائلة بصوت يملؤه الود:

- "خالد" أهلا بك.

 تفضل بالجلوس دقائق وأكون معك.

يجلس خالد على كرسي من الجلد الأسود قد وضع في مواجهة مكتب "حياة"، وقد دلف عامل البوفيه إلى المكتب قائلا :

- قهوتك أستاذة "يسر".

-ضعها هنا شكرا لك.

تنظر إلى "خالد" الذي ظل صامتا قائلة له :

-" خالد" أتحب أن تتناول قهوتك معي؟

-لا داعي للتعب أستاذة "يسر " أنا فقط...

لم تعطه "يسر " فرصة للكلام, قاطعته قائلة :

-ساعة فقط وتكون"حياة" هنا, لا تقلق هي تعلم أنك ستأتي اليوم وهي بانتظارك.

-من الواضح أن علاقتك بالسيدة "حياة" لا تتوقف كونها علاقة صداقة فقط أستاذة "يسر".

-نعم يا "خالد " علاقتي "بحياة" علاقة صداقة سنوات طويلة، ومواقف كثيرة، عشناها سويا بحلوها ومرها، تقدر أن تقول أن "حياة" تكملني وأنا أكمل "حياة".

- أدعو الله أن يحفظ ما بينكما.

-ستكون مستريحا معنا وفي العمل بالشركة يا "خالد" لا تقلق.

-الله المستعان.

تعاود "يسر" النظر إلى ما تمسك به من أوراق وقد تغير لون وجهها وبدا عليها الضيق.

يلاحظ "خالد" ما ظهر على وجه "يسر" من ضيق قائلا :

- هل ثمة شيء يزعجك بتلك الأوراق؟

-نعم أشعر أن هذه المبالغ مبالغ فيها بشكل كبير.

-أتسمحين لي أن أساعدك؟

-أكون شاكرة لك، "حياة" لم تر تلك الأوراق بعد، ولا أعرف ماذا ستفعل إن علمت بهذه الأرقام وتلك الحسابات؟

تنهض "يسر" من خلف مكتب "حياة" مشيرة إلى "خالد" الذي وقف بدوره يتبعها إلى منضدة اجتماعات كبيرة تتوسط غرفة المكتب.

 يجلس الاثنان بجوار بعضهما, وضعت "يسر " الأوراق والملفات أمام "خالد" قائلة: -أرني همتك أيها البطل وقل لي ما رأيك تجاه ما جاء بهذه الأوراق؟ وأدعو الله أن تكون حساباتي خطأ.

******

بحنان بالغ، قابلت دادة "فاطمة" "ليلى " التي عادت من سفرها، قائلة :

-أهلا ابنتي حمدا لله على سلامتك.

تضع "ليلى" ما كانت تحمله بيديها من حقائب تجري نحو ذراعيها المفتوحين لها عن آخرهما تلقي بنفسها بينهما، تطبق دادة "فاطمة "عليها ذراعيها محتضنة إياها بشدة وقد استكانت "ليلى" كعصفور بللته مياه المطر.

******

"الفصل السابع"

" إحساس جديد"

دخلت "حياة" إلى مكتبها بشركة الحياة لمستحضرات التجميل، لتجد خالدا قد جلس إلى مائدة الاجتماعات وقد غرق تماما في أوراق كثيرة، وملفات مبعثرة أمامه وجلست قبالته "يسر" التى أمسكت بيديها بعض الملفات تقلب فيها وما أن رأتهم "حياة " حتى ضحكت قائلة:

-صباح الخير ما هذا النشاط وتلك الهمة؟

يقف "خالد" مبتسما لها وقبل أن يرد عليها تحية الصباح بادرتها "يسر" قائلة:

-"حياة" لم كل هذا التأخير؟ تقصدين مساء الخير .

-آسفة على التأخير ، لكنني كنت في عمل هام, أهلا بك يا "خالد" ، لقد شرفت المكان وأدعو الله أن تكون سعيدا بعملك معنا.

ينظر إليها "خالد" على استحياء قائلا :

-أهلا بك سيدتي، العمل لديكم من أول ساعة شاق جدا.

تنظر "حياة" إلى "يسر" تستفهم بعينيها قصد "خالد".

اقتربت "يسر" من "حياة" التي ظلت واقفة مكانها, وقد تسلل إليها إحساس أن هناك خطبا ما وراء كلام "خالد"  الذي لم يمر على وجوده بالشركة سوى بضع ساعات هامسة لها:

-"حياة" , اجلسي من فضلك، هناك بعض الأمور نود التحدث معك بشأنها.

تجلس حياة بجوار " خالد " دون كلمة ناظرة إلى الأوراق التي أمامهم، وبعد مرور دقائق جاء صوتها يقول:

-لقد وجدتما اختلاسات ومخالفات بميزانية الشركة, أليس كذلك؟

ينظر "خالد" إلى "يسر" التى بادلته النظرة ليبدأ خالد الحديث قائلا :

- إنها اختلاسات ضخمة ولا أعرف كيف لم تنتبهي لها ؟

-أنا أعرف كل شيء يا "خالد".

ترد "يسر" في ذهول قائلة :

-تعلمين؟ كيف هذا؟ ولمَ لمْ تتخذي قرار ا تجاه من قاموا بذلك؟

- اهدئي يا "يسر" واطلبي لنا القهوة، واجلسي وسوف أروي لك أنت و"خالد" كل شيء.

تنهض "يسر" منادية عامل البوفية، طالبة منه ثلاثة فناجين من القهوة، وتعود تجلس بجوار "خالد" و"حياة", تتنهد الأخيرة بقوة قائلة:

-أنا أعلم كل ما يحدث بالشركة وأعلم من قاموا بذلك كما أعلم حجم الاختلاسات، لكنني لم أكن أملك دليلا على ذلك، لأنني لا أفهم في الحسابات وكنت بحاجة لشخص أثق به، أسلمه تلك الحسابات يراجعها ويضع يديه على المخالفات دون أن يصل إليه أحد ممن فعلوا ذلك ويشتريه بالمال وحينما قابلت خالدا ورأيت رد فعله أردت أن أعطيه بعض المال نظير عمله لكنه رفض ذلك بعزة نفس، علمت على الفور أنه إنسان شريف؛ لذلك ذهبت إليه وعرضت عليه العمل معنا, ودعوت الله من قلبي أن يقبل.

والحمد لله قَبِل لأن الله وحده يعلم حاجتي إليه, تلك هي الحكاية كلها.

وقبل أن تتفوه "يسر" بكلمة يدخل عامل البوفية حاملا القهوة ووضعها أمامهم ومضى.

تقف "يسر" قائلة بانفعال:

-إلى متى ستظلين حاملة كل شيء بمفردك؟ كل هذا تعرفينه "حياة" ولا تخبرينني به؟

-اهدئي يا "يسر"، كنت أعلم أنك ستكتشفين الأمر بمفردك، لأنى أعلم أنك تتابعين كل شهر الحسابات، كل ما في الأمر أنني لم أحب أن أرهقك وأنت بمفردك كنت أنتظر حتى أجد شخصا نثق به، يحمل معنا هذا الحمل.

يسود صمت بالمكان، يقطعه صوت "خالد" قائلا:

-الآن بعد أن عرفنا كل شيء، كيف سيكون التصرف سيدة "حياة"؟

تنظر "حياة" و"يسر"، إلى بعضهما وكأن نفس التساؤل يدور برأسهما لتجيب "حياة" قائلة :

-سترون الآن ماذا سأفعل، تنهض حيث مكتبها تجلس خلفه، رافعة سماعة الهاتف طالبة من رئيس الحسابات ومن يعملون معه الحضور إلى مكتبها.

لم تكن "حياة"  قد أنهت محادثتها حتى دق الباب ودخل عامل البوفية يحمل باقة جميلة من زهر البنفسج وضعها أمام "حياة" فوق مكتبها وغادر دون تعليق.

تعلقت عين "حياة " بباقة البنفسج التي كادت أن تنطق وتبوح لها بما تريد معرفته .

مدت أناملها تتحسسها بهدوء لم يخرجها منه غير صوت "يسر"، وهي تقول:

- أدفع نصف عمري وأعرف من هذا العاشق الولهان الذي يرسل لك كل يوم مشاعره، عبر زهر البنفسج والتوليب الأحمر.

لم تجاوبها "حياة" بشيء فقد كانت غارقة تماما في زهر البنفسج وقد لاحظت "يسر" شرودها فاقتربت منها منادية عليها وهي تضحك قائلة :

-"حياة"، أشعر أن صاحب هذه الباقات بدأ أن يشغل حيزا من تفكيرك.

تنتبه "حياة" فجأة لكلمة "يسر" قائلة لها:

-يشغل مَن يا بلهاء؟  كفي عن هذا السخف، وهيا لنرى كيف سيكون التصرف

 مع هؤلاء المختلسين.

يدفع الباب رئيس الحسابات وبصحبته خمسة أفراد ليلقي التحية على "حياة" بشيء من التردد وقد أحس أنها قد علمت بأمر الاختلاسات التي قام بها هو وعصبة الشر التي تعمل معه.

فلم يكن من "حياة" غير أن وقفت تاركة مكتبها عاقدة يديها فوق صدرها وقد أخذت تقطع الغرفة ذهابا وإيابا، و"خالد" و"يسر" يتبعانها ببصرهما حتى توقفت فجأة مستديرة إلى الرجل الذي وقف يرمقها هو ومن معه في قلق بالغ قائلة لهم:

-تعملون معي منذ سنوات طوال، وتسرقون وأنا أعلم ذلك رغم أنني لم أبخل على أحد منكم بشيء طيلة هذه السنوات, لكن زاد ما لديكم من جرم وطمع, تآمرتم عليَّ مع خصومي من أجل المال.

حاول الرجل أن يتكلم ليدافع عن نفسه, لكن "حياة" أشارت إليه بقوة إشارة أخرسته

 قائلة :

- أعلم كل شيء، وأعلم أكثر مما تتوقعون معرفتي به، بإمكاني أن أودعكم جميعا في السجن, لكننى لن أفعل، لا لأنكم تستحقون، بل لأن أبناءكم لا يستحقون أن يهانوا, سأكتفي بطردكم، تفضلوا دون كلمة واحدة.

خرج الرجل وموظفوه منكسي الرأس، وقد أغلقوا الباب خلفهم، لتستند "حياة" إلى أحد الكراسي الملتفة حول منضدة الاجتماعات هامسة بصوت منخفض:

-لعنة الله على كل أب يهين أبناءه, ليسامحك الله يا أبي، ليسامحك الله.

تنتبه "يسر" إلى صوت "حياة", تقترب منها ممسكة بذراعها، قائلة لها:

-"حياة"، هل أنت بخير؟

-نعم يا "يسر" أنا بخير .

تنظر ناحية "خالد" قائلة له:

-والآن يا "خالد"  من هذه اللحظة أنت رئيس قسم الحسابات بالشركة، وسوف أرشح لك بعض من أثق بهم ليعملوا معك, والآن ستصحبك "يسر" إلى مكتبك .

ينهض "خالد" شاكرا "حياة" ويسير بجوار "يسر" التي صارت به حيث مكتبه وعمله الجديد.

جلست" حياة" تتأمل باقة البنفسج، وكأنها أرادت أن تختلي بها تحادثها.

…………………………………………

"الفصل الثامن"

"عودة"

سقط شهر سريع من عمر الزمن و"خالد "يجتهد في عمله الجديد، كرئيس لقسم الحسابات بشركة "حياة" التي تزداد ثقتها به يوما بعد يوم .

"حياة " تتابع حالة والدتها بالمصحة النفسية ودكتور"إيهاب" يزداد تعلقا بها وحبا لها

 وهي تزداد بعدا.

"ليلى"  بدأت عامها الدراسي بنشاط وكأنها قد قررت أن تضع كل همها بدراستها.

"إبراهيم" يعمل بجد ويغرق في عالم الورود وكأنها سلواه الوحيد.

شهر كامل مضى وحان موعد عودة "حسن" الذي هبط السلالم الخشبية للباخرة على عجل ملقى بنفسه في حضن صديقه "أحمد " الذي وقف ينتظره وبشوق بالغ عانقه،

 قائلا له وهو يضحك كعادته :

-أشتقت إليك كثيرا.

-وأنا أيضا اشتقت إليك صديقي العزيز .

سارا سويا باتجاه سيارة "أحمد ", استقلاها سويا ماضيين في طريقهما

 إلى حي المعادى الهادئ، حيث يسكن "حسن" الذي ظل صامتا طوال الطريق وقد لاحظ

"أحمد " صمته فداعبه قائلا :

-كيف حال رحلتك يا رجل؟ وكيف حال مرسيليا ونساء مرسيليا؟

جالس خلف البيانو يعزف نغمات رقيقة حانية أنسته إرهاق الرحلة ومشقة السفر .

 انتبه فجأة على دقات الساعة التي تقبع على الجدار خلفه تعلن تمام الثامنة.

نهض ذاهبا إلى الحمام ليأخذ حماما دافئا.

خرج على أثره أكثر نشاط وتفاؤل.

 وضع أسطوانة لفيروز في الجرامافون العتيق, لتتسرب نغمات شدت بها فيروز قائلة:

 "خدلي بدربك، هالمنديل، واعطيه لحبيبي" .

 ظل يدندن معها، وهو يعد لنفسه فنجانا من القهوة التركي التى يحبها ويجعلها تشاركه كل لحظات سعادته, أخذ يرتشف منها رشفات منتظمة حتى توقف فجأة وكأنه تذكر شيئا مهمًّا، لينهض ممسكا بهاتفه متصلا بأحد الأرقام قائلا :

- مساء الخير، محل" فلورز" للورود، أود أن أبعث باقة توليب كبيرة باسم "حياة الألفي".

على العنوان ،23 شارع نهرو .

نعم أود أن أكتب بطاقة معايدة، بها جملة تقول : "اليوم ميلاد حياتى".

شكرا لك ، مع السلامة

أغلق "حسن" الهاتف, دخل إلى غرفته, وقف أمام خزانة ملابسه، يتخير أى حلة يرتديها في مساء كهذا المساء وفي النهاية وقع اختياره على حلة سوداء كلاسيك، ورابطة عنق حمراء كلون التوليب الذي يحبه وتحبه"حياة" أيضا .

وقف أمام المرآة، يربط رابطة عنقه فوق قميصه الأبيض وبعد أن انتهى وقف يتأمل نفسه، وكان هناك شيء به تغير ربما صار أكثر شبابا, ربما زادت وسامته، لا يعرف، كل ما يعرفه أن هناك شيئا به قد تغير ليجد صوتا داخله يهمس له :

- إنه الحب يا عزيزى، يغير الكون من حولنا، يغيرنا نحن أنفسنا، يجعلنا أطفالا تركض بحقول ياسمين, يتركنا نعد النجوم، ونخاطب القمر بأن يرسل أشواقنا إلى من نحب، ويقبل لنا ملامحهم.

يعود من شروده على صوت سيارة "أحمد"وهو يناديه من أسفل البناية كعادته منذ أن كانوا أطفالا.

يضحك "حسن" وهو يطفئ أنوار الشقة استعداد منه للذهاب إلى الحفل, وما كاد أن يصل إلى الباب حتى توقف فجأة، ضرب رأسه بكفه قائلا :

- أيها الأحمق كنت ستنسى هدية "حياة" تلك القلادة التي ابتعتها لأجلها من إيطاليا

ولم أكن أعلم وقتها إننى سأهديها إليها يوم ميلادها, عجيبة حقا تدابير القدر.

يدخل مرة ثانية، إلى غرفة نومه, يفتح حقيبة ملابسه التي كانت ما تزال كما هي موضوعة فوق فراشه يبحث ضمن ملابسه عن الهدية حتى عثر عليها, علبة مطرزة بالستان الأحمر تغفوا بداخلها القلادة.

 عاود "أحمد" النداء على "حسن " مرة أخرى ليضع العلبة بجيب سترته، وينزل الدرج مسرعا حيث ينتظره " أحمد" الذي ما أن رآه حتى علا صوت صفيره قائلا :

-ما هذه الأناقة والوسامةيا رجل؟ هل كل هذا وراءه  نساء مارسيليا؟

يدفعه "حسن" فى كتفه برفق، قائلا :

-انظر أمامك، واترك الحديث عن النساء.

يضحك "أحمد " وهو ينهب الأرض بسيارته في الطريق إلى فيلا "حياة الالفي" :

-قلبي يخبرني أن هناك جديدا بحياتك، سأتركك حتى تأتي وتعترف لي بمفردك.

لم يجبْه "حسن" بكلام، بل ابتسم وهو يدير مفتاح "كاسيت" السيارة لينبعث صوت السيدة أم كلثوم تقول: "يا حبيبى يا عبير الشوق ياحبيبى".

********

دخل "خالد" مكتب "حياة " حاملا بعض الأوراق قائلا لها:

- تلك الأوراق أريد توقيعك عليها سيدتى.

تنظر إليه "حياة " وقد وقفت تلملم أشياءها قائلة :

-"خالد"، الساعة الآن الثامنة مساء، اليوم حفل عيد ميلادي، وعلي أن أغادر حالا، لقد سرقني الوقت وهناك مدعوون كثيرون سيأتون الليلة, أجِّل من فضلك أي أوراق للغد.

وما إن وصلت لباب المكتب حتى استدارت حيث وقف" خالد" ينظر بالأوراق التي يحملها بيديه قائلة :

- هيا يا خالد، أنسيت عيد ميلادي؟

ألا تنوِ الحضور الليلة؟

ينتبه "خالد" إلى " حياة" فيبتسم خجلا قائلا :

-كيف أنسى يوم ميلاد شقيقتي الكبرى التي لم تنجبها أمي، حتما سآتي، اذهبى أنت تصحبك السلامة، وأنا سألحق بك.

**********

ابتسم عم "إبراهيم " وهو يرى شاشة هاتفه تضيء باسم "ليلى ", يجاوب اتصالها بلهفة قائلا :

-ابنتي الغالية، كيف حالك ؟

- بخير يا أبي.

-اشتقت إليك "ليلي".

-وأنا أيضا، اشتقت إليك، كثيرا يا أبي.

-كيف حالك وحال "حياة"؟

-بخير وعلى ما يرام، لقد بدأت الدراسة بالجامعة وسعيدة جدا  بدراستي الفنون الجميلة يا أبي, و"حياة" بخير  كنت أود أن أخبرك أن اليوم يوم ميلادها.

-أعلم يا "ليلى"، وقد أرسلت إليها باقة من البنفسج الذي تحبه كم وددت أن أكون بجانبك اليوم لكن ما باليد حيلة.

-غدا سيكون أفضل إن شاء الله، تلك ثقتي بالله أن يأتي يوم ونجتمع جميعا، أنا وأنت وحياة وأمي.

- الله كريم يا ابنتي، الله كريم، انتبهي على حالك، وظلي بجانب "حياة" مهما حدث .

-إلى اللقاء يا أبي

-إلى اللقاء يا "ليلى".

…………………………………………

 "الفصل التاسع"

 "ميلاد..قلب"

-"حياة" اليوم يوم ميلادك وتحضرين إلى البيت متأخرة هكذا؟

-عذرا يا " دادة " كان لدى الكثير من الأعمال بالشركة.

-إلى متى ستظلين ناسية نفسك غارقة فى العمل حتى يوم عيد ميلادك؟

تقترب "حياة" من "دادة فاطمة" التي امتلأت عيناها بالدموع وقد أمسكت برأسها تقبلها قائلة :-

-لا تخافي يا "دادة " أنا بخير ولا أنسى نفسى أنت فقط تحبينني أكثر من اللازم.

-أنت و"ليلى" من خرجت بهما من الحياة وأريد أن أراكما سعيدتين وأنت يا "حياة" تهدرين عمرك ما بين الشركة والمصحة النفسية "وليلى".

- أمانة وضعها الله  بعنقي وعلي أن أكون بقدرها.

-فكري في نفسك قليلا.

-دعواتك لي يا "دادة".

- أدعو لك من كل قلبى بأن يرزقك الله الحب والحياة.

-أين "ليلى"؟

-"ليلى"  و"يسر" بالأعلى ترتديان ملابسهما استعدادا للحفل.

ترسل لها "حياة" بقبلة في الهواء  وتجرى صاعدة السلم وهى تنادي على "ليلى" و"يسر".

تظل "فاطمة " واقفة تتبعها ببصرها وقلبها يقول:  ليفرحك الله بقدر  ما تألمت ابنتى.

تدفع "حياة "باب غرفتها و تدلف إليها وما إن وقعت عيناها على "ليلى " التي كانت ترتدى فستانًا من الستان الأبيض يقف على حدود ركبتيها وأعلى كتفيها بقصة صدره المربعة يضم وردة حمراء على جانبيه وبدون أكمام تاركة شعرها القصير الذى لا يتعدى أذنيها منسدلًا واضعة وردة حمراء بين خصلاتها؛ حتى علا صوتها بالضحك قائلة:- من هذه الحورية الجميلة؟ أعتقد أنها ملاك هارب من السماء وسقط سهوا على بيتنا.

تضحك "ليلى"  وتجري ملقية بنفسها بين يدى "حياة "التى ضمتها فى حنان بالغ ماسحة على شعرها هامسة:- يحفظك الله حبيبتى.

التفتت ناحية "يسر" التى وقفت أمام المرآة تضع القليل من مساحيق التجميل قائلة:-

-أنت الأخرى "يسر" جميلة الليلة فستانك الأزرق الذى يضيف إليك سحرا جميلا أخبرانى أنتما الاثنتان هل اليوم يوم عرسكم أم أنه من المفترض عيد ميلادى؟

تقترب "يسر" من "حياة" تجذبها من يديها إلى المرأة مشيرة إليها قائلة:- هل هذا شكل امرأة عيد ميلادها الليلة؟ ألم تريني أنا و"ليلى" كيف صرنا ونحن مجرد ضيوف في الحفل؟

-إذن أنت و"ليلى"  اتركن لي الغرفة لأبدل ملابسي. وعليكما استقبال الضيوف حتى أنتهي.

"يسر" انتبهي جيدا، "خالد" سوف يحضر بعد قليل لا تتركيه بمفرده أنت تعلمين كم هو خجول ولا يعرف أحدًا هنا.

جذبت "يسر" "ليلى"  من يدها وذهبت باتجاه الباب قائلة:- حسنا "حياة" لا تشغلي بالك سأهتم بالأمر.

تركتها "حياة" التى دخلت إلى حمام غرفتها تأخذ حمامًا دافئا استعدادا للحفل، وما هى إلا دقائق حتى دقت "دادة فاطمة "باب غرفتها ودخلت حاملة باقتين من الورود إحداهما من البنفسج والأخرى من التوليب الأحمر وضعتهما على السرير وأغلقت الباب خلفها وغادرت.

تخرج "حياة" من الحمام تجد بانتظارها تلك الباقتين فابتسمت مقتربة منهما جالسة على طرف السرير ممسكة بباقة التوليب وقد مدت يدها للبطاقة التى علقت بها تقرأ جملة واحدة تقول:-

 "اليوم ميلاد قلبى" تعجب كثيرا قائلة:-من أنت أيها المجهول؟ وكيف عرفت يوم ميلادى؟

وماذا تريد منى؟

ولكن دون إرادة منها تحتضن باقة التوليب مقربة البطاقة من أنفها تستنشقها واضعة إياها جانبا، وتمد يدها ممسكة بباقة البنفسج لتجد بها بطاقة كتب بها "كل عام وأنت بخير ابنتى".

تتنهد قائلة :- أنت يا أبي كعادتك لا تنسى يوم ميلادى وأنا كعادتي لا أريد أن أنسى ما حدث منذ عشرين عاما ورغم هذا هناك صوت بداخلي يقول:- "إن هناك حقيقة لا أعرفها هى ما تخفيه عنى أنت وأمي" لكن الزمن كفيل بأن يزيح الستار عما أجهله.

وصل "خالد" إلى حديقة فيلا "حياة" حيث مكان حفل عيد ميلادها. كان يرتدى قميصًا أبيض وبنطلونًا من الجينز الأزرق، وقد صفف شعره البني الناعم بشكل أنيق أضفى عليه جمالا هادئا انعكس بعينيه الخضراء وقد حمل بيديه علبة صغيرة ملفوفة بورق منقوش بورود حمراء وبيضاء وظل يبحث وسط المدعوين عن "حياة" أو  "يسر" فهو لا يعرف أحدًا بالمكان غيرهما وما هى إلا لحظات حتى لمحته "يسر" التى وقفت تستقبل المدعوين مرحبة بهم. صارت نحوه مهللة قائلة :- أهلا "خالد" أنرت الحفل والمكان.

يبتسم "خالد" الذى تنفس الصعداء برؤية "يسر" قائلا:- أهلا "يسر"، أين السيدة "حياة"؟

لا أراها وسط الحشد.

-إنها بأعلى وستحضر حالا.

ظلا واقفين مكانهما يتبادلان أطراف الحديث حتى لمحتهما "ليلى"  فصارت حيث وقفت " يسر" وما إن وصلت إليها حتى صاحت فيها:- "يسر" أين أنت؟ تركتني بمفردى وسط هذا الزحام، لم أكن أعلم من قبل أن لدى "حياة" كل هذا العدد من الأصدقاء.

تمسك "يسر" بيد "ليلى"  مشيرة باتجاه "خالد" الذى توقف عن الكلام يتأمل "ليلى"  قائلة:- "ليلى"  أقدم إليك "خالدًا" رئيس الحسابات بشركة "حياة" الجميع يشهد له بالخلق والذكاء.

هذه "ليلى"  شقيقة "حياة" وكل من لها بالحياة يا "خالد".

تتعلق عينا "ليلى"  بعينى "خالد " العميقة كالبحر، أحست لأول مرة بحياتها أنها تغرق فى شخص.

مدت يدها تصافح يد "خالد" التى مدت إليها تصافحها وقد شعرت بلمستها الحانية لتترك كفها بين كفيه الذى ظل ممسكا به هو الآخر وبعينيه ألف سؤال.

وصل "أحمد " بصحبة "حسن" إلى مكان الحفل وتوقفا يتجاذبان أطراف الحديث

وعين "حسن" تبحث عن "حياة" بكل مكان حتى شعر "أحمد" الذي ارتدى قميصًا ورديًّا وحلة زرقاء دون رابطة عنق أضفت بساطة عليه فوق بساطته وروحه المرحة فاقترب منه يقول:- ماذا بك يا "حسن"؟ أشعر أنك لست معي!

- أنا معك، من قال إننى لست معك؟!

-إذن أخبرني ماذا كنت أقول؟

نظر "حسن" إلى "أحمد " الذى غمز له بعينيه وهو يضربه فى كتفه قائلا:- لا تقلق ستأتي حالا.

-من هي التي ستأتي يا رجل؟

-صاحبة الحفل يا صديقى.

-وما لي أنا وصاحبة الحفل؟

-مشكلتك الأزلية معى منذ أن كنا صغارًا أنك دوما تحاول أن تخفي ما بداخلك ومشكلتي أنني أقرأ ما بداخلك.

-ماذا تقصد؟

-أقصد أنك متيم بصاحبة الحفل منذ أن رأيتها في حفلي الأخير.

-أنت تبالغ فقط يا رجل.

-وأنت للمرة الأولي تكذب علي يا "حسن".

تقترب "يسر" من "أحمد" و"حسن" مرحبة بهما وعلى وجهها ابتسامة حلوة كست وجنتيها بحمرة خفيفة قائلة :- أهلا بكما أنا "يسر" صديقة "حياة" ومديرة مكتبها.

يجيبها أحمد قائلا :- أهلا بك آنسة "يسر"، أنا المهندس "أحمد" صديق "حياة" وهذا صديقى "حسن" قبطان بحري.

-أهلا بكما أنرتما المكان. "حياة" دقائق وتحضر، الحفل حفلكما. تتركهما وتمضى ترحب بباقي المدعوين.

يصفر "أحمد " قائلة:- إذن لا تقلق يا رجل مجرد دقائق وتحضر حبيبة القلب.

لم يجب "حسن" بشىء، بل ظل صامتا يلهو بقدميه بحشائش الحديقة الخضراء وكأنه لم يرد أن ينفي عن نفسه حبه ل"حياة" ذلك الحب الذى اقتحم حياته ودخل قلبه دون استئذان وكأنه ضفيرة خبز حلوة تطعم أيامه.

يقترب فجأة "أحمد " من أذني "حسن" قائلا:-

- ها هي جاءت عروس الحفل.

وبدون إرادة يرفع "حسن" عينيه باتجاه باب الفيلا لتقف عينه على "حياة " وهي تنزل الدرج

 إلى الحديقة حيث الحفل والجمع الذى ينتظرها وكأنها أميرة متوجة وهى كانت كذلك حقا.

تألقت فى فستان من الحرير الأحمر الذى أخذ شكل جسدها وانتهى بذيل قصير مكشوف الظهر بأكمام طويلة. تركت شعرها في انسيابية جميلة خلف ظهرها فغطى نصفه واضعة بأذنيها قرطا رقيقا عبارة عن حبة لؤلؤ أبيض. على شفتيها ابتسامة واسعة رحبت بها بالمدعوين مصافحة إياهم قبل أن تصل حيث وقف "أحمد" و"حسن" الذى ظل صامتا ينظر إليها وبعينيه مئات الأحاسيس التي تنهشه وقد حاول أن يظهر غير مبالٍ بشىء حتى وجد "حياة" تقف أمامهما مرحبة "بأحمد":- أهلا سيد "أحمد" أنرت مكانك.

مد "أحمد" يده يصافحها قائلا:-

-كل عام وأنت بخير "حياة" ناظرًا باتجاه "حسن" الذى ظل ناظرًا فى الأرض خائفًا من أن تتلاقى عينه بعيني "حياة" فترى بهما صورتها. قائلا :- هذا صديق طفولتى "حسن".

يرفع "حسن" وجهه للمرة الأولى بوجه "حياة" التى شعرت أنها تعرفه من قبل لكن أين؟ لا تتذكر. مدت يدها تصافح "حسنًا" قائلة له:-

ألم نتقابل من قبل؟

…………………………………………

 "الفصل العاشر"

 "إحساس"

هبط الدكتور "إيهاب" من سيارته السوداء أمام فيلا "حياة" وترجل منها قاصدًا باب الفيلا الذى كان مفتوحًا على مصراعية في استقبال المدعوين، ودلف إلى حديقة الفيلا وما كادت "حياة" تراه واقفًا يبحث عنها حتى غادرت مكانها مع "أحمد" و"حسن " قائلة:-

- دقائق قليلة وأعود إليكما.

يومئ "أحمد" لها برأسه إيماءة بسيطة قائلا:- تفضلي.

تنظر بغتة إلى "حسن" الذى تشاغل بإشعال سيجارة دون النظر إليها.

تمضى "حياة" حيث وقف الدكتور"إيهاب " مرحبة به قائلة:- أهلا بأمهر طبيب نفسي

 في مصر.

يبتسم دكتور "إيهاب " وتلمع عيناه ببريق لا يخفى على من يحب ليراه "حسن" الذى وقف يراقب "حياة ". ببرود يخفي خلفه نارًا تستعر بين أضلعه.

 ظلت "حياة" تلتفت ناحيته هو  و"أحمد"، تنظر إليه وكأنها تطمئن نفسها أنه ما يزال هنا. ألقى "حسن " السيجارة التي كانت بيده قائلا:-

-من هذا الرجل الذي يقف مع "حياة"؟

-ألا تعرفه حقا؟

-لا أعرفه، من يكون حتى يجب علي أن أعرفه؟

-تغار يا صديقى؟

يضحك "حسن" بصوت مرتفع لفت انتباه "حياة" وضيفها الواقفة معه فنظر الاثنان تجاه "حسن" الذى أردف قائلا:- لم تخلق امرأة تجعلني أغار يا أبله.

-قبل اليوم كنت أصدقك يا صديقي، أما الآن بعد أن شممت رائحة الحريق المشتعل بداخلك فلم أعد أصدقك.

وما كاد "أحمد" ينهى جملته حتى وجد دكتور"إيهاب " يقترب منه وهو يبتسم قائلا:-

-سيد " أحمد " سررت برؤيتك.

ينظر "أحمد " إلى "حسن" الذى أزاح بوجهه الناحية الأخرى ثم عاود النظر إلى دكتور

"إيهاب "قائلا:-

-أهلا دكتور "إيهاب" كم سعدت برؤيتك.

-هل تعرف السيدة "حياة"؟

-نعم "حياة" من أقرب الأشخاص إلى قلبى ونحن أصدقاء منذ زمن.

-لمَ لمْ أعد أراك فى الحفلات الخيرية التي تقيمها المصحة؟

-مشاغل ليس أكثر، لكننى أعدك بأن أحضر أقرب حفلة ستقام.

-"أحمد"، لم تعرفني بالرجل.

-عذرا لقد سرقنا الكلام، هذا القبطان "حسن" صديقي.

يمد الدكتور "إيهاب " يده إلى "حسن" الذى ظل يبحث بعينيه عن "حياة" التى اختفت فجأة  قائلا:-أهلا بك سيد "حسن" فرصة سعيدة

-أهلا بك.

ومد يده يصافحه ببرود أشعر دكتور "إيهاب" أن هناك شيئًا يوحي بعدم ترحيب "حسن" به فاستأذن "أحمد" ومضى.

أخذت "حياة" تجوب الحفل ترحب بضيوفها وكأنها تحاول الفرار من هذا الزائر الغريب

الذى هبط عليها من السماء يدق عقلها بشىء لا تعرفه عله فضول يلح عليها أن تعرفه عن قرب. وعلة ولعله إحساس يتسرب إلى قلبها دون مقاومة منها.

ومن بين الزحام تلمح "خالدًا" يقف مع "ليلى". ذهبت إليهما وما إن وصلت إليهما حتى قالت:-

-"خالد" متى أتيت؟

يلتفت "خالد" و"ليلى " تجاهها بابتسامة لتبادرها "ليلى"  قائلة:- لم أكن أعلم أن بشركتك مثل هذه المهارات يا "حياة".

تقترب "حياة " من "ليلى"  ممسكة بكفها وهي تنظر تجاه "خالد" قائلة:- أراكما قد تعارفتما.

يجيبها "خالد" قائلا:- لقد قدمتنا إلى بعضنا "يسر".

-هذا "خالد "يا "ليلى" شاب مكافح وشريف ومن حسن حظى أنه يعمل معي.

تبتسم "ليلى" قائلة:- عرفت يا "حياة" وسعيدة بمعرفته.

-إذن أترككما تكملان حديثكما وأكمل أنا ترحيبي بالضيوف.

ينظر "أحمد " إلى "حسن بتعجب قائلا:-

-ما السبب وراء تلك المعاملة الجافة للرجل يا "حسن" وأنت لا تعرفه؟

-أنا هكذا لا أرحب بالغرباء.

-لا الأمر ليس كذلك.

-إذن ما هو الأمر من وجهة نظرك؟

-كل ما سأقوله لك أن "إيهابًا " مجرد صديق ل"حياة" بطبيعة حضورهم الدائم الحفلات الخيرية التي تدعم المرضى النفسيين.

-"أحمد " لم أطلب منك توضيحًا للموقف؛ لأن الموقف لا يهمني بشيء.

يلمح "أحمد" "حياة" وهي آتية من بعيد باتجاههما فيهمس قائلا :- اهدأ ف"حياة" قادمة إلينا.

ينظر "حسن" تجاه "حياة" قائلا:-

-سأسير قليلا بالحديقة فالجو بديع هذا المساء أريد أن أستمتع بهواء القاهرة.

وما هى سوى خطوات تفصل بينهما وبين "حياة" حتى ترك "حسن" المكان واختفى.

تقترب "حياة" من "أحمد" الذى حاول أن يظهر بشكل طبيعي بعد مناقشته مع "حسن" الذى تركه على إثرها ومضى، وعندما وجدته يقف بمفرده اعتقدت أن "حسنًا" قد غادر الحفل. وقفت أمام "أحمد" قائلة:-

-عذر ا لقد تأخرت عليك كان يجب علي أن أرحب بضيوفي.

-لا عليك "حياة" إنه يومك ولكن أخبريني هل من حفل خيرى قريب أشارك به؟

- مؤكد إن شاء الله سيكون هناك حفل قريب وستكون أول المدعوين إليه.

تقطع "يسر" الحوار الدائر بين "أحمد" و"حياة" مقتربة منها وهي تصيح قائلة:- "حياة" هيا حان موعد إطفاء الشمع والجميع ينتظرك.

نظرت "حياة" إلى "أحمد" تسأله بكبرياء صامت:-

-أين من كان يقف معك؟

تهز "يسر" كتف "حياة" برفق قائلة:- "حياة" ماذا هناك؟ ألا تسمعينني؟

-أسمعك "يسر " هيا بنا تفضل "أحمد".

يسير "أحمد"بجوار" حياة" و" يسر " وهو ينظر خلفه عله يرى "حسنًا" فيكون بمقدوره أن يحضر تلك اللحظة مع "حياة". يعلم أن حب "حياة" قد تسلل إلى قلب "حسن" جذوة نار هادئة أضفت الدفء على حياته الباردة وإن كان لا يعترف هو بهذا، لكن ما بداخله يظهر جليا مهما حاول إخفاءه؛ فالحب له موسيقى خاصة تشي به يشتم ريحه من كان بعيدًا عنه.

وصلا ثلاثتهم إلى مائدة كبيرة تتوسط حديقة الفيلا وضع عليها تورتة كبيرة مستطيلة الشكل وضع بمنتصفها صورة كبيرة ل"حياة" ووضع بها شموع بعدد عمرها. تناثر حولها مختلف أنواع المشروبات والحلويات.

وقفت "حياة" أمام المائدة وبجوارها "ليلى"  و"يسر" و"خالد" و"دادة فاطمة"، أطفأت "حياة" الشموع لتنهي عامًا من عمرها بكل ما فيه من حزن وإخفاقات متمنية من الله أن يكون عامها الجديد عام حب ونجاح.

أحاط بها المدعوون يهنئونها متمنين لها عمرًا مديدًا. بصوت خافض همست "حياة" "ليسر" قائلة :

-سأذهب إلى غرفتي أبدل حذائي، كعبه مرتفع ويتعبنى. ظلي أنت مع الضيوف. لن أتأخر.

تهز "يسر"رأسها ل"حياة" بأن اذهبي.

…………………………………………

"الفصل الحادى عشر"

"رقصة حياة "

تركت "حياة" الجمع حول المنضدة، ومضت حيث غرفتها كي تبدل حذاءها

لكن شىء ما بداخلها جعلها تسلك ممرًّا من بين الأشجار الكثيفة، تدلف منه إلى داخل الفيلا

بعيدا عن زحام الحفل وما كادت تخطو به بضع خطوات حتى وجدت "حسنًا" يسير بين الأشجار يدخن سيجارته، وما شعر بصوت خطواتها خلفه حتى استدار يتبين من القادم

تقابلت أعينهما للمرة الأولى تحت ضوء القمر وبعض الأضواء الآتية من أعمدة الإنارة بالحديقة

ظلت "حياة" صامتة لا تتحرك خطوة واحدة لترى طيفها يتراقص بعينى "حسن"

 الذى اقترب منها حتى لم يعد يفصل بينهما سوى سنتيمترات قليلة جعلتها تتبين لون عينيه البني العميق، توقف فيها كل شىء وأي شيء إلا قلبا يصارع كي تظل دقاته هادئة

شعرت بدفء أنفاسه وهو يأخذها من تحت ذراعيها يضمها إلى صدره ويرقص بها على أنغام رقيقة تسربت إلى مسامعهما آتية من الحفل

قررت أن تنطق أن تقول شيئا، لكنها أحست الكلمات تذوب على شفتيها كما هي ذائبة بين يديه ظل يدور بها في المكان محدقًا بوجهها

 وبدون صوت قال لها عشرات الكلمات من الحب

بدون إرادة منها كمن سحر وسلبت إرادته وضعت رأسها فوق كتفيه، استنشقت رائحة عطره الممزوجة برائحة أنفاسه، سكنت فوق ذراعيه تكسرت وتململت في آن واحد

ظلا هكذا ساعة من الوقت لا يعرفان أين هما ولا من هما

كل ما يعرفانه أنهما فى لحظة تبدلت أرواحهما لتسكن كل منهما في الأخرى

توقف فجأة يخرجها برفق من حضنه وضع يديه بجيب سترته يخرج العلبة القطيفة التى تحوى القلادة التي ابتاعها من أجلها وهو لا يعرف أن القدر رسم له الطريق كى يضعها بيديه حول عنقها الأبيض

مد يده يضعها حول عنقها، شعرت بلمسة أنامله، فأحست مخدرًا جميلًا يسري في عروقها

زادت حدته حينما اقترب بشفتيه من شفتيها وغابا معا فى قبلة طويلة توقف معها الزمن عن الدوران سقطت فجأة كل تواريخ الأرض، وغابت جميع الوجوه من حولهما إلا من وجهه ووجهها

صار كل شيء له رائحة نقية.

نظر إليها ودون كلمات تركها ومضى.

ترك خلفه قلبًا زرع به حب دون تمهيد أو اختيار.

تركها كريشة طائرة في الهواء.

غاب عن عينيها وغاب معه جزء منها، لا تعرف إن كان قد سلبه منها عنوة، أم هي من أعطته إياه بإرادتها

لا تعرف كم من الوقت مضى وهي واقفة هكذا مكانها تحاول أن تفيق من هذا الحلم الجميل

هذا الحلم الذى سرقها من كل شىء وزرعها بدنيا وردية الأحلام

ليشعرها للمرة الأولى بحياتها أنها أنثى رقيقة بحاجة إلى حضن تختبئ به وتشعر فيه بالأمان

صارت إلى الفيلا صاعدة الدرج حيث غرفتها وما فتحت بابها حتى أغلقته خلفها وكأنها تختبئ من شىء يلاحقها

ألقت بنفسها فوق سريرها محتضنة نفسها بيديها وراحت في سبات عميق

نامت وكأنها طفلة صغيرة لا تعبأ بشيء مما حولها

لا تحمل هم الغد، ولا تفكر فى يوم نامت ولأول مرة منذ عشرين عاما ملأ جفنيها النوم

قاربت الساعة الواحدة صباحًا عندما انفض الحفل وغادر المدعوون

بقي "خالد" و"ليلى" و"يسر" الذين جلس ثلاثتهم يتجاذبون أطراف الحديث عن الحفل وأحداثه.

تتساءل "يسر " فى تعجب قائلة:

-إلى الآن لا أعرف كيف تترك "حياة" حفلها هكذا دون أن تودع من به وتذهب لتنام؟!!

تصمت "ليلى" قليلا قبل أن تجيب "يسر" قائلة:-

-عندما ذهبت أطمئن عليها بغرفتها وجدتها غارقة فى النوم، وعلى وجهها ابتسامة حلوة لم أرها من قبل

أتدرين يا "يسر" إذا ما كنت شاهدت ملامحها وابتسامتها، لظننت أنها مع الملائكة

-سأترك الأمر للصباح "ليلى"، وسنعرف ماذا حدث

يقف "خالد" مودعًا إياهما قائلا:-

-الآن عليّ الذهاب، لقد تأخر الوقت، ولدى عمل كثير بالشركة صباحًا إن شاء الله

تنظر إليه "ليلى" وكأنها ترجوه أن يبقى قليلا

يمد "خالد" يده إلى "يسر" يصافحها وينظر إلى "ليلى" قائلا:- أستودعك الله يا "ليلى"، يمسك بكفها يصافحها، تاركًا المكان ماضيا إلى طريقه

تمسك "يسر" بيد "ليلى" يسيران إلى داخل الفيلا وعقل كل منهما مشغول بما يخصه

"يسر " تفكر فى السبب وراء ترك "حياة" للحفل و"ليلى" تفكر فى كيف سترى "خالدًا"

الذى احتل جزءًا من تفكيرها

ذهبت كل واحدة إلى غرفتها، وأغلقت خلفها الباب

ثلاث غرف متجاورات، وراء حوائطها ثلاثة قلوب بكل قلب ما يشغله، وما يسرقه بعيدًا عن هذا العالم وكأنها ليلة رتبها القدر، ليلقي بذور الحب

 بقلوب أرهقها جفاف سنين عجاف

أمسك "أحمد "بهاتفه يتحدث فى غضب إلى "حسن" قائلا:- كيف لك أن تترك الحفل وتمضي دون أن تخبرني؟

تمر بضع ثوان حتى جاءه صوت "حسن" وهو يتراقص من الفرح، قائلا:- أحسست بسخافة الحفل فمضيت

-ستظل كما أنت لن تتغير، تفعل ما يحلو لك

-وهل من عيب أن يفعل الإنسان ما يحلو له؟

-"حسن"، اذهب لتنام أفضل لك

-حسنا تصبح على خير يا صديقى،ولا تنسى أن تخبرني عن موعد الحفل الخيرى القادم إن شاء الله

لم يعطِ "حسن" ل"أحمد" فرصة يرد عليه، وأغلق الهاتف

عله كان يريد أن ينهي نقاشًا مع صديق عمره وهو غاضب، عله كان يريد أن يحيا مشاعر تدغدغه

وضع هاتفه على إحدى الطاولات المتناثرة بصالة شقته، وجلس خلف البيانو القابع فى صمت وأخذ يعزف عزفًا رقيقًا وكأنه يترجم ما به يقول ما يحياه من حلم

ظل هكذا حتى سمع صوت أذان الفجر، فنهض يتوضأ، وأتى سجادة الصلاة، سجد لله وأخذ يدعوه قائلا:-

"يا إلهي، أنت من زرعت هذا الحب بقلبى دون إرادة منى، فلك الحمد على ما رزقتنى إياه

احفظ لي تلك الساكنة وجدانى، واحفظ شعورى بها"

أنهى صلاته وهو مبتسم مطمئن، دلف إلى الداخل يصنع لنفسه فنجانًا من القهوة، ووقف بشرفة شقته التى تطل على النيل، يشاهد أول شعاع للشمس وهى آتية من خلف النيل تقبله يغمض عينيه على هذه اللوحة الجميلة وهو يهمس:- صباح الخير "حياة"

تتثاءب "حياة" فى كسل لذيذ وهى تحاول أن تنهض وتجلس في سريرها وهي تفرك عينيها قائلة:- ما أجمله من حلم ليتني لم أفق منه

تمد أناملها، تتحسس شيئا حول عنقها لتلمس القلادة، فتعجب ناظرة إلى ما تعلق برقبتها لتجد القلادة ذات القلب الكريستال الأزرق فتشهق وهى ممسكة بالقلادة بين كفها وأخذت تردد:- إذن هو لم يكن حلم، لم يكن حلم، وإن كان كذلك، فمن أتى بتلك القلادة، وألبسنى إياها؟

الآن علمت أننى عشت ما مررت به

رقصت من مع رجل ما زلت أستنشق أنفاسه وعطره ما زلت أحيا دفء حضنه وضمة يديه

إنه صديق "أحمد" الذى قدمه لي فى الحفل أمسِ

يا إلهي، ألهذا الحد كنت مسلوبة الإرادة؟ أم أنه إحساس تعلقت به كغريق، يريد أن يحيا فترك نفسه يحيا ليلة كما يتمنى لكن ماذا سيقول عنى الرجل؟ وكيف سرقني هكذا؟

أنا أيضا شعرت أنه يحبنى، أجل لن يستطيع أحد أن يصل بي لعنان السماء بهذا الأمان، إلا إذا كان يحب لا لا، يجب عليّ أن أنسى الموضوع برمته

وحمدًا لله أننى لم أروه لأحد، ولم يرني أحد فليس هناك رجل يستحق، كل الرجال مثل أبي لا قلب لديهم.

نهضت من فراشها مسرعة إلى الحمام، وهى ما تزال ترتدي ملابس الحفل.

وقفت صامتة تحت المياه، وظلت تبكى لتختلط دموعها بقطرات الماء الدافئة.

لم تعد تعلم، هل تبكي ضعفها ليلة أمس؟ أم تبكي إحساسًا قد قررت أن تخنقه، وهو ما زال في مهده؟

نفضت عن شعرها الماء كما نفضت عن روحها ما حدث أمس.

وقفت أمام مرآتها ترتدى ملابسها ولملمت شعرها للخلف، ونزلت الدرج إلى غرفة الطعام

تقابلها "دادة فاطمة" بابتسامتها المعهودة قائلة:- صباح الخير ابنتى الغالية

تقترب منها "حياة" مقبلة رأسها تجلس إلى مائدة الطعام دون كلام لتنتبه إلى شرودها "دادة فاطمة " الواقفة بجوارها لتقدم لها فنجان الشاى

فتربت على كتفها بحنان قائلة لها:- ماذا بك "حياة"؟

هل ثمة خطب ما يزعجك؟

-لا شىء حبيبتى لا شىء

أخبريني أين "ليلى" و"يسر"؟

-نائمتان، لقد انتهى الحفل متأخرًا

انتبهت "حياة" لكلمة الحفل، فوضعت فنجان الشاى جانبًا بعد أن رشفت منه رشفتين، وقامت واقفة حاملة حقيبة يدها قاصدة باب الفيلا قائلة:- سوف أذهب إلى المصحة النفسية فلدي موعد اليوم مع الدكتور "إيهاب"، وأخبري "يسر" أن تذهب إلى الشركة

أغلقت الباب خلفها تاركة "دادة فاطمة "واقفة مكانها، وقد ملأها شعور بأن هناك شيئا "حياة" تخفيه

استيقظت "يسر" على صوت "دادة فاطمة" وهي تناديها قائلة:- هيا "يسر"، انهضي عليك الذهاب إلى الشركة

تفرك "يسر"عينيها وهي تتثاءب ناظرة حولها فترى "ليلي" غارقة بجوارها تغط فى نوم عميق، فعلمت أنها تركت غرفتها وأتت لتنام بجوارها

اعتدلت في الفراش ناظرة إلى المنبه القابع على الكوميدينو بجوار السرير، ثم نظرت إلى

"دادة فاطمة" قائلة:- صباح الخير يا دادة

منذ متى ذهبت "حياة" إلى الشركة؟

-صباح الخير حبيبتى، "حياة" لم تذهب إلى الشركة

نهضت "يسر" ذاهبة إلى الحمام لتتوقف ناظرة إلى "دادة فاطمة " بتعجب قائلة:- لم تذهب إلى الشركة! إلى أين إذن ذهبت؟

-لديها موعد اليوم مع الدكتور "إيهاب" بالمصحة النفسية لترى متى ستخرج أمها؟

وفى تلك اللحظة تستيقظ "ليلى" على صوت "يسر" و"دادة فاطمة " قائلة:- هل أمي ستترك المصحة يا دادة؟

تنظر إليها "يسر" وبدون كلام تتركها وتذهب إلى الحمام

تقترب "دادة فاطمة" تجلس على حافة الفراش ناظرة إلى "ليلى" التى بدت ملامحها أكثر براءة مما هي عليه قائلة لها وهى تمد يدها تزيح خصلات من شعرها سقطت على وجهها:

-لا أعلم يا "ليلى" هل سيسمح لها الطبيب بالخروج اليوم أم لا؟

-لقد اشتقت إليها كثيرا يا "دادة"

-قريب إن شاء الله يجمع الله شملكم

-كم أدعو الله أن يعود أبي ويظل معنا هو الآخر

تنهض "دادة فاطمة " وهى تجذب الغطاء من فوق "ليلى" قائلة:- هيا أنهض انهضي حبيبتى لديك محاضرات اليوم ذاهبة إلى النافذة تزيح عنها ستائرها البيضاء فاتحة زجاجها، ناظرة بعيدًا خلف الأشجار الكثيفة التى تملأ الحديقة قائلة:-

يا رب، وحدك القادر على جمع شملهم مرة ثانية

………………………………………

 "الفصل الثاني عشر"

 "بعد الغياب"

 جلست "حياة" داخل مكتب الدكتور "إيهاب" بالمصحة النفسية لتجد أناملها دون إرادة منها تتحسس القلادة الغافية حول عنقها

أمسكت بها كى تنزعها لكن توقفت يديها عن فعل ذلك، أحست بضعف شديد حيال قيامها بهذا الأمر وكأن قلبها قد تبدل ووضع بالقلادة بدلا من القلب الكريستال

أغمضت عينيها تتنهد لتقفز أحداث الليلة الماضية كاملة إلى ذهنها رأت وجهه مرة أخري ظلت تحدق به وكأنها تحاول أن ترسم ملامحها داخل قلبها

أخذت تدق المكتب دقات منتظمة قائلة بصوت تسمعه:- من أين جئت؟ وكيف اخترقت حياتي وجعلت من طيفك شيئا يشغلنى؟

يا ألله ماذا يحدث لي؟ ماذا يجري بعروقي فجأة؟

 تصمت "حياة" عن الكلام بسماعها صوت دقات سريعة على الباب يدلف بعدها الدكتور "إيهاب" إلى مكتبه وقد علت وجهه ضحكة عريضة

مما دفع "حياة" أن تتساءل قائلة:- وجهك ينبئ بأن هناك أخبارًاحلوة

يجلس "إيهاب" خلف مكتبه قائلا:-

-صباح الخير أولا

 -آسفة حقا صباح الخير

-لا عليك أنا فقط أداعبك لكن أخبريني ما هذا الوميض الجميل الذى يملأ عينيك؟

-أى وميض تتحدث عنه؟

-وميض أراه واضحًا جليا لم أره من قبل بعينيك

-اتركنا من هذا وأخبرني هل من جديد بحالة أمي؟

-نعم هناك جديد سوف تغادر أمك المصحة

فى غضون أسبوع

-حقا أشكرك يا ألله أشكرك دكتور على ما فعلته معى ومعها طيلة هذه السنوات

-لم أفعل شيئا "حياة" هذا واجبي

والآن أريد أن أحدثك فى موضوع هام

-خير؟ تحدث كما يحلو لك

- "حياة" ألا تحلمين أن تعودي مرة ثانية لرقص الباليه الذي تعشقينه

تضحك "حياة" بصوت مرتفع قائلة:-

-ماذا تقول؟ بعد كل هذه السنوات أعود للباليه!

-ولمَ لا؟

-إننى تاركة له منذ عشر سنوات وأكثر

- هناك حفلة خيرية تقام لصالح الأطفال الذين يعانون مرض "القلب" وسيتم التبرع لصالح مستشفى خيري تبنى من أجل علاجهم بالمجان

ولن نجد شخصًا من الممكن أن يسهم معنا مثلك "حياة" عن طريق حفل يقام باسمك بحكم أنك أشهر راقصة "باليه" بمصر ولك الكثير من محبي هذا الفن الراقي وأظن أن حفلًا خيريا تشارك به "حياة الألفي" سيكون له عائد كبير نساعد به هؤلاء الأطفال

خيم صمت و"حياة" تفكر ماذا تفعل؟

هل من المعقول أن تعود مرة أخرى تقف على المسرح وتقدم عرض باليه كما كانت تفعل؟

هل تستطيع؟ هل ستنجح؟

ليقطع تفكيرها صوت "إيهاب" قائلا:-

-لا تخافي ستنجحين

ابتسمت له وكأن قوله قد انتشلها من بئر عميق قامت قاصدة الباب وقد أمسكت بمقبضه تفتحه قائلة:- ابعث لي بموعد ومكان الحفل كى أكون مستعدة

أغلقت "حياة" باب المكتب خلفها ليعود "إيهاب" إلى أوراقه وعمله وحفلته الخيرية

لم ينم "حسن" ليلته لشعور السعادة الذى احتل عروقه وسرق النوم من جفنيه

يدلف إلى داخل غرفة نومه يقف أمام خزانة ملابسه يختار شيئا يرتديه حتى استقر على بنطلون من الجينز الأزرق وقميص بلون السماء، وضع بعض قطرات من عطره المفضل

متناولا مفاتيح سيارته وأسرع بالخروج

استقل سيارته وهو يكاد يطير من فرط شعور السعادة والراحة التي تحتله

وبعد حوالى نصف ساعة من السير يقف بسيارته أمام محل "فلور" للزهور

يترجل من السيارة قاصدا المحل يقف ينظر بعينيه إلى ألوان الزهور البديعة والمختلفة

وقد اقترب منه أحد العاملين بالمكان يسأله بأدب شديد قائلا:- هل بإمكاني أن أساعدك؟

-شكرا لك أريد باقة كبيرة من زهرة التوليب الأحمر وأريد منك أن تجمعها بشكل جميل

-كما تحب تفضل تلك البطاقة اكتب بها ما تشاء كي أضعها لك داخل الباقة

تناول "حسن" البطاقة البيضاء من يد العامل وجلس فى أحد أركان المحل قرب نافذة زجاجية كبيرة ترى الشارع من الخارج أخرج قلم من جيبه وأمسك بالبطاقة يكتب بها

"صباح الخير يا أجمل صباحاتي"

ظل يراقب حركة الشارع حتى فرغ العامل من تهذيب باقة التوليب كما طلب منه لينادي عليه قائلا:- سيدى تفضل الباقة التى طلبت منى أن أجمعها لك

نظر "حسن" إلى الباقة التي حملها الرجل بين يديه لتخطف بصره من شدة جمالها ورقتها

فقد كانت جميعها فى حجم واحد تقريبا وشكل واحد. قام بحزمها بشريط عريض من الستان الأبيض يضع "حسن" البطاقة بين الزهور ويكتب للرجل العنوان الذي يريد توصيل الباقة عليه وينصرف

يدق الهاتف بفيلا "حياة" وقد جلست "ليلى" و"يسر" تتناولان طعام الإفطار

ترفع "دادة فاطمة " سماعة الهاتف ترى من على الطرف الآخر فيأتيها صوت "إبراهيم "

الذى عرفته قائلة:- سيد "إبراهيم " أهلا بك

-كيف حالك يا "فاطمة"؟

-بخير

-أخبريني كيف حال "حياة"؟ اشتقت إليها كثيرا اشتقت إليها قدر خمسة عشر عاما

-الله قادر أن ينزل بقلبها نورا يمحو تلك العتمة

-ابقي بجانبها هى و"ليلي" أنت تعلمين أنني لا أئتمن أحدا عليهما غيرك فأنت تعلمين الحقيقة كاملة

-أعلم كل شىء ولا تخف، "حياة" غدا ستعلم الحقيقة ويجتمع شملكم مرة ثانية

-لا أعتقد أن بالعمر بقية

-لا تقل هذا سيعطيك الله العمر الطويل كى تزوج "حياة" و"ليلي"

-هل "ليلى" بجانبك أم ذهبت إلى الجامعة؟

-إنها هنا دقيقة وتكون معك

وضعت "دادة فاطمة " سماعة الهاتف جانبا وذهبت حيث "ليلي" التى وقفت تمسك ببعض الكتب بيديها استعدادا للذهاب إلى الجامعة وما أن رأت "دادة فاطمة" صاحت قائلة:- دادة مع من كنت تتحدثين؟

-أبوك على الهاتف ويريد التحدث إليك

لم تعطها "ليلى" فرصة كى تكمل كلامها وجرت ناحية الهاتف ممسكة به بلهفة شديدة قائلة- أبي كيف أنت؟ اشتقت إليك كثيرا سآتي إليك فى عطلة نهاية الأسبوع أخبرنى هل تتناول طعامك جيدا وتتناول دواءك؟

يضحك "إبراهيم" على الطرف الآخر من الهاتف قائلا:- "ليلى" أعطني فرصة كى أجيبك

نعم حبيبتى أنا بخير واشتقت إليك كثيرا.

لم يكمل كلماته حتى انتابته نوبة سعال شديدة أخذت منه دقائق جعلت "ليلى" ترتجف خوفا عليه ظلت تصرخ قائلة:- أبي ماذا بك؟ أخبرني هل أنت متعب؟

يحاول "إبراهيم" أن يستجمع نفسه بصعوبة بالغة قائلا:- لا تقلقي حبيبتي أنا بخير إنها نزلة برد شديدة أنت تعلمين برد الإسكندرية كم هو قاسٍ.

-لا يا أبي هذا ليس بردًا، أنت متعب سأحضر آخر الأسبوع كي نذهب إلى الطبيب.

أستودعك "الله ".

تغلق "ليلى" الهاتف وتظل واقفة مكانها شاردة. تنتبه فجأة إلى "يسر" التى وقفت بجوارها تربت على كتفها قائلة:- "ليلي" فيم أنت شاردة هكذا؟

تلفتت "ليلى" إلى "يسر" وقد امتلأت عيناها بدموع حاولت جاهدة ألا تسقط منها قائلة:- أبي مريض ويحاول أن يخفي علي هذا الأمر

-لا تخافي "ليلى" إن شاء الله سيكون شيئا بسيطا لا تخافي

والآن امسحى عينيك وابتسمي ابتسامتك الحلوة

وهيا بنا لقد تأخرت عن الجامعة وأنا قد تأخرت عن الشركة

تمسك كل واحدة بيد الأخرى يسيران معا نحو باب الفيلا مغادرين كل منهما إلى وجهتها

تصل "حياة" إلى الشركة لتجد "خالدا" قد وصل إلى مقر الشركة منذ الصباح الباكر وانهمك بعمله حتى إنه لم يشعر بوصول "حياة" إلا عندما مرت بمكتبه واقفة أمامه قائلة:- "خالد" صباح الخير

يرفع عينيه عن الأوراق التى كان يكتب بها ليري "حياة" واقفة أمامه تبتسم له ليقف قائلا:-

-صباح الخير عذرا لم أشعر بوجودك

-لا عليك أعلم أنك مشغول بما لديك من أعمال. أريدك فقط أن تلحق بي حيث مكتبي هناك حفل خيري سأشارك به تحت اسم الشركة وأريد أن أتحدث إليك فى تفاصيله

-حسنا عشر دقائق فقط وألحق بك

تتركه "حياة" وتذهب وقبل أن تخطو خارج مكتبه تستدير إليه قائلة:- ألم تحضر "يسر" حتى الآن؟

-لا لم أرها منذ حضورى إلى الشركة

اكتفت "حياة" بهزة من رأسها وخرجت ماضية إلى مكتبها

قابلت عامل البوفيه فى طريقها الذى كان على غير عادته حيث بدا على وجهه العبوس والحزن. تتوقف أمامه متعجبة مما هو عليه وقد اقتربت منه تسأله:- ماذا بك اليوم؟ لم أنت عابس هكذا؟

-لا شيء سيدتى.

-بل هناك شيء تخفيه ماذا حدث؟

-ابنتى الصغرى مريضة فقط وتحتاج إلى عملية بالقلب

قفز فجأة إلى ذهنها ما كانت تتحدث فيه مع الدكتور"إيهاب " صباح اليوم وكيف كانت من الممكن أن تخطئ وترفض الإسهام بالحفل الخيري الذي يقام خصيصى من أجل هؤلاء الأطفال. تعود سريعا إلى الرجل الذي وقف أمامها مهزوما قائلا:- حالا سأعد قهوتك وأحضرها إليك بالمكتب

-حسنا سأنتظرك بمكتبى فلا تتأخر

تكمل "حياة" سيرها إلى مكتبها

تفتح بابه تظل واقفة مكانها مشدوهة مما وقعت عليه عيناها من باقة التوليب الحمراء

تخطو ناحيتها واضعة حقيبة يدها السوداء جانبا، تقترب حاملة باقة الورود بين يديها تستنشقها ومن بين الورود تقع عيناها على البطاقة البيضاء. تمسكها تقرأ ما كتب بها من كلمات تقول:- "صباحي أنت يا أجمل صباحاتي"

يظهر لها وجهه من بين الكلمات تغمض عينيها قائلة:- هل من الممكن أن يكون هو صاحب تلك الباقات المختلفة من التوليب والبنفسج؟ هل يعقل هذا؟ إنه عندما رآني ليلة أمس كان كمن يعرفنى لمسة يده تشى به، ضمته نفسها تقسم لي أنه يعرفني حق المعرفة ولست بغريبة عنه وإن كان هو لم يفعل ذلك؟ ولماذا لم يحاول أن يحدثني فى الأمر أمس؟

بالله عليك أفصح عنك أخبرنى من أنت؟

يقطع حبل أفكارها فجأة صوت رسالة آتية على هاتفها تمد يديها إلى حقيبة يدها الملقاة فوق المكتب تخرج الهاتف لترى من صاحب الرسالة

لتجد رسالة تقول "أنت أجمل بكثير من باقة التوليب التي بين يديك"

 يفغر فمها غير مصدقة ما يحدث لتجلس ممسكة الهاتف بين كفها وتتصل بالرقم صاحب الرسالة دقات كثيرة متتابعة ولا أحد يجيب. جن جنونها أكثر وزاد ذلك الشغف أكثر

لم تجد أمامها سبيلا غير الاتصال بمحل الزهور الذى أحضر لها باقة التوليب وبعد دقات قصيرة يأتيها صوت قائلا:- محل فلور للزهور هل من خدمة أقدمها إليك؟

تبتلع "حياة"ريقها وهي تحاول أن يخرج صوتها هادئا قائلة:- من فضلك دوما ما يأتي من عندكم باقات من التوليب والبنفسج وأريد أن أعرف اسم من يبعث بتلك الباقات

-أعطني عنوانك وانتظري دقائق سيدتي

تنتظر "حياة" عودة الرجل وقلبها يدعو أن يأتيها باسمه

مرت بضع دقائق قبل أن يأتيها صوت الرجل قائلا:- للأسف سيدتى لم يترك هذا الشخص أية بيانات عنه هو كل مرة يأتي ويرسل الباقات إلى العنوان الذى يطلبه دون أن يدلي باسمه

أحست "حياة" بشىء من خيبة الأمل وهي تستمع إلى ما يقوله الرجل فلم تجد أمامه شيئا تفعله غير أن تشكره وتغلق الهاتف.

وهى تضرب المكتب بيديها لتدخل عليها "يسر" قائلة:- بدون مبررات كثيرة عليك الآن أن تخبريني السر وراء تركك للحفل دون إنهائه.

نظرت إليها "حياة" بضيق شديد دون أن تجيبها، وقبل أن تحاول"يسر" الاستفهام عن سبب هذا الصمت وتلك النظرة التى تنم عن ضيق شديد يعتصر قلب "حياة" كان عامل البوفية قد أحضر القهوة التى طلبتها منه "حياة" ووقف يقدمها لها وقبل أن يضعها أمامها بادرته قائلة:- لا عليك اترك هذا الأمر الآن واذهب إلى "خالد" بالحسابات سيعطيك مبلغا من المال خذه وخذ هذا العنوان واذهب إليه بابنتك وأنا سأتحدث إليه فى الأمر فهو سيساعدك فى الوصول إلى طبيب قلب ماهر يتابع حالة ابنتك. تدمع عين الرجل من الفرح ولا يعرف بماذا يشكرها وقد قابلت "حياة" إحساس الرجل الذى وصل إليها بابتسامة حلوة قائلة:- هيا لا تضيع الوقت.

خرج الرجل إلى مكتب "خالد" الذى دق هاتف مكتبه ليجد "حياة"على الطرف الآخر قابلة:- خالد سيأتي إليك الآن عم "رجب"عامل البوفيه من فضلك أعطه مبلغ خمسة آلاف جنيه

 ولا تخصمها منه فهي من أموال الشركة التي نخصصها لمساعدة الغير.

تغلق "حياة" الهاتف وتنظر إلى "يسر" التى جلست تتأملها قائلة لها:- ماذا هناك "يسر"؟ تريدين أن تعرفي لم تركت الحفل ليلة أمس؟

لا شىء كل ما هنالك أننى شعرت بصداع ذهبت لأتناول أحد المسكنات ودون أن أدرى سرقني النوم.

مدت "يسر " يدها تتحسس باقة التوليب القابعة فى سكون أمام "حياة" على المكتب ناظرة إلى قلب الكريستال الأزرق الغافي فوق صدرها قائلة:- أشعر أن هناك شيئا ما تخفيه لكننى سأتركك تخبريننى وقتما تشائين

………………………………………

" الفصل الثالث عشر"

"اعتراف"

 كان كل شيء هادئا بشارع نهرو

النيل يحتضن الأشجار الكثيفة بصمت حتى ليعتقد من يراها أنها غارقة في سبات عميق

وقف "حسن" يتأمل هذا المشهد من بلكون شقته وينفث دخان سيجارته فى الهواء ومع كل نظرة منه إلى مياه النيل أمامه يرى صورة "حياة" تتراقص على صفحته

أغمض عينيه لدقائق يستنشق رائحة أنفاسها ويستشعر دفء لمستها تلك اللمسات البكر التى تحكى قصة عمر من الحرمان حرمان من الحب حرمان من حضن تتكسر فيه فيضمها داخله بأمان حرمان من إحساس النقاء الذي يمسح كل ترسبات تركها الزمن

يدق جرس الباب فجأة يخرجه مما كان فيه يجبره إلى الرجوع مرة أخرى لأرض الواقع

يطفئ سيجارته ويذهب يرى من الضيف الآتي إليه هذا المساء

يفتح "حسن" الباب ليجد "أحمد" يقف مستندا إلى الباب ينظر اليه وفوق شفتيه ابتسامة ماكرة توحي بأن خلفها شيئا ما

يتركه "حسن" ويدخل إلى صالة الشقة وهو يشير إليه بأصابعه قائلا:- ادخل وأغلق الباب خلفك.

يدخل "أحمد" إلى حيث وقف "حسن" الذى نظر إلى" أحمد" قائلا:- سوف أتناول فنجانا من القهوة هل أعد لك معى فنجانا أم تريد أن تتناول شيئا آخر؟

جلس "أحمد" خلف البيانو وهو يقول:- أفضل فنجانا من القهوة أنا الآخر.

تركه "حسن" وهو يضرب كفا بكف ذاهبا إلى المطبخ يعد لهما فنجانين من القهوة.

ثوان وتصاعدت نغمات كثيرة متداخلة من البيانو يخرج على إثرها "حسن" حاملا صينية القهوة قائلا:- ما هذه الجلبة وهذا النشاز الذى تفعله؟ كف عن العزف أفضل لك سيطلب لنا الجيران الشرطة بتهمة الإزعاج.

يضحك "أحمد " وهو ينهض من خلف البيانو يجلس على أحد الكراسى بجوار "حسن" قائلا:- هذه النغمات لا يستوعبها عامة الشعب أمثالك فهى تعد إحدى سيمفونيات الموسيقى النادرة، يضحك "حسن" بصوت مرتفع قائلا:- نعم أعلم ذلك، تفضل قهوتك أيها المزعج قبل أن تبرد.

يمد "أحمد" يديه يتناول فنجان القهوة يرتشف منه رشفات منتظمة ومع كل رشفة ينظر إلى "حسن" نظرات مليئة بالكلام حتى بادره "حسن" قائلا:- هناك شىء وراء نظراتك تلك فأنا أعرفك يا صديقى هات ما عندك وأنهِ الأمر.

يضع "أحمد" فنجان قهوته أمامه فوق المنضدة الزجاجية معتدلا في جلسته كمن سيقول شيئا مهما، وبدون مقدمات كصياد يريد أن يفاجئ فريسته نظر بعين "حسن" قائلا:- "حسن" ما حكاية "حياة الألفي "؟ ولا تكذب وإن كنت لا تريد أن تتحدث إلي فى هذا الأمر فلا شىء عليك يا صديقى، لن أحدثك فى الأمر مرة ثانية.

تتفاجأ "حياة" ب"ليلى" تفتح عليها باب مكتبها، تدلف إليها لتهب واقفة فى قلق واضح قائلة:- خير يا " ليلي" ماذا حدث؟هل أنت بخير؟

ينظر "خالد" الذى كان يراجع بعض الأعمال مع "حياة" إلى باب المكتب حيث وقفت "ليلى" لتلتقي أعينهما فتبتسم "ليلى" خجلا ناظرة إلى "حياة" قائلة:- لا شيء "حياة" أنا بخير.

تشير لها "حياة" أن تدخل وتغلق الباب خلفها.

تجلس "ليلى" على أحد الكراسي الموضوعة أمام مكتبها مقابلا لنفس الكرسي الذى جلس عليه "خالد" وما أن جلست "ليلى" نظر إليها مرة أخرى قائلا:- كيف حالك "ليلى"؟

-بخير "خالد" وأنت كيف حالك؟

-بخير الحمد لله.

وضعت "حياة" وجهها بين كفيها تتابع الحديث الدائر بين "خالد" و"ليلى" وقد شعرت أن ثمة مشاعر ما تزال فى مهدها بين "ليلى" و"خالد".

ينتبه فجأة "خالد" إلى نظرات "حياة" الصامتة فيدير عينيه عن "ليلى" ناظرا إلى "حياة" قائلا:- الآن انتهيت من ميزانية العام الخاصة بالشركة، هل من شيء آخر تريدين مني أن أقوم به؟

تتراجع "حياة" بجسدها إلى الخلف وقد علا شفتيها ضحكة صغيرة ممسكة بيدها قلما تدق به على المكتب قائلة:- شكرا يا "خالد" لا أعرف حقا بدونك ماذا كنت سأفعل؟

يلملم "خالد" ما أمامه من أوراق قائلا:- لا شكر على واجب أنا لم أفعل شيئا هذا عملي

أتسمحين لي أن أعود إلى مكتبي؟

-لا انتظر إنك تعمل منذ الصباح تناول معي أنا و"ليلى " فنجان قهوة ثم امضِ.

يجلس "خالد" وكأنه كان بحاجة ليظل موجودا ليستمد بعض الطاقة من وجود "ليلى"

تدخل "يسر" عليهم المكتب قائلة:- "حياة" لقد أجريت مكالمة تليفونية مع المعهد المصري للباليه وموعدك معهم غدا فى تمام الساعة العاشرة صباحا. لتجد "ليلى" أمامها تقترب منها مهللة قائلة:-

-ما هذه المفاجأة الجميلة؟ "ليلي الألفي"هنا بشركتنا المتواضعة.

تضحك "ليلى" وهى تعانق "يسر " التى اقتربت منها ترحب بها وقد سحبت أحد الكراسى الموجودة بالمكتب تجلس بجوارها وهى تهمس لها:

- ما سر هذه الزيارة المفاجئة؟

تضع "ليلى" كفها فوق فمها مقتربة من أذن "يسر" قائلة:- أنت تعلمين ما حدث صباحا وأريد السفر اليوم إلى أبي كي أراه.

تنتبه "حياة " إلى الحديث الدائر بين "يسر" و"ليلى" تنظر إليهما قائلة:- ما الأمر "ليلى"؟ ماذا حدث؟

-لا شيء أريد فقط الذهاب إلى "أبي".

-نعم! تريدين الذهاب إلى "أبي "؟!، اليوم ليس موعد زيارتك له يا "ليلى".

تنظر "ليلي" و"يسر " بعضهما إلى بعضهما ثم إلى "خالد" الذى كان يتابع الحديث بصمت تتنهدت "ليلى" قائلة:- أعلم بهذا الأمر "حياة " لكن أبي مريض تحدثت معه صباح اليوم وهو مريض أريد الذهاب للاطمئنان عليه والعودة فى ذات اليوم.

بعصبية واضحة و بنبرة متوترة أكثر منها حادة حاولت "حياة" ألا تظهر شيئا ناظرة إلى "ليلى"

قائلة:- الآن السائق في إجازة من العمل وأنا مشغولة كما ترين ولدي بعد أسبوع من الآن حفل خيرى أعد له، فمن سيرافقك الآن إلى الإسكندرية يا "ليلى"؟

-لا تخافي أنا سأذهب بمفردى لم أعد صغيرة

ران بينهم صمت لبضع دقائق قبل أن يقطعه "خالد" قائلا:- اسمحي لي سيدة "حياة "

 أن أصطحب "ليلى" حيث تريد ولا تخافي عليها سأنتظر معها وأعود بها ثانية

نظرت "حياة" إلى "خالد" ثم إلى "ليلى" التى بدأ على ثغرها ابتسامة علمت على إثرها "حياة"

أنها ترحب باقتراح "خالد" أن يصحبها إلى الإسكندرية حيث أبوها.

لم تجد "حياة" أمامها خيار ا آخر كي تطمئن على "ليلى" فى رحلتها تلك.

نظرت إلى "خالد" قائلة:- هل تستطيع القيادة "خالد"؟

-نعم فقد كنت أعمل سائقا بإحدى الشركات قبل أن أعمل بمتجر بيع الزهور.

-حسنا. مدت "حياة" يدها تفتح حقيبتها وتخرج منها سلسلة مفاتيح تقدمها إلى "خالد" قائلة:- هذه مفاتيح سيارتي إنها تقف أمام الشركة خذها واذهب بها إلى الإسكندرية واحترس على نفسك وعلى "ليلى". تفضلا الآن كي لا يداهمكما الوقت.

تنهض "ليلى" مقبلة "حياة" مودعة" يسر"، تسبق"خالد" إلى الباب الذى مد يده ممسكا بمفاتيح السيارة ليلحق بها فتناديه "حياة" قائلة:-

-"خالد""ليلى" أمانة معك وعليك أن تردها إلي سالمة.

ابتسم لها "خالد" ودون كلام ترك المكان مغادرا إلى الإسكندرية

كانت السيجارة الخامسة التي ينفث "حسن" دخانها فى الهواء قائلا:- هذه هى القصة كاملة

 يا صديقي منذ أن رأيت "حياة" بحفلتك الأخيرة.

 شهق "أحمد" بقوة قائلا:- كل هذا يا "حسن" ولا تخبرني؟ تحمل بداخلك هذا الفيضان من المشاعر وتكتمه؟! لمَ يا رجل؟ ألسنا صديقين منذ نعومة أظافرنا؟ ألم نتشارك دوما كل ما يمر بنا؟ لم أخفيت عليّ هذا الأمر؟

ينهض "حسن" ذاهبا إلى النافذة ناظرا إلى النيل قائلا:- لم أخفِ عليك لأننى أردت ذلك، كل ما في الأمر أننى كنت بحاجة إلى أن أختبر مشاعرى، أن أتفهم حقيقتها أهي حقا مشاعر حب صادق أم أنها مشاعر عابرة ليس أكثر من مجرد إعجاب بسيدة غامضة أشعر أن بداخلها الكثير تخفيه عمن حولها؟

سافرت رحلتي الأخيرة وقلت لنفسى إن السفر والبحر سيجعلانى أنسى كل هذا الهراء

لكننى لم أجده هراء كان كل شىء حولى يذكرنى بها، البحر طيور النورس الموج حتى وجه هذا العجوز الذى قابلته على المرسى فى الإسكندرية وابتعت منه باقة بنفسج لها كان هناك شىء بملامحه يذكرني بها لا أعرف ما هو. رأيتها داخل قلب الكريستال الأزرق الذى أهديتها إياه ليلة ميلادها. كل شىء كل شىء يا "أحمد" كان يذكرني بها وكأنها تركت بصمتها ووجهها فوق كل ما حولي وقتها علمت أنه حقا حب. هذا الحب الذي يتسرب من بين ثنايا روحك دون سبب تجيء تمسك به لتسأله لماذا؟ تجده يقول لك:-

-ليس هناك أسباب كي نحب نحن نحب فقط

نحب ونحن مسلوبو الإرادة

نحب دون أن نختار الزمان والمكان

تاركين للقدر حرية الاختيار

نعم أنا أحب "حياة" ولا تسألني كيف؟ ولا لماذا؟

أتعلم حينما كنا نرقص بالأمس بين أغصان الشجر أحسست بشيء لم أشعر به منذ أن رحل أبي، أحسست بالأمان يا صديقي، أحسست بدفء غريب يشعرنى بأننى طفل صغير هارب من كل شىء حوله مستقر بحضن أبيه يغطيه بشال أمه. شيء جديد مختلف تسرب إلى وريدى جعلني أرى الحياة بألوان قوس قزح.

هم "أحمد" أن يتحدث أن يقول أى شىء ردا على كلام "حسن " إلا أن "حسنا" أشار إليه قائلا :

 -وأيضا لا أعرف ما نهاية هذا الحب لأنني ببساطة لا أعرف ما هو شعورها نحوي

 وإن كان هناك شيء تركته بها ليلة أمس. صدقني لا أعرف أى شيء سوى أنني أتمنى أن يرتب لي القدر لقاء ثانيا بها.

نظر "أحمد" إلى "حسن" وعلى ثغره ابتسامة خبيثة فهمها "حسن" فقام من مكانه ممسكا برقبة "أحمد" وهو يضحك قائلا:- أعرف هذه الضحكة الخبيثة منذ أن كنا صغارا هناك شىء تريد أن تقوله. منذ أن دلفت من باب الشقة وتخفيه يا لعين اعترف حالا وهات ما تخفيه بجعبتك.

يمسك "أحمد" بيد "حسن" مبعدها عن رقبته وهو يضحك بصوت مرتفع قائلا:- اهدأ إذن واترك رقبتى وسوف أخبرك ما تود معرفته.

تركه "حسن" وجلس فوق المنضدة أمامه قائلا:- الآن انطق ماذا هناك؟

مد "أحمد" يده فى جيب سترته وأخرج منها دعوتين مشيرا بهما ل"حسن" الذى عقد حاجبيه قائلا فى استفهام:- دعوة فرح؟ لا أذهب إلى فرح أشخاص لا أعرفهم.

فتح أحمد إحدى الدعوتين اللتين بيده وأخذ يقرأ بصوت مرتفع قائلا:- تتشرف جمعية محبي الحياة لأطفال مرضى القلب بدعوة سيادتكم لحضور حفلها الخيري الذي سيقام الخميس بعد القادم و تشارك هذا الحفل راقصة الباليه المشهورة "حياة الألفي" تقدم أوبريت "الباحث عن الروح" ما رأيك إذن فى هذه المفاجأة؟

ينظر "حسن" إلى صديقه وصوت يتردد بداخله يقول:- حقا أنا كمن يبحث عن روحه ستقدمين ما أنا عليه "حياة" وكأنك مصممة على اختراق روحي دون قصد.

أخذ "خالد" ينظر بطرف عينيه إلى "ليلى" الجالسة بجانبه داخل السيارة وهما في طريقهما إلى الإسكندرية قائلا بصمت:- كم أنت رقيقة حالمة يا "ليلى" أحب براءتك التى تشبه براءة الأطفال.

شعرت "ليلى" بنظرات "خالد" إليها حاولت أن تخفي ضحكتها قائلة:-أشكر لك صنيعك يا "خالد" لولاك ما استطعت الذهاب إلى أبي

-ليس هناك داعٍ للشكر فإن كان هناك من يجب عليه أن يشكر الآخر فهو أنا

-لا أفهم قصدك

-أقصد أنني أشكرك وأشكر السيدة "حياة" أنها أتاحت لي الفرصة أن أكون معك

علت وجنتى "ليلى" حمرة خجل ناظرة إلى الطريق عبر نافذة السيارة التى تنهب الأرض نهبًا إلى الإسكندرية.

ظل كل منهما صامتا لدقائق حتى استجمع "خالد" شجاعته قائلا:- " ليلى" أريد أن أسألك عن شىء وأتمنى ألا أكون متطفلا عليك.

تنظر "ليلى" إليه باهتمام قائلة:- ليس هناك أى نوع من التطفل تفضل اسأل ما تود معرفته.

-لماذا لا يحيى معكم أبوكم؟ ولماذا لم تحاول السيدة "حياة" أن تذهب معك لرؤيته؟

تتنهد "ليلى" بقوة كمن يريد أن يتخلص من شىء عالق بين أضلعه قائلة:- أتعلم يا "خالد" أوقات كثيرة تكون بحاجة لمن يضع يديه على جرح بداخلك فتفتحه كى تنظفه لأنه يؤلمك

وأنت كمن مسح على رأسي وقال لي:- احكى ما يؤلمك. حسنا سأروى لك ما يرهقني لعلي أستريح.

ظلت تحكى وتروى تعلو وتهبط تنفعل وتهدأ

نطقت بكل ما تخفيه

صمتت فجأة قائلة:- صدقنى لا أعرف كيف رويت لك كل هذا؟ ولا لماذا؟

تلك هى المرة الأولى التى أظهر فيها جرحا داخلى أمام أحد

ينظر إليها"خالد" قائلا:- لقد تكلمت لأنك كنت بحاجة إلى الكلام يا "ليلى"

-هناك سبب آخر جعلني أحكى لك.

-وما هو هذا السبب؟

-نحن نحكى ونثرثر عندما نطمئن وأنا اطمأننت إليك.

يمد "خالد" يديه إلى "ليلى" قائلا:- وهذه يدى أمدها إليك لأصبح بجانبك أشاركك كل شيء يؤلمك، هل تقبليننى؟

بدون كلام تمد "ليلى" يدها يمسك يديها بشدة كمن وجد طوق نجاة له.

………………………………………

"الفصل الرابع عشر"

" دموع وابتسامات"

تلفتت حولها فى انبهار يشوبه قلق وهى تمسك بيد أمها كانت ما تزال ابنة الخمس سنوات

استيقظت ذات صباح لتجد أمها تخبرها أنها ستأخذها في نزهة إلى معهد الباليه لتسألها في براءة قائلة:- ما هو الباليه يا أمي؟

تحتضنها أمها قائلة:- أتحبين الفراشات يا "حياة"؟

- نعم يا أمي أحب الفراشات.

-إذن تعالي معي فقط وهناك تصيرين فراشة حلوة.

ذهبت "حياة" فى هذا اليوم إلى معهد الباليه ترى لأول مرة فى حياتها أطفالا فى مثل عمرها يقفون صفا واحدا خلف سيدة تقف على أطراف أصابعها يرتدون ثيابا بيضاء يشبهون الملائكة.

تتذكر يومها أنها عندما رأتها اقتربت منها تقبلها سائلة إياها:- ما اسمك طفلتي الجميلة؟

ببراءة مدت كفها الصغير تتحسسها وكأنها تود أن تطمئن إليها قائلة:- اسمي "حياة".

-أتحبين أن تصبحي كهؤلاء الفراشات التى ترتدي فساتين بيضاء؟

تنظر إليهم ثم إلى السيدة التى تمسك بذراعيها قائلة:- نعم أحب

-هات يدك إذن وتعالي معي فقط

تسير "حياة" معها وهى تنظر للخلف حيث وقفت أمها تنظر إليها وهى تبتسم وتشير إليها بأن تمضى فى طريقها.

تذكرت "حياة" كل هذه الأحداث وهي تجلس بمكتب مدام "فيولا" مديرة المعهد المصري للباليه. تخرج من شرودها هذا على صوت أتاها من خلفها يصيح في مرح قائلة:- لا أصدق عينى أجمل راقصة باليه فى مصر هنا.

تستدير "حياة" إلى مصدر الصوت تضحك تضم مدام" فيولا" إليها بشوق وحب قائلة:- كلما مر الزمن تزدادين جمالا وشبابا وكأن الزمن لا يمر من عندك.

تضحك مدام "فيولا " بصوت مسموع وهى تشير ل"حياة" بالجلوس قائلة:- وأنت أيضا لم تتغيري وكأنك ما زلت تلك الطفلة الصغيرة التى أتتنى مع أمها منذ عشرين عاما تتعثر فى ثيابها وقع حبها فى قلبى منذ أن وقعت عليها عيني. علمت أنها ستصير في يوم أشهر وأجمل راقصة باليه فى مصر.

تنهدت "حياة " وما زالت الابتسامة تعلو شفتيها قائلة:- اشتقت إليك معلمتي واشتقت إلى المعهد والباليه.

قبل أى شىء أخبريني ماذا تحبين أن تتناولي من مشروبات؟ ما زلت أتذكر أنك تعشقين الشيكولا باللبن.

-يا ألله هل ما زلت تتذكرين؟

 صدقينى إن قلت لك إنني لم أتناولها منذ سنوات طوال أصبح مشروبي هو القهوة.

-إذن نتناول سويا كوبين من الشيكولا باللبن، وبعد ذلك تروين لي كل ما حدث معك خلال تلك السنوات.

-سأروى لك ما تودين معرفته لكن قبل ذلك أريد أن أتدرب على رقصة "الباحث عن روح"

- "الباحث عن روح"! أما زلت تحبين تلك الرقصة؟ كانت دوما رقصتك المفضلة.

-أحبها لأنها تترجم دوما حالتي فأنا كمن يبحث حقا عن روح.

-لكن أخبريني ما السبب وراء هذا؟

-هناك حفل خيري لصالح الأطفال مرضى القلب سأشارك به وأريد أن أشارك بتلك الرقصة.

- يسعدني أن أعود مرة أخري أدربك رغم أنني متقاعدة عن التدريب منذ سنوات لكن معك أنت لا أستطيع أن أرفض "حياة".

يقطع حديثهما فجأة عامل البوفيه وهو يدخل حاملا كوبين من الشيكولا باللبن الساخن وضعهما أمامهما وترك المكتب مغادرا.

كطفلة صغيره مدت "حياة" يدها ممسكة بكوب الشيكولا باللبن تتناوله بلهفة لتسقط ساعات من الحب والمرح بينها وبين مدام "فيولا" تحدثا خلالها فى كل شىء وأى شىء

نسيت "حياة" كل ما يؤرقها روت كل ما حدث معها حتى باقات التوليب والبنفسج والرسائل المجهولة ورقصة المساء التى تركت بروحها سؤالا تبحث له عن إجابة يقول:- من أنت أيها المجهول؟

كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة مساء عندما وصلت "ليلى" وخالد" إلى الإسكندرية

وقفت السيارة بالمرسى أمام المتجر الصغير الذى يمتلكه "إبراهيم".

ترجلت "ليلى" من السيارة واقفة بانتظار "خالد" كى يترجل هو الآخر لكنه بقي مكانه داخل السيارة. 

تنظر إليه "ليلى" قائلة:- "خالد" ما الأمر؟ لمَ أنت ما تزال جالسا مكانك؟

-سامحيني "ليلى" سأنتظرك هنا

-لماذا يا "خالد"؟

-لخصوصية زيارتك يا "ليلى" فأنت تشتاقين إلى والدك وهو الآخر مؤكد أنه يشتاق إليك

 لا تحتاجان لشخص ثالث معكما.

تفتح "ليلى" باب السيارة قائلة:- لن أدخل دونك "خالد" أريد أن أقدمك إلى أبي ومن الآن لا فرق بيننا أنت الشخص الوحيد بهذا العالم الذى جعلني أفتح قلبى وأروي كل ما يؤرقني

أنت من أشعر معه بأمان لا مثيل له وكأنك استنساخ منى يا "خالد ".

لم يجب "خالد" بأي كلام، كل ما فعله أنه ترجل من السيارة ممسكا بكف "ليلى" بين كفيه

صار سويا حتى وصلا باب المتجر، دفعت "ليلى" الباب الزجاجي ودلفت إلى داخل المتجر تنادى أباها قائلة:- أبي أين أنت؟ لقد أتيت.

يخرج "إبراهيم " من خلف باب خشبي صغير معلق بأحد الحوائط بمنتصف المتجر

وقد بدا عليه الضعف والإرهاق وما أن رأته "ليلى" جرت نحوه ملقية بنفسها بين ذراعيه

يضمها إلى صدره بحنان يظل كل منهما يحتضن الآخر بشدة وشوق وقد انتبه "إبراهيم " فجأة لذلك الضيف الواقف بباب المتجر ينظر إليهما بابتسامة رقيقة. ينظر إليه عم "إبراهيم " يبادله الابتسام عائدا بعينيه إلى "ليلى" التى خرجت من حضنه يسألها بعينيه عن هذا الضيف الذي أتى معها.

تشير "ليلى" إلى "خالد" قائلة:- تعال يا "خالد" أقدمك إلى أبي، أبي هذا "خالد" رئيس الحسابات بالشركة لدى "حياة" أصر أن يكون معي في سفري إليك حينما علم أن "عبد الله" السائق بإجازة.

يمد "إبراهيم " يديه إلى "خالد" يصافحه قائلا:-

-أهلا بك بنى أشكر لك صنيعك تفضل بالجلوس

يجلس "خالد" إلى منضدة دائرية تتوسط المتجر وتجلس بجواره "ليلى". يتركهما "إبراهيم " ويدلف إلى داخل المتجر خلف الباب الخشبى الصغير.

ينظر "خالد" إلى "ليلى" قائلا:- سيدة "حياة" تشبه أباك كثيرا يا "ليلى".

-فعلا "حياة" تحمل الكثير من ملامح أبي

-من الواضح أن أباك طيب كثيرا

-أبي أطيب شخص من الممكن أن تعرفه

-إذن ما السبب وراء موقف سيدة "حياة" منه كما رويت لي ونحن فى طريقنا إلى هنا؟

-هذا ما يجعلني أجن "خالد" ولا أجد ردا على هذا السؤال

يعود "إبراهيم " بعد قليل حاملا بيديه بعض الأطباق

وما أن رأته "ليلى" جرت نحوه حاملة عنه الأطباق وقد ظهر الإجهاد والتعب فجأة على وجه "إبراهيم" الذي تصبب عرقا

تمسك "ليلى" بيد أبيها تجلسه وقد ظهر على ملامحها القلق قائلة:- أبي ماذا بك؟ هل تشعر بتعب ما؟

لا تخافي حبيبتى لست متعبا أنت فقط تبالغين، هيا نتناول جميعا طعام الغداء؛ فأنا لم أتناول طعامي إلى الآن كنت أشعر أنك ستأتين، هيا تفضل يا "خالد" ومد يده إليه بأحد الأرغفة الموضوعة أمامهم.

بدأ ثلاثتهم فى تناول طعام الغداء وهم يتجاذبون أطراف الحديث تارة ويضحكون تارة أخرى ليمضي الوقت دافئا ممتلئا بالحب

انتهوا من تناول طعامهم وقف "إبراهيم" يرفع الأطباق لكنه فجأة وضع يديه فوق صدره وأخذ يتألم صارخا بصوت مرتفع.

تقترب منه "ليلى" فى ذعر سائلة إياه والدموع تسيل فوق وجنتيها:- ماذا بك يا أبي؟

حاول "إبراهيم" أن يجيبها لكن صوته ذاب قبل أن يصل إلى شفتيه، صرخت "ليلى" بصوت مرتفع قائلة:- "خالد" ساعدني لنقل أبي إلى أقرب مشفى.

اقترب "خالد" من "إبراهيم يمسك بكتفه قائلا:-

-استند إلي لا تخافي "ليلي" لا تخافي كل شىء سيكون على ما يرام فقط الحقي بي.

يستند "إبراهيم" إلى كتف خالد بوهن شديد كمن يقاوم كى لا يفقد الوعي صارت "ليلي" أمامهما وهى مذعورة والدموع تغسل وجهها وبين كل خطوة وأخرى تنظر خلفها كمن تريد أن تطمئن أنه ما زال فاتحا عينيه.

وصلت إلى السيارة قبل "خالد" الذى كان بطبيعة الحال بطىء الخطوة

فتحت "ليلى" باب السيارة الخلفى وأخذت تساعد أباها على الركوب مع "خالد" حتى ركب فى الكرسي الخلفي، وجلست "ليلى" بجواره تمسح له وجهه كلما تصبب عرقا هامسة له:- أبي أرجوك ظل هنا ابق بجانبي فأنا أحتاجك أرجوك أبي كن بخير من أجلي.

 قاد "خالد" السيارة مسرعا إلى أقرب مشفى وهو ينظر فى مرآة السيارة الأمامية إلى "ليلى" وأبيها الذي بلغ منه التعب مبلغه قائلا:- لا تخافي "ليلى" سنصل إلى المشفى الآن وكل شىء سيمر على خير.

………………………………………

"الفصل الخامس عشر"

"قلب..يئن"

"حياة"..

تلك هي المرة الأولى التي أكتب فيها رسالة إلى امرأة, ولا أعرف ماذا أكتب فيها.

هل أكتب، اشتقت إليك حد الوجع؟ أم أقول إنني خائف، أو بمعني أدق، معك أصبحت أخاف من البعد والفقد.

"حياة"..

لا أعرف إن كنت ستعرفينني، أم أن عينيك الجميلة تنسى.

لكن يكفيني أنني أعرفك وأحبك.

يكفينى ذلك الإحساس النابض بك بين أضلعي.

اليوم هو يوم حفلك، سأراك مرة أخرى

عروس الحفل كما رأيتك يوم ميلادك.

لا تخاف شيئًا، ارقصي وكأنها المرة الأولى التي ترقصين فيها، أريد أن أراك تعلين فوق كل شيء.

سأراك مساء، فمن أجل نفسك ومن أجلي كوني حقا عروسًا تبهر العالم اليوم.

ظلت "حياة" تقرأ هذه الرسالة التي أتتها على هاتفها أكثر من عشر مرات.

قرأتها واستنشقتها.

سألت سطورها، هل من أرسلك هو؟

من رقصت معه، وضمني بحنان وأمان إلى صدره؟

هل هو صاحب باقات التوليب الأحمر والبنفسج؟

هل هو من مرت تلك الأشهر وهي وهو يعيشني دون أن أعرف؟

بالله عليك أجيبي.

تدفع الباب مدام "فيولا" قائلة:

- انظري "حياة" لقد انتهيت من حياكة حذائك.

انظري، إنه يشبه حذاء سندريلّا في جماله.

اخترت لك لون التوليب الأحمر الذي تعشقينه، ستكونين أميرة الليلة وأنت ترقصين على المسرح.

وأنت هل انتهيت من فستانك الذي سترتدينه الليلة؟

تنظر إليها "حياة" دون أن تنطق بأي كلمة.

لترى مدام "فيولا" كلاما كثيرا بعينها تريد أن تنطقه.

تقترب منها واضعة الحذاء الستان الذي أعدته لها لتحضر به حفل المساء على أحد الكراسي الموجودة بالغرفة الخاصة "بحياة" داخل معهد الباليه.

اقتربت منها تمسك ذراعها قائلة:

- ماذا هناك "حياة"؟ أرى بعينيك كلاما كثيرا، هل حدث شيء ما؟

 دون كلمات تعطيها "حياة" هاتفها.

لتمسك به مدام "فيولا"، بين يديها تقرأ رسالة "حسن".

******

لم يمر وقت طويل حتى وصل "خالد" و"ليلى" إلى المستشفى الدولي بالإسكندرية.

ترجل "خالد" من السيارة مسرعًا يساعد "إبراهيم" في النزول من السيارة وقد أمسكت "ليلى" به تساعده هي الأخرى, لكن ما كان يعانيه من تعب وضعف كان أكبر وأقوى منهما.

خارت قواهما كما خارت قوى "إبراهيم" الذي فقد الوعي تماما.

صرخت "ليلى" فزعا على والدها.

لم ينتظر "خالد" كثيرا، هرول سريعا إلى داخل المشفى يطلب المساعدة.

لتمر دقائق على "ليلى" التي احتضنته وظلت تبكي بصوت مسموع.

عاد "خالد" وبصحبته اثنان من رجال التمريض، حملا "إبراهيم" مسرعينِ به إلى الداخل, وأمسك "خالد" بيد "ليلى" التي تشبثت به وكأنها طفلة ضلت الطريق تنتفض خوفا.

استدعوا على الفور أحد أطباء القلب الذي أتى مسرعا قائلا:

- ماذا حدث؟

روى له "خالد" سريعا ما حدث مع "إبراهيم" فأمر الطبيب بعمل رسم قلب بسرعة

وقياس ضغط الدم والسكر.

أخذوا "إبراهيم" إلى إحدى غرف الإفاقة، حاولت "ليلى" أن تدخل مع أبيها، لكن الطبيب ومن معه من مساعدين رفضوا وجودها.

يأخذ "خالد" "ليلى" بعيدا خارج الغرفة التي يتم إسعاف أبيها بين جدرانها، لتنهار على صدره باكية قائلة:

- أبي يا "خالد"، أبي يضيع مني وأنا أقف مكتوفة اليدين لا أستطيع فعل أي شيء, أبي هنا داخل هذه الغرفة بمفرده، لا أعرف ماذا يحدث له، ولا أعرف إن كان يعلم أنني لست بجواره أم لا.

يضمها "خالد" بشدة كمن يريد أن يبث فيها الأمان أو كمن أراد أن يخفي ضعفه هو الآخر حيال ما يحدث في ضمتها إليه.

ظل يمسح على رأسها قائلا:

- اجعلي ثقتك بالله كبيرة يا "ليلى" أكبر من أي شيء وكل شيء.

اتركي الأمر كله بين يديه، استودعيه أباك فهو أرحم الراحمين.

تهدأ "ليلى" قليلا وتظل صامتة وإن كانت تمسكت "بخالد" أكثر.

ظلت تردد معه بعض آيات القرآن الكريم والأدعية.

مرت ساعة تقريبا حتى خرج الطبيب من غرفة الإفاقة يبحث عنهما حتى رآهم رآهما جالسين بأحد أركان الاستقبال الخاص بالمشفى.

وما أن رأياه حتى أسرعا إليه، يتسابقان في سؤالهما عن "إبراهيم"، لينطق الاثنان في وقت واحد قائلين:

- كيف حال أبي؟

تنظر "ليلى" إلى "خالد" من خلف سحابة دموعها، وقد ارتسمت فوق شفاهها ابتسامة ضعيفة عندما سمعته يقول: أبي.

يقول الطبيب:- أنتما أولاده؟

يقول "خالد":

- نعم نحن أولاده، أخبرني من فضلك ما الأمر؟

ينظر الطبيب إلى "ليلى" التي تعلقت عيناها به قائلة:

- أستحلفك برأس كل من تحب، أستحلفك بربك ألا تنطق بشيء يوجع قلبي.

قل أي شيء يخبرني أن "أبي" بخير، ولا شيء هناك غير هذا.

يصمت الطبيب دقيقة مرت كأنها دهر قائلا:-

- لا أخفِي عليكم حقيقة الأمر، أبوكم يعاني من ضعف شديد بعضلة القلب، لقد قمنا بعمل الإسعافات اللازمة، سيبقى معنا يومين تحت الملاحظة، وإن استقرت الأمور، فسوف يغادر المشفى، لكن عليه أن يتابع حالته مع أحد أطباء القلب.

*****

تبتسم مدام "فيولا" وهي تقرأ رسالة "حسن" التي بعث بها إلى "حياة", ناظرة إلى "حياة" التي جلست على مقعد صغير أمام مرآة كبيرة وضعت بركن الغرفة.

وقد وضعت وجهها بين راحتيها تحدق في الفراغ قائلة:

- لا يعقل "حياة" أن يحبك هذا المجهول, هذا الحب الأفلاطوني دون أن تعرفيه.

فكري قليلا، لا يوجد أحد غير "حسن" صديق "أحمد" الذي رقص معك ليلة ميلادك.

تنظر إليها "حياة" كمن تبحث عن كلمات قائلة:

-إن قلت لك إنني خائفة من الاعتراف بهذا تصدقينني؟

-من أي شيء تخافين "حياة"؟

أول مرة أرى أحدًا يخاف الحياة, تخافين أن يكون صاحب تلك الرسالة هو "حسن"؟

-نعم "فيولا" أخاف أن يكون هو نفسه "حسن".

-لماذا؟

-لأنه هو الرجل الوحيد الذي رأى ضعفي.

 هو من رأى إلى أي مدى أحتاج إلى كتف أسند إليه رأسي، هو من شعر وأنا بين يديه أن كل ما أدعيه من قوة هو مجرد محض افتراء.

هل عرفت الآن لمَ أنا خائفة؟

-عرفت شيئًا أهم من هذا كله "حياة", عرفت الآن أنك تحبين "حسن".

- إن كان ما شعرت به معه من أمان وما سقط عني من هموم وهو يضمني إلى صدره، وما وقر بقلبي من إحساس حلو كقطعة سكر يسمى حبًّا، فمن الممكن أن يكون ما أنا به بداية حب.

- اتركي نفسك تحب كما تشاء، افتحي قلبك دعيه يرى ما حوله من نور، حرري نفسك من خوفك هذا، أحبي لآخر ذرة بقلبك.

الحب ليس شيئا نخجل منه، الحب هو طوق النجاة من جميع الشرور والآثام.

تقترب مدام "فيولا" من "حياة" تجذبها من ذراعها، تنهضها قائلة:

- الليلة لا أريدك أن تفكري بأي شيء سوى الحفل ومئات المدعوين الذين أتوا ليروا أجمل راقصة باليه في مصر وهي تحلق في السماء، اجعلي تفكيرك كله بحركات قدميك.

تتركها قاصدة الباب، وقبل أن تصل إليه يفتح الباب ويدخل أحد العاملين بمعهد الباليه حاملا باقة كبيرة من البنفسج قائلا:

- لقد وصلت للتو تلك الباقة، ومن أحضرها يقول إنها للسيدة "حياة".

تنتفض "حياة" من مكانها، تخطو ناحية باقة البنفسج، تحملها عن العامل فرحة بها طفلة صغيرة.

لتضحك مدام "فيولا" قائلة:

- الآن تيقنت أنك تحبينه، هذه اللهفة، لا تكون إلا من قلب يحب.

إنه "حسن"، مؤكد أنه هو.

تترك الغرفة، وتغلق الباب خلفها تاركة "حياة" مع باقة البنفسج التي علق بها بطاقة، كتب بها "سأرى الليلة أجمل نجمة في سماء حياتي".

تقبل "حياة" البطاقة بشفتيها قائلة:

-كم هو بعيد هذا المساء!!...

***********

تهدأ "ليلى" على كتف "خالد" رافعة رأسها ناظرة إليه، يبادلها نظرتها الحائرة الدامعة بنظرة حب وأمل قائلا:

- أشعر بك، وأعلم أن ما تشعرين به من أصعب ما يكون، فقدان الأب يعني كسرة ظهر فقد عشت إحساس اليتم وأنا في السادسة من عمرى حتى الآن، ما زال إحساس الغصة الذي عشته منذ ما يقرب من عشرين عامًا، عالقًا بحلقي رغم أنني رجل، لكن هذا الإحساس بالذات، لا فرق فيه بين رجل وامرأة.

أريدك أن تكون قوية يا "ليلى"، ولا أريد أن يراك أبوك بهذا الانهيار وتلك الحالة.

هو الآن بحاجة كي يرى ابتسامتك التي تخفف عنه كل شيء، المهم ألا يعلم شيئًا مما قاله الطبيب عن حالته, وصدقيني سيكون كل شيء على ما يرام، فقط ثقي خيرًا بالله.

-لا أعلم يا "خالد"، إن لم تكن معي كيف ستكون الحياة؟ شكرا لأنك هنا ومعي.

يضحك"خالد"، ممسكًا بكف "ليلى" قائلا:

- أنا من يجب أن يشكر وجودك معي يا "ليلى"؛ فقد أعطيتِ حياتي مذاقًا كقطعة السكر.

الآن هيا امسحي تلك العينين الجميلتين لندخل إلى أبيك.

تمسح "ليلى" عينيها ببراءة متناهية.

تهب واقفة قائلة:

- هيا يا "خالد".

يسيران حتى باب الغرفة، يقف "خالد" قائلا: سأنتظرك هنا، فوالدك يحتاجك فقط.

تومئ له برأسها، تفتح باب الغرفة تدخل بهدوء.

 ترى أباها نائما فوق سرير أبيض وبصدره أسلاك كثيرة موصولة بجهاز رسم القلب الموضوع بجانبه، وعلى فمه جهاز تنفس.

وقفت "ليلى" بجوار أبيها تحاول أن تستجمع نفسها المذبوحة.

همت أن تنطق بأي كلمات، لكن الكلمات تقف بحنجرتها تأبى الخروج.

إحساس بالضعف والخوف والحزن ملأ كل ذرة بكيانها، شعرت معه أنها صغيرة، وبحاجة لأن تختبئ بأحد، لكن لم يكن أحد هناك.

"خالد" بالخارج، وعليها أن تكون كبيرة الآن.

اقتربت من أبيها، وكان مغمض العينين.

أمسكت بكفه بين يديها تقبله ليشعر بها.

يفتح عينيه، ينظر إليها مبتسما لها ابتسامة ضعيفة، حاول أن ينهض.

وما أن رأت "ليلى" محاولته للنهوض حتى وضعت يديها فوق صدره برفق قائلة:

-لا يا أبي، لا ترهق نفسك، ابق كما أنت.

مالت عليه تضمه، وهو الآخر حاول أن يضمها بيد واحدة إلى صدره، ويده الأخرى معلق بها بعض الأسلاك الواصلة بجهاز القلب.

ظل يمسح على رأسها قائلا:

- لا تبكي حبيبتي، فأنا بخير، أبوك لن يرحل الآن، لن أرحل قبل أن أراك عروسة حلوة بيد رجل يحبك مثلي.

سأترك المشفى اليوم، وأعود معك إلى متجر الزهور حيث عصفور الجنة وزهرة التوليب.

نظر حوله داخل الغرفة فلم يجد " خالدا"، نظر إلى "ليلى" سائلًا إياها:

- أين "خالد"؟

تحاول "ليلى" أن تستجمع صوتها قائلة:

- إنه بالخارج أبي، أتريده؟

-نعم أريده، لكن قبل أن تأتيني به، أريد أن أتحدث إليك قليلا.

تنظر إليه باهتمام قائلة:

- تحدث أبي، أنا معك.

-أخبريني شيئا يا "ليلى"، وأنا أعلم أنك لن تكذبي عليّ.

هل تحبين "خالدا"؟

تصمت "ليلى" ناظرة إلى الأرض.

يسعل أبوها بشدة، تمسك "ليلى" بيد أبيها قائلة بذعر:

- أبي لا تتحدث، استرحْ من فضلك.

يتهدج صوته أكثر وهو يحاول أن يتكلم.

تتركه "ليلى"، وتخرج مسرعة تبحث عن الطبيب، تصطدم "بخالد" الذي كان يقف أمام الغرفة ينتظرها.

يمسك بها قائلا:

- ماذا حدث يا "ليلى" ؟، هل أبوك بخير؟

-إنه لا يستطيع الكلام أو التنفس، أين الطبيب؟

أجلسها "خالد" قائلا:

- اهدئي وانتظري هنا، سأذهب وأحضر الطبيب.

 تجلس "ليلى" وهي ترتعش, مضى "خالد" يبحث عن الطبيب ذاته الذي قابلهما منذ قليل، حتى وجده بإحدى الغرف يتابع إحدى الحالات بالمشفى.

وما إن رآه الطبيب حتى قرأ القلق البادي على وجهه، وذهب إليه مسرعا قائلا:

- ماذا حدث؟

- الحالة التي رأيتها منذ قليل.

-حالة "إبراهيم الألفي"؟

-نعم، إنه متعب للغاية، من فضلك هلا أتيت معي لترى ماذا حدث؟

-حسنا تفضل معي.

-من فضلك أيها الطبيب، بعيد عن ابنته أريد أن أعرف منك مدى خطورة حالته.

-لا أخفي عليك، عضلة القلب تكافح كي تظل تنبض، إنه يعاني ضعفا كبيرا بعضلة القلب.

-ألا يوجد أمل للشفاء؟

-الأمل "بالله" لا حدود له، لكن طبيا ضعف عضلة القلب بهذا الحد لا أمل فيه.

-من فضلك لا أريد أن تعلم ابنته شيئا.

-مؤكد لن أقول لها شيئا.

يصل الطبيب إلى غرفة "إبراهيم" .

ينظر "خالد" إلى مكان "ليلى"، لا يجدها, يظل يبحث عنها بعينيه كالمجنون في أرجاء المكان فلا يجدها، يدلف هو والطبيب داخل الغرفة، ليجدا "ليلى" تجلس بجوار أبيها، تمسح حبات العرق التي كست جبينه.

يقترب "خالد" منها، يربت كتفها بحنان، وما إن شعرت بوجوده هو والطبيب حتى تعلقت عيناها بالطبيب، الذي اقترب من جهاز القلب، يقرأ تلك التعرجات ويبتسم قائلا:- من الواضح أن لك تأثيرا قويا على أبيك، فقد انتظمت دقات القلب بشكل كبير.

إن شاء الله سيكون بخير، طالما من يحبهم بجواره، فالحب شفاء من نوع خاص.

فقط لا داعي للتوتر والانفعال.

يبتسم "لليلى" كمن أراد أن يبث بداخلها الأمل تاركا الغرفة مغلقا الباب خلفه.

………………………………………....

"الفصل السادس عشر"

"حفل ولقاء"

وقف "حسن" أمام المرآة يصفف شعره.

وقد ارتدى حلة سموكن سوداء وقميصا أبيض يرتدي فوقه "بيبيون" أسود

ظهر بعينيه بريق زادهما جمالا، وكأنه بريق حب وفرح.

يشرد في مرآته وبداخله شيء يتساءل:

- ماذا ستفعل تلك المرة عندما تراها؟

-هل ستأخذها بين ذراعيك تخفيها عمن حولها؟

وتخبرهم أنها خاصتك.

هل ستراها من بعيد وتتركها لنجاحها وأحبائها؟

يعود من شروده على صوت سيارة "أحمد"، يضع بعضًا من زخات عطره المفضل، ممسكًا بساعة معصمه يرتديها وهو يهم بمغادرة شقته. يغلق خلفه الباب، وينزل الدرج مسرعًا إلى صديقه الذي ينتظره بالخارج.

يصل دكتور "إيهاب" إلى مكان الحفل باكر باكرا؛ فقد أعد ل"حياة" مفاجأة ويريد أن يخبرها بها.

سأل عن طريق غرفتها الخاصة أحد العاملين بالمكان.

فأخبره أنها في نهاية الممر.

يتوقف قليلا أمام بابها كمن يرتب بداخله شيئا قرر أن يقوله.

وبعد مرور بضع دقائق دق الباب دقات صغيرة.

يأتيه صوت "حياة" من الداخل، حيث كانت كانت تستعد لارتداء فستانها استعدادًا للصعود على المسرح.

يدلف دكتور"إيهاب" بعد أن سمحت له "حياة" بالدخول، وما إن رأته حتى ابتسمت مداعبة إياه قائلة:

- تلك هي المرة الأولى التي أراك مرتديًا بها حلة كاملة، لكن أخبرني: ما كل هذه الأناقة؟

 -أنت تبالغين "حياة".

صدقني لا أبالغ، أنا فقط أقول ما أراه.

-أخبريني، هل أنت مستعدة للحفل؟

- لا أخفي عليك، أنا خائفة.

-الخوف أول طريق النجاح، المسرح والباليه ليس بجديد عليك، فأنت أشهر راقصة باليه في مصر.

والدنيا بأكملها تشاهدك اليوم.

لا تخافي أنا واثق بك، وواثق أنه سيكون حفل رائع حفلا رائعا إن شاء الله وبعد أن تنتهي من الحفل وتعودي للبيت فستجدين مفاجأة حلوة بانتظارك.

  • مفاجأة؟ أي مفاجأة؟, أخبرني بربك الآن.

- لن أخبرك بشيء، عندما تعودين للبيت، ستعرفين ما هي المفاجأة، الآن أريد أن أخبرك بشيء هام، طالما خشيت أن أحدثك به، وطالما حاولت كثيرا أن أنساه، لكنني للأسف فشلت.

نحن أصدقاء منذ زمن طويل "حياة".

مع الوقت تحول إحساس الصداقة بداخلي إلى إحساس آخر مختلف.

دق قلب "حياة" بعنف، حاولت جاهدة ألا يظهر اضطرابها، فقد شعرت بما سيقوله "إيهاب" الذي أكمل حديثه قائلا:

- ظل هذا الإحساس حبيس أضلعي طيلة السنوات الماضية، لأنني أعلم ما تعانين مع والدتك، وكيف تتحملين مسؤولية "ليلى".

لكن الآن بعد أن شفيت والدتك وكبرت "ليلى" لم يعد أمامى سبب يجعلني أصمت أكثر من هذا.

وبدون مقدمات كثيرة.

 "حياة" هل تقبلين الزواج مني؟

تنتفض "حياة" واقفة تحاول أن تقول شيئا لترى صورة "حسن" أمامها، تحتضنها مغمضة عليها جفنيها، متمنية لو كان هنا لتختبئ به.

مرت دقائق و"حياة" تفرك أصابعها، و"إيهاب" ينتظر منها ردًّا على عرضه.

ليأتيه صوتها قائلة:

- "إيهاب".. أنت صديق عزيز على قلبي، تربطني به صداقة وعشرة سنين طوال.

كنت دوما معي، وبجانبي تساعدني في أصعب لحظات حياتي، أشرفت على علاج أمي، وتحملتها معي حتى عبرت بها برالأمان، وشفيت على يديك من حالة "الانفصام" التي كانت تعانيها، حفظت سري، ولم يعلم أحد شيئا عن مرض أمي.

دوما تشد من أزري إذا ما هممت بالسقوط.

أحمل لك كل جميل.

يقاطعها "إيهاب" قائلا:

- "حياة".. لا داعي لكل هذا الكلام، لأنك حقا تستحقين أكثر من هذا.

صدقيني.. مهما كان ردك هذا لن يؤثر على صداقتنا.

أخبريني رأيك بكل صدق، ولا تخشَيْ شيئا.

ستظلين دوما بداخلي أجمل من عرفت.

تتنهد "حياة" بقوة محاولة أن تستجمع ما تبقى لديها من شجاعة قائلة:

- سامحني لا أستطيع الارتباط بك، آسفة لك.

ترتسم ابتسامة باهتة فوق شفاه "إيهاب" الذي حاول، أن يبدو طبيعيا قائلا:

- لا عليك عزيزتي، وليس هناك داعٍ لأن تعتذري، ستظلين ما حييت بداخلي أجمل شيء حدث لي، سأبقى بجانبك طيلة حياتى.

لكن أخبري صديقك، هل هناك من يشغل قلبك؟

يدق باب الغرفة، وتدخل مدام "فيولا" تقبل قائلة:- لا تتخيلي "حياة" عدد الجمهور، المسرح بأكمله لا يوجد به مقعد شاعر.

تنتبه "فيولا" فجأة لوجود "إيهاب"، تنظر إليه بشيء من خجل قائلة:- لم أكن أعرف أن لديك ضيوفا "حياة".

-هذا ليس ضيفا "فيولا"، إنه صديقى الوحيد دكتور"إيهاب" مدير مصحة " السلام النفسية"، وهذه مدام "فيولا" مديرة المعهد المصرى للباليه.

يمد "إيهاب" يده يصافح مدام "فيولا" التي مدت يدها هي الأخرى تصافحه قائلة:

-كم سررت بلقاء دكتور "إيهاب".

-وأنا أيضا سيدتي سررت بلقائك كثيرا.

أترككما كي تستعد "حياة" لحفلها، دعواتي لك بنجاح باهر الليلة صديقتى الجميلة.

يترك "إيهاب" المكان مغادرًا.

تجلس "حياة" على أقرب مقعد تتنفس بصعوبة، وما أن شعرت بها مدام "فيولا" ابتسمت بخبث قائلة:

- أستنشق رائحة حب يخرج من عيني هذا الرجل.

تنظر إليها "حياة" رافعة حاجب عينيها الأيسر قائلة:

- أخبريني.. كيف تكتشفين المحبين بهذه السهولة؟

تضحك "فيولا" بشدة حتى ظهرت نواجزها قائلة:- انظري إلى هذا الشعر الأبيض، لقد مر به وعليه الكثير من قصص الحب، وحب الماضى ليس كحب هذا الزمن، لقد كان حبًّا له مذاق ورائحة أستنشقها عن بعد. الحب عزيزتي يشي بنفسه، نراه بالعين يظهر بملامح الوجه فيزيدها بهاء، الحب كالبرق يخطف الأبصار، وهذا الرجل يحبك كثيرا.

تنهض "حياة" مقتربة من "فيولا" التي شعرت بها وبأنها تحتاج لمن يضمها.

أخذتها دون كلام بحضنها، تشبثت "حياة" بها وكأنها تبحث عن طوق نجاة ينتشلها من كثرة المشاعر التي تحيطها.

تبادرها "فيولا" قائلة:- أشعر بك وبكل ما يختلج بصدرك، أعلم أن مشاعرك المربوطة "بحسن" تؤرقك، فأنت تحبين شخصًا، لا تعرفين عنه شيئا سوى اسمه، وهذا الذي تعرفينه حق المعرفة ومر على صداقتكما الكثير ويحبك تقفين عاجزة لا تستطيعين أن تبادليه مشاعره، تلك هي لعبة الحب، دوما نحب من ليسوا لنا، ونترك من يذوبون بنا.

إنه قدر لا نملك أن نحيد عنه، فهو مقدر علينا ونحن أجنة في بطون أمهاتنا. تخرج "حياة" من بين ذراعي "فيولا" قائلة:- لكنني لا أحب "حسنًا" أو غيره.

نظرت "فيولا" بداخل عينيها قائلة:- إن كنت حقا لا تحبينه، أخبرينى إذن ما سر هذه اللمعة التي أراها بعينيك عندما يذكر اسمه، لماذا أرى طيف ابتسامة يذوب بين ملامحك إذا ما تحدثنا عنه؟

"حياة" يجب أن تعلمي شيئا، من يستطع أن يخطفك من كل شيء حتى نفسك، من يستطيع أن يحفر اسمه فوق جدار قلبك ولو من مرة واحدة رأيته بها، من يجعل باقات زهرة ورسائله تهدهدك، فاعلمى أنه ترك بداخلك شيئا، فلا تكابري كي لا يضيع منك إحساس جميل قلما نصادفه.

والآن هيا عليك أن تستعدى، أمامنا ساعة على بدء الحفل.

انسيْ كل شيء الآن، إلا شيئا واحدا أنك عروس الليلة، عليك أن تبهرى الدنيا بأكملها، كما تعودنا منك عندما تلامس أنامل قدميك المسرح.

سأتركك الآن وللحديث بقية.

تترك "فيولا""حياة" وهي تحاول أن تلملم شتات روحها، تغمض عينيها قائلة:- يا "ألله" كن معى كما عودتني دوما.

*********

يستند "إبراهيم" على يد "خالد" و" ليلى" وهو يغادر المشفى الذي أصر على مغادرته في نفس اليوم بعد إعطاء الطبيب له قائمة كبيرة من الممنوعات وما يجب أن يفعله، وكيف يتناول طعامه ودواءه.

وصل به "خالد" إلى متجره الصغير، دلفت "ليلى" إلى الداخل وهي تمسك بيد أبيها تجلسه قائلة له:

- أبي هل تشعر بتحسن الآن؟

-أحمد الله حبيبتى.

-لا أعرف لم تعجلت ترك المشفى؟

-لا أشعر بالراحة إلا ببيتى، هنا بين أزهارى أصير أفضل.

-إذن سأبقى معك، لا أستطيع تركك هكذا.

-لا يا "ليلى"، الليلة حفل "حياة"، وهو أول حفل لها بعد أكثر من عشرة أعوام، لا تتركيها بمفردها، هي تحتاجك اليوم.

-كيف عرفت أبي أن حفل "حياة" الليلة؟

يضع "إبراهيم" يده فوق قلبه المتعب قائلا:

-كيف لا أعرف عمن سكنوا قلبي كل شيء، أنت وأختك كل من لي بهذه الحياة، أنا أعلم كل شيء عن "حياة"، لا تعتقدي أنها بعيدة عني لأنها لا تراني. هناك من لا نراهم وهم مقيمون بقلوبنا لا يبرحونها.

تتبادل "ليلى" و"خالد" نظرات التعجب بصمت ليقرأ "إبراهيم" ما بداخلهما.

فابتسم قائلا:- غدا عندما تنجبون أطفالًا ستعلمون أن أبناءنا مهما قسوا علينا، يظلون هم دماءنا التي تجرى بعروقنا، "حياة" أرق ما يكون إنها ابنتي، أعرفها حق المعرفة، وقسوة الطيب قسوة وقت ليس إلا، غدا ستعرف كل شيء.

تندفع إليه "ليلى" جالسة أمامه على ركبتيها قائلة:

-أرجوك أبي، أنا ابنتك، أخبرني تلك الحقيقة التي فرقت بيننا كل هذه السنوات، أخبرني ما هو السبب وراء كل هذا العذاب الذي نتقاسمه بصمت؟

يمسح "ابراهيم" شعر "ليلى" قائلا:-

- لا تتعجلي الأمور، كل شيء ستعرفونه بموعده، تعلمي الصبر يا "ليلى".

الآن اتركينا من كل هذا، أريد أن أتحدث قليلا مع "خالد"، لأننى متعب أريد أن أستريح.

اقتربْ منى يا "خالد".

يقترب "خالد" يجلس بجوار "ليلى".

ينظر إليه "إبراهيم"قائلا:

- استمع إليَّ بني جيدا. قرأت بعينيك منذ دخولك هنا أنك شاب مهذب وشريف في كل شيء.

حتى مشاعرك شريف فيها، كما قرأت حبًّا يولد بداخلك "لليلى"، وأشعر أنها هي الأخرى تحبك.

حتى لو كان هذا الحب ما يزال يتعثر في خطواته إلا أننى واثق من أنه سيكبر مع الأيام.

كل ما أريده منكما أن تحافظا على هذا الحب، تمسكا به وكأنه آخر طوق نجاة أمامكم،

مهما صادفكم من صعوبات، لا تتركوها تهزمكم، اهزموها أنتما بالصبر.

الحب يجعلنا دومًا بخير من أجل من نحب.

والآن عليكما الرحيل لتلحقا بالحفل

تميل "ليلى" عليه تقبل رأسه دون كلمات، يصافحه "خالد" هو الآخر محتضنا إياه، مضى هو و"ليلى" في طريقهما، وما أن تصل إلى باب المتجر تتوقف ناظرة مرة أخرى إلى أبيها كمن تريد أن تحفظ ملامحه أكثر.

ينظر إليها أبوها بابتسامة قائلا:-

-"ليلي" أخبري "حياة" أننى أحبها كثيرا، وأشتاق إلى رؤيتها.

قفزت الدموع فجأة بعيني "ليلى" التي أسرعت بمغادرة المكان.

وما أن وصلت إلى السيارة القابعة أمام المرسى ألقت بنفسها داخل حضن "خالد" تبكي.

وصل "حسن" و"أحمد" إلى مكان الحفل في تمام العاشرة. جلسا بأول صف أمام المسرح، كانت دقات قلب "حسن" عالية، كأن هناك حبلا سريًّا يربط بينه وبين"حياة" التي وقفت خلف الستار وقلبها يدق خوفا وشوقا في وقت واحد.

خوف من مقابلة الجمهور بعد غياب عشر سنوات، وشوق لرؤية "حسن" الذي أخبرها في رسالته أنه سيكون حاضرا الحفل.

وقفت مرتدية فستانًا أحمر قصيرًا مرفوعًا فوق ركبتيها، وحذاء من لون الفستان نفسه، صنع من الستان، يلتف حول ساقها بشريط طويل يستقر أسفل ركبتها.

ولملمت شعرها للخلف واضعة على رأسها طوقًا من الورود الحمراء الصغيرة.

كانت شهية جميلة كوردة تتفتح.

أغمضت عينيها، وظلت تردد المعوذتين.

تحضر"يسر" مسرعة إليها وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة قائلة:- آسفة "حياة" تأخرت عليك.

كان بالشركة عمل كثيرا اليوم.

فتحت "حياة" عينيها، تنظر إلى صديقتها قائلة:-

- خائفة كثيرا "يسر".

-لا تخافي، المسرح ليس بجديد عليك، فقط ثقي "بالله" وبنفسك، نحن جميعا بجانبك لا تخافي.

- هل حضرت "ليلى" و"خالد" من الإسكندرية؟

-نعم حضرا، ويجلسان بأول صف، سأتركك الآن سيرفع الستار.

يسود صمت تام، يضاء المسرح بأضواء تلقي نورها عليه كبقع كبيرة من نور، يرفع الستارعن مجموعة من الفتيات، يرتدين فساتين ستان بيضاء، واضعات فوق رؤوسهن طوقًا من الورود البيضاء يخيل لمن يراهنَّ أنهن ملائكة غادرت السماء وهبطت فوق المسرح، التصقْن جميعا ببعضهم مخفيات خلفهن "حياة".

يبدأ العزف، ومع كل نغمة تصدح يفترق اثنان اثنان من هؤلاء الفتيات، ممسكيتن بيد بعضهما البعض.

تظهر"حياة" في فستانها الأحمر كلون التوليب الذي تعشقه، واضعة حول عنقها القلب الكريستال يشع وميضًا أزرق جميلا.

 رافعة يديها متشابكتين إلى أعلى، تسير على أطراف أصابعها، تتنقل بخفة متناهية على المسرح، تصعد وتهبط، تهدأ وتنفعل، تسكن وتتحرك مع كل نغمة تسمعها.

لا تكاد أناملها تلمس الأرض، حتى تعاود الطيران.

كانت ترقص كحالة وجدانية، تحاول أن تنقل إحساسها عن طريق حركة أناملها وجسدها.

انفصلت تماما عن الأرض التي ترقص عليها شعرت كأن روحها محلقة في عالم لا يوجد به شيء سوى ملائكة وأرواح.

كانت ترقص وتتنقل بعينيها بين الحضور تبحث عن اثنين. عن "ليلى" التي رأتها تجلس بأول صف وقد امتلأت عيناها بدموع الفرح، فقد رأت أخيرا "حياة" تقف مرة ثانية على المسرح.

رأت "حسنًا" يجلس قريبا من "ليلى"، لا يفصل بينهما سوى "خالد" و"يسر".

التقت عيناها لحظة بعين "حسن" التي كانت تشع أملا وفرحا وشوقا.

شعرت باهتزاز روحها حينما تلاقت أعينهما.

أغمضتها سريعا عليه، وظلت تدور على أطراف قدميها هامسة:- إنه حقا هو، إنه من رقص معى يوم ميلادى، إنه من ترك عطره بين خصلات شعرى وفوق أناملي.

الآن تأكدت أنه هو صاحب باقات التوليب والبنفسج، فجأة تنير ملامحها ضحكة حلوة صافية.

علم منها "حسن" الذي لم يرمش له جفن منذ بدأت "حياة" بالرقص أن تلك الضحكة له.

تود أن تخبره بها أنها عرفته.

 تتوقف الموسيقى، وتتوقف الراقصات معلنات انتهاء الحفل.

تتقدم الفتيات في حركة رشيقة سيرا على أطراف أناملهن، إلى مقدمة المسرح، يحيين الجمهور الذي حياهن بحفاوة.

ومن بعدهن وقفت الفرقة الموسيقية التي كانت تشغل مكانًا آخر بجوار المسرح، أعد لها كى تجلس به، تحيي الجمهور الذي حياها بحفاوة بالغة.

خرجت "حياة" بعدهم من أحد جنبات المسرح ليشتعل المسرح بالتصفيق الحاد لها، انحنت لهم "حياة" تحييهم واضعة يديها فوق صدرها. امتلأت عيناها بدموع الفرح لما رأته من نجاح ومن حب الناس.

وقف "حسن" و"ليلى" و"إيهاب" و"مدام فيولا" و"يسر" و"خالد" و"أحمد" فى أماكنهم يصفقون بشدة، وكأنهم كل الحضور.

لم ترَ "حياة" غيرهم أمامها.

تختفي كل الصور وكل الأسماء والوجوه من أمامنا عندما نرى وجه من نحب.

يختزل العالم أجمع بجميع اتجاهاته في حضرة من نحب.

ذابت "حياة" فيهم جميعا، فلكل شخص منهم جزء بقلبها.

تغلق الستائر، وتغادر "حياة" المسرح مسرعة إلى غرفتها.

كانت تحتاج إلى أن تختفي عن أعين الجميع

تحيا تلك المشاعر المختلطة بمفردها.

وما أن وصلت لغرفتها وجدت الجميع بانتظارها.

توقفت أمامهم لا تجد كلمات تنطقها.

وإن كانت عيناها قالت كل شيء، تقدمت منها "ليلى" تحتضنها وتهنئها.

ومن خلفها "يسر" و"خالد" ومدام "فيولا" و"أحمد" و"إيهاب".

ظلت تنظر خلفهم، تبحث عن "حسن" الذي اختفى تماما.

ولسان حالها يقول:- أين ذهبت مرة أخرى؟

الجميع هنا إلا أنت، هل تركتني ومضيت؟

وإن كنت ستفعل هذا، لماذا أتيت؟

نظرت إلى "أحمد" تسأله بعينيها، أين صديقك الذي تورطت به؟

فهم "أحمد" نظرتها لكنه لم يجب عليه.

حاولت "حياة" جاهدة أن تبدو طبيعية، فضحكت قائلة:- هل سينتهي اليوم ونحن هكذا؟

 أليس بينكم من هو كريم يدعونى إلى فنجان قهوة

ضحكوا جميعا في آن واحد قائلين:- نحن جميعا كرماء "حياة"

-إذن انتظرونى بالكافيتريا، حتى أنتهي من تبديل ملابسى وأعود إليكم.

يتركها الجمع ويذهبون إلى كافيتريا المسرح.

تجلس "ليلى" بجوار "خالد" شاردة تمامًا وقد ظهر على ملامحها الحزن، بينما تجاذبت "يسر" هي و"خالد" أطراف الحديث عن رحلة الإسكندرية وما حدث بها.

تضع "يسر" كفها فوق كف "ليلى" قائلة:-

-"ليلى" لقد علمت كل شىء، "خالد" أخبرني بما حدث

لا تخافي حبيبتى، أبوك سيكون على ما يرام إن شاء الله، لكن عليك أن تخبري "حياة" بالأمر.

تنظر "ليلى" إلى "يسر" بحزن قائلة:-

- وإن أخبرتها ماذا ستفعل؟ هل ستذهب لأبيها كى تراه ولو لمرة واحدة؟

-عليك فقط أن تخبريها، وتتركي لها حرية التصرف.

تدلف "حياة" إلى غرفة تبديل الملابس، تغلق الباب خلفها مستندة إليه بجسدها، مغمضة عينيها، وكأن بداخلها وخز أبر لا تعرف مصدره.

تخطو ناحية المرآة بضع خطوات، تنظر إلى وجهها قائلة:

- لماذا لم ينتظرني معهم؟

كيف له أن يختفي كل مرة كقبضة ريح، لا أستطع أن أمسك به؟

لم تكد تنهي كلمتها حتى سمعت دقات صغيرة على باب الغرفة.

زفرت بضيق ماضية ناحية الباب تفتحه.

تجده أمامها وجها لوجه بابتسامته الحلوة وعينيه الجميلتين.

حاولت أن تنطق، أن تقول أى شىء، ذابت كل الكلمات، وهربت منها الحروف.

شعرت أن الأرض توقفت فجأة عن الدوران، عقارب الساعة سقطت، أرادت أن تعرف كم الساعة، وما هو التاريخ كى تدونه.

لكنها فقدت القدرة على فعل أى شىء.

كل ما فعلته أن ضحكت وبكت في آن واحد

عزفت سيمفونية حب وشوق بدموع وضحكات.

حاولت أن تمد أناملها، تلمس ملامحه، لكنها تجمدت لم تستطع أن تفعل شيئا.

دخل "حسن" إلى الغرفة، وأغلق الباب خلفه, لم ينطق بشيء هو الآخر, حاول أن يضمها إليه فقد كان شوقه أكبر من كل شيء, للحظة تمنت أن يضمها وتتنفس رائحته, تمنت أن تضع رأسها فوق كتفيه وتنسى كل شيء.

لم يكن بينهما سوى خطوة واحدة.

أغمضت عينيها كمن يريد أن يسقط كبرياءه أرضًا لتبوح باحتياجها إليه.

مد أنامله يمسح على شعرها هدأت كطفلة صغيرة ضمها أبوها إلى صدره.

أبوها؟، تذكرته فجأة، قفز وجهه أمامها كأن هناك شيئا، يريد أن يخبرها أنه يحتاجها.

فجأة تنكر كل شيء بها لما كانت تحياه منذ لحظات

تذكرت في لحظة ما كابدته، عمر كامل من صراعات وحرمان.

ابتعدت عن "حسن"، تركت حضنه الذي كانت تذوب به منذ لحظة، أعطته ظهرها في محاولة منها لأن تجمع شتات نفسها، كانت تحترق وهي تجاهد أتخفي ضعفا وحبا تملّكاها؟

ظلت تدعو الله في أعماقها قائلة:- يا ألله أعطني القوة لأنهي ما أنا فيه الآن

شعر "حسن" بأن هناك شيئا ما تخفيه "حياة"

اقترب منها وهي ما تزال واقفة بعيدة عنه

وضع يديه فوق كتفيها قائلا:- ماذا حدث "حياة"؟ لمَ تركت حضنى هاربة منه؟

لمَ تخفين وجهك عنى الآن؟

أتخافين؟

 "حياة" أنا "حسن"، ألا تتذكرين؟

-أغمضت "حياة" عينيها كى لا يرى "حسن" فيضانها محاولة أن تبدو طبيعية لا شيء يؤلمها قائلة:- من فضلك، كف عن هذا العبث.

- عبث؟ عن أى عبث تتحدثين؟

- أتحدث عن تلك الألعاب الصبيانية، هل تعتقد أن تصرفاتك تلك تجعلنى أحبك

-وهل أنت لا تحبينني حقا؟

- أحبك؟ أتظن أن مثلي تحب بتلك البساطة؟

-وهل تعتقدين أن بحارًا مثلى لا يعرف نظرة الحب التي رأيتها بعينيك الآن؟، أتعتقدين أن رجلا مثلى ليس بمقدوره أن يشعر بك وأنت بين يديه؟

-مجرد إحساس كاذب، فعليك أن تستيقظ منه.

-أظن.. استديري وانظري في عيني إن كنت صادقة.

 تشعر "حياة" بأنها ستسقط من شدة ضعفها أمامه واحتياجها له، تصمت قليلا، تتنفس بعمق وتستدير إليه.

ينظر إليها "حسن" محدقًا بملامحها قائلا:- هيا انظرى في عينى دعيني أرى كذبك.

تظل "حياة" ناظرة إلى الأرض تخشى النظر في عينى "حسن" خشية أن يرى داخلها وما تخفيه أعماقها.

-أرأيت؟ كاذبة، كاذبة لكننى أحبك

أحبك رغم أننى لا ألتقيك ولا أحادثك، لكننى أحدث كل شيء حولى عنك، أخبر فنجان قهوتي كل صباح أنك سكره، أخبر زهر البنفسج أنك أرق منه، أخبر كتبي القديمة أنك رواية عمرى التي لم تكتب بعد.

لقد أخبرت البحر عنك، أراك في زرقة أمواجه.

حتى طيور النورس البيضاء تعرفك.

تبكى "حياة" بشدة وكأن دموعها فيضان كانت قد حبسته وراء أهداب عينيها، حتى فاض وانهمر دون إرادة منها

فزع "حسن" عندما رأى دموعها تجرى فوق ملامحها، حاول الاقتراب منها يمسح عن وجهها تلك الدموع.

لكنها أبعدته عنها قائلة:

- من فضلك اترك المكان وامضِ، ولا تجعلنى أراك مرة أخرى، من فضلك ابتعد عني تمامًا، أنا لا أحب.

-سأتركك "حياة" وأمضي، لكن مهما حدث لن أنتزع حبك من بين أضلعي، وسأظل أنتظرك مهما طال الأمد لن أفقد الأمل.

أتدرين لماذا؟

رفعت عينيها للمرة الأولي منذ أن تركت حضنه

تنظر إليه بعينين امتلأتا دموعًا وحبًّا ورجاء.

تقف الكلمات تأبى أن تغادر شفتيه

ظل ناظرًا إليها وعلى قسمات وجهه حب وحنان الدنيا، تمنى أن لو أخذها بين يديه يخفيها عما يؤلمها.

تمنى لو تنطق وتبوح له بما تخفيه.

مرت دقائق، وكلا منهما ينظر للآخر،

 نظرات تنطق بما عجز عنه اللسان.

 قائلة دون كلام: - أرجوك لا تمضِ وابق هنا معى مهما فعلت

- لك عمري بأكمله، أدنني منك ولا تخفْ.

يترك "حسن" الغرفة مغادرًا، وما أن وصل إلى الباب يفتحه. استدار ناظرًا إلى "حياة" التي تعلقت عيناها به وهو يغادر قائلا:

- أعلم أنك تحبينني، ولن أتركك.

"الفصل السابع عشر"

"مفاجأة"

تقاسم الجميع منضدة واحدة، جلسوا يتجاذبون سويا أطراف الحديث عن الحفل ونجاح "حياة"

وعن قدر التبرعات التي تم تجميعها لحساب الأطفال مرضى القلب.

تشعر فجأة مدام "فيولا" بتأخر "حياة" عن الحضور إليهم.

فتتركهم بهدوء ذاهبة حيث هى لترى ماذا حدث

تنظر "يسر" إلى "ليلى" قائلة:- علينا أن نخبر "حياة" الليلة بأحداث الإسكندرية.

تنظر " ليلى" إلى "خالد" وكأنها تستمد الإجابة منه على اقتراح "يسر".

يقول "خالد":- "يسر"، أنت صديقة "حياة" منذ سنوات كثيرة، وأنت الوحيدة التي من المفترض أنها تعلم ما السر وراء تلك القطيعة بين "حياة" و" أبيها".

تنظر"يسر" إلى "ليلى" التي أخذت تنظر إليها هي الأخرى" كمن تستجدى منها إجابة على سؤال ظلت تبحث طيلة عمرها عن إجابة له.

رشفت "يسر" رشفة من كوب العصير الموضوع أمامها قائلة:- صدقنى يا "خالد"، رغم عمر صداقتى "بحياة"، إلا أنها لم تحدثنى في هذا الأمر نهائيا.

وأنا لم أحاول أن أنبش بشىء لا تريد التحدث به.

اتركنا الآن من هذا الأمر، ودعنا نفكر في طريقة نخبر بها "حياة" عن حالة أبيها الصحية.

تصطدم مدام "فيولا" "بحسن" وهي في طريقها إلى غرفة "حياة".

ينظر إليها "حسن" متجهم الوجه وقد احمرت عيناه

قائلا:- عذرا سيدتى، لم أنتبه إليك.

تركها ماضيا في طريقه، وقد توقفت مدام "فيولا" تتابعه بعينيه وهو يغيب عنها، وقد شعرت أن هناك خطبًا ما

تسلل إليها إحساس يقول لها:- إن هذا الرجل هو "حسن" نفسه الذي تحدثت عنه "حياة" من قبل.

هو صاحب القلادة الكريستال وباقات التوليب التي انبهرت بها حينما رأت جمالها الرقيق.

تابعت سيرها حيث توجد "حياة"، دفعت الباب ودلفت إلى الداخل.

ترى "حياة" جالسة وقد أخفت وجهها بين كفيها وانتابتها نوبة بكاء شديدة، فزعت لها مدام "فيولا" تسرع إليها ممسكة بيديها، قائلة بقلق:- "حياة" ماذا حدث؟ لماذا تبكين هكذا؟

رفعت "حياة" إليها وجهها، مشيرة بأصبعها ناحية الباب المغلق محاولة أن تستجمع صوتها الهارب منها قائلة:- لقد غادرنى للتو حب لم أشعر به طيلة حياتى، مزقت روحى بيدي هاتين على أعتابه

 دون حتى أن أبوح له بحبى.

تتجه مدام "فيولا" إلى الباب تفتحه ناظرة خارجه حيث كان يقف "حسن" منذ دقائق يعتذر لها.

قائلة:- تقصدين هذا الرجل الذي غادر منذ قليل؟

هل هذا "حسن"؟

تبتسم "حياة" ابتسامة ممزوجة بدموعها عندما سمعت اسم "حسن" قائلة:- نعم هو "حسن".

-وماذا حدث بينكما؟ ماذا فعلت "حياة"؟

بصوت ممزوج بالسخرية تقول:- لا شىء "فيولا" لا شىء، كل ما فعلته أننى مزقت روحى بخنجر

 بسبب ما عانيته من تجربة أبي وأمي.

وتزداد دموعها هطولا قائلة:

- في اللحظة نفسها التي رأيته فيها وأنا أذوب شوقا إليه وحنينًا إلى عينيه ولمسة يديه ذبحت نفسي قبله.

ران على المكان صمت عميق وكأن كل واحدة تحيا إحساس الأخرى.

ساد الصمت.

لم تجد "فيولا" أمامها شيئا تفعله سوى أن تضم "حياة" إلى صدرها قائلة:

- اهدئي، وعليك أن تعلمي أن الحب كلما كان صعبًا فإنه يحيا ويعيش.

كل ما يقابلكما من متاعب وإخفاقات هي في حد ذاتها أساس قوى تبنى عليه العلاقة، وجدران صلبة يستند إليها، ومهما قابله من هزات يبقى كما هو واقفًا يواجه ويحارب من أجل أصحابه.

"حياة"، أعلم أنك تحبين "حسنًا"، رغم أنك لم تريه غير مرة واحدة، لكنه استطاع أن يترك داخلك أثر.

نجح في أن يأسرك، فهناك من نقابلهم لحظات ونحيا معهم وبهم كل شىء، وهناك من نعيش معهم عمرا كاملا ولا نشعر معهم بأي شىء.

ما أعطاه لك "حسن" من شعور بالأمان والدفء والاهتمام، جعلك تحبينه دون أن تشعرى.

لا تحزني حبيبتى، سيعود حتما سيعود

فمن يحب، لا يكون بمقدوره أن يبتعد

رأيت حبك بعينيه، حينما رأيته منذ قليل.

 وقد مدت أناملها تمسك ما علق بأهدابها من دموع قائلة:

- لكن أخبريني، ما الذي جعلك تتصرفين معه هكذا؟

تمد "حياة" يدها، تمسك القلب الكريستال قائلة:-

ما عشته من أحداث بين أبي وأمي، ما تجرعته من حرمان لحنان أبي، وعلاج أمى النفسى.

ما تحملته من أجل الحفاظ "ليلى" وأموالنا.

وأنا أقف بمفردي أمام كل هذا.

أبحث عن سبب وراء ترك أبي لنا ونحن صغار.

وتركه لأمى ملقاة بمصحة نفسية، لا يدري أحد عنها شيئا.

أصبح الخوف يلؤني تجاه أى رجل، أصبحت أخشى أن أتزوج، وأنجب أطفالًا يواجهون نفس مصيرى أنا و"ليلى".

أتدرين ما الخوف "فيولا"؟

الخوف أن تعيشي بمفردك دون أب.

هل أخبرك سرًّا؟ الجميع يعتقد أنني أكره أبي ولا أحتاجه.

صدقينى أنا بأشد الحاجة إليه، بحاجة إلى أن أراه أستنشق رائحته، أغفو بحضنه

لا يخدعك ما أبديه من قوة، في داخلي ضعف وتعب إلى أبعد حد.

ومنذ لحظات صار ضعفى وتعبي أشد.

تحاول "فيولا" أن تتغلب على دموع اختنقت بها قائلة:- لقد أخطأت "حياة"، أخطأت بحق نفسك أكثر من أى شىء.

-لمَ "فيولا" ؟

- لأنك أخذت موقفًا ضد أبيك دون أن تسمعي منه.

لم تعطي نفسك فرصة أن تسأليه وتعطيه حق الدفاع عن نفسه.

فى القانون الإلهى يعطى الله للعبد حق التوبة والرجوع إليه حتى لو أذنب الف مرة

وفي القانون الوضعي هناك قاعدة تقول

"المتهم بريء حتى تثبت إدانته أمام محكمة تتوافر له أمامها سبل الدفاع كافة عن نفسه.

أنت لم تعطي لنفسك فرصةَ أن تعرف ماذا حدث؟

فمن الممكن أن تكون أمك هي الجانى، وأبوك المجنى عليه وتكوني أنت ظالمة ولست مظلومة.

تنظر إليها "حياة"بدهشة قائلة:- ظالمة! بعد كل ما فعلت وتحملت، تقولين ظالمة.

-الظلم لا يتعارض مع ما أعطيته، فما أعطيت وتحملت، لا يشجب ظلمك بمنع والدك من رؤيتك

الآباء مهما فعلوا حبيبتى كلنا ملك لهم، لا نملك حق حسابهم مهما أخطأوا.

أعطي نفسك فرصةَ أن تعرف الحقيقة.

وأعطي لوالدك فرصة الدفاع عن نفسه ورؤيتك.

والآن انهضي امسحي دموعك، ولا تخافي؛ "حسن" سيعود ولن ينساك.

بدلى ملابسك، والحقي بنا، فالجميع ينتظرك بالخارج.

"حياة"، لا أريد أن يرى ضعفك أحد، هل اتفقنا؟

بابتسامة شاحبة تقول"حياة":- اتفقنا

شكرا لك "فيولا" على أنك بجانبي.

ترسل لها "فيولا" ابتسامة، تتركها ذاهبة حيث "ليلى" و"خالد" و"يسر" و"إيهاب".

وما أن رأتها "ليلى" حتى قالت:- أين "حياة"؟

تجذب "فيولا" أحد الكراسي وتجلس قائلة:- حبيبتى "حياة" تبدل ملابس الحفل وستلحق بنا حالا.

تتلفت "فيولا" في وجوه الجمع فلا تجد "أحمد" تصمت دون أن تسأل أين ذهب؟

 وكأنها علمت أنه غادر مع صديقه "حسن".

تأتي "حياة" وقد ارتدت فستانًا أسود قصيرًا يظهر رقبتها، وقد شغل أعلاه بورود حمراء صغيرة واضعة القليل من أحمر الشفاه تاركة شعرها يحتضن وجهها الذي بدا شاحبًا بعض الشىء

تبتسم للجميع قائلة:- أعتذر لكم جميعا عن التأخير

تجلس بجوار "يسر" التي مالت عليها تهمس لها قائلة:- "حياة هل أنت بخير؟

-نعم "يسر" أنا بخير.

تتبادل "حياة" و"إيهاب" النظرات صامتين

وكأنه يخبرها أنه يعلم ما تخفيه.

تهب "حياة" واقفة تقول:- أشكركم جميعا على حضوركم الحفل، أدامكم الله في حياتى خير

 أهل وسند، اسمحوا لي بالانصراف فأنا متعبة بعض الشيء من التدريبات والحفل.

ابقوا كما أنتم، استمتعوا بوقتكم.

تنهض "ليلى" التي أمسكت بيد "حياة" قائلة:-

سأذهب معك "حياة" أنا الأخرى متعبة من السفر.

تنظر ناحية "خالد" و"يسر" قائلة:- شكرا لك "خالد" على ما فعلته لأجلي في سفرى

هيا بنا "يسر".

تنهض "يسر" ، مودعة الباقين ماضية مع "ليلى" و"حياة".

تاركين خلفهم "فيولا" التي جلست تتجاذب أطراف الحديث مع "إيهاب" و"خالد".

- "حسن" انتظر ماذا بك؟ أخبرني ماذا دهاك؟

منذ دقائق كنت طائرًا بين السماء والأرض.

هل حدث شيء بينك وبين "حياة"؟

لم يجب "حسن" على أسئلة "أحمد" الذي جلس بجواره وهو يقود السيارة بسرعة جنونية

جعلت "أحمد" يتيقن أن هناك خطبًا ما جرح كبرياء "حسن"، فهو يعرفه منذ أن كانا أطفالا، يصمت تمام، إذا ما شعر بشيء أهان كبرياءه.

مما جعل "أحمد" يصمت هو الآخر، وإن ظل يرمق "حسنًا"، بنظرات حزن على ما ألمَّ به.

وقف "حسن" بسيارته أمام باب بنايته التي تطل على النيل.

ترجل منها وهو يقول:- "أحمد" خذ السيارة وانصرف، أريد أن أبقى بمفردي، ولا تنطق بأي سؤال، أنا بخير لا تشغل بالك.

وأغلق باب السيارة دون أن ينتظر ردًّا من "أحمد"

لم يجد "أحمد" شيئا يقوله احترامًا لمشاعر صديقه.

قاد سيارة "حسن" مغادرًا المكان وهو يقول:-

-أراك غدا يا صديقى، وأدعو لك الله أن تكون بخير.

ركبت "يسر" بجوار"حياة"، واستقلت "ليلى" الكرسي الخلفي للسيارة بمفردها كمن أرادت أن تبتعد عن الجميع، ظلت "حياة" تراقبها في مرآة السيارة وقد شعرت أن صمتها يخفى خلفه الكثير من الكلام

صمتت "حياة" هي الأخرى تحاول أن تستجمع شجاعتها كى لا تخونها دموعها التي ظلت حبيسة جفونها بعد لقائها "بحسن" الذى ما أن تذكرته شعرت بخنجر يطعن قلبها.

شعرت "يسر" بثقل الوقت فقالت:- لقد كنت رائعة الليلة "حياة"، من رآك الليلة على المسرح

 لا يصدق أنك لم ترقصي باليه منذ عشر سنوات.

تبتسم "حياة" في محاولة منها لأن تبدو طبيعية قائلة:- شكرا لك "يسر"، أنت فقط دوما ما تريننى بعين صديقة تحب

تعاود النظر مرة أخرى إلى "ليلى" قائلة:-

"ليلى" ما رأيك بحفلة الليلة؟

لم تجب "ليلى" وكأنها ما سمعت شيئا لأنها لم تكن مع "حياة" و"يسر"، بل كانت في مكان آخر، حيث أبوها وما مر به اليوم.

تنظر "حياة" إلى "يسر" التي بادلتها النظرة متعجبتين من عدم إجابة "ليلى"، وإن كانت "يسر" قد فهمت ما يدور بعقل "ليلى" التي روت لها ما حدث هي و"خالد".

تنظر خلفها حيث تجلس "ليلى" قائلة:- مؤكد أنها لم تسمعك "حياة"، فاليوم كان مرهقا بالنسبة لها. سفر وحفل.

تعاود "حياة" التحدث مرة أخرى قائلة:- "ليلى" فيم أنت شاردة؟

تنتبه "ليلى" على صوت "حياة" ناظرة إليها قائلة:- هل تتحدثين إلي "حياة"؟

-نعم، أتحدث إليك منذ دقائق، وأنت لا تجيبين، ماذا بك أخبريني؟

-لا شىء، لا شيء

تعاود النظر مرة أخرى عبر نافذة السيارة، تراقب الطريق، وواجهات المحلات في صمت.

يضع "حسن" مفاتيح شقته وسيارته وهاتفه فوق إحدى المناضد الصغيرة الموضوعة بأحد أركان الصالة. وقد مد يده يفتح أزرار قميصه ملقيًا بنفسه على أقرب مقعد، واضعًا وجهه بين كفيه.

كمن يريد ألا يرى شيئا مما يحيط به، وكأنه اكتفى برؤية صورة "حياة" التي أذاقته مرارة

 لم يشعر بها من قبل.

مر بعض الوقت وهو جالس مكانه، حتى سمع صوت جرس الباب، فقام يرى من الطارق في مثل هذه الساعة المتأخرة؟ يفتح الباب، ليجد "أحمد" واقفًا أمامه، يرتدي معطفا ثقيلا أسود، وقد رفع ياقته حتى أذنيه، ممسكًا بكفيه ينفخ فيهما عله يستشعر الدفء في مثل هذا الجو من شهر يناير.

ينظر إليه "حسن" بتعجب شديد قائلا:-

-ما الداعي لأن تخرج من بيتك في مثل هذا الجو القارص؟

يدخل "أحمد" مغلقًا الباب خلفه قائلا:- اشتقت إلى فنجان القهوة معك أمام المدفأة على صوت فيروز

ونحن نتجاذب الأحاديث حول مغامراتك أيها القبطان.

ينظر إليه "حسن" ويبتسم رغما عنه قائلا:- اجلس أمامك المدفأة، أشعل بها الحطب، وبجانبك الجرامافون، استمع لما يحلو لك من أغاني "فيروز"، وأنا سأحضر القهوة.

وما أن خطا خطوتين حتى توقف واستدار ناظرًا إلى "أحمد" الذي جلس يبحث في أسطوانات كثيرة سوداء عن شىء " لفيروز"، قائلا:- أعلم أنك لم تأتِ لتناول فنجان قهوة معى أمام المدفأة كما قلت، اطمئن أنا بخير.

وتركه ودلف إلى المطبخ، يعد لهما القهوة.

تترجل "حياة" من السيارة تتبعها "ليلى" و"يسر" يلحقان بها أمام باب الفيلا الذي وقفت تدقه، وما هي إلا دقائق، حتى فتحت لهن الباب "فاطمة"، التي قابلتهن بوجه متجهم، جعل ثلاثتهن ينظرن إلى بعضهن البعض.

تتركهن واقفات مكانهن، ينظرن إليها باندهاش، وتدلف إلى الداخل، تلحق بها "ليلى" و"يسر" تتبعهن "حياة" التي أغلقت الباب خلفها قائلة:- ماذا دهاكم جميعا الليلة؟ ماذا بك يا دادة أنت الأخرى؟

تتوقف "فاطمة ناظرة إلى "حياة" التي ظلت واقفة مكانها، وقد تعلقت عيناها بأحد الكراسي المتراصة ببهو الفيلا في أناقة متناهية، وقد جلست عليها سيدة في العقد السادس من العمر، لها شعر أسود ناعم وإن قد غزاه بعض الشيب لها عينان خضراوان، وأنف دقيق، شفتاها غليظتان من يرها، يشعر أنها هاربة من لوحة فنية بديعة الصنع.

جلست صامتة مرتدية جيبًا قصيرًا أسود، وقميصًا من الصوف الأحمر، تضع على كتفيها شالا لونه أسود، مطرز بورود حمراء.

ألقت " حياة" بحقيبة يدها التي كانت تمسك بها وجرت نحوها ملقية بنفسها بين يديها، قائلة:-

-أمي، أمي، هل أنت هنا حقا؟

هل ألمسك بيدي، وأشتم ريحك، هل أنت أمامي ومعي تحت سقف بيت واحد، بعيدًا عن المصحة والأدوية والأطباء.

تمد الضيفة الجالسة يديها تتحسس وجه "حياة" وشعرها وقد ضمتها إليها بشدة

تبكى "حياة"، وتبكى الضيفة قائلة:- اشتقت إليك "حياة" رغم أننى كنت أراك، إلا أننى لم أكن أشعر بهذا الإحساس، لأنه كان هناك دوما من يراقبنا، كان بيني وبينك ممرضات وأدوية ودكتور "إيهاب".

تهمس "حياة"، قائلة:-

-"إيهاب"! الآن علمت ما هي المفاجأة التي أخبرني عنها، حمدًا لله على سلامتك يا أمي.

ترفع الضيفة وجهها ناحية باب الفيلا لتلتقى عيناها بعينى "ليلى" التي وقفت تراقب ما يحدث. وبجانبها "يسر" ودادة "فاطمة" التى لم يبدُ على وجهها أى علامات ارتياح أو ترحيب بالضيفة الجديدة.

تنظر "حياة" حيث تنظر أمها لتضحك وهي تمسح دموعها قائلة:- ألا تعرفينها يا أمي؟ إنها "ليلى" أرأيت كيف كبرت وصارت عروسًا حلوة؟

تعود الضيفة بعينيها مرة أخرى إلى "حياة" تسألها بنظراتها بدون صوت:- هل حقا هذه هى "ليلى" ابنة الثماني سنوات، هل هي من تركتها وهي ما تزال بضفائر وفستان قصير؟!

تبتسم لها "حياة" قائلة:- نعم هى "ليلى" مشيرة إليها بيديها أن تأتي.

تتردد "ليلى" لدقائق، تدفعها "يسر" برفق ناحية "حياة" وأمها التي وقفت فاتحة لها ذراعيها

تمضي "ليلى" ناحيتها ببطء وكأنها غير مصدقة كل ما يحدث أمامها حتى توقفت أمام أمها، تأخذها بين ذراعيها تحتضنها وتقبلها بكل ملامح وجهها.

تهدأ "ليلى" فوق صدرها دون كلام تمد أمها يديها تحتضن "حياة"هى الأخرى.

 "حسن"، كما قلت لم آتِ لتناول فنجان قهوة فى منتصف الليل في هذا الجو شديد البرودة بل جئت لأطمئن عليك وأعرف ماذا حدث.

يطفئ "حسن" سيجارته العاشرة ممسكًا بفنجان قهوته يرتشفه قائلا:

- لا شيء هناك، "حياة" تحاول أن تحتفظ لنفسها بالنفس الأخير من المقاومة كى لا تعترف بأنها تحبنى.

وأنا سأتركها تتنفس بعمق قبل أن تعترف أنها تحبنى.

-هل أنت واثق مما تقول؟ أخبرتك منذ البداية أن "حياة الألفي" لا تحب

-وأنا أثق تمام الثقة أنها تحبنى.

- "حسن"، اترك هذا الموضوع برمته، فجميع النساء تتمنى أن تعرفك.

يقف "حسن" متجها ناحية النافذة، يقف بها يستنشق نسمات الفجر المنعشة قائلا:- وأنا لا أريد سوى "حياة"، ولن أتركها ما حييت

تنادى "حياة" "يسر" قائلة:

- تعالي "يسر" هذه صديقة عمرى يا أمي، لا تفارقنى أبدا، هل تتذكرينها؟

تنظر أمها إلى "يسر" التي وقفت بجانب "حياة" تمسك بيديها، وبعد دقيقة من تأملها لها، همست بصوت أول مرة يسمعْنه منذ أن حضرن إلى الفيلا، ورأين الضيفة قائلة:

- نعم تذكرتها، إنها "يسر عبد الرحمن" التي كانت تدرس معك "حياة" بمعهد الباليه.

تقترب منها "يسر"، تحتضنها مرحبة بها قائلة:- نعم أنا هي، حمدا لله على سلامتك.

تنظر "حياة" خلفها إلى دادة "فاطمة" التي لم تنطق بكلمة لتقرأ "حياة" بعينيها ضيقًا وقد ارتسمت على وجهها علامات عدم ارتياح.

تبادل "فاطمة" "حياة" النظرات، وتترك المكان ذاهبة إلى المطبخ.

تتبعها "حياة" ببصرها وبداخلها سؤال يقول:-

ماذا تخفين عني يا دادة؟ …

 "الفصل الثامن عشر"

 "صدام"

ارتدت "حياة" بيجامة من الستان لونها كحلى ململة شعرها للخلف مستلقية بفراشها وهي تمني نفسها بنوم هادئ. فهى الليلة عادت نجمة مصر الأولى.

ووقف الجميع يصفق لها، وها هي أمها تعافت تمامًا من مرض الانفصام الذي ظلت تتعالج منه طيلة عشر سنوات، وتغفو بالغرفة التي تجاورها.

أغمضت عينيها كى تنام، لكن لم يتركها طيف "حسن" الذي ملأ جفنيها، وأخذت كلماته تدق عقلها.

أمسكت بالوسادة تضعها فوق وجهها، علَّ صاحب الطيف يتركها وحالها، لكنه أبى ذلك ظلت تتقلب في فراشها لتنام، إلا أن جميع محاولاتها باءت بالفشل، جلست متكئة على وسائد كانت قد وضعتها خلفها، وقد أمسكت بساعة معصمها الموضوعة بجوارها على الكوميدينو

 ترى كم الساعة، لتجدها الثالثة فجرا.

تنهدت قائلة:- ليتنى كنت أمتلك نفس شجاعتك "حسن"

أخاف منك، وأتمنى لو ضممتني إليك.

أهرب منك، وأموت شوقًا لأعود إليك.

أبعدك عني، وأنا أحتاجك لقربك منى.

شعوري بك كل شيء ونقيضه.

ليتك تفهمني دون أن يخدش كبريائي أمامك.

تسمع "حياة" دقات صغيرة على باب غرفتها جعلتها تتعجب، من الطارق في مثل هذا الوقت المتأخر؟!

تصمت عله يكون صدى صوتها، أو يخيل إليها أنها سمعت صوتًا.

إلا أن الصوت عاد مرة أخرى يدق الباب دقات خفيفة، كأن الطارق يعلم أن الساعة متأخرة

تسرب إلى "حياة" شعور بالقلق، وقد انتفضت من مكانها قاصدة الباب، وما أن فتحته لترى من الطارق وجدت "ليلى" أمامها تقف مرتدية قميص نوم قصير، وردى اللون، وقد احمرت عيناها وكأنها كانت تبكي.

جذبتها "حياة" من يديها إلى داخل الغرفة مغلقة الباب خلفها قائلا:- "ليلى" ماذا حدث؟ هل هناك شيء يؤلمك؟ لماذا لم تنامي حتى الآن؟

تبكى "ليلي" دون أن تنطق، لتضمها "حياة" إلى صدرها، وهي تزيح خصلات شعرها إلى خلف أذنيها قائلا:- ماذا حدث حبيبتى؟ أخبريني ما يزعجك ومن أجله تبكين؟ تعالَيْ معى.

أخذتها "حياة"، تجلسها على طرف السرير، جالسة بجانبها، تربت على كتفها هامسة لها:- اهدئي أنا بجانبك، اهدئي فقط، واحكى لى ماذا حدث؟

تحاول "ليلى" أن تتوقف عن التشنج الناتج عن بكائها المتواصل.

وبعد مرور دقائق تهدأ قائلة:- أبي يا "حياة".

تشعر "حياة" فجأة بانقباضة في صدرها، لا تعرف لها سببًا، تنهض بعصبية ملحوظة، وقد عقدت ذراعيها حول صدرها قائلة:- ماذا به يا "ليلى"؟

ألم نتحدث في هذا الموضوع من قبل وأخبرتك ألا تتحدثي معى فيه؟

أنا لم أمنعك من الذهاب إليه، ولم أطالبك بأن تقاطعيه، ألا تكفين عن التحدث في هذا الموضوع؟

تقف "ليلى"، وبصوت ممزوج بالبكاء، نظرت إلى "حياة" قائلة:- اطمئني أنا لا أريد محادثتك في هذا الموضوع، لأنني أعلم أن أبي لا يحتل ولو جزءًا من تفكيرك.

يكفيك الانشغال بأعمالك وبالضيف الجديدة التي لا أعرفها، ولا أشعر أنها أمي

تمسك "حياة" "ليلى" بشدة لم تعهدها عليها صارخة بوجهها قائلة:- هذه الضيفة اسمها أمك، ومن الآن لها عليك فروض الحب والطاعة.

ولا أريدك أن تتحدثي عنها بتلك الطريقة مرة أخرى

أما بالنسبة لمن تتحدثين عنه، فأنا ليس لدى وقت لأستمع لأي شيء يخصه، ولا تخبريني شيئا عنه بعد الآن، تريدين بعض المال له؟، وهو كذلك ليس لدى مشكلة، قولي كم تريدين؟، بشرط أن تصمتي تماما عن التحدث في هذا الموضوع.

فمن تركنا صغارًا بمفردنا، وأودع أمنا مصحة نفسية ولم يفكر طيلة عشر سنوات أن يرانا، بالنسبة لي شخص ميت، لا وجود له على قيد الحياة

فهمتِ ما قلت، أم أعيده عليك مرة أخرى.

تحاول "ليلى" أن تنطق بأى كلمات لكنها شعرت أن قواها تخور، والحروف تتضاءل أمام ما تحياه.

كانت تلك هي المرة الأولى التي ترى فيها "حياة" بكل هذه القسوة.

تخطو خطوات ثقيلة ناحية باب الغرفة تمد يدها تفتحه، فتتوقف مستديرة ناحية "حياة" التى رأت بعينيها وهي تنظر إليها، نظرة ألم ممزوجة بندم على ما قالته وأوجعت به "ليلى".

تفتح الباب وتخطو مغادرة قائلة:

- هناك أشياء لا نستطيع أن نشتريها بالمال الذي تتحدثين عنه من تلك الأشياء "حياة"، الأب الذي لا يعادل وجوده أي مال، لا أريد منك شيئا وكذلك أبي.

كل ما أردت إخبارك به أن "أبي" حالته غير مستقره، ولا أمل في الشفاء، هكذا أخبرني الطبيب, لك عندي رسالة منه، يقول لك فيها، إنه يريد أن يراك علها تكون المرة الأخيرة وأنا أيضا أريد أن أقول لك شيئا بحكم حبي لك:

 "من حق كل شخص أن يدافع عن نفسه، عله مظلوم عليك أن تعطي لمن حولك فرصة كي لا تندمي في يوم ما، إنك اتبعت صوت عقلك فقط.

أنت لم تسمعي من أبي، كما أنك أيضا لم تسمعي من أمي، لكنك قررت أن تأخذي موقفا عكسيا لمجرد أن أبانا تركنا.

لم تعطي نفسك فرصة تعرفين ما سبب رحيله؟".

"حياة"، أنا مسافرة لأبي غدا، وسأبقى معه فهو بحاجة إلي، ويكفي أن تكوني بجانب أمك.

خرجت "ليلى" موصدة الباب خلفها.

استيقظ "أحمد" على صوت المنبه معلنا تمام الساعة الثامنة صباحا

يتثاءب ناظرًا بجواره فلم يجد "حسنًا" الذي أصر على أن يبيت ليلته معه بجواره

مد يديه يزيح الغطاء عنه، وهو ينادي قائلا:

- "حسن" أين أنت؟

يأتيه صوت "حسن" من الخارج قائلا:

- أنا هنا تعال تناول معى القهوة.

يجلس "أحمد" بجوار "حسن"، الذي جلس يشاهد أحد البرامج الإخبارية قائلا:

- ألم تنم؟

-من قال هذا؟ لقد نمت جيدا

-تكذب يا صديقى، فعيناك دوما تشي بك.

-انتظر وسأحضر لك فنجان قهوتك.

- "حسن"، لا تهرب من كلامي، أنا لا أريد قهوة

ماذا تريد إذن؟

-أريد أن أطمئن عليك فقط.

-اطمئن أنا بخير

-متى موعد سفرك إذن؟

-بعد باكر إن شاء الرحمن

-كم شهر شهرًا ستغيب تلك المرة.؟

ينهض "حسن" ذاهبا ناحية النافذة مزيحا عنها ستائرها البيضاء، واقفًا بها قائلا:

- لا أعرف، كل ما أعرفه أنني بحاجة إلى البحر وطيور النورس.

-الآن علمت أنك لست بخير كما تدعي فمن عاداتك منذ أن كنا صغارا أن تهرب حيث البحر وطيور النورس كلما عانيت ضعفا ووجعا ما.

وهذا ما جعلك تصير قبطانًا تهرب للبحر كلما عاندك البر.

يترك "حسن" النافذة ويعود يجلس بجوار "أحمد" يشعل سيجارة، ينفث دخانها في الهواء قائلا:

- أول مرة يحتلني إحساس بأننى أريد أن أترك الأرض، أشعر أن كل ما أحتاجه هو البحر باتساعه علنى أغرق به قلبى.

-هون عليك يا صديقي، كل شيء سيمر وتعود الأمور أفضل مما كانت عليه.

تجلس "ليلى" إلى مائدة الطعام، تتناول طعام الإفطار صامتة.

وقد جلست بجوارها "يسر" التي استيقظت باكرا لتذهب إلى الشركة.

ظلت تنظر إلى "ليلى" التي أخذت تتناول طعامها عابسة الوجه، لا تنظر إلى شيء مما حولها ولا تتبادل الكلمات كعادتها مع "يسر" التي أمسكت بكوب الشاي تضع به بعضًا من الحليب قائلة:

- "ليلى"، هل تحدثت في شيء مع "حياة" ليلة أمس؟

رفعت "ليلى" عينيها عن طبق طعامها ناظرة إلى "يسر" دون أن تجيب، وإن كانت قد قرأت في نظرتها جوابا لسؤالها

تعض على شفتيها في ألم لما تسرب إليها من وجع تعانيه "ليلى" دون كلام حاولت أن تبحث عن كلمات تواسيها بها فلم تجد شيئا تقوله لتصمت هي الأخرى مرتشفة كوب الشاى الذى كانت تمسكه بين يديها تستشعر به الدفء.

لم تمر دقائق حتى لحقت بهما "حياة" ممسكة بيد أمها تجلسها بجوار "يسر" قائلة:

- صباح الخير

تجاوبها "يسر" قائلة:

- صباح الخير"حياة" كيف حالك؟

تنظر "حياة" إلى "ليلى" التي ازداد عبوسها قائلة:

- بخير "يسر".

شعرت أمها بأن هناك أمرًا ما جعل الأمور ليست على ما يرام بين "حياة" و"ليلى".

نظرت إلى "ليلى" مبتسمة قائلة:-

-حبيبتى كيف أصبحت؟

تنظر إليها "ليلى" متعجبة من ملامحها وصوتها لا تعرف بماذا تجيب تبادلت هي و"يسر" النظرات سريعًا في محاولة منها أن تتحاشى النظر إلى "حياة" التي جلست تتجول بعينيها بين "ليلى" وأمها التي أعادت السؤال مرة ثانية قائلة:- "ليلى" أعلم أن الوضع كله جديد عليك، فتلك هي المرة الأولي التي تريني فيها، كما أعلم أنك تحاولين جاهدة أن تتأقلمي مع الوضع الجديد، لكن أرجو أن تقتربي مني، فأنا أمك، أكثر من يحبك بهذه الحياة.

تظل "ليلى" تعبث بما أمامها من طعام رافعة عينيها ناظرة إلى أمها قائلة:- أعلم جيدا أنك أمي

 كما أعلم أيضا أن أبي هو أكثر من أحبنى في هذه الحياة.

كان رد "ليلى" صاعقة ضربت أمها في مقتل فصمتت تماما، وقد امتقع لون وجهها محاولة أن تزدرد ريقها.

إلا أن "ليلى" وقفت قائلة:

- أنا مسافرة اليوم إلى الإسكندرية، لأظل بجوار والدى المريض، ويكفي وجود "حياة" هنا بجانبك.

تتركهن وتصعد الدرج  حيث غرفتها، تلملم أشياءها وملابسها التي تحتاجها,

تفتح دادة "فاطمة" باب الغرفة بهدوء، تتعلق "ليلي" برقبتها وتبكي كالأطفال، تضمها إليها بحنان قائلة:

- لا عليك حبيبتى، فقد سمعت ما دار بالأسفل بينك وبين أمك سافري "ليلى"، سافري وظلي بجانب والدك، فوالدك ليس مذنبًا، بل هم من أذنبوا بحقه هو ليس ظالما بل مظلوما

تترك "ليلى" حضن دادة "فاطمة" وهي تمسح دموعها قائلة برجاء:

- دادة، أنت تعرفين شيئا لا تودين البوح به.

أنت تعرفين السر وراء ترك أبي لنا طيلة هذه السنوات.

بالله عليك أخبريني الحقيقة، احكي لي ما تخفينه أنت وأبي وأمي، تكلمى يا دادة.

تتلعثم "فاطمة" في الكلام قائلة:

- أية حقيقة تتحدثين عنها "ليلى؟ أنا لا أعرف شيئًا.

إنه مجرد إحساس، ليس لدي ما أقوله.

هيا كي تسافري إلى أبيك.

تغلق "ليلى" حقيبة ملابسها، تحملها ذاهبة إلى باب الغرفة قائلة:

- أعلم أنك تعلمين كل شيء ولا تريدين الكلام، سامحك الله يا دادة أنت الأخرى.

أغلقت "ليلى" خلفها الباب تاركة "فاطمة" ممزقة بين حبها لها مشفقة عليها من معرفة حقيقة قد تؤلمها.

تقف "فاطمة" خلف زجاج النافذة، تشاهد "ليلى" التي ركبت السيارة في طريقها إلى الإسكندرية ولسان حالها يقول:

- سامحينى "ليلى".

                                                                      

-"حياة"، لا تروقني طريقة معاملتك مع "ليلى" ولا رد فعلك تجاه مرض والدك.

تغلق "حياة" ملف الأوراق الذي كانت توقع به بعض الأوراق داخل مكتبها بشركة مستحضرات التجميل، ناظرة إلى "يسر" التى جلست أمامها قائلة:

- أخبريني أي طريقة تودين أن أتعامل بها معها وأنت ترين تصرفاتها البلهاء؟

-أي تصرفات تقصدين "حياة"؟

-تصرفاتها تجاه أمها.

-"ليلى" معذورة فيما تفعل، هي لم تر أمها طيلة حياتها، لم تشعر بها، هي لم تعرف غيرك أنت وأباها.

-كان يجب عليها أن تتقرب من أمها.

-كما كان يجب عليك "حياة" أن تتقربي أنت الأخرى من أبيك، أليس كذلك؟

-"يسر" من فضلك أغلقي هذا الموضوع.

-العملية متبادلة بينك أنت و"ليلى" يا "حياة", تطالبينها بما تطالبك هي به، ولا تنفذينه لها؛ فكيف تريدين منها أن تنفذ لك مطلبك؟

-أخبريني، ألم تأت لي باقة توليب أو بنفسج اليوم؟

تنظر "يسر" بتعجب شديد إلى "حياة" قائلة:

-لا لم يأت شيء، أنا ذاهبة إلى"خالد"، أود التحدث معه في أمر.

تترك "يسر" "حياة" شاردة وبداخلها سؤال يقول:

- أين أنت "حسن"؟ لماذا أخلفت عادتك، ولم ترسل لي بزهورك؟

هل حقا قررت الرحيل؟ هل حقا صدقت، ما نطق به لسانى وليس قلبي؟

ساعدنى يا ألله، كم أنا متعبة من كل ما يحدث حولي، لم أعد قادرة أن أميز الحق

 من الباطل والصواب من الخطأ.

هل أنا حقا ظالمة لأبي؟

 وإن كنت ظالمة فأين الحقيقة؟

دلني يا ألله في وسط هذا الضباب.

"الفصل التاسع عشر"

"أرواح ممزقة"

- "ليلى"، لمَ سافرت دون أن تخبريني؟

-آسفة "خالد"، لم يكن لدى خيار آخر، لا أريد أن يحدث صدام بينك وبين "حياة"، يكفي ما حدث بينى وبينها.

-أين أنت الآن؟

- وصلت للتو عند أبي.

-كيف حاله إذن؟ هل هو بخير؟

-حمدًا لله على كل شىء، سنذهب للطبيب غدا كي نتابع حالته كما طلب منا.

-حسنا سأحضر غدا

-لا ترهق حالك "خالد"، ابق من أجل عملك

-كل شيء دونك "ليلى" يساوي سالب صفر راحتي معك حبيبتى.

-أتعلم يا "خالد"، لولا وجودك بجانبى، لما كان باستطاعتي أن أتحمل ما يحدث.

دوما وجود من نحب بجوارنا يجعل الصعاب تمر والشدائد تهون.

وضعت دادة "فاطمة" فنجان الشاى أمام "أحلام" والدة "حياة" التي جلست ببهو الفيلا تتصفح بعض المجلات التي تحتل إعلانات شركة "حياة" أغلفتها

وما إن شعرت "أحلام" بوجود "فاطمة" حتى أغلقت ما كانت تتصفحه، قائلة بنبرة لا تخلو من الرجاء:-"فاطمة"، ألم يحن الوقت كي تصفحى عنى، وتريحى كاهلى ولو قليل، يكفينى ذنب "إبراهيم" المعلق بعنقى، تمتلأ عينا "فاطمة" بالدموع قائلة:- أى شيء تريدينني أن أسقطه عن كاهلك "أحلام"؟

-أرجوك "فاطمة" كفى ما عانيته عشر سنوات فى مصحة نفسية بعيدة عن بيتي وبناتي لقد كفرت عن ذنوبي وذنوب لم أفعلها.

ضحكت "فاطمة" ضحكة سخرية قائلة:-

-لا "أحلام"، ما كفرت عنه هو من صنع يديك، وما يزال أمامك الكثير بحاجة لأن تكفري عنه. أنا لن أسامحك بعد على ما اقترفته بحقى من نصب شباكك حول "إبراهيم" الرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي، وأنت تعلمين كم أحبه، لأننى كنت أثق بك ثقة عمياء بحكم أنك صديقة عمرى التي ما كنت أتخيل أن تخوننى، وبدلا من أن تصفي إحساسى لإبراهيم، سرقته لنفسك، وليتك بعد هذا كان بمقدورك أن تحافظى عليه.

أخبريني إن سامحتك على هذا الجرم كيف أستطيع أن أسامحك على ما فعلتِهِ به هو؟

 أنت من جعلتِه مذنبًا أمام "حياة" التي لم تر أباها منذ سنوات طوال لم أعد أعرف مقدارها. وجعلته يترك بيته وشركاته واسمه ويحرم من بناته ويحيا ببلد غريب، يقضي ما تبقى له من عمره داخل متجر صغير لبيع الزهور على رصيف ميناء.

كيف أسامحك على شعور غرسته بقلب "ليلى" تلك البريئة التي لم تلوث بعد تجاه "حياة" التي كانت تراها كل الحياة.

"أحلام" قبل أن تطلبي مني أن أسامحك، صلي لله، وابكي على ما فعلته بنا جميعا.

حاولى أن تعترفي بالحقيقة لبناتك ليعلما أن أباهما كان ضحيتك أنت وليس العكس.

"إبراهيم" حالته الصحية سيئة، ولا أحد يعلم كم سيمكث في هذه الحياة البغيضة؟

تترك "فاطمة" "أحلام" غارقة في دموع لم تعد تعرف إن كانت دموع ندم أو كانت دموع وجع جراء ما قالته لها "فاطمة"...

تمد "ليلى" يدها بالدواء إلى أبيها الذي تناوله منها مبتسما قائلا:

- أتدرين يا "ليلى"، بأن هناك أدوية طبيعية بإمكانها أن تشفي مهما كانت علتنا.

تنظر "ليلى" إليه وهي تناوله كوب الماء قائلة:-

-وما هي يا أبي؟

-وجوه من نحب، صوت نشتاق إليه، لمسة رقيقة تمسح رؤوسنا.

ليست كل الأدوية عقاقير طبية حبيبتى، بل هناك عقاقير أجمل وأنقى.

أتدرين وجودك معي الآن عقّار لا يضاهيه أى عقّار.

تضحك "ليلى" مقبلة رأس أبيها قائلة:- إذن من الآن عليك أن تستمع إلى كلام دوائك دون نقاش. وأول كلام عليك أن تنفذه هو أن تتناول طعامك الآن، وتستريح كما أمر الطبيب.

-لك السمع والطاعة لكن بشرط

-ما هو هذا الشرط؟

-أن تتناولي الطعام معى، وبعد ذلك تخبريني عن سر الدموع التي تحاولين إخفاءها عنى؟

تنهض "ليلى" ذاهبة إلى داخل المتجر. تغيب دقائق، وتعود محملة بأطباق ممتلئة بالطعام وبعض قطع من الخبز. تضعها أمام أبيها فوق المنضدة الخشبية الموضوعة بمنتصف المتجر.

جالسة قبالته قائلة:- هيا الآن عليك أن تنهي تلك الأطباق، وبعدها هناك كوب من الحليب بانتظارك.

هيا لأننى جائعة جدا من السفر وطول الطريق

- لماذا لم يأتِ "خالد" معك؟

تبتسم "ليلى"، وتنفرج أساريرها عندما سمعت اسم "خالد" وكأنه تعويذة سرية جلبت لها السعادة يمد إليها أبوها يده بقطعة خبز قائلا:

- ما تخفيه تشي به ملامحك وابتسامتك يا "ليلى"

"خالد" شاب مهذب وأمين وقد أحببته.

هيا حبيبتى تناولي طعامك كي نتحدث فيما يحزنك وأراه بعينيك.

فكم أنا مشتاق للحديث معك.

تبدأ "ليلى" في تناول طعامها مع أبيها وبين لحظة والأخرى تسترق النظر إلى أبيها الذي أحست من ملامحه أنه يودعها.

-"يسر" من فضلك، تعالي ومعك "خالد".

تظل "حياة" تدق مكتبها بأناملها ومع كل دقة تنظر إلى هاتفها تستحلفه أن يأتي برسالة من "حسن".

تدخل "يسر" إلى مكتب"حياة" يتبعها "خالد" الذي يجلس شاردًا بعض الشيء يفكر في "ليلى".

تظل "حياة" صامتة بعض الوقت تحاول أن تجمع كلمات تقولها، لكن الكلمات أبت أن تخرج منها.

تتبادل "يسر" النظرات مع"خالد" ناظرة إلى "حياة" قائلة:-

- "حياة" ماذا هناك؟

-لا شيء، أحسست أنني أحتاج إلى رؤيتكما علنى استشعرت برودة الجو، فكنت بحاجة لأن أستشعر فيكما الدفء.

نحن هكذا نعود صغارًا، نخاف الظلام ونشعر بالبرد في غياب من نحب.

نحاول جاهدين ألا نظهر عورة احتياجنا لمن حولنا

لكن ما نخفيه بين أضلعنا يأبى أن يظل حبيس حبيسًا فيظهر في صمتنا ونظراتنا يخبر من حولنا أننا أيتام دون من نحب.

ظلت "حياة" تتجاذب أطراف الحديث مع "خالد" و"يسر" لكن حديثها معهما لم ينجح في أن يبعد "حسنًا" عن تفكيرها.

 وقف "حسن" يجهز حقيبة ملابسه استعدادا لسفر الغد.

وضع الكثير من ملابسه الصوفية الثقيلة ليحتمى بها من شدة البرودة في مثل هذا التوقيت من العام

ولم ينسَ أن يضع بعض أسطوانات فيروز التي دوما ما تصاحبه في حله وترحاله

فجأة رفع رأسه عن حقيبة ملابسه ناظرا بعيدا عبر نافذته إلى ما وراء الشمس وهي تسبح في مياه النيل تقبل صفحته قبل أن تغفو بمخدعها.

يجلس على طرف السرير ممسكًا بهاتفه

لا يعرف ماذا يريد منه، أخذ يبحث في الأسماء حتى تعلقت عيناه باسم "حياة"، مد أنامله يتحسسه كأنه يتحسس ملامح طفل وليد.

كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة ليلا حينما عادت "حياة" إلى الفيلا، لتجد والدتها تجلس ممسكة بمصحف في يديها تقرأ به.

وما إن شعرت بوجود "حياة" حتى رفعت عينيها ناظرة إليها قائلة:- "حياة"

 تقترب منها "حياة" جالسة بجوارها قائلة:-

-مساء الخير أمي

-مساء الخير "حياة".

- كيف حالك اليوم؟

-بخير حبيبتى، كنت أود أن أسألك عن "ليلى"، هل اطمأننت عليها؟

تقف "حياة"، قائلة وهي تصعد الدرج:- أحادثها غدا أمي، الآن أنا متعبة، وبحاجة لأن أنام.

لكن أين دادة "فاطمة"؟

-أنا هنا "حياة"، ألا تتناولين عشاءك قبل أن تنامي؟

-لا أريد دادة، أريد فقط أن أنام، تصبحين على خير.

تدلف "حياة" إلى غرفتها، تخلع عنها ملابسها مستسلمة لقطرات الماء الدافئ الذي وقفت تحته.

لتأتي سجادة صلاتها داعية الله قائلة:-

-وحدك تعلم يا ألله، أننى لم أعد أرى الأشياء بوضوح، قلبي يخبرني أن هناك أشياء لا أعرفها، ضميري يعذبني، وحدك تعلم ما عانيت بمفردى من أجل أمي وشقيقتي وشركة أبي أبي، ذلك الجرح الغائر بقلبي، يمزق روحي الجميع يتهمونني بالظلم، ووحدك تعلم أنني من ظلمت.

أنر لي دربي يا ألله، وارزقني الحقيقة كاملة

واحفظ لي "حسنًا" حيث كان.

"الفصل العشرون"

"حقيقة وندم"

كانت الغيوم تكسو كل شىء، الشمس أبت أن تشرق وكأن هناك حالة حداد اشترك بها الجميع.

الأمطار حبيسة السحب، تنذر أنها سوف تتساقط بين دقيقة وصاحبتها.

لكنها لم تقرر بعد متى تسقط؟

فتحت "حياة" عينيها، وهناك شعور يجثم على صدرها بأن هناك خطبًا ما سيحدث

اعتدلت في فراشها، تفرك عينيها، ناظرة إلى الخارج، حيث السماء المختنقة بالغيوم.

تسمع صوت رسالة آتية على هاتفها، تمد أناملها تتناوله، ترى من صاحب الرسالة في مثل هذا الجو، وتلك الساعات الأولى من الصباح.

تفتح الهاتف بضيق لا تعرف ما مصدره، تجده رقم هاتف "حسن"

نعم هو رقم "حسن"، تحفظه عن ظهر قلب، فتحت الرسالة بلهفة تقرأ ما بها.

"سأغادر بعد ساعتين من الآن على ظهر الباخرة التي ستغادر ميناء الإسكندرية

لا أعرف متى سأعود؟ وإن كانت تلك هي المرة الأولى التي أسافر فيها ولا أعرف متى سأعود؟ لأنني بحاجة إلى أن أبتعد عن كل شيء يذكرني بك.

كم كنت أتمنى أن أعود من رحلتي تلك واسمك مرتبط باسمي.

كم دعوت الله أن يحفظك لى في ودائعه.

ورغم ما حدث إلا أنني أثق أنك في ودائعه.

"حياة" كل ما أريدك أن تعرفيه هو أنني لم أحب أحدًا كما أحببتك، لم ألتقِكِ سوى مرات معدودة. لكن سبحان زارع الشعور بداخلنا. عندما رأيتك علمت لماذا كنت صائمًا عن جميع النساء طيلة عمرى، كى أحبك لآخر ذرة بقلبي.

أستودعك الله.

سافر "خالد" إلى الإسكندرية حيث "ليلى" و"إبراهيم"

كانت السحب قد بدأت في التجمع استعداد استعدادًا لهطول الأمطار.

ظل "خالد" شاردا خارج زجاج نافذة السيارة التي استقلها من موقف السيارات بمفرده. لم يكن بمقدوره أن ينتظر حتى يكتمل بها عدد الركاب.

طلب من السائق أن يغادر لحسابه.

أفكار كثيرة أخذت تنهشه ما بين ما نهاية قصته مع "ليلى"؟

ماذا من الممكن أن يحدث إن عرفت "حياة"؟

حتما ستتهمني بالطمع في مال "ليلى" لكن كيف؟ و"حياة" نفسها من شهدت له بالأمانة والشرف، وهي من سعت كى يعمل معها بالشركة

يا رب اختر لي ما تراه خيرًا لي، وحدك تعلم أني أحب "ليلى" دون طمع في أى شىء.

إن كان هناك طمع حقا فهو طمع في أن تجمعنى بها على خير.

خرج "خالد" من شروده على رنات هاتفه

يخرجه من جيب الجاكت الجلد الذي يرتديه ليجد أمامه اسم "ليلى" يبتسم وكأنه رآها أمامه، يجيبها قائلا:-

-صباح الخير حبيبتى

-"خالد" أين أنت؟

- ماذا حدث؟ ولماذا صوتك متوتر لهذا الحد؟

- أبي متعب جدا، وحالته تسوء، أنا بمفردى ولا أعرف كيف أتصرف

- اهدئي "ليلى"، لا تخافي، أعطيه فقط من الدواء الذي أمر به الطبيب، ولا تجعليه يتحدث، أنا في الطريق إليك.

يغلق "خالد" مع "ليلى" الهاتف، وبداخله صوت يقول:- اللهم أنزل علينا رحماتك

ينظر إلى السائق الذي سمع المحادثة وقبل أن ينطق يزيد من سرعته قائلا:- سنصل في غضون ساعة، على الأكثر لا تخشَ شيئا.

تصمت "حياة" بعد قراءتها للرسالة، تنهض كى ترتدى ملابسها، وقبل أن تصل لخزانة ملابسها، تتجه إلى نافذتها، تفتحها واقفة بها بملابس نومها وشعرها الذي أخذت الريح تداعبه كان الجو شديد البرودة، لكن ما اشتعل داخل "حياة" من أحاسيس مضطربة جعلها تفقد الإحساس بأي شىء.

مضى بعض الوقت وتفكيرها مشلول تماما لا تعرف ماذا تفعل، أتترك "حسنًا" يرحل دون أن تخبره بحقيقة مشاعرها تجاهه؟

هل تبعث له برسالة تقول له فيها:- لا يرحل فهى بحاجة إليه وسط كل ما تمر به.

هل تذهب إليه؟ لكنها حتى لا تعرف عنوانه.

ظلت واقفة كصنم فقد القدرة على فعل أي شىء. كطفلة ضاعت من أمها ببلدة لا تعرفها ولا تعرف بها أحد، كل ما تعرفه هو وجه واحد غاب عنها.

ضرب البرق فجأة كبد السماء، وأخذت الأمطار في النزول زخات صغيرة، تعلن عن فيضان كبير أتى.

شعرت "حياة" أن ما حدث يهيئها لشيء كبير آتٍ.

أغلقت النافذة، ودلفت إلى داخل الغرفة، ترتدى ملابسها كى تذهب إلى الشركة.

جلست "أحلام" أمام المدفأة، تنشد فيها الدفء على مقربة منها، كانت تتحرك "فاطمة"، تغلق النوافذ وتسدل فوقها ستائرها.

ترددت "أحلام" في أن تناديها، ظلت تراقبها من بعيد حتى التقت أعينهما، وبنظرة رجاء نادتها "أحلام" قائلة:

- أخبريني أنك سامحتِني يا "فاطمة".

توقفت "حياة" أعلى الدرج حينما سمعت من أمها هذه الجملة وقد شعرت بانقباض قلبها وإحساسها أن هناك شيئا آتيا لا تعرفه.

لم تجب "فاطمة" بشيء، وقد اقتربت من "أحلام" قائلة:- هل تريدين فنجان قهوتك؟

أم تنتظرين "حياة" تتناولين معها طعام الإفطار؟

-لن أتناول أي طعام قبل أن تتحدثي معي وتغفري لي ما فعلت معك.

-لن أغفر لك قبل أن تبرئي "إبراهيم" أمام "حياة" وتردي له حقه.

تنزل "حياة" الدرج سريعا وقد احتقن وجهها وارتفعت دقات قلبها، حتى خيل إليها أن من بجوارها يسمعها.

وقفت "حياة" أمام "فاطمة" وأمها.

تتردد ببصرها بينهما فاقدة القدرة على نطق أي كلمة، شعرت بأن الأرض تميد تحت قدميها وقواها تخور.

فلم تكد تفيق من رحيل "حسن" عنها وخلافها مع "ليلى" حتى سمعت ما سيؤكد كلام "يسر" و"ليلى" بأنها من الممكن أن تكون ظالمة، وليست مظلومة.

وضعت كفها فوق وجهها قائلة:- كن معي يا ألله.

همت "فاطمة" أن تنطق إلا أن"حياة" أوقفتها بإشارة من يدها صارخة فيها:- لا أريد سماع أية شيء الآن سوى شيء واحد فقط.

ما هي الحقيقة؟ قولى يا أمى، ما هي حقيقة خلافك مع أبي وبدون مقدمات، أنا واقفة الآن، ومنتظرة حقيقة ظللت أبحث عنها أكثر من عشر سنوات.

هيا إننى أصغي إليك.

تقف أمها محاولة أن تستجمع شجاعتها قائلة:-

-اهدئي قليلا "حياة"، واجلسي لنتحدث.

صرخت "حياة" قائلة:- أنا هادئة، لا تشغلي بالك أنت، أريدك أن تشغل بالك بأن تخبرينى الحقيقة.

جلست "فاطمة" على السلم الرخامى واضعة وجهها بين كفيها صامتة تماما.

جاء صوت "أحلام" عميقا كعمق الذكرى التي دفنت في قبر قلبها منذ سنوات طوال.

أصغي إليّ "حياة" جيدا، كم تمنيت أن أتكلم وأزيل من فوق قلبى إحساسا بالذنب جاثما على أنفاسي.

علني أستطيع أن أسامح نفسي، وليسامحني الله و"فاطمة".

تعلقت عينا "حياة" وقلبها وكل حواسها في وجه أمها.

تمنت لو كان "حسن" بجوارها، تستند على كتفيه وتذوب في أحضانه، فتتلاشى ولا يصبح هناك وجود لها لتأكدها أنها ستصبح ظالمة.

تماسكت بقدر استطاعتها قائلة:- تكلمي يا أمي، أنا أسمعك.

-منذ أكثر من أربعين عاما، كنت أنا و"فاطمة" رفيقتين لا نفترق أبدا، كنا نتشارك كل شيء الطعام والشراب واللباس والأحلام، حتى ظن الجميع أننا نتشارك أيضا الدم والعرق.

كانت "فاطمة" هادئة وديعة، يحبها الجميع بسبب رقتها وطيبة قلبها.

وكنت أنا جميلة متمردة لا يعجبنى أحد، ولا أحب أحدا، الجميع يخاف مني، ويتجنب التعامل معى بسبب عناد وصلابة رأسي.

فى هذا الوقت كنا ندرس بالجامعة، وكان "إبراهيم" زميلا لنا. شاب مهذب وسيم متفوق يحترمه الجميع ويقدره. أحبته "فاطمة" من كل قلبها، مرت الأيام وشغفها به يزيد، في الوقت الذي كان فيه "إبراهيم" مشغولا عن الجميع بتفوقه وحياة النضال السياسي الذي كل مولعا بها حتى إنهم أطلقوا عليه "جيفارا" الجامعة وتم اعتقاله أكثر من مرة لنشاطه السياسي.

كنت أنا مكمن الأمان ومستودع أسرار "فاطمة"

في لحظة ضعف إنساني لعب بي شيطاني وغرورى الذي ما كان يضع شخصا داخله إلا وينصب حوله خيوطه العنكبوتية.

اقترحت على "فاطمة" أن أكون رسولها إلى "إبراهيم" أعترف له بمدى حبها وولعها به.

وبسهولة استطعت أن أقنعها، فأنا صديقتها التي تحبها، ودوما ما تسلمها زمام أمورها.

انتظرت حتى انتهت محاضراتنا، وراقبت "إبراهيم" حتى وجدته بمفرده، اقتربت منه رأيته لأول مرة بعين الأنثى. شاب تحلم به أية فتاة، وبدلا من أن أحدثه عن "فاطمة" ومشاعرها حدثته عن نفسى وأننى مولعة به، قاوم في البداية لكن مع مطاردتي المستمرة له ودلالى عليه نجحت في أن أوقعه في شباكي.

وكل هذا و"فاطمة" معتقدة أنني أحاول أن أقرب "إبراهيم" منها.

عشنا معا قصة حب مشتعلة، لا أحد يعرف عنها شيء ولا حتى "فاطمة"

أحبني بكل قوة يمتلكها، وأنا للأسف أحببت نفسي أكثر

تخرجنا من الجامعة، وتقدم "إبراهيم" لخطبتي وافق أبي على الفور، فهو عريس لقطة ومن أكبر عائلات مصر، عائلة الألفي، علمت "فاطمة" بكل شىء، كانت صدمتها بي أكبر من أن تتحملها أصيبت بحالة انهيار عصبي، أودعت على إثرها أحد المستشفيات.

ورغم أننى كنت السبب إلا أننى لم يرتجف لي جفن.

تزوجنا في حفل أسطوري شهدت له مصر بأكملها. سافرنا إلى الخارج نقضى شهر العسل.

لم يبخل عليَّ "إبراهيم" بأي شيء أعطاني كل شيء، الحب والأمان والاهتمام والمال. تعرفت في تلك الفترة على مجموعة من الشباب والفتيات الأثرياء.

كنت أستغل فرصة غياب "إبراهيم" عن البيت وانشغاله في شركاته وأقضي مع هؤلاء الشباب سهرات حمراء، لم يكن لدي ضمير ولا وازع يوقفني عند حد معين، فعلت كل ما تتخيله، أدمنت المخدرات والكحوليات. فى الوقت الذي كنت أنحدر فيه، كانت "فاطمة" تتعافى، غادرت المستشفى، صارت أكثر قوة وعقلانية، وكأن أزمتها خلقتها من جديد.

تقدمت للعمل بشركة "الألفي" لمستحضرات التجميل عن طريق إعلان قرأته بالجريدة، تقابلت هي و"إبراهيم" مرة أخرى، لكن تلك المرة كانت امرأة قوية، لا تخضع لمشاعرها.

رغم حب "إبراهيم" الذي كان مدفونًا بداخلها.

تفانت في عملها حتى أصبحت نائب رئيس مجلس الإدارة بالشركة.

وذات ليلة عاد أبوك إلى البيت مبكرا، فلم يجدني. ظل منتظرا حتى الساعة الثالثة فجرا لأعود إليه أترنح من كثرة الشرب، تشاجر معى حتى وقعت أرضا، استدعى لي الطبيب، الذي بارك لنا على حمل ينبت بأحشائي، وطلب منى الطبيب أن أهتم بنفسى، وأبتعد تماما عن التدخين والشرب.

 من أجل سلامة جنينى حاول "إبراهيم" معي كثيرا أغدق عليَّ كثيرًا من الاهتمام والمشاعر، كان يطير فرحا من أجل حملي، لكننى لم أتغير، ولم أستطع أن أحب ذلك الكائن الذي أحمله بداخلي، لإحساسى أنه يقف بينى وبين متعتى الحرام.

مرت شهور الحمل بين شد وجذب وخلافات بينى وبين أبيك.

حتى جاء يوم الولادة أخذنى أبوك إلى أكبر مشفى مصر، دخلت غرفة العمليات، وبعد أن خرجت وأفقت من تأثير البنج، علمت أنني أنجبت توأمًا بنتين.

جحظت عينا "حياة"، التي تحشرج صوتها، وكأنه صوت أوراق شجر ذابلة، تتكسر تحت أقدام قائلة:- توأم! توأم كيف هذا؟

أخبريني أنت يا دادة، وسأحاول أن أصدقك، فكل شيء في النهاية كان كذبا.

لم تجب "فاطمة"، وإن كانت دموعها خير جواب

أردفت "أحلام" قائلة:- نعم "حياة" توأم أنت و"أمل" شقيقتك التوأم.

أشارت "حياة" إلى أمها أن تصمت لحظة قائلة:-

- انتظرى قليلا، هل أنا لدي شقيقة أخرى توأم لي

غير "ليلي"؟

-نعم "حياة" شقيقتك الأكبر منك بعشر دقائق تشبهك تمام.

أخذت "حياة" تضرب كل ما تصل إليه يدها، وهي تصرخ قائلة:- يا ألله، لم أعد أحتمل المزيد من المفاجآت، بل لم أعد أحتمل المزيد من الكذب، أنا لي شقيقة تكبرنى وتوأم لي، ضربت بكفها فوق قلبها قائلة:- كيف لك أيها القلب ألا تشعر بأن هناك قطعة منك بعيدا عنك؟

لماذا لم تنتفض وتوقفنى عن ظلمى وقسوتى على من حولي بما فيهم أبي؟

أكملي يا أمي، اجلدينى أكثر وأكثر، هيا أكملي

تزدرد " أحلام" ريقها قائلة:- مرت الأيام وأنت وشقيقتك تكبران، وأنا أيضا يكبر معي جرمي وانحرافي.

كنت أتركك أنت و"أملًا"، وأذهب إلى سهراتي وحياة الانحلال التي أعيشها.

لم يكن لدي إحساس أمومة يلزمنى تجاهكما حتى بلغتما عامكما الأول، كنت أنت كأية طفلة طبيعية، تتحرك وتتفاعل مع كل شيء حولها بخلاف "أمل" التي كانت لا تتفاعل مع شىء لا تبكي ولا تضحك، لا تقول إنها جائعة، أو تريد النوم، اصطحبتها أنا وأبوك إلى أحد أطباء الأطفال

وبعد تحاليل وأشعة جاءت النتيجة أن "أملًا" ستظل هكذا طيلة حياتها، فهي تعاني مرض التوحد.

كرهتها لا أعرف لماذا؟ علنى أحسست أنها ستقيد حريتى، وتغير نمط حياتي، وخصوصا بعد أن أمرني "إبراهيم" بلهجة حادة ذات يوم عندما عاد من عمله ووجد "أملًا" ساقطة بحمام السباحة، ولولا عناية الله بها لغرقت، أنقذها "إبراهيم" بعد أن وجدك واقفة تبكين بمفردك، وتشيرين له إلى حمام السباحة.

يومها خيرنى بين "أمل" وحياتى معكما وحياة المجون التي أحياها، لم يكن أمامي خيار غير أن أوهم أباك بأننى تغيرت، ولم يكن ذلك من أجله أو من أجلكما، بل كان من أجل أمواله التي أفعل بها كل ما أريد.

ذات يوم كنت جالسة أشاهد أحد الأفلام، وجئت أنت تبكين، لأن "أملًا" أخذت لعبة، من ألعابك ذهبت إليها كى أحضر لك منها اللعبة نظرت إلي نظرة، لا أنساها حتى هذا اليوم.

نظرة كلها كره، وكأنها تعرف حقيقتي وترى داخلي بوضوح.

أخافتني نظرتها، ضربتها ضربا مبرحا .

دخل "إبراهيم" على صوت صراخك أنت، فهى لم تكن تبكي أو تصرخ، وإن كانت تشعر بالألم

دفعنى بقوة بعيدا عنها، حتى وقعت على الأرض، وقد أخذ "أملًا" بحضنه، يربت كتفها قائلا لها:-

-لا تخافي حبيبتى، لا تخافي.

أنا معك، أبوك هنا، ولن أسمح لأحد أن يؤذيك.

انزوت "أمل" داخل حضن أبيها، وظلت تنظر لي النظرة نفسها التي كانت ترعبني إلى يومنا هذا، صممت بقلب جاحد وعقل غاب عن وعيه أن أتخلص من "أمل" بأي ثمن.

نظرت "حياة" إلى"فاطمة" سائلة إياها بعينيها

-حق ما تقوله يا دادة؟

أومأت "فاطمة" برأسها إنه حق "حياة".

تكمل "أحلام" إعترافها قائلة:- كنت في هذه الأثناء حاملا ب "ليلى"، مرت فترة الحمل كئيبة ثقيلة، لأننى كنت رافضة أن أنجب مرة ثالثة خوفا من أن يأتي الجنين معاقا مثل "أمل" ولأننى كنت أريد أن أنفصل عن "إبراهيم".

وضعت "ليلى"، وجاءت طفلة جميلة مثلك.

فى يوم كنت ألهو معك بحمام السباحة حضرت "أمل"، وظلت جالسة بعيدا تراقبنا، طلبت منك أن تناديها، لأنها تحبك، وستنزل حتما معك إلى حمام السباحة، وبالفعل نزلت تلهو معك، وهنا كانت فرصتي لكي أتخلص منها، وجئت من خلفها أمسكت برقبتها، ووضعتها تحت الماء كى تختنق وتموت، ويكون حادث غرق عاديًّا لطفلة معاقة ذهنيا، ولكن أبت إرادة الله ذلك، حفظها بحفظه، لكونها طفلة صغيرة، لا حول لها ولا قوة.

لا أعرف كيف انشقت الأرض عن "إبراهيم" وكأن هناك تواصلا روحيا بينه وبينها.

لأجد يده تجذب "أملًا" من قعر حمام السباحة، حاملها خارجة، يهدِّئ من روعها، يتحسسها ليطمئن أنها بخير، حمل "أملًا" وأمسك بيدك، دلف بكم إلى الداخل، أغلق عليكم باب الغرفة، ليتأكد أنكم بأمان واتصل بدكتور "إيهاب" طالبا منه أن يحضر.

حضر دكتور"إيهاب" بالفعل، قص عليه "إبراهيم" ما حدث، اصطحبني معه إلى المصحة النفسية، وكان معي أبوك، الذي رفض أن يتركني بمفردى، وبعد عدة جلسات من العلاج، قرر"إيهاب" أنني مريضة نفسية، أعاني مرض انفصام بجانب إدمان المخدرات والكحوليات.

لم يكن هناك سبيل للعلاج سوى أن أظل بالمصحة، في تلك الأحداث علمت "فاطمة" بكل شىء، تركت عملها وحياتها، وبقيت معك أنت و"ليلى" ترعاكما حتى يومنا هذا دون أن تخبر أحدًا بشيء.

 أخذت "حياة" تمسح دموعها قائلة:-

-و"أمل" أين ذهبت؟

- لقد قرر "إبراهيم" أن يبعدها عنى وعن المكان الذي رأت به محاولة قتلها أكثر من مرة. أخذها بعيدا كى لا أعرف مكانها، سافر بها الى الإسكندرية، أودعها إحدى دور الرعاية المتخصصة في علاج حالتها، فضل أن يترك المال والجاه، ويحيا داخل متجر صغير، يبيع به الورود، ليظل بجوار طفلة، لا تعرف شيئا في الحياة.

ذهب إلى "إيهاب" دفع تكاليف علاجي كلها طيلة تلك السنوات، غادر بهدوء بعد أن اطمئن عليك أنت و"ليلي" مع "فاطمة"، وكان يتابع أخبارك أولًا بأول، اقتربت "حياة" من "فاطمة" مقبلة رأسها قائلة:- تحملتِ كل هذا من أجلنا وأجل أبي؟

- كما تحملك أبوك "حياة" طيلة هذه السنوات وتقبل قسوتك وإهانتك له، وطلب منى ألا أخبرك بشىء.

لم تجد "حياة" بعد كل ما سمعت كلمات تنطقها.

وكأن حروف العربية جميعها وقفت عاجزة عن ترجمة ما تشعر به، اتجهت إلى باب الفيلا تفتحه تلحق بها "فاطمة" قائلة:- إلى أين "حياة" فى مثل هذا الجو؟

-إلى أبي علني ألحق به ليسامحني على ما فعلته به.

-انتظري حتى ينتهي المطر، ويتوقف الرعد والبرق

- وإن انتظرتهم كي ينتهوا، هل ينتظرني أبي؟ …..

"الفصل الحادى عشر"

"لقاء مجروح"

احتضن "أحمد" "حسنًا" بشدة قائلا:

- تصحبك السلامة يا صديق، لا تغب عني طويلا.

يبتسم له "حسن"، وهو يغلق باب سيارته قائلا:

-لن أغيب طويلا اطمئن، أراك بخير إن شاء الله.

-عليك أن تقود بحذر، الجو ممطر، والرياح عالية.

- لا تخف، سيمر كل شيء على ما يرام.

-حدثني عندما تصل إلى الإسكندرية.

ينطلق "حسن" بسيارته في طريقه الي الإسكندرية، وكلما ابتعد عن القاهرة ازدادت شدة المطر، حتى باتت الرؤية أمامه صعبة للغاية فصاح قائلا:

- هكذا سأتأخر عن موعد رحلتي وكأن الجو هو الآخر يعاندني، ماذا أفعل في هذه البرودة القارصة؟

حسنا، ليس أمامي سوى أن أستمع إلى صوت فيروز، أدار زر تشغيل الأسطوانات بالسيارة وما هي سوى دقيقة، حتى خرج صوت فيروز دافئا، وجاء معه صورة "حياة"، التي ارتسمت أمامه في قطرات المطر، فتنهد قائلا:

- ليتك كنت معي "حياة".

وصل "خالد" إلى متجر الورود، دفع الباب ودلف إلى داخله، وهو يرتجف من الأمطار، التي أغرقته، وبللت ملابسه، وما إن رأته "ليلى" التي كانت تضع بعض الأغطية الثقيلة فوق أبيها الذي كان يرتجف؛ حتى صاحت قائلة:

- "خالد" كم كنت خائفة عليك في مثل هذا الجو العاصف.

أخذ "خالد" يمسح عن وجهه ورأسه ماء المطر بمنشفة أعطتها "ليلى" له قائلا:- لقد خرجت من القاهرة قبل أن تمطر، لكنها لحقت بي في الطريق

الجو سيئ جدا بالخارج، الطرق جميعها مغلقة، ليس هناك أية وسيلة مواصلات.

أخبريني كيف حال أبيك؟

نظرت "ليلى" إلى أبيها، الذي حاول أن يتماسك أمامها، خاصة بعد ما سمع عن حالة الجو بالخارج قائلة:- حالته تسوء يا "خالد" والأدوية التي أمر الطبيب أن أعطيه منها، لم تُجدِ معه نفعًا.

سار "خالد" حيث استلقى "إبراهيم"، يحاول أن يغفو، عله بالنوم ينتصر على ما يمزق قلبه من ألم، مال "خالد" عليه يقبل جبينه، وما إن شعر به حتى فتح عينيه مبتسما له، يبتسم له "خالد" قائلا:

- كيف حالك أيها الرجل الطيب؟

يسعل "إبراهيم" بشدة وهو يحاول أن يجيب "خالدًا" قائلا:

- بخير بني، لا تقلق سأبلغ من العمر مائة عام وأرى أبناءك وأبناء "ليلى".

تقترب "ليلى" منهما ناظرة إلى أبيها نظرة حب وعطف.

ينظر إليها "خالد" قائلا:

- أريد أن أتناول كوبًا من الشاي الساخن، أنا وهذا الرجل الطيب هيا أحضري لنا كوبين من الشاي الساخن، كي نستطيع أن نواجه هذه البرودة القاسية.

تتركهما "ليلى" وتختفي داخل المتجر، تعد لهما الشاي، حاول "إبراهيم" أن يستجمع ما تبقى لديه من قوة، همس ل"خالد" قائلا:

- أعلم أن تلك هي النهاية، وأنا مستعد للقاء الله، فقد تعبت كثيرا وزهدت الحياة.

"خالد"، كل ما أريده منك أن تحافظ على "ليلى" وتبقى معها مهما حدث، عدني بذلك.

حاول "خالد" أن يكتم دموعه قائلا:- أعدك بهذا.

لم تكن "حياة" تعلم ما فاضت به عيناها، دموعها أم قطرات المطر؟

كلما حاولت إسكات عينيها عن البكاء فاضت وأمطرت، ظلت طيلة الطريق، تحاول أن تزيل الأمطار عن زجاج سيارتها الأمامي عن طريق مساحات الماء الخاصة بذلك لكن دون جدوى، فالأمطار تزداد حدة مع الوقت، أضاءت كشافات السيارة، علَّ ضوءها يساعدها في أن تتبين طريقها.

ظل عقل "حياة" يحاول أن يستوعب ما سمعته حاولت أن تصدقه، ومع كل كلمة يعيدها عليها عقلها ينهار كل شيء فيها.

أي حقيقة تلك التي اقتلعتها من جذورها وألقت بها في الهواء؟ أي حماقة طمعت بها لنفسها وظلت مغلفة طيلة هذه السنوات؟

فى لحظة انقلبت حياتها رأسا على عقب ليصبح الظالم مظلوما، لحظة هي الفيصل دائما بين الحق والباطل والصدق والزيف.

 ليتنى ما كنت أنا، ولا حييت هذه اللحظة.

أخذت تدق عجلة القيادة بيديها، وهي تصرخ قائلة:

-أنا مجرمة، جنيت على أبي وشقيقتي، لم أعط نفسي فرصة كي أعلم الحقيقة، سمعت صوتي فقط، سامحني يا ألله، واترك لي الفرصة كي أكفر عن ذنبي.

كادت أن تفقد سيطرتها على عجلة القيادة عندها انزلقت السيارة داخل حفرة من المياه.

أمسكت جيدا بعجلة القيادة، وظلت تحاول أن تخرج من تلك الحفرة، وبعد عدة محاولات نجحت في أن تخرج منها، تذكرت "ليلى" وسط كل ما تحياه تذكرت "أملًا" توأمها التي لم ترها وهى من شاركتها رحمًا واحدًا، وحبلًا سريّا واحدًا.

كيف للإنسان أن يصبح بهذه القسوة؟

يجرد غيره من صفاته، ويسلبها لنفسه وهي ليست به؟ كيف له أن ينصب نفسه قاضيًا وجلادًا دون أن يستمع إلى خصمه؟

 هذا ليس من الشرف "حياة"..

وصل "حسن" إلى الإسكندرية مبكرا عن موعد رحلته، توقف أمام الميناء، يترجل من سيارته حتى وصل إلى داخل المرسي، وقف أمام البحر الذي امتزجت به قطرات المطر، فلم يعد من يراه قادرًا على تمييز مياهه من مياه المطر.

شرد داخل أمواجه، همس لنفسه:

- لو كنت أملك أن أنتزع قلبي من بين أضلعي، وألقي به داخلك كي لا أشعر شيئا بشيء لفعلت.

خرجت "ليلى" بأكواب الشاي، جلست بجوار أبيها و"خالد"، أخذت تمسح عن جبينه قطرات العرق التي ازدادت بشكل ملحوظ، وبدأ لون وجهه يميل إلى الاصفرار.

نظرت "ليلى" إلى "خالد" بقلق شديد قائلة:-

-يجب أن نتصرف، وننقل أبي بأقصى سرعة إلى المشفى، حالته تسوء ولن أقف مكتوفة الأيدى هكذا حتى يضيع مني.

- أنا أيضا أرى أنه من الأفضل أن ننقله إلى المشفى، لكن بيننا وبينه نصف ساعة بالسيارة، وليس معنا سيارة، والجو كما ترين، لا أعرف حقا كيف أتصرف.

-يا إلهي ما هذا الطقس السيئ؟

هل اتفقت كل الاشياء علي اليوم وتجمعت ضدى؟ أم أنه عقاب الله لي، لأنني ظالمة لأبي؟

الوقت الذي أعرف فيه الحقيقة هو ذاته الوقت الذي تأبى الأشياء أن تكون معي.

غفرانك ربي ورحمتك بي، أنت وحدك تعلم أننى لم أكن أعلم شيئا، كانت "حياة" قد أصبحت على مشارف مدينة الإسكندرية، وهي تتوسل إلى الله أن تنقشع هذه الغيوم وتهدأ الأمطار.

فجأة ضربت جبهتها بكفها قائلة:- أي غباء هذا؟

أنا لا أعرف عنوان أبي، دخلت الإسكندرية ولا أعرف أين أذهب، ماذا أفعل إذن؟

أعلنت هيئة الأرصاد الجوية عن توقف جميع رحلات الملاحة بالمياه الإقليمية نظرا لارتفاع الأمواج وشدة الرياح.

لم يكن "حسن" يعلم بهذا القرار الذي اتخذته هيئة الموانئ بسبب سوء الأحوال الجوية ظل واقفا مكانه، واضعا يديه بجيب معطفه الأسود الثقيل، ينظر حوله، باحثا عن مكان يتوارى فيه من الأمطار.

يقع بصره على متجر الورود الصغير يتنهد قائلا:- "إبراهيم" ذلك الرجل البشوش الطيب، كيف لم أتذكره منذ وقوفي هنا.

حسنا ليس أمامي سبيل غير متجره أحتمي به حتى ينتهي هذا الطقس، وأراه فلا أعرف لماذا وجهه يذكرني "بحياة"؟

يسير "حسن" مسرعا إلى المتجر يفتح الباب بهدوء، ويدلف داخله وهو ينادى قائلا:- أيها الرجل الطيب، هل لي بفنجان شاى ساخن معك؟

يقع بصره على "ليلى" و"خالد" داخل المتجر وهما يجلسان بجوار "إبراهيم" الذي بدا عليه الإعياء الشديد.

جرى "حسن" نحوه مائلا عليه يقول:- ماذا حدث لك؟ من أي شيء تشتكي؟

يرتد ببصره بين "ليلى" التي جلست على ركبتيها بجوار أبيها تبكي و"خالد" الذي بدا عليه التأثر الشديد، يحاول أن يتذكر أين رآهما من قبل، وقبل أن يسألهما أين رأيتكما قبل الآن يدق هاتف "ليلى" التي فتحت الخط سريعا وهي تبكى قائلة:- "حياة" أين أنت؟

يهمس "حسن" لنفسه قائلا:- "حياة"؟ مؤكد تشابه أسماء، لكن هل هناك أيضا تشابه وجوه، لقد رأيت هذا الشاب وهذه الفتاة من قبل لكن أين؟

خرج من شروده على صوت "ليلى" تصرخ قائلة:

- أبي تكلم، أريد سماع صوتك، أبي ابق هنا لا تغب، "حياة" جاءت كي تراك.

سحبها "حسن" من يديها بعيدا صارخًا فى "خالد" قائلا:

- خذ هذه مفاتيح سيارتي تقف بالخارج أسرع وافتح لي بابها، وأنا سأحمله إلى السيارة نذهب به إلى المشفى.

يجري "خالد" خارج من المتجر حيث السيارة ومن خلفه "حسن" حاملا "إبراهيم"

 بين ذراعيه كطفل صغير، وإلى جواره تسير "ليلى"، أدخل "حسن" "إبراهيم" إلى المقعد الخلفي للسيارة، وإلى جواره جلست "ليلى".

جلس"خالد" بالمقعد الأمامي "بجوار" "حسن" الذي وقف يخلع معطفه مدثرًا به "إبراهيم" وانطلق بسيارته إلى العنوان الذي قالته "ليلى".

كانت قيادة السيارة في مثل هذا الجو تعد مجازفة خطيرة بكل المقاييس.

لم يترك القدر فرصة أمام "حسن" كى يختار؛ فكل ما أمامه يجبره على أن يقود في مثل هذا الجو. ضميره وإنسانيته، حبه لهذا الرجل الذي لم يره غير مرة واحدة. دموع تلك الفتاة التي يعلم أنه رآها من قبل. عجز هذا الشاب الصغير عن فعل شىء. كل الأشياء حوله لا تعطيه رفاهية الاختيار.

وصل "حسن" إلى المشفى بمساعدة الله له.

نزل "خالد" يجرى إلى داخل المشفى يستدعى الطبيب المشرف على حالة "إبراهيم".

قام "حسن" بفتح باب السيارة الخلفي، وبسرعة حمل "إبراهيم" مرة ثانية ودلف به داخل المشفى وخلفه "ليلى".

يتعجب كل الموجودين بالداخل، كيف وصل هؤلاء إلى هنا دون خسائر؟

كيف لهذا الرجل الذي ابتلت ملابسه عن آخرها ويدخل حاملا رجلا آخر ألا يعجزه الجو عن الحضور؟

حضر الطبيب مسرعا إلى إستقبال المشفى، وما إن رأى "إبراهيم" حتى أمر طاقم التمريض أن يأخذوا "إبراهيم" إلى غرفة العناية المركزة.

انزوت "ليلى" داخل حضن "خالد"، الذي لف يديه حول جسدها الذي ينتفض من الخوف والبكاء وظل يُهدّئ من روعها قائلا:- الله كبير يا "ليلى" أكبر من أي شىء، أكبر وأعظم من كل أطباء العالم.

ما يريده سوف يكون، وعلينا جميعا أن نتقبله، لا تخافي أنا بجانبك.

كان "حسن" يتابعهما عن قرب، وقد وقف أمام باب غرفة العناية المركزة، حاول أن يدخن سيجارة لكنه تذكر أنه داخل مشفى.

اقترب "خالد" من "حسن" قائلا له:- شكرا لك على ما صنعته

يبتسم "حسن" قائلا:- لم أفعل شيئا، لكن أشعر أننا تقابلنا قبل اليوم، أين تقابلنا؟

وقبل أن يجيب "خالد" تصيح "ليلى" قائلة:-

-"حياة"، ينظر "حسن" و"خالد" حيث تقف "ليلى"، تتعلق عينا "حسن" "بحياة" التي أخذت المياه تقطر من شعرها وملابسها التي أغرقها المطر.

ضمت "ليلى" داخل حضنها قائلة:- أين أبي؟

تقع الكلمة كالصاعقة على مسامع "حسن" التى لم تنتبه لوجوده "حياة"، مما تمر به من مشاعر متضاربة وخوف لا تعرف مصدره

همس "حسن" بصوت كاد أن يكون مسموع مسموعا قائلا:

-كم أنا غبي حقا، كيف لم أنتبه لشدة الشبه بين "حياة" وأبيها؟

لكن ما السبب وراء وجوده هنا بالإسكندرية، يحيا بمتجر صغير بمفرده، و"لحياة" كل هذا المال وتلك النفوذ.؟!

خرج من شروده على صوت "حياة" تسأل الطبيب الذي خرج للتو من غرفة العناية المركزة قائلة:- من فضلك، أخبرني ما هي حالة أبي؟

ينظر إليها الطبيب لحظات كمن يبحث عن كلمات يجيب بها عن سؤالها قائلا:-

-لا أخفي عليك، الحالة خطيرة وغير مستقرة.

تتمسك "ليلى" أكثر بذراع "حياة" تجهش بالبكاء، يقترب منها "خالد" ممسكا بيديها قائلا:-

- تعالي معي "ليلى" اهدئي قليلا.

يأخذها مبتعدا عن "حياة" والطبيب، يجلسان معا في أحد أركان استقبال المشفى.

تبتلع "حياة" ريقها بصعوبة بالغة، وقد شعرت أن الأرض تميد تحت قدميها، حاولت أن تستجمع شجاعتها قائلة:

- بإمكانى أن آخذه وأسافر إلى أي مكان خارج مصر.

-سيدتي، لن يفعل أى طبيب أكثر مما فعلنا، حالته وصلت للنهاية، فعضلة القلب ضعفت جدا ولا يوجد شيء لم نفعله، إنها إرادة الله ولا أحد يعرف عمر من أطول من الآخر.

حاولت "حياة" أن تحبس دموعها، التي كادت أن تخونها قائلة:- من فضلك أريد أن أراه.

-آسف، ليس بمقدوري أن أسمح لأحد بدخول غرفة العناية المركزة

-أرجوك يجب أن أراه، فأنا لم أره منذ سنوات طوال.

-حالته لا تسمح بزيارته.

لم تستطع "حياة" أن تتمالك نفسها أكثر من هذا أخذت تصرخ في وجه الطبيب، كمن يتمزق قائلة:- سأدخل إليه، رضيت أم لا ترضى، سأرى أبي مهما كلفنى الأمر، لن تحرمني منه أنت الآخر

ليته يسمعنى، ويخرج إليَّ فآخذه وأرحل بعيدا عن أمر ونهي طبيب لا يضع للمشاعر الإنسانية وزن وزنا.

أبي الراقد بداخل لم أره منذ أن كنت صبية صغيرة، والآن وهو على مشارف الموت تجيء أنت وتقف بينى وبين فرصتي الأخيرة، في الوقت الذي أتمنى أن أسمع فيها اسمي بصوت أبي، وأتوسل إليه كي يسامحني، وتحدثنى بلغة الطب التي لا أفهمها.

بكي الطبيب حينما سمع كلام "حياة".

 وراء انفعالها اقترب "حسن"، الذي لم يستطع أن يقف مكتوف الأيدي، وهو يرى المرأة الوحيدة التي أحبها تنهار هكذا.

اقترب من الطبيب قائلا:- من فضلك دعها ترَ أباها، فهذا استثناء إنساني.

نظرت "حياة" إلى "حسن"، الذي لم تشعر بوجوده، مذهولة غير مصدقة وجوده وأنها تراه

تلاقت أعينهما، وبعين كلٍّ منهما مشاعر تخصه

 "حياة" تقول بعينيها:- من أين جئت؟

هل سمعت صوتى وهو يناديك؟

كم أحتاجك فلا تتركنى.

يجاوبها "حسن" بعينيه قائلا:- اشتقت إليك، لا تخافي أنا هنا بجانبك ولن أتركك.

يقطع صوت الطبيب حوار أعينهما قائلا:-

- تفضلي، لكن مجرد دقائق وتغادرين.

تنظر "حياة" إلى "حسن" كمن تستمد منه قوة تحتاجها، يهز لها رأسه أن تشجعي واذهبي.

تخطو "حياة" إلى باب غرفة العناية المركزة بخطوات ثقيلة، كمن يسير فوق رمال ساخنة بصحراء شاسعة.

تمسك بمقبض الباب، تفتحه وتعاود النظر خلفها حيث "حسن"، يبتسم لها ابتسامة مطمئنة تفتح على إثرها الباب، وتدلف داخل الغرفة مغلقة الباب خلفها.

"الفصل الثاني عشر"

"رحيل"

انضم "خالد" و"ليلى" إلى " حسن" أمام غرفة العناية المركزة.

بارده "خالد" قائلا:- هل لنا أن ندعوك إلى فنجان قهوة بكافيتريا المشفى، فالجو شديد البرودة وتعبت معنا.

ابتسم "حسن" لهما قائلا:- لا بأس، أنا حقا بحاجة إلى تناول فنجان قهوة، وأن نتعارف.

جلس الثلاثة يتناولون قهوتهم، وكلّ منهم شارد في مشاعر لا يحسها غيره.

حاول "حسن" أن يزيل هذا الجليد، الذي غلف لقاءهم، فوضع فنجان قهوته أمامه فوق المنضدة قائلا:- إذن أنت شقيقة "حياة"؟ منذ أن رأيتك بالمتجر، وأنا أسأل نفسي أين رأيتك؟

تنظر إليه "ليلى"قائلة:- وهل رأيتني قبل اليوم؟

يرتشف "حسن" رشفة من فنجانه، وقد علت شفتيه ابتسامة قائلا:- نعم "ليلى" رأيتك بحفل عيد ميلاد "حياة"، وأيضا بحفل الباليه.

ورأيت "خالدًا" هو الآخر.

قاطعه "خالد" تلك المرة قائلا:- لم أعرف اسمك حتى الآن، ولا أعرف من أين تعرف "حياة"؟

وقفت "حياة" داخل غرفة العناية المركزة، وقلبها ينتفض بين أضلعها، تاركة لعينيها العنان تمطر دموعًا كما تشاء قائلة:- في اليوم الذي أراك فيه أبي، بعد كل هذه السنوات، أراك داخل غرفة عناية مركزة بمشفى.

خذ بيدى يا ألله، فأنت وحدك تعلم ما بداخلي من انهيار.

تخطو ناحية الفراش، الذي رقد عليه أبوها وقد علق بوريده محاليل وأصعبه معلق به جهاز صغير موصول بجهاز رسم القلب، وعلى فمه جهاز تنفس.

نظرت حولها "حياة"، تبحث عن أي شخص، حتى إن كانت لا تعرفه، كي تهرب مختبئة داخله كى لا ترى ما تراه.

اقتربت من أبيها، طابعة قبلة كبيرة على رأسه وراحت في نوبة بكاء شديدة حتى نزلت دموعها على جفن أبيها الذي شعر بوجودها ففتح عينيه ببطء رغم ما به من تعب وضعف.

وما أن تبين ملامح "حياة" ابتسم ابتسامة ضعيفة، ومد يديه يضمها إلى صدره.

ظلت تبكي فوقه، وتضمه إليها معتذرة له عن فراقها وظلمها له طيلة هذه السنين.

مضى وقت وهما هكذا ذائبان ببعض.

هى استكانت وهدأت، وهو كمن كتب له طيلة العمر بضع دقائق.

رفعت رأسها تنظر إلى أبيها الذي مد أنامله بصعوبة بالغة، يمسح دموعها، هامسا بصوت تكاد تسمعه قائلا:

- قبل أن أشعر بوجودك هنا كنت مع الله، أسأله أن أراك قبل أن أموت، والحمد لله حقق لي ما تمنيت.

تبحث "حياة" عن صوتها لتنطق أى شيء فلم تجده، وكأنها بكماء لا تعرف الكلام.

حاولت مرة أخرى حتى أتى صوتها وكأنه أتى من وادٍ سحيق قائلا:

- سامحني أبي، أرجوك أن تسامحني.

-على أي شيء أسامحك "حياة"؟

-على ظلمي لك، وقسوتي عليك، على إجرامي بحقك طيلة هذه السنوات، على حرمانك مني، وإن كانت الحقيقة أني أنا من حرمت نفسها منك.

لقد عرفت كل شيء، عرفت كم كنت مجرمة غبية.

سامحني أبي كي أسامح نفسي.

-لم أغضب منك كي أسامحك.

وأخذ يسعل بشدة.

فزعت "حياة"، وقد وقفت كي تستدعي الطبيب أمسك أبوها بكفها، قائلا بوهن شديد:

- لا وقت "حياة" ضعي يدك هنا بجيب سترتي، ستجدين ورقة بيضاء صغيرة، بها عنوان واسم المصحة التي تعيش بها توأمك "أمل"، اذهبي إليها خذيها معك. وكما اعتنيتِ  ب "ليلي"، اعتني بها هي الأخرى فهي كالطفل الصغير، لا يعرف شيئا في الحياة.

سامحي أمك، وحافظي على ما وصلت إليه.

"حياة"، أنا أحبك كثيرا، عيشي حياتك وخذي نصيبك من الحياة، يكفي ما أهدرته من عمرك، من أجل من حولك، عدينى "حياة"

-أعدك أبي.

يبتسم لها ابتسامة رضا، ويصمت عن الكلام.

يعلو صوت جهاز رسم القلب بصافرة كمن يعلن نهاية جولة.

تجحظ عين "حياة" ناظرة إلى أبيها تارة، وإلى الجهاز الذي استوت به التعاريج، فصارت كخط مستقيم معلنًا موعد الرحيل.

دخل الطبيب مسرعا ومن خلفه طاقم التمريض

نسيت حياة اسم "الطبيب" ووجه الممرضات وملامح غرفة العناية.

توقفت ذاكرتها مرة واحدة، كل ما علق بعينيها ذلك الوجه الشاحب الصامت.

أمسك الطبيب بجهاز الصدمات الكهربائية، يحاول أن يسعف "إبراهيم"

يحاول أن يفعل أي شيء ليعطيه نفخة روح تعيده مرة أخرى للحياة.

تعلقت كل حواس " حياة" بالطبيب ترجوه ألا ينطق الكلمة التي تأخذها من الحياة، ترجته أن يكذب، ويقول أن أبيها بخير، وأن ما حدث مجرد وعكة تحدث كثيرا.

تمنت أن تقف عقارب الساعة كلها، والأرض عن الدوران، وألا ينطق من حولها كلمة "البقاء لله"، خرج الطبيب من الغرفة، يتبعه طاقم التمريض، تاركين "حياة"، غارقة في إحساس مهما حاولت أن تصفه لن تستطيع.

سمعت صرخة "ليلى" بالخارج، علمت أن ما تشك به حقيقة وليس خيالا، علمت أن استقامة ظهرها قد كسرت، وأن من ظلت محرومة منه فارق الحياة في نفس اللحظة التي أتته متمنية أن تشعر بدفئه وحنانه وكأن الحياة اتفقت أن تسدد إليها ضربة كانت تعدها لها منذ سنوات، شعرت بكل أحاسيس الدنيا في لحظة واحدة كمن مزقوها وطلبوا منها ألا تتفوه بكلمة اعترض، اهتزت بقوة مثل شجرة اقتلعوها من جذورها مطالبين إياها أن تظل ثابتة مكانها، وقد أخذوا روحها بعيدا عنها.

لم تفق "حياة" من ذهولها إلا على يد "حسن" وهو يمسك بذراعها ينهضها من الأرض استدارت ببطء إليه، ولم تشعر بنفسها، غير وهي تتهاوى بين ذراعيه.

حملها "حسن" مسرعًا خارج من الغرفة ينادي بصوت مرتفع على الطبيب، جرت إليها "ليلى" حينما رأتها مغشيًّا عليها، تهزها وهي بين يدى "حسن" قائلة:- "حياة"، افتحي عينيك، حدثينى، لا تتركينى، يكفى أبي

"حياة"، أتوسل إليك، أسمعيني صوتك.

يهدّئ "خالد" من روعها قائلا:- لا تخافي " ليلي" هي بخير، ستفيق الآن، هي فقط مغشي عليها.

يأتي الطبيب، ناظرًا إلى "حياة" ثم إلى "حسن" قائلا بصوت حزين:- اتبعنى بها

يسرع "حسن" خلفه ناظرًا إلى "حياة" التي هربت الدموع من عينيها، حتى وهي مغشي عليها كمن يشتكى دون صوت.

شعر "حسن" بوخز كوخز الإبر يؤلم روحه قبل جسده من أجل ما لحق "بحياة"

أمره الطبيب أن يضع "حياة" على أحد الأسرة ووقف يجس نبضها، أمر إحدى الممرضات أن تضع لها بعض المهدئات

طمأن "حسنًا" الذي وقف يتأمل تلك النائمة كالأطفال قائلا:- لا تخف، إنها مجرد إغماءة من أثر الصدمة، إنى أشعر بها، أعانها الله على ما تشعر به.

سأتركك الآن وأذهب لأنهي بعض الإجراءات اللازمة لخروج الجثمان من المشفى.

شكره "حسن" على صنيعه ليترك الغرفة ويذهب، يجلس "حسن" بجوار

 "حياة"، يمسح دموعها هامسا لها:-

-"حياة"، أعلم أنك تسمعيننى، وتشعرين بوجودى كما أشعر بك، وبكل ما يجول بنفسك الصامتة فقد مررت بنفس شعورك هذا لكن عليك أن تكوني قوية، من أجلك وأجل "ليلى" وأجلى أنا الآخر.

أبوك نفسه، يريدك قوية، كما تعود منك

 يريدك أن تنهضي سريعا من تلك الكبوة وتنتشلي نفسك من هذا الإحساس لأن هناك كثيرين متعلقين برقبتك

انهضي "حياة"، فأكثر شيء أحببته فيك هو قوتك.

حبيبتى، إنها مجرد أزمة وستمر.

ستمر بكل ما فيها، فقط أعلم أنها مجرد أيام وينتهي كل شيء.

ظل "خالد" بجوار "ليلى" التي جلست تقرأ آيات من القرآن الكريم مستجدية فيها السكينة والصبر.

دق هاتف "خالد"، وإذ "بيسر" تحادثه قائلة:-

-أين أنت؟ أحادث "حياة" و"ليلي" دون فائدة فجميع هواتفكم لا تجيب، ظننت أنه من سوء الطقس، لكننى علمت من دادة "فاطمة" أن "حياة" عندك بالإسكندرية

ماذا حدث يا "خالد"؟

يسير "خالد" بضع خطوات مبتعدًا عن "ليلى" قائلا:- لقد توفي والد "ليلى" و"حياة"

ونحن الآن بالمشفى ننهي إجراءات تسلم الجثمان.

-وكيف حال "حياة" و"ليلى"؟

- أنت تعلمين كيف من الممكن أن يكون حال من فقد أباه "يسر"؟

-سآتي إلى الإسكندرية الليلة.

-لن تستطيعي، فكما ترين حالة الطقس السيئة وجميع الطرق خطر السفر عليها الآن.

ابقَيِ أنت بمصر من أجل العمل.

أغلق "خالد" هاتفه، وجلس بجوار "ليلى" التي شردت دون كلام

ربت على كتفها بحنان قائلا:-

-"ليلى"، أتعلمين حينما رأيتك أول مرة، شعرت أن بك شيئا من أمي، لا أعرف ما هو، ربما ذلك الحنان الذي رأيته يسكن عينيك، ربما بشاشة وجهك

شعرت معها بأمان وراحة، لم أشعر بهما طيلة عمري

وقتها علمت أنك من خلقت من ضلعي، وأنك نصف يكلمنى.

لذلك أحببتك دون إرادة منى، وسأظل أحبك ما حييت.

ابتسمت "ليلى" رغم الألم الذي يذبح روحها وكأن ما قاله "خالد" كان بمنزلة قطعة ثلج وضعت فوق جرح غائر.

هكذا نحن كالصغار نحتاج لمن يطمئننا وقت خوفنا، ومن يأخذ بأيدينا وقت ضعفنا.

فتحت "حياة" عينيها لتجد "حسنًا" يجلس بجانبها

وما إن رأته حتى أخفت وجهها بالوسادة هاربة بعينيها عنه.

يقترب منها "حسن" يقبل رأسها قائلا:-

- لا تخفي وجهك، بعيدًا عنى "حياة"

انظري إلي، دعيني أراك.

بصوت مخنوق بالعبرات، ردت "حياة" قائلة:-

-كم أنا خجلت منك، وأشعر بصغر حجمى رغم كل ما فعلته معك، لا أجد أحدًا بجانبى غيرك وكأنك دوما ما تشعر بي، رغم البعد والمسافات.

يجذبها "حسن" برفق، كي ترفع وجهها عن الوسادة لم تقاومه، بل استسلمت ليديه

جلست بالفراش، متكئة بجسدها على ما خلفها من وسائد، قد وضعها لها "حسن".

ظلت صامتة دقائق، تنظر في فراغ الغرفة

ثم نظرت إلى "حسن" بعينين تقف الدموع على حافتيها قائلة:

- هل لي أن أطلب منك شيئا؟

نظر إليها حسن باهتمام بالغ قائلا:- بدون أن تسأليني "حياة"، اطلبي مني ما تشاءين.

-فقط أريدك أن تضمني إليك.

ذابت الكلمات على شفتي "حسن" ارتسمت على ملامح وجهه عشرات المشاعر والانفعالات.

اقترب منها، وبلهفة أخذها بين ذراعيه ضمها إلى صدره، بكل قوة يمتلكها

تمنى لو أخفاها بين أضلعه، تمنى لو كان بإمكانه أن يأخذ منها كل وجع ووهن تشعر به.

ضمته هي الأخرى بشدة، وكأنه آخر ما تبقى لها من الأيام.

أخفت وجهها بصدره، شعر بها تتكسر بين يديه

وعليه أن يلملمها.

أزاح خصلات شعرها من فوق أذنيها قائلا:-

- ابكي "حياة"، اتركي لنفسك العنان، تفعل ما تشاء ابكي حبيبتى.

وكأن كلماته لها كانت بمنزلة مفتاح لما كانت تخفيه من مشاعر.

غابت في نوبة بكاء تقطع لها قلبه.

حكت كل شىء، روت له أيام عمرها يوما يوما.

حدثته عن الحقيقة التي عرفتها، وعن قطيعتها لأبيها وظلمها له، أخبرته لمَ كانت دوما تهرب منه.

بثت إليه مشاعر الحزن والوجع على فقد أبيها بعد أن وجدته.

وعن توأمها التي لم ترها منذ أن كانا أطفالا صغارا.

مع كل كلمة كانت تنطقها، وترويها بدموعها

كان يزداد عشقًا لها، فقد شعر بما كانت تعانيه وتحياه بمفردها.

وصلت "يسر" إلى فيلا "حياة" في ساعة متأخرة من الليل

تقابلها "فاطمة"، وقد تسرب لقلبها شعور بأن هناك خطبًا ما قد حدث

ظلت "يسر" صامتة تبحث عما تقوله في موقف كهذا.

وقبل أن تنطق بادرتها "فاطمة" قائلة:-

- أستحلفك بالله ألا تقولي إن "إبراهيم" قد مات

تنظر "يسر" بحزن إلى الأرض ولم تجب.

تجهش "فاطمة" بالبكاء قائلة:- لمَ رحل دون أن يخبرني؟ كيف له أن يخونني للمرة الثانية؟ كنت أود فقط أن أخبره كم أحببته طيلة حياتى.

أرجوك "يسر" أخبري "حياة" أن تقول له أن ينتظرني، سأذهب إليهم كي أراه، وأخبره بكل شىء.

تخرج "أحلام" من غرفتها على صوت "فاطمة"

وما إن رأتها حتى علمت برحيل "إبراهيم"

تقترب ببطء من "فاطمة" واقفة أمامها قائلة:-

- وأنا كنت أود أن أطلب منه يسامحني.

أخبريني أنت يا "فاطمة" يا صديقة عمري، هل من الممكن أن يسمعنا ويشعر بنا الأموات؟ كي أظل أطلب منه أن يسامحني.

وإن رفض ذلك هل من الممكن أن تتوسطي لي عنده كي يسامحنى؟، فهو دوما كان يحبك ويحترمك.

تقترب منها "فاطمة" تحتضنها وتغيب الاثنتان في نوبة بكاء..

 "حياة" آسف إن كنت ما قلته الآن قد أوجعك لكن كان يجب أن نحكيه دفعة واحدة كى لا نعود إليه مرة أخرى.

ما مضى قد مضى، دعيه يسقط منك حبيبتى دون رجعة.

وحمدًا لله أن والدك سامحك قبل رحيله.

لا تحزني من أجله، فهو بمكان آخر أفضل بكثير من تلك الأرض التي نحيا عليها، وتموج بالأطماع والأحقاد.

أريدك الآن أن تكوني قوية، كما أنت دوما

علينا أن نصل إلى مصر، صباحًا كى نوارى جثمان أبيك الثرى.

وبعد ذلك هناك مهمة أخرى أمامنا وهي العثور على "أمل"

أريدك ألا تخشيْ شيئا فأنا معك..

"الفصل الثالث والعشرون"

" توأم"

انتهت مراسم الدفن والعزاء

جلست "حياة" ببهو الفيلا مع "ليلى" و"يسر" و"خالد" وقد حضر دكتور "إيهاب" و"أحمد" لتقديم واجب العزاء

ظلت "حياة" ترمق "إيهاب" بنظرات فهم مغزاها، حاول أن يبحث عن كلمات يبدأ بها حديثه مع "حياة"، وبعد لحظات نظر إلى "حياة" قائلا:

- كنت أود أن أكون بجوارك، لكننى كنت خارج مصر أشارك بمؤتمر طبي.

-أشكرك، فأنا لم أكن بحاجة إلى وقوفك بجواري قدر احتياجي إلى أن تخبرني الحقيقة التي أخفيتها عنا طيلة هذه السنوات رغم صداقتنا.

- "حياة"، عليك أن تلتمسي لي العذر، فما أخفيته عنك كان بمنزلة أمانة بينى وبين والدك.

- هناك أمانة يجب ألا نصمت عليها. أمانتك كلفتني سنوات من عمرى لا تقدر بثمن، والأهم من سنوات عمرى هو "أبي"

ران صمت رهيب في المكان كأنها حالة خشوع من أجل مشاعر إنسانية تحتضر.

وقف "إيهاب" يصافح "حياة" وقد شعر بألم لا يعرف مصدره لإحساسه بأنه كان سببًا فيما عاشته من ألم قائلا:

- ليس لدي كلام من الممكن أن يزيل عني الاحساس بالذنب الذي أشعرتنا به "حياة".

صافحته "حياة" دون كلام واقفة مكانها تتبعه ببصرها.

ينهض "أحمد" هو الآخر مستأذنا بالانصراف مصافحا "حياة" قائلا:

- أسأل الله أن يجعلها آخر الأحزان.

صافحته "حياة" شاكرة له صنيعه.

ينهض "خالد" كى يصحبه إلى الخارج.

تعود "حياة" تجلس بجوار "ليلى" التي أسندت رأسها على كتفها قائلة:

- شكرا "حياة" لحضورك إلى الإسكندرية ورؤية أبي قبل رحيله.

قبلتها "حياة" برأسها قائلة:

- إذا كان هناك أحد يجب أن نشكره حقا فهو دادة "فاطمة" يا "ليلى"

رفعت "ليلى" رأسها عن كتفها قائلة:-

- ولمَ "حياة"؟

-ستعرفين حالا.

نادت "حياة" على "فاطمة" التي خرجت من المطبخ متشحة بالملابس السوداء كباقى من بالفيلا، قابلتها "حياة" فاتحة ذراعيها محتضنة إياها لتبكي "فاطمة" بحرقة، ظلت "حياة" تربت ظهرها قائلة:

-لا تبكي يا دادة، لا تبكي، فقد فعلت ما لم يستطع أحد أن يفعله، وتحملت الكثير من أجلي أنا و"ليلى".

 نظرت "ليلى"و"يسر" إليهما نظرات تسأل: ماذا هناك؟                                                                                    

ابتسمت لهما "حياة" قائلة:- اجلسا سأروي لكما كل شىء.

أوت "حياة" إلى فراشها ممنية نفسها بساعات من النوم الهادئ بعد ما كان من أحداث كثيرة مؤلمة.

لكن أبى النوم أن يزورها، جلست في فراشها تتنهد كمن يريد أن يزيل حملا جاثمًا فوق صدرها فجأة يقفز إلى ذهنها "حسن" بدون تفكير تمسك بهاتفها تتصل به

بعد لحظات معدودة يأتيها صوت "حسن" وكأنه هو الآخر كان ينتظرها قائلا:- كنت أعلم أنك ستتحدثين اليوم

-وكيف علمت؟

-لسبب بسيط هو أنني اشتقت إليك

- وما دخل اشتياقك إليّ في حديثى معك؟

ضحك ضحكة صغيرة قائلا:- لأن هناك دوما خيطا رفيعا يربط المحبيْنِ بعضهما ببعضهما، خيط اسمه الروح. تلك الروح التي تشعر بالآخر وهو بعيد عنها، تتألم لألمه، وتفرح لفرحه، إنها لغة الأرواح التي لا يعرفها سوى المتحابين.

- "حياة" سأرحل بعد غد.

ابتلعت "حياة" ريقها بصعوبة عندما سمعت جملته تلك.

حاولت أن تتنفس بهدوء كي يبدو صوتها طبيعيًّا قائلة:- وكم ستغيب؟

-من الممكن شهر، لكن ليس هذا هو المهم الآن

صمتت "حياة" ليصل صوت أنفاسها إلى "حسن" عبر الهاتف يقول:- وما هو المهم بوجهة نظرك أكثر من أنك ستأخذ روحي معك حينما تغيب؟! كيف ستكون الحياة دونك بعد أن أشرقت شمسك فأذابت جليد روحي؟

يأتيها صوت "حسن" يخرجها من صمتها قائلا:- "حياة" هل أنت معي؟ لماذا أنت صامتة؟

-لا شيء "حسن"، أخبرني ماذا كنت تريد أن تقول؟

- اسمعيني جيدا، ليس أمامي هنا بمصر سوى يوم واحد، وعلينا أن نصل إلى "أمل"، لن أتركك بمفردك تبحثين عنها، فأنا أعلم أنها مهمة صعبة.

-إذن نسافر غدا إلى الإسكندرية حيث العنوان الذي تركه لي أبي.

-حسنا هذا ما أردت فعله كي أسافر وأنا مطمئن عليك.

-إذن سأنتظرك غدا، تصبح على خير

-تصبحين على أحلام حلوة تشبهك.

استيقظ "حسن" مبكرا، تناول قهوته على عجل مرتديا بنطلونًا من الجينز الأسود، وقميصًا بلون السحاب أضفى على بشرته وعينيه صفاء يجعل من يراه يقسم أنه يعيش حالة حب.

نزل الدرج مسرعا، ركب سيارته في طريقه إلى فيلا "حياة" التي استيقظت هي الأخرى مع أول شعاع للنور، وقفت أمام خزانة ملابسها تتخير ماذا ترتدى لتختار قميصًا من الصوف الأسود وجيبًا أسود قصيرًا، تاركة شعرها منسدلا على ظهرها.

خرجت من غرفتها، وقبل أن تهبط إلى الأسفل توقفت أمام غرفة أمها أخذت نفسًا بعمق ووقفت تدق باب الغرفة حتى جاءها صوت أمها قائلا:-

-تفضلي

تفتح "حياة" الباب، تجد أمها تجلس على سجادة الصلاة

ظلت "حياة" واقفة بالباب تتطلع فيها، وما أن رأتها أمها صمتت لا تتفوه بكلمة.

دقت جملة أبيها عقلها وهو يقول:-

سامحي أمك فهى مريضة.

 سارت إليها جالسة أمامها على سجادة الصلاة قائلة:- أمي أنا مغادرة إلى الإسكندرية لكي أحضر "أملًا".

تنظر اليها أمها بلهفة قائلة:- هل عرفت مكانها؟

-نعم، لقد أخبرني أبي عنوان الدار التي تقيم بها

- تصحبك السلامة حبيبتى

تقف "حياة" مغادرة، وما أن وصلت لباب الغرفة توقفت مستديرة إلى أمها مرة أخرى قائلة:- أمي، لقد سامحك أبي قبل أن يرحل اطمئني.

تسمع "حياة" صوت سيارة "حسن" الذي ينتظرها بالخارج، تهبط الدرج مسرعة حتى تقابلها "ليلى" ببهو الفيلا، وما رأتها حتى جرت نحوها قائلة:-

-إلى أين أنت ذاهبة؟

- حبيبتى، أنا مسافرة إلى الإسكندرية كى أحضر "أملًا"، أبلغي "يسر" ودادة "فاطمة". سأتركك الآن، ولا تنسي أن تخبري "خالدًا" بأن يبقى مكانى بالشركة حتى أعود.

تركت "حياة" "ليلى" التي لم تعطها فرصة للرد عليها واقفة مكانها، وخرجت مسرعة حيث "حسن" الذي وقف ينتظرها

تفتح "حياة" باب السيارة جالسة بجواره قائلة:-

-صباح الخير

يغمض "حسن" عينيه قليلا دون أن يجيب.

تمد يديها تهزه في كتفه قائلة:- "حسن" ماذا هناك؟ هل أنت بخير؟

يفتح عينيه التي ظلت تتجول في وجه "حياة" قائلا:- أستنشق رائحتك "حياة"، أمتلأ منك وبك.

يحمر وجهها خجلا قائلة:- هيا كي نلحق وقتنا

ينطلق "حسن" بالسيارة مسرعًا إلى الإسكندرية

ثلاث ساعات وكان "حسن" و "حياة" يقفان أمام العنوان المكتوب في الورقة التي حصلت عليها "حياة" من أبيها.

دلف الاثنان من الباب ليسيرا في ممر صغير على جانبيه أشجار كثيفة، تقابلت أغصانها فصنعت ظلًّا جميلا ينعكس من خلال بعض فتحاته الصغيرة أشعة الشمس، وفى نهاية هذا الممر توجد حديقة كبيرة، زُرع بها أشكال مختلفة من الأشجار والزهور وأرضها مفروشة حشائش خضراء، وقد تناثر بها بعض المناضد والكراسي بيضاء اللون وقد جلس عليها بعض من نزلاء الدار

 الذين جلس بعضهم شاردين في الفضاء وآخرون جلسوا يلهون ببعض الدمى.

سارت "حياة" تنظر إليهم حتى تعثرت قدميها وكادت أن تقع لولا أن أمسك بها "حسن" قائلا:-

- "حياة" انتبهي، تابعي سيرك دون أن تنظري خلفك

مد يديه، ممسكًا بيدها هامسًا:- هكذا أفضل

ابتسمت وهي تحاول أن تخلص يديها من يده دون جدوى.

قابلهما في آخر الممر رجل أربعيني، له لحية خفيفة بها بعض الشعيرات البيضاء، أنفه أفطس وعيونه خضراء، توقف حينما رآهما مبتسمًا ابتسامة طيبة قائلا:- أهلا بكما. هل من مساعدة أستطيع أن أقدمها لكما؟

"حياة" و"حسن" قالا:- من فضلك نريد مقابلة أحد المسؤولين هنا

- اسمحا لي أن أقدم لكما نفسي، أنا "مصطفى وهدان" مدير الدار

كادت "حياة" أن تنطق لولا أن باغتها "حسن" قائلا:- نريد أن نحدثك بموضوع هام

- تفضلا معي إلى مكتبي

يسير ثلاثتهم، حتى وصلوا إلى صالة كبيرة، تضم العديد من الغرف، كتب على أحدها: مكتب المشرفة، وعلى أخرى: مكتب الأخصائية النفسية، وبينهما غرفة تبدو أكبر منهما، كتب عليها: مكتب المدير، دخل الرجل يتبعه "حسن" و"حياة".

جلس خلف مكتب أسود أنيق، علق على الحائط خلفه كلمة تقول "عاملني كما تحب أن أعاملك فأنا لا أقل عنك شيئا".

نظر إليهما قائلا:- تفضلا أخبراني عن موضوعكما الذي تريداننى فيه.

-نحن نسأل عن "أمل إبراهيم الألفي"

-"أمل"؟

تتعصب "حياة" قائلة:- من فضلك، لا تقل إنك لا تعرفها، أو أنها ليست هنا.

وضع "حسن" كفه فوق كفها قائلا:-

- اهدئي "حياة" من فضلك نحن نبحث عن آنسة من المفترض أنها نزيلة لدى الدار منذ سنوات طوال.

-تقصد "أمل الألفي"؟

دب الأمل في روح "حياة"، وقد تهللت أساريرها قائلة:- نعم هي، أنا شقيقتها

ارتدى الرجل نظارة طبية شاهقًا في تعجب قائلا:-

-سبحان الله، إنك نسخة طبق الأصل منها كيف لم أنتبه لهذا الأمر؟!!

زفر "حسن" في الهواء قائلا:- من فضلك هل من الممكن أن نقابلها؟

-أكيد تعاليا معي.

ساروا مرة أخرى مع الرجل عبر ردهة طويلة ملئت بغرف على الجانبين، حتى توقف أمام غرفة مشيرا بيديه إليها قائلا:- هذه هي غرفة "أمل" وهي موجودة بالداخل، فهي لا تغادر غرفتها حتى يحضر أبوها يصحبها إلى حديقة الدار.

أين هو؟ ولمَ لمْ يأت معكما؟ فليس من عادته أن يغيب يوما واحدًا عن زيارة "أمل".

نظرت "حياة" إلى "حسن" بعيون دامعة دون أن تجيب الرجل الذي عرف من ملابسها وعينها الدامعة إجابة سؤاله.

فتركهما معتذرا وانصرف.

 لم تتحرك "حياة" خطوة واحدة من مكانها وكأن قدميها قد شلت، اقترب منها "حسن" قائلا:-

-ماذا بك "حياة"؟

-خائفة، أول مرة بحياتي أشعر بهذا الخوف

رأى "حسن" ارتعاشات جسدها، فضمها إليه قائلا:- لا تخافي، هيا اذهبي إلى توأمك لتكتمل روحك هيا "حياة"

-تعال معي لا تتركني بمفردي

فتح "حسن" باب الغرفة ببطء، و"حياة" متعلقة بذراعه تنظر بلهفة من خلف ظهره، حتى وقف الاثنان في منتصف الغرفة التي طليت جدرانها باللون الوردى، ووضع بأحد أركانها فراش نظيف فرش بملاءة بيضاء، بها رسومات طفولية متداخلة الألوان بجواره دولاب ملابس صغير. وفى المنتصف وضعت منضدة مستديرة تضم كرسيين، فرشت أرضيتها بسجادة حمراء مزركشة، تراها "حياة" جالسة تلهو بعروسة جميلة، كان أبوها قد أهداها إياها في عيد ميلادها، وقد ارتد، فستانًا أحمر اللون أظهر بياض بشرتها عقصت شعرها للخلف بشريط حريرى له نفس لون فستانها. تشبه كثيرا الملائكة، لا يكاد أحد يشعر بوجودها

إن لم يرها.

دفع "حسن" "حياة" ناحيتها قائلا:- هيا اذهبي إليها لا تخافي شيئا، هي تحتاجك أكثر من احتياجك إليها.

مدت "حياة" أناملها تمسح دموعها قائلا:-

- انظر "حسن"، كيف تشبهني في كل شيء، أرأيت كيف هي هادئة وديعة.

يهز "حسن" رأسه وهو مغمض العينين قائلا:-

-أخذت من روحك فكيف لا تشبهك؟

خطت "حياة" بمشاعر مختلطة ما بين حب وخوف وفرح ولهفة، جلست أمامها على ركبتيها انتبهت "أمل" لوجودها، رفعت عينيها ببطء، تنظر إليها، وما إن رأتها، حتى شهقت متعجبة وقد مدت يدها المرتعشة، تتحسس ملامحها وكأنها ترى نفسها في مرآة أخذت تداعب شعرها، وتلمس ملابسها بحذر.

لم تتمالك "حياة" نفسها، وهي ترى نصفها الآخر وجزءًا من روحها أمامها، ولا تعرف هل ستعرفها وتشعر بها وتعلم أنها توأمها.

تغيرت ملامح "أمل" عندما رأت دموع "حياة" أخذت تمسحها عنها، لم تجد "حياة" أمامها شيئا تفعله، غير أن احتضنتها بشدة، تستسلم "أمل" لحضن "حياة"، التي أغمضت عينيها، وكأنها لم تشعر بأمان بعد أبيها إلا بهذا الحضن.

حاولت "أمل" أن تتحدث وبصعوبة قالت:- من أنت؟

أخرجتها "حياة" من حضنها، ناظرة إلى "حسن" الذي جلس يتابع مشهدًا إنسانيا لا يتكرر.

عائدة ببصرها إلى "أمل" قائلة:- أنا شقيقتك ألا ترين أني أشبهك كثيرا، أنا توأمك، وأحبك كثيرا.

ستأتين معي، سنذهب إلى بيت جميل وكبير، وبه أناس تحبك أيضا، هناك شقيقتنا الصغرى "ليلى"، إنها طيبة وستحبينها، وأيضا دادة "فاطمة" وصديقتى "يسر" ستعرفينهم جميعا، وقد أعددت لك غرفة أكبر وأجمل من تلك، بها عرائس وألعاب كثيرة، لا أريدك أن تخشي شيء، اتفقنا حبيبتى؟

تومأ تومئ لها برأسها أنها موافقة

تقبلها "حياة"، وقد خطا "حسن" خارجًا من الباب قائلا:- هيا "حياة" سأنتظرك بالخارج، عليك أن تعدي حقيبة ملابس "أمل" حتى أنهي بعض إجراءات مغادرتها الدار مع المدير.

أمسكت "حياة" بحقيبة ملابس كانت قد وضعت أعلى الدولاب، وأخذت تضع بها ملابس ومتعلقات "أمل"، التي نهضت تقف بجوار "حياة"، تمسك ملابسها وتعطيها إياها، تضعها بالحقيبة قائلة بصوت متقطع:- ما اسمك؟

ضحكت لها "حياة" قائلة:- اسمي "حياة"

-"ح..ي..ا..ة".

-نعم حبيبتى "حياة"

"الفصل الرابع والعشرون"

"ميلاد جديد"

كانت أضواء فيلا "حياة" مضيئة على آخرها.

وقد التف الجميع حول المدفأة يتجاذبون أطراف الحديث.

"ليلى" مع "خالد" و"يسر"، وعلى مقربة منهم جلست "أحلام" و"فاطمة".

وكأن لم يفصل بينهما سنوات طويلة من الخصام والبعد.

هكذا نحن.. تذوب مشاحناتنا وعداوتنا حينما يكون بداخلنا قدر من السلام والتسامح، وكانت "فاطمة" أكثر من تتمتع بهذا.

ترجلت "حياة" من سيارة "حسن" أمام بوابة الفيلا تفتح الباب الخلفي للسيارة، تساعد "أمل" على النزول منها.

يقترب "حسن" ممسكًا بيد "أمل" مع "حياة" يسيرون معا حتى باب الفيلا الداخلى.

و"أمل" تسير تتلفت حولها كطفل يستكشف عالما عليه جديدا.

تقف "حياة" حينما شعرت باندهاش "أمل" لما يحيط بها قائلة:- "أمل" هذا بيتك، ستعيشين هنا معي، هل اتفقنا؟

تومئ لها برأسها دون كلام.

وقبل أن يتابعوا السير، توقف "حسن" قائلا:-

- الآن اطمأننت عليك، وأنك لست بحاجة إلي، سأتركك هنا، وأعود أدراجي، سوف أرحل غدا على متن الباخرة التي ستغادر الإسكندرية في تمام التاسعة صباحا.

- "حسن" ابقَ قليلا.

- اللحظات القادمة لحظات إنسانية بحتة، ولا يجب أن يشاركك أنت وشقيقتيك أحد فيها.

أتركك الآن على أمل لقاء قريب.

وانحنى يقبل "أمل" التي أحبته، وشعرت معه بألفة، صافح "حياة" دون النظر في عينيها التي كانت تتوسل إليه أن يبقى.

وقفت مكانها تودعه بعينيها حتى ركب سيارته وغادر.

أكملت طريقها مع "أمل" حتى وصلتا إلى داخل الفيلا

فتحت "حياة" الباب ودلفت إلى الداخل ويدها مطبقة على يد "أمل" التي ما أنا رآها الجميع حتى وقفوا ينظرون إليها ثم بعضهم إلى بعض.

جرت "ليلى" نحوها تحتضنها قائلة:- تشبهك تماما "حياة"

نظرت "حياة" إلى" أمل" قائلة:- هذه شقيقتنا "ليلى" التي أخبرتك عنها

ابتسمت "أمل"، وظلت تقلب عينيها في الحاضرين حتى توقفت عيناها على أمها.

عقدت حاجبيها فجأة كمن يتذكر شيئا، وقفت "أحلام" حينما رأتها مقتربة منها،

وما إن شعرت "أمل" بها وتذكرت كل ما صنعته معها، حتى تشبثت بذراع "حياة" وظلت تضرب الأرض بقدميها.

ضمتها إليها، تهدئ من روعها، وقد فهمت ما جال بخاطرها من ذكريات مؤلمة قائلة:-

-"أمل" ألم أخبرك أن أمك قد تغيرت وهي تحبك كثيرا، لا تخشي شيء، نحن جميعا نحبك، أنت هنا في أمان. صدقينى هي تريد فقط أن ترحب بك.

صافحيها لا تخافي.

تنظر "أمل" إلى أمها وهي ما تزال داخل حضن "حياة" تمد يدها في تردد ناحيتها.

تمسك "أحلام" بيدها تقبلها وهي تبكى قائلة:-

-سامحيني ابنتى، سامحيني لكي يسامحني الله.

شعرت "أمل" بصدقها، فهي كالأطفال أكثر الكائنات التي ترى ما بداخل الإنسان،

 تعلم ببساطة إن كان كاذبا أم صادقا.

تترك "أمل" حضن"حياة"، تقف أمام أمها.

لم تستطع "أحلام" منع عاطفة أمومتها التي لم تشعر بها "أمل" ولو مرة واحدة، وأخذت "أمل" بين يديها، تضمها معتذرة لها عن كل ما فعلته بها

تشارك الجميع في لحظات مشاعر فياضة قلما يجود بها الزمن، تصالحوا جميعا مع الزمن، أسقطوا حسابات الأمس، وفتحوا صفحة جديدة في دفتر أعمارهم.

تناولوا جميعا طعام العشاء،وسط جو كله حب وألفة.

غادر "خالد" إلى بيته، وخلدت "يسر" و"ليلى" إلى النوم، اصطحبت "حياة" "أملًا" إلى غرفتها. ولم تتركها حتى راحت في سبات عميق.

دلفت "أحلام" إلى غرفتها تصلي وتدعو لإبراهيم بالرحمة.

لم يتبقَ سوى "حياة" و"فاطمة" التي ما إن رأت "حياة" حتى ابتسمت قائلة:-

-لا أعرف ماذا أقول لك، كل ما أستطيع قوله: الله يرزقك سعاده لا تنتهي مثلما أسعدتِ الجميع.

-لا تقولي شيئا يا دادة، يكفينى هذه الدعوة الحلوة.

سأذهب لأنام.. تصبحين على خير.

تصعد "حياة" إلى غرفتها، لكنها لم تأوِ إلى فراشها، بل وقفت خلف زجاج النافذة تنظر إلى السماء قائلة:- اللهم ارزق قلبي السكينة. كم أحتاج مساعدتك.

نظرت في ساعة يدها لتجد عقاربها تشير إلى السادسة صباحا.

باقٍ ثلاث ساعات ويغادر "حسن".

تغادرها سعادتها، ونبضات قلبها، وروحها دفعة واحدة.

هل أتركه يرحل دون أن أخبره كم أحبه؟

 "حسن" هذا الاسم الذي يعتبر بمنزلة مفتاح سحرى للحياة بالنسبة لها.

كل شيء دونه بلا قيمة، الشركات والأموال والاسم والمناصب، كل شيء دونه لا روح له.

فجأة هبت واقفة مغادرة الفيلا مستقلة سيارتها قاصدة الإسكندرية.

كانت تصارع الوقت كى تلحق بالباخرة قبل إبحارها من الميناء.

ظلت تنظر إلى عقارب الساعة، مستحلفة إياها ألا تسرع، زادت سرعة ضربات قلبها، وكأنه هو الآخر يسارع الوقت.

وكلما طوت الأرض إلى الإسكندرية شعرت بأن المسافة تطول.

كادت أن تختنق رغم برودة الجو، مدت يدها تفتح زجاج نافذة السيارة قائلة:- كم أنا غبية، كان معي بين يدى، والآن بعد أن قرر الرحيل، أتمنى أن تقف الأرض عن الدوران، أن تتعطل جميع الساعات.

كانت الساعة تعلن التاسعة وهي على مشارف الإسكندرية. ظلت تحارب ما يحيطها من زحام غير فاقدة الأمل في أن تلحق به. كلما تسلل إليها شعور باليأس، يخبرها أن لا فائدة، وأن الباخرة أعلنت الآن الرحيل، دفعها قلبها بقوة أكبر  هامسًا لها:- لا تفقدي الأمل، ستلحقين به وإن لم تلحق، فالقلوب مهما بعدت بينها المسافات، حتما تلتقي في أغنية أو سطر في كتاب.

وصلت "حياة" إلى المرسي أمام متجر الزهور الذي كان يمتلكه أبوها.

تركت السيارة وجرت إلى الميناء، ظلت واقفة مكانها تلوح للباخرة التي على صفيرها وهي تبتعد عن الشاطئ، ظلت تنادي بصوت مرتفع اختلط بصوت الموج الذي أخذ يضرب المرسي بشدة دون استحياء.

انتبه "حسن" الذي كان يقف على سطح الباخرة إلى صوت "حياة".

نظر إلى الشاطىء، رآها تلوح له بيديها، تناديه بكل جوارحها.

أمسكت بهاتفها تكتب عليه، ومع كل كلمة تكتبها، تبتعد الباخرة أكثر، وتقترب الأرواح والقلوب أكثر.

ظلت عيناها معلقة بها، وقلبه يكاد يترك أضلعه قافزًا إليها.

انتهت "حياة" مما كانت تكتب، ينتبه فجأة على صوت رسالة آتية على هاتفه، قبل أن يفقد هاتفه إشارات الاتصال.

أمسك بالهاتف يفتح رسالة "حياة".

- "حسن" حاولت جاهدة أن أتجاهل مشاعري لكن أحساسي بك صار أكبر مني ومن كل شىء.

أحببتك من أول رقصة لى معك، لم تكن مجرد رقصة بين رجل وامرأة، بل كانت رقصة مع الحياة.

هناك شيء يربطني بك، لا أعرف هل تشبث بالحياة التي وجدتها معك أم هو حب ادخرته لك طيلة الحياة.

سأنتظرك هنا حتى تعود، سأنتظرك بمتجر الزهور الذى ظل أبي يروى فيه زهوره حبا ودفئا وصدقا. سأظل أروي زهر البنفسج حتى تعود إليه. سأنتظرك حتى تعود حاملا لي روحي التي معك.

 -تمت بحمد الله-

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

564 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع