آخر الموثقات

  • إحذر و تيقن
  • ستجبرون...٤
  • حسنًا.. إنها الجمعة..
  • لا تحزني يا عين..
  • حبل الذكريات
  • [النقطة التي أكلتني] قصة قصيرة 
  • الاستقرار سنة كونية واجتماعية  
  • أتسمح لي..
  • فنجاني وحده يعرفني
  • هل هذا …..إنتصار ؟!!!!!
  • صرخة حوائط
  • هل يمكن حقًا تركيب جيب فستان من الخارج بدون أي خياطة مرئية؟ 
  • لا مبالاة ...
  • وأنتَ ملاذي...
  • ٣ كيلو لحمة
  • يتوسدون المياه والأوحال ويلتحفون الزمهرير
  • الثانية فجرا: وعلى سبيل الاعتراف..
  • عمر الحب ما شفته مشين
  • لزاما عليك ألا تعجز ... 
  • لعنة المعرفة
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة سامح رشاد
  5. عصا بشخاليل - رواية - ج2

كانت تلك الحمامة تأتيني كل يوم ليلًا، وبعد أن تتحول إلى امرأة كنا نختبئ تحت ملاءات الشهوة وجلاليب المتعة، وكلما نويت أن أقول لأحدٍ عنها، شيءٌ يمنعني!

كنتُ أنام مُفتَّح الأعين خشية أن تأتي ولا أراها، لكن كنت أتساءل مع نفسي: هل هي جنية؟! أم أنا الذي جُنِنت؟!

وفي يومٍ قررتُ أن أتشجع وأسألها، وبعد أن أتت في هيئة حمامة قلتُ لها:

- من أنتِ؟ ومن أين جئتِ؟!

- أنا حوريتك التي كنتَ تنتظرها، وجئتُ من زمن بعيد، ليس بشيء من الزمن.

- لماذا أنا بالذات؟

- أنتَ من وقعت في طريقي.

- كيف؟!

- أنا اسمي "طوما"، حبسني والدي في لفة قماش، ووضعني عند مرجان، ولما سها عنِّي مرجان خرجت من القماشة، وصادفتك على أعتاب الباب واخترقت داخلك، وسأبقى معك مدة عام!

- قصدكِ مرجان العرّاف؟! لذلك عندما حاولت الدخول من الباب اصطدمت بشيء، وأغشيَ عليَّ!

لكن أنتِ تعرفين مرجان؟!

- نعم، هو رجل شرير، لا يقدر عليه إنس ولا جان، ونحن نسميه الفزَّاع!

- أتخافون مثلنا؟!

- نحن لا نخاف، لكن هذا الرجل أقوى منَّا.

- أنتِ جنيّة؟! صحيح؟ لكن كيف تمارسين معي الجنس؟!

- أنا أرغبك، وفي تلك اللحظة أظهر بالصورة التي تتمناها أنت في أحلامك.

- لكنني -يا طوما- عشقتك وعشقت جسدك!

- أنا ملكٌ لك مدة سنةٍ واحدةٍ، وبعدها سأذهب إلى أهلي لموعد زواجي بابن عمي!

- لماذا حبسكِ أبوكِ في القماشة؟!

 - لأنه اكتشف أنني أمارس الجنس مع خطيبي قبل الزواج.

- أنتم مثلنا؟!

- نحن مثلكم في كل شيءٍ، لكن عليك أن تحفظ هذا السر وإلا ابتعدتُ عنك، لا تخبر أحدًا بوجودي معك، ولا برؤيتي!

ثم حضنتني، وغاصت في جسدي....

أول مرة أشعر أنني في حضن امرأةٍ بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، كما لو كنتُ مَن قبل لم أرَ نساء!

فجأةً خبط الباب، كانت صوفيا تريد أن تطمئن عليَّ، فسرعان ما اختفت "طوما"، ودخلت صوفيا الغرفة، وكانت يبدو عليها علامات السعادة.

- كيف حالكِ يا صوفيا؟ أراكِ سعيدةً اليوم!

- أنا -يا جان- سعيدةٌ جدًا لأني حلمتُ بك بالأمس.

- خيرًا -يا صوفيا- خيرًا، بماذا حلمتِ؟

- حلمت أننا كنا نسير في الشارع، وكان أحدهم جانبنا وضايقني، فضربتَه أنت وجرحت له رأسه!

- غطي نفسكِ جيدًا يا صوفيا!

- أنا لا أمزح -يا جان- أنا حلمت أنك تزوجتني.

فقلت في نفسي:

- أتزوجك! أنتِ من عملت لي العمل الأسود، وأنتِ السبب في كل ما أعانيه الآن!

 دخل الخواجة بريان، ومعه سيلان هانم، وقالا:

- هيا يا بطل، سنجري الجلسة الثالثة!

- أف! كفى جلسات، وكفى فشلًا!

رد توفيق أفندي بعدما دخل بعدهم:

- ألم أقل لكم إنه عبيط، هه؟!

- هيا يا جان.

- حاضر!

كالعادة فشلت الجلسة في تحضير أرواح، وفي كل شيء!

- أنا صاعد إلى غرفتي.

فقالت سيلان هانم:

- ما به جان يا خواجة؟! يبدو غير طبيعي هذه الأيام، وطوال الوقت في غرفته!

- ربما لأن الجن مسّه أو هو متعب حقًا.

 صعدت إلى الغرفة، وكانت ماريا تتحدث بصوتٍ عالٍ، وكأن معها أحد بالغرفة، اقتربتُ من الغرفة وحاولت أن أسمع، فجأةً شعرت بيدٍ تمتدُ على رأسي، فارتعدت واستدرت فوجدتُ صوفيا، فقالت لي:

- أنت تتصنت على ماريا؟ أنا سأقول لك ماذا يحدث بالداخل! ماريا وزبونها يلعبون "عريس وعروسة"، ههه!

 انسَ -يا جان- ماريا- فهناك أناس آخرون يحبونك.

تعالَ معي ندخل الغرفة، أريد أن أريك شيئًا.

- ما هذا الشيء يا صوفيا؟

- اشتريتُ لك قميصًا جديدًا، وأود أن أراكَ مرتديه.

- حاضر يا صوفيا.

دخلنا الغرفة؛ وبعد أن لبستُ القميص، اقتربت منِّي، وحاولت غرس أظافرها في صدري، وشفتاها تقترب من شفتيَّ حتى صرخت وقالت:

- أنت تشدني من شَعْري بقوة يا جان!

- أنا لم أشدكِ من شَعْركِ!

- لا، أنت شدته، وشدته بقوة!

اقتربت منِّي مرةً أخرى، وفجأةً صرخت مجددًا:

- ما بكِ يا صوفيا؟!

- لا تدري! لماذا تضربني على خدي؟!

- أنا لم أضربكِ، أُجننتِ؟!

- أنت من جُنِنت، أنا سأغادر، تعال إن احتجتني.

خرجت صوفيا، وأنا لا أعلم ما الذي فعلتُه، بعد أن استرحتُ على السرير، سمعت صوت الرفرفة فانشرح قلبي، وقلت أكيد "طوما"، وبعدما ظهرت "طوما"، وكان يبدو على وجهها الحزن، قالت:

- إياكَ أن تلمس أي فتاةٍ غيري، أنا أحذرك!

- أنتِ التي شددت شَعْر صوفيا، وضربتِها؟!

- نعم، أحزين؟! إياك أن تفعل ما فعلت مرةً أخرى!

- أنتِ تغارين عليَّ يا طوما؟

- لا طبعًا! لكن أنتَ مِلكٌ لي مدة سنة، وبعدها افعل ما شئتَ.

رجعتْ بعد ذلك إلى صورة الحمامة وطارت، وأنا استرحت على السرير، وحاولت أن أنام، لكن صوت عم إبراهيم وهو ينادي على البسبوسة كان عاليًا جدًا، يبدو أن لديهم عملًا كثيرًا اليوم!

اليوم التالي والشمس ساطعة تضرب الأرض بضفائرها الذهبية وأشعتها اللهيب، نزلت إلى صالة البنسيون، وكان الخواجة بريان وصديقه بنيامين، ومعهم سيلان هانم وتوفيق أفندي يلعبون بالورق، وكانت ماريا تجلس على كرسي تدندن كما لو كانت تغني، وتنظر نحوي وتضحك وتهذي، وتقول:

- عرفت كل شيء.. عرفت كل شيء.

فاقتربتُ منها فابتعدتْ، وأشارت بيديها كأنها تقول: "ابعد عني!"، فأثارت غضبي وقتها! مما جعلني أنفرد بالخواجة بريان، لكنه كان قريبًا من ماريا، وقلتُ له:

- أنسيت -يا خواجة- أمر التمثال الذهبي؟

وكنتُ أنظر إليها وأبتسم، ويبدو أنها تذكرت التمثال، فوضعت يديها على شعرها، وفردته فوق صدرها، وفتحت أزرار عباءتها وأومأت بشفتيها، وعيناها ترمقُ عينيَّ في ثبات، وكان الخواجة يحدثني وأنا لا أستمع إليه، فعاد إلى الطرابيزة واستكمل اللعب.

واقتربت منِّي ماريا، ووضعت إحدى يديها على رأسي، وقالت: "توحشتني... توحشتني"، على الرغم من أنني كنت أعلم أنها تعاملني بحبٍ لأني ذكرتُ التمثال! لكنني اشتهيتها للحظتها، ودعكتُ أعضائي بوهج محبتها، وتوضأت بخمرة زبدها.

صعدتُ إلى السلم، وأشرتُ إليها أن تتبعني، ودخلنا غرفتها، وغسلتُ أطراف جسمي بريقها المُحترق، لكنها قالت لي:

- لا تقترب أكثر؛ فأنت لن تستطيع فعل شيءٍ معي! أنت مربوط يا جان!

- مربوط! ماذا تقصدين؟!

قلتُ هذا الكلام، وأنا أعلم أنها علمت ما حلَّ بي!

- أنا عرفت أنك مربوط، وأعرف من ربطك، وعمل لك عملًا.

- مَن؟!

- صوفيا يا جان، صوفيا ربطتك لتكون لها فقط.

- كيف عرَفتِ ذلك؟!

- بالأمس رأيت صوفيا تخرج من عند مرجان الدجّال، ولمّا دخلتُ عنده سألته ما الذي جاء بصوفيا إليك، قال لي إنها تحب شخصًا معكم في البنسيون، فأعطيتها حجابًا، وربطتُ هذا الشخص!

- مثلما توقعتُ! أكملي يا ماريا..

- وقال لي إن هذا الربط يجعله عاجزًا أمام كل النساء إلا صوفيا! لذلك قلت لك لا تقترب منِّي حتى تفك الربط.

- هل من الممكن -يا ماريا- أن تأتي معي إلى مرجان؟

- ممكن طبعًا يا جان، لكن المهم متى ستبيع التمثال؟

- قريبًا.. قريبًا.

ذهبنا إلى مرجان، لكن وأنا في الطريق كنت أفكر وأسأل نفسي: أنا مربوط عن جميع النساء إلا صوفيا؟! لكن أنا كنت عاديًا جدًا مع طوما، أليست طوما من النساء؟!

دخلنا عند مرجان، وبعد أن عرفني قال لي:

- ربطك لن يُفك إلا لو طلبت صوفيا منِّي هذا!

- لماذا يا عم مرجان؟!

- لأنك مربوطٌ بدم حيضها، ولا ينفك هذا الربط إلا بدم حيضها!

 نظرت ماريا إليَّ وقد أذهلها رد مرجان، فقالت له:

- ألا يمكن فكُّه بدم حيضي؟!

- لا، لا يمكن، بدمها هي فقط.

خرجتُ من عند مرجان، وأنا في حالة غضبٍ تجعلني أقتل صوفيا، لكن ماريا هدّأت من غضبي، وقالت:

- لا تقلق، أنا سأجلب لك دم حيضها، لكن انتظر.

 رجعنا البنسيون، وصعدت إلى غرفتي، وجدتها مقلوبةً، وكل شيءٍ فيها ليس في مكانه؛ فأسرعتُ إلى الشباك لأرى مكان التمثال، وجدته موجودًا -الحمد لله-  فاستدرتُ إلى جانب السرير، فكان الحائط عبارة عن مجموعة خطوطٍ متعرجةٍ مكتوبةٍ بلونٍ أحمر أشبه بالدم، وبعض الكلمات التي تبدو باللغة العربية لكن ليست مفهومة، وعلامات تشبه لهيب النار، ففركتُ عيني حتى لا أشك في رؤيتي، فوجدتُها حقيقيةً! هنالك أحدٌ كتبها! فناديت توفيق أفندي، وأشرتُ إلى الحائط، فنظر إليه وشغّل غليونه، وقال بكل ثقةٍ:

- هذه رسومات صديقي بيكاسو!

فأخرجته خارج الغرفة، وناديت الخواجة بريان؛ فدخل الغرفة ومعه سيلان هانم، ونظروا إلى الحائط ففزعوا لِمَا رأوه، وقالت سيلان هانم:

- مَن الذي كتب هذا الكلام؟!

أتعلمون ماذا يعني هذا الكلام؟! هذا يعني أن جنًّا يسكن هنا معنا، ويريد الانتقام من أحدٍ منَّا، ومن المؤكد أنك المقصود يا جان، لأنه مكتوبٌ في غرفتك!

- يا سيلان هانم، ممكن أن توضحي لي أكثر؟!

- يعني أن هناك جنًا اسمه "ميلو" يريد الانتقام منك؛ فكتب: "من ميلو إلى الخائن.. اقتربَ يومك، لكن قبل أن أنتقم منك سأجعلك كالمجانين؛ تكلم نفسك، وتمشي في الشارع عاريًا، وكل من حولك سيكرهونك".

- ما رأيك يا خواجة؟! القلق سيأكلني، والخوف يتملكني في هذا البنسيون!

فقال الخواجة:

- متأكدة من الكلام يا سيلان؟!

- متأكدة يا خواجة، أنا أفهم هذه اللغة جيدًا.

- والعمل يا جان؟!

 لم نستكمل الكلام حتى سمعنا صوت كركبةٍ يأتي من تحت السرير، فنظرنا فإذ بمجموعةٍ من القطط السوداء ذات الأعين الحمراء يجلسون تحت السرير، ممسكين بلهبٍ من نار! وبينهم قطة تكبرهم حجمًا، لكنّ عينيها ليست حمراء، كانت بيضاء بياضًا نقيًا، لا وجود لناظرٍ لها! فصرخ الخواجة وخرج من الغرفة، ومن بعده سيلان، وأنا أسرعت أيضًا للخروج، لكن باب الغرفة أُغلق! والسرير رُفع من على الأرض، وسمعتُ صوتًا يضحك ويبكي في نفس الوقت، وأنا خائف وأرتعد، والعرق ينهمر من جبهتي كالسيل، وكلما أحاول أن أصل إلى الباب يبتعد الباب، وتدور الغرفة من حولي، والشباك يُفتح ويغلق وحده! والهواء يتمايل فوقي وتحتي، ثم فجأةً كل شيء عاد طبيعيًا، ورجعت الغرفة كما كانت، فأسرعت وفتحت الغرفة ونزلت، فوجدت الخواجة بريان مغمًى عليه، وماريا تحاول إفاقته، وسيلان هانم تُمسك بمجموعةٍ من الكتب، وتحاول أن تجد تفسيرًا لِما حدث، وتوفيق أفندي يجري وراء القطط، ويحاول مسكهم من ذيولهم!

مرت هذه الليلة علينا، ونحن لا ننام، كنا نجلس في صالة البنسيون، كلٌّ منَّا يحاول أن يُطمئِن الآخر، لكن كان الرعب يسيطر علينا جميعًا.

اليوم التالي وعند طلوع النهار، سمعنا صوت نبش في حوائط البنسيون، وبعده تشققت، وتعرجت هذه التشققات، وخرج منها ما يشبه الحيات الصغيرة، فأسرعنا جميعًا خارج البنسيون، لكن كان الخواجة يطلب منَّا ألا نتحدث حتى لا يخاف الزبائن من البنسيون، وبعد أن تأكدنا أن الصوت اختفى والحيات أيضًا، دخلنا إلى البنسيون ونظرنا إلى الحوائط، فكان لا وجود للتشققات التي رأيناها! جلسنا على أرض الصالة ننظر إلى بعضنا بعضًا نظرات شفقة، ماذا سنفعل اليوم والغد؟! ومن منّا ستأخذه الشجاعة لينام في غرفته؟!

قررنا أن ننام جميعًا في صالة البنسيون، لعلنا نشجع بعضنا بعضًا، وقال الخواجة:

- ممكن الروح التي كنا نحضرها قد حضرت؟!

وقالت سيلان:

- أو ربما الجن الذي أصاب "جان" حضر؟!

وقلتُ أنا في نفسي:

- ممكن أن تكون طوما هي السبب في هذا؟!

مرَّ اليوم بسلامٍ؛ لا شيء غريب حدث، فلا أحد في غرفته كلنا في صالة البنسيون، إلا مع نهاية النهار ودخول الليل، ففجأةً سمعنا صوت رِجلٍ تمشي في الطابق الأعلى للصالة، وكأنها مجموعةٌ من الأرجل تدبُّ فوقنا، وسمعنا أصوات رياح وصفيرًا عاليًا، وأشياء تتخبط مع بعضها بعضًا مما زاد خوفنا، وجعلنا نضع الكراسي أمام البنسيون، ونجلس في الشارع حتى طلوع النهار، وكنت لم أدخل إلى الحمام من نهار الأمس، فدخلت الحمام وأنا أرتعد من شدة الخوف، وتركت الباب مفتوحًا، فسمعت صوت الباب يُغلق، وظهرت طوما!

- فجعتِني يا طوما! لم يركِ أحدٌ مذ يومين!

 - كنت مشغولةً مع عمي، أحاول أن أوفق بينه وبين أبي.

- أه يا طوما، لو تعرفين ماذا حدث لي منذ يومين! لم يكن أي شيء طبيعيًا، لدرجة أنني شككت في أن تكوني أنتِ السبب في ذلك!

- لا يا جان، لست أنا، لكنني أعلم ما حدث وما سيحدث.

- أهناك شيء آخر سيحدث؟!

- نعم.. يا جان، أنت ستُجَن، وستمشي في الشارع عاريًا.

- هذا ما قالته سيلان هانم؛ أنا سأغادر البنسيون.

- حتى لو مشيت يا جان، فلن يتركك في حالك! أنا أعرف من يفعل هذا بك.

- مَن يا طوما؟!

- خطيبي "ميلو".

- ماذا يريد منِّي؟!

- هو عرف أننا نحب بعضنا بعضًا، فيريد الانتقام منك.

 - ولماذا ينتقم مني أنا، ولا ينتقم منكِ أنتِ، فأنتِ خطيبتُه؟!

- هو يحبني، ولا يريد أن يُحزنني!

- يخاف حزنك فينتقم منِّي أنا!!

تحولت طوما إلى حمامة وطارت، وأنا أخذتُ أفكر في كلامها، وكنت خائفًا جدًا من ميلو.

نزلت إلى الخواجة، وحكيت له عن موضوع طوما وخطيبها، فقال لي وهو يبتسم:

- أنتَ من ستغلق لي البنسيون! كثرت مشاكلك يا جان! والآن تقول لي إنك تحب جنية وهي تحبك، ماذا نفعل الآن؟! تعال نذهب إلى مرجان عساه يجد حلًا لنا!

دخلنا عند مرجان، وحكيت كل شيء، كان وقتها مختلفًا عن كل مرة؛ رجلًا فظ الشكل، حواجبه مرفوعة وممتلئة بالشعر، ووجهه مليء بالتشققات، وعيناه حمراوان، تشبه العفاريت!

قال لي بعد أن علم بأن طوما تأتيني كل يوم:

- ألستَ المربوط؟!

- نعم!

- احكِ لي كل شيءٍ حدث بينك وبين طوما.

بعد أن عرَّفته كل شيء حتى العلاقة التي بيننا، قال لي أخبِر طوما أن مرجان يريدكِ عنده، وإلا سأحبسها داخل قطة وأجعل الناس تطاردها!

خرجنا من عند مرجان ودخلنا البنسيون، وبعد وقتٍ دخل علينا مرجان، وقال لي:

- تعالَ أرِني غرفتك!

 صعدنا إلى الغرفة، وطلب منِّي أن أخرج وأغلق الباب؛ فسمعت بعد أن خرجت صوت ضرب، وخناق، وأشياء تتكسر، وصراخ، فأسرعت ونزلت إلى الصالة، وبعدها نزل مرجان وهو مُلطَّخ بالدم كأنه خارج من مشاجرة! وقال لنا:

- لا أحد يدخل هذه الغرفة إلى أن آتي مرةً أخرى.

- فقلت له:

- لماذا؟!

- أنا حبستُ "ميلو" في الغرفة، وربطته في السرير، غدًا سوف آتي إليه وأُعلِّمه الأدب! لأنه تطاول عليَّ اليوم!

نظرنا إلى الخواجة واستغربنا!

في اليوم التالي، كل سكان البنسيون على أهبة الاستعدادِ لمواجهة خوفهم بالفجيعة، بينما كنتُ لا أعبا بأي شيء، وكأنني لم أكن سببًا في هذا الخوف! وتوفيق أفندي يجلس بجواري وفي يده سكينة، وأخذ يلوح بها في الهواء، ويقول: أين هؤلاء العفاريت؟!

 دخل مرجان ومعه امرأة تُدعى "أم مندور"، وبعد أن ذهبا إلى غرفتي -وكان كل شيء كما هو عليه، لا أحد دخل الغرفة كما قال مرجان- نزل مرجان وترك "أم مندور" في الغرفة، وسمعنا أصواتًا تأتي من الغرفة كأصوات طفلٍ يبكي! وبعدها نزلت "أم مندور"، وقالت لمرجان:

- اتركه قليلًا يفعل ما يشاء.

تساءلنا أنا والخواجة بريان:

- من هذا الذي تركتموه؟

فقالت أم مندور:

- ميلو، سنتركه قليلًا في الغرفة، لأن حالته النفسية ممكن أن تجعله يقتلك يا جان، فهو قد طلب منِّي أن يُعلِّمك الأدب، لكن لن يؤذيك، لا تقلق.

- كيف لا أخاف؟! هو مجنون، ومن الممكن أن يقتلني! أنا سأترك البنسيون وأمشي.

- أتظن أنه سيتركك لو مشيت؟! لا طبعًا! الأفضل لك أن تبقى هنا معنا، لنعرف ماذا يريد بالضبط.

- كنتُ وقتها أفكر في طوما، وما حلَّ بي بسببها، وأين هي الآن؟ مرّ يومان ولم تأتِ؟ هل يمكن أن تكون قد رجعت إلى أبيها؟

 نظرت حولي وجدتُ سيلان هانم تنفرد بمرجان وأم مندور! فقلتُ في نفسي: المجانين تجمَّعوا!

ذهبت إلى غرفتي، ونظرت من الشباك، حينها توقف قلبي عن الدق، وتبددت أعصابي حين رأيتها.. تلك الجميلة.

تراءت لي هناك في طلة الصبح صورةً لملاك تتمشى في الشارع، وكأن الطبيعة الجميلة قسمَّت معها جمالها؛ كانت هادئة الخطوة، فجْرها يطلُ من كل ناحية، وصبوتها باذخة كشجرة ضوء باسطة أنوارها بيديها، كانت تمشي في استحياء كالآفاق تبدو في النور الخافت، شعرها ينبض مثل نبضات الأمواج الهادئة، حين ألقت شالها المعقود فوق كتفيها المرمرين.

نظراتها نبتت في دمي أشلاء وجذاذات، هي المُطعَّمة ببقايا البرق، والمُستحمَّة بياسمين الفجر الناعس، مُعطَّرة بالزعفران، أطلتُ النظر إليها كما لو كانت البدر قد طلع كاملًا، ونشر أنواره على الشارع، لاحت لي بصَمْتِها السابح في الفضاء الغويط....

- فجأةً دخل عليَّ الخواجة بريان، وأفقني من ولهي، وقال:

- يا جان.. يا ابني!  

ارتدِ ملابسك، وانزل معي إلى صالة البنسيون.

- لماذا يا خواجة؟!

- تعالَ نفطر معًا.

نزلتُ معه إلى الصالة، وبعد أن فطرنا طلب مني أن أمسك حسابات البنسيون، بدلًا من شغلة النادل؛ رحبتُ بالفكرة، وقلتُ أي شيء يشغلني عن التفكير والعفاريت.

جاء أحدهم، يبدو أنه صديق بريان؛ كان رجلًا ممشوق القامة، على وجهه علامات الصلاح، وبعد أن أطال النظر نحوي قد علم الخواجة بريان أنه يريد معرفة مَن أكون؛ فأشار إليَّ وعرَّفني إليه، وبعدها استأذنت وذهبت إلى الغرفة.

وسمعت هذا الرجل يتحدث مع الخواجة عن أحوال البلد، لكن ما شدَّ انتباهي هو ما قاله:

تحالف إنجلترا وروسيا ودولة الخلافة العثمانية ضد فرنسا.

قام "كليبر" بعمل اتفاقية العريش في يناير (1800 م) التي نصَّت على جلاء الفرنسيين بكامل أسلحتهم ومُعِدَّاتهم، وأن تكون مدة الجلاء ثلاثة أشهر، وأن تجهز لهم تركيا أسطولًا لنقلهم إلى فرنسا بعد تحطُّم أسطولهم في موقعة "أبي قير البحرية"، ولكن فشلت المعاهدة بسبب رفض الحكومة البريطانية عودة الفرنسيين إلا كأسرى حرب، فرفض "كليبر" ذلك لِما فيه من إهانةٍ للفرنسيين، فعاد ونشب قتالٌ بينه وبين العثمانيين، وهزمهم في موقعة "حي عين شمس" في مارس (1800م)، ومن بعدها عدَل "كليبر" عن سياسته، وقرر البقاء في مصر.

انتهز المصريون فرصة انشغال "كليبر" بمطاردة العثمانيين في عين شمس، وطردهم إلى بلاد الشام، وأقاموا ثورة القاهرة الثانية.

 إذ لم يدرك القاهريون حقيقة الأمر إلا عندما استيقظوا على صوت المدافع الدائرة، فماجوا ورمحوا إلى أطراف البلد، وقتلوا من صادفوا من الفرنسيين.

ولعب أعيان القاهرة وتجَّارها وكبار مشايخها دورًا كبيرًا بخلاف ما حدث في الثورة الأولى، فلم يحجموا عن تزعُّم الثورة منذ الساعات الأولى، وجادوا بأموالهم لإعداد المآكل والمشارب، فقد خرج السيد "عمر أفندي" نقيب الأشراف، والسيد "أحمد المحروقي" شيخ بندر التجار على رأس جمع كبير من عامة أهل القاهرة، وأتراك "خان الخليلي"، و"المقاربة" المقيمين بمصر، وبعض المماليك قاصدين التلال الواقعة خارج باب النصر، وبأيدي الكثير منهم النبابيت والعصى، والقليل معهم السلاح، واحتشد جمعٌ آخر، وصاروا يطوقون بالأزقة والحارات، وهم يرددون الهتافات العدائية ضد الفرنسيين، ثم اشتبك الثوار مع طوائف الأقليات في معارك راح ضحيتها عديدون من نصارى القبط والشوام وغيرهم، وتحصَّن الفرنسيون بمعسكرهم بالأزبكية.

وأحضر الثوار ثلاثة مدافع، كان الأتراك قد جاءوا بها إلى المطرية، وجلبوا عدة مدافع أخرى وُجدت مدفونةً في بيوت الأمراء، وأحضروا من حوانيت العطارين من المثقلات التي يزنون بها البضائع من حديد وأحجار استعملوها عوضًا عن الجلل للمدافع لضرب مقر القيادة الفرنسية بالأزبكية، كما أنشئوا مصنعًا للبارود بالخرنفش، واتخذوا بيت القاضي وما جاوره من أماكن -من جهة المشهد الحسيني- مقرًا لصناعة وإصلاح المدافع والقذائف، وعمَل العجل والعربات والجلل، وأقاموا معسكرًا للأسرى بالجمالية، وبثُّوا العيون والأرصاد للتجسس على المحتلين، واستكشاف خططهم ونواياهم، ولم يتوانوا عن أخذ كل من تعاون مع الفرنسيين من الخونة بالشدة والعنف.

وسرعان ما انتقل لهيب الثورة إلى بولاق، فقام الحاج "مصطفى البشتيلي" ومن معه بتهييج العامة، وانقضوا بعصيهم وأسلحتهم ورماحهم على معسكر الفرنسيين، وقتلوا حراسه، ونهبوا جميع ما فيه من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا منها، ونصبوا حول البلد متاريس، واستعدوا للحرب والجهاد.

وكافح القاهريون بكل ما في وسعهم من جهد، وواصل المجاهدون الليل بالنهار في قتالٍ عنيفٍ شارك فيه الجميع، بحيث لم ينَمْ سوى الضعيف والجبان والخائف -كما يقول الجبرتي-، وقد راحوا يصْلُون العدو نارًا حاميةً من بنادقهم.

كذلك باشر السيد "أحمد المحروقي" وباقي التجار سداد ما يحتاجه الناس من الكلف والنفقات والمشارب، وأتى أهل القرى القريبة بالاحتياجات اللازمة من السمن والجبن واللبن والغلة والغنم، ثم يرجعون إلى بلادهم.

وعندما عاد "كليبر" إلى القاهرة بعد ثمانية أيام من إشعال الثورة وجدها قد تحولت إلى ثكنةٍ عسكريةٍ، فأمر بتشديد الحصار عليها، ومنع المؤن للمجاهدين، ولم ييئس فلجأ إلى الاتصال بمراد بك أحد زعماء المماليك، وطلب منه العودة إلى البلاد، وتفاوض الاثنان على الصلح، وأُبرمت بينهما معاهدةٌ بمقتضاها أصبح مراد بك حاكمًا على الصعيد، في مقابل أن يدفع مبلغًا إلى الحكومة الفرنسية، وينتفع هو بدخْل هذه الأقاليم، وتعهَّد "كليبر" بحمايته إذا تعرَّض لهجوم أعدائه عليه، وتعهَّد مراد بك من جانبه بتقديم النجدات اللازمة لمعاونة القوات الفرنسية إذا تعرضتْ لهجومٍ عدائي أيًا كان نوعه، وكان هذا يعني أن مراد فضَّل السيادة الفرنسية على السيادة العثمانية.

ولم يكتفِ مراد بك بمحاولته في إقناع زعماء الثورة بالسكينة والهدوء، بل قدَّم للفرنسيين المؤن والذخائر، وسلَّمهم العثمانيين اللاجئين إليه، وأرسل إليهم سفنًا مُحمَّلةً بالحطب والمواد الملتهبة، لإحداث الحرائق بالقاهرة، وما كاد ينجح في ذلك حتى دكَّ القاهرة بالمدافع، وشدد الضرب على حي بولاق، فاندلعت ألسنة النيران فيه، والتهمت الحرائق عددًا من المباني والقصور في الأزبكية وبركة الرطلي، ومع ذلك فقَدْ ظلت الروح المعنوية للشعب قويةً، وخرج المشايخ والفقهاء والتجار يدعون الناس إلى القتال، ويحرضونهم على الجهاد.

وقد تغلبت القوة الغاشمة أخيرًا بسبب التفوق العسكري الواضح والوحشية وقسوة الانتقام من أهالي الأحياء التي دخلوها، وأشعلوا النيران في الأبنية والدور والقصور، ونهبوا الحانات والوكالات والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور، وما بها من الأمتعة والأموال، والنساء، والخزْنات، والصبيان، والبنات، ومخازن الغلال، والسكر، والكتان، والقطن، والأباريز، والأرز، والأدهان، والأصناف العطرية، وما لا تسعه السطور، ولا يحيط به كتاب ولا منشور.

فأغلقتُ باب الغرفة، وبدأت أقترع كؤوس الوحدة، وأداعب الحشرات التي أصبحت لي كأهلي، وأخواتي! كنتُ كل دقيقة أتردد إلى الشباك، لعلي أرى تلك الجميلة التي سحرتني.

كنتُ قد نسيتُ كل شيء حتى ماريا، وطوما، وميلو.... وكل شيء، وظل ذهني لا يحملُ إلا صورة تلك الجميلة التي لا أعرف حتى اسمها!

في صباح اليوم التالي بعد أن أُرهق عقلي وهزل جسدي، عزمتُ الذهاب إلى "درب الجامع" لأرى الشيخ "حسن" وأتحدث معه لأن كلامه يريحني، بعد الذهاب إلى الشارع وانتظار الشيخ حسن لفترةٍ كبيرةٍ ولم يأتِ، رجعتُ إلى البنسيون وكان قلبي مليئًا بالإحباط، وقلتُ في نفسي: البنسيون، وماريا، وصوفيا، وطوما، وشلَّة المجانين الذين يُحضِّرون الأرواح، ومن قبل علمتُ أن مرجان وأم مندور انضما إلى سيلان والخواجة بريان، وكل يوم يجلسون ويُحضِّرون الأرواح؛ مما جعلني لا أخرج من الغرفة لفترة كبيرة، والآن لا شيء أفعله إلا أن أواجه  ذاك الذي يسمى "ميلو" لأتخلص منه نهائيًا، ولم أنتهِ من حديثي مع نفسي إلا بعد سماع صوت كركبةٍ تحت السرير؛ تيقنت أنه ميلو يريد أن يزعجني، في حين قد حضرت طوما آنذاك الوقت، ورأيتها بعيني في هيئة امرأة إلا أنها أصبحت لا تُغريني بعد أن تعلَّق وجداني بتلك الحسناء.

فقلتُ لطوما:

- أنا أريدك أن تبتعدي عنِّي أنتِ وميلو، وإلا سأقتل نفسي، أنا لا أحبكِ يا طوما، ارحلي.

عندما سمع ميلو هذا الكلام ظهر في هيئة إنسان، ورأته طوما، فقال لها:

- هيا بنا إلى بيتنا!

فقالت له:

- لقد وعدتُ جان أن أبقى معه مدة سنة، وإلى الآن لم تمرُ السنة!

فقلتُ لها:

- أنا لا أريدكِ، ولا أريد وعدكِ! اذهبي أنتِ وهو إلى حال سبيلكم.

وفجأةً اختفيا الاثنان عندما دخلت صوفيا الغرفة، حينها قالت لي:

- قد علمتُ من ماريا أنك عرفتَ أنني مَن قمتُ بربطكِ!

- نعم، عرَفتُ يا صوفيا، لكن لماذا فعلتِ هذا؟! ألم أكن لكِ صديقًا؟!

- يا جان، أنا أحبك، سامحني، كنت أطمع بأن تكون لي فقط.

- أنتِ يا صوفيا أذيتِني، وحطمتِ نفسيتي.

- اهدأ يا جان، لقد ذهبتُ إلى مرجان، وطلبتُ منه أن يفكَّ ربطك، والآن أنت كما أنت، غير مربوط، وهذه هي حياتك، افعل ما تشاء.

بعد أن خرجت صوفيا من غرفتي أسرعتُ للذهاب إلى الشيخ "حسن"، وانتظرتُه أمام الجامع لكن لم يأتِ، الأمر الذي جعلني أسأل عنه كل الخارجين من الجامع، وعلمتُ أنه ببيته يمكث بسبب مرضه.

طلبتُ من أحدهم أن يوصلني إلى بيته، وبعد أن دخلت منزله وصعدت إلى شقته، ترددتُ في أن أطرق الباب، أو أعود وأنتظره حتى يطيب ويعود إلى الجامع، لكن تشجَّعتُ وطرقت بابه، فتحت زوجته الباب، وكانت سيدةً يظهر على وجهها العِفَّة والطيبة مثل زوجها، بعد أن عرَّفتها بنفسي، وطلبتُ منها مقابلة الشيخ "حسن"، سمعت صوتًا يقول:

- تفضَّل يا جان، يا ابني.

كان الشيخ "حسن" قد علم بوجودي، ولأنه رجل ذو فطنةٍ فقد عرفني من صوتي، دخلت غرفته، وهو يرقد على سريره، يتصارع مع مرضه، قابلني كمقابلة أبٍ لابنه، كان استقباله لي حارًا جدًا، فقال لي:

- أهلًا يا جان.

- أهلًا يا شيخنا، كنتُ أنتظرك كل يومٍ أمام الجامع لأراك.

- كما ترى -يا ابني- السن والمرض قد نالا منِّي.

- لا يا شيخ، أنت ستكون بخير، وتنزل إلى الجامع كما كنتَ.

- إن شاء الله، لكن يا جان، تبدو غير سعيد، ألديك مشكلة؟!

- لا يا شيخ، ليست مشكلةً واحدةً بل كثيرًا!

- احكِ لي يا ابني، أنا أسمعك، -إن شاء الله- أساعدك.

بدأت أحكي له -منذ أن وصلت إلى البنسيون- عمَّا جرى لي وحلَّ بي ما حلَّ! كان هو يستمع ويبتسم، وكانت ابتساماته تلك توحي لي أن المشاكل التي أحكيها قد بدت سهلةً!

بعد أن استمع إليَّ، قال إن كل شيء سيعود كما كان بالصبر، لكنه كان رافضًا ذهابي إلى مرجان الدجال، وقال إنه يقدر أن يصرِف الجنيَّة عنِّي إن وُجدت، وهذا الكلام فرَّحني جدًا، لكن كان ينظر نحوي، وكأنه يريد أن يقول شيئًا!

وحين سألتُه عن نظراته لي، قال أنا متأكد -يا جان- أنك تُخفي شيئًا، لو تثق في احكِ ما تكنُّه داخلك، ربما يمكنني مساعدتك.

كان التردد يملؤني كثيرًا، والخوف يسيطر على عقلي بدرجةٍ كبيرةٍ، وبعد أن استقررتُ قلتُ له:

- سأحكي لك عن كل شيءٍ من البداية.

أنا "جان بارك فرنسيس" من فرنسا، كنتُ أحد ضباط الجيش الفرنسي، وسأحكي لك من البداية...

فرنسا ١٠ مايو (١٧٩٨م)

*البيان الأول لبونابرت*

من نابليون بونابرت، قائد الجيوش البرية والبحرية إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط:

 أيها الجنود، كنتم خير جندٍ حارب إنجلترا في البر؛ واجهتم الحصار، وصبرتم على الجوع والعطش.

لم يتبقَ لديكم إلا خوض معركة بحرية، يكون لها صداها للأجيال القادمة.

لقد كانت فيالق الرومان التي اتخذتم منها رمزًا للشجاعة، فأنتم تحتذون بأفضل منها نصرًا، دائمًا كان النصر حليفًا لكم.

ففي قرطاج، تلك البحار وفي "زاما" دومًا كان النصر حليفكم.

أيها الجنود، أوروبا بأَسْرها تضعكم الآن نُصب أعينها، فأنتم خير الأجناد، أمامكم فرصةٌ تضعكم في مرتبة جنود الرومان، إن حرية الحرية التي مُنحت للجمهورية الفرنسية منذ ميلادها على أوروبا هي ذاتها التي تمنحكم النصر الآن.

١٨- ١٩ من شهر مايو (١٧٩٨م)

بعد أن تجمَّعنا نحن ضباطًا وعساكر، أبحر الأسطول الصغير أولًا، وهو مكوَّن من السفن الحربية: "فرانكلين، أوكيلون، سبارسيات" التي كنتُ أنا على متن إحداهم، انتظرنا بالقرب من جزر "يريس" للانضمام إلى بقية الأسطول في ليل اليوم التالي، نظرًا لهبوب رياحٍ عكسيةٍ، وسرعان ما اتخذ كل قبطان سفينةً موضعه وأبحر، فقد خيَّبت الطرق التي سلكناها تكهنات القباطنة كافة، وغيَّب عنهم الغاية التي نستهدفها، وصدر لنا أمرٌ بالتوجُّه إلى "سردينيا".

فرحنا بهذا الخبر، وقلنا أكيد هذه غايتنا، سنصبح أسياد الجزيرة!

لكن صدر أمرٌ آخر بعد ثلاثة أيام من مكوثنا بالجزيرة بأن نتجه صوب عرض البحر!

(الآن دون أدنى شك نحن نتِّجه إلى "صقلية")

جاءنا خبرٌ عن وجود قلوع إنجليزية في الأفق، وسرعان ما انتشر الخبر بين الجنود؛ مما أدى إلى إثارة الرهبة والخوف، وعند الاقتراب من هذه الأشرعة وجدناها تابعةً لنا فاطمأننا وواصلنا الإبحار، لكن ليس لنا هدف نرسو إليه، الأمر الذي دعانا لنتساءل:

هل يمكن أن تكون هذه مناورة يريد القادة اختبارنا فيها؟

كنتُ أنا "جان بارك" أحد ضباط البحرية الفرنسية، وحين بلغنا مشارف "صقلية" قد تأكد لنا أننا نتجه إلى "مالطا"!

هيَّأت لنا الرياح الاقتراب من هذه الجزيرة، التي رحنا ننظر إليها، وكأنها الأرض الموعودة، وخاتمة مشوارنا الطويل!

لكن ما لبثنا إلا ووابل من الرصاص انهال على رؤوسنا من المالطيين؛ مما اضطررنا إلى أخذ وضع الاستعداد.

وبعد قتالٍ عنيفٍ دام مدة ٢٤ ساعةً استسلم لنا المالطيون، وسلمونا جزيرة "مالطة".

*البيان الثاني لبونابرت*

من بونابرت القائد العام:

أيها الجنود، ستقومون بغزوةٍ سيكون لها أبلغ الأثر في الحضارة، ستكون أكبر ضربة تُوجَّه إلى إنجلترا، وهي الضربة القاصمة؛ فالمماليك الذين يفضلون التجارة مع إنجلترا دون سواها، والذين أمعنوا في إذلال مفاوضينا، واشتدَّ طغيانهم على سكان النيل التعساء سيصبحون أثرًا بعد عين!

اعلموا أن الشعوب التي تذهبون إليها هي شعوب مُحمدية، أُسِّس إيمانهم على شهادة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

ارضوهم، وعاملوهم بالحسنى، كما عاملتم اليهود.

تيقنا أن الهدف هو مصر، ولأنني كنتُ أحب مصر على الرغم من أنني لم أرَها تمنيتُ أن نبحر في أسرع وقتٍ لأرى القاهرة الجميلة، وبيوتها القديمة، ورائحة هوائها الصحي.

هكذا تفاخرنا أننا سنُعيد إلى هذه البلاد العلوم والثقافة، والحضارة التي افتقدتُها عبر العصور الماضية.

كنتُ يا عم "حسن" سعيدًا جدًا بهذا الخبر، الذي طالما تمنيتُه سنين طوالًا.

مصر.. مصر.. أم الدنيا.

تابعنا مسيرتنا، يحدونا عزم شديد، وبلغنا شواطئ مصر دون معوقات. عند حلول الليل أرسينا بمحاذاة الشاطئ بالإسكندرية، فبدأت القوات البحرية المصرية (المماليك) مهاجمتنا، وقمنا بالدفاع عن أسطولنا البحري.

سقطت الإسكندرية في ٣ يوليو.....

الإسكندرية في ٤ يوليو

من نابليون بونابرت إلى شعب مصر الطيب:

"من زمن بعيد دأب المماليك الذين يحكمون مصر على إهانة الأمة الفرنسية، وإزلالها وإزلال تجارها، وقد حانت لحظة العقاب".

- معذرةً -يا جان- تعني أن الفرنسيين دخلوا مصر ليعاقبوا المماليك؟!

- ليس بالضبط -يا عم حسن- لكن كان ذلك أحد أهدافنا.

*بقية الخطاب....

"وهؤلاء الحثالة الذين تم شراؤهم من جورجيا والقوقاز يتجاوزن في طغيانهم، لكن الله والأمر له قد قدَّر مجيئنا لنكون نهايةً لهم.

يا شعب مصر، سيقولون لكم إنني جئتُ للقضاء على دينكم، لكن لا بل هم من فرَّقوا دينكم، وكانوا على وشك أن يقضوا عليه".

- تكلمني عن نابليون كما لو كان مسلمًا -يا جان-!

- يا عم "حسن" أنا أنقل لك البيان الذي تحدَّث به نابليون، ثم إنَّ أنت مَن طلبت مني أن أحكي لك كل شيء!

- أكمل -يا ابني- لا تؤاخذني، فأنا رجل عجوز.

- حاضر يا عم "حسن".

*يُكمل الخطاب...

"أيها القُضاة والمشايخ وكبار العلماء، قولوا لشعبكم إننا سنكون أصدقاء لهم ولدينهم الذي خُلِقوا عليه، فأمّا من كان معنا فسوف يسعد سعادةً جمَّةً، وتزدهر ثروته، ومن كان حياديًا فسوف يهنأ بحياته، لكن الويل الويل لِمَن عارضنا!

 ٥ يوليو (١٧٩٨م)

تحركت الجيوش لمطاردة المماليك، وقد سار الجيش في ثلاثة اتجاهات.

الاتجاه الاول صوب اليمين، وأما الوسط فأخذ طريقه إلى دمنهور، والثالث شمالًا بمحاذاة البحر عند رشيد.

غادرت فرقتنا الإسكندرية، واتجهت ناحية رشيد؛ فهي مدينةٌ تأسست بشكلٍ عشوائي.

أقمنا في رشيد ثم غادرنا في منتصف اليوم، وقد لاقينا منغصات أقل مما لاقيناه قدرًا في السابق.

وما كدنا نصل إلى الرحمانية حتى تصدَّى لنا المماليك بهجماتهم المتكررة، وقد حاول اللورد الخامس عشر الملقب بالتنين أن يهاجمهم، غير أن سرعة خيولهم حالت دائمًا دون الوصول إليهم.

 رُوِّجت شائعات في ذلك الوقت تفيد أن المماليك عرَفوا بخروجنا من الإسكندرية؛ فاعتقلوا جميع الأوروبيين المقيمين بالمدينة؛ مما جعلنا نسرع في تحركاتنا.

وبعد ثلاثة أيام، واصلنا طريقنا إلى القاهرة، لكن باتت مشكلة لدينا هي قلة الطعام! قد كُلِّفتُ أنا وثلاثة جنود معي لإحضار الطعام من سفينة الإمدادات التي في الإسكندرية، ولسوء الحظ أو لحسنه -لا أعلم- تأخرتُ عن ميعاد تسلُّم المؤن بسبب انشغالي مع أحد الجنود في المُعسكر الطبي التابع لنا -كان قد أُصيب بضربة شمسٍ جعلته يفقد الوعي- وكان علينا التحرك على الفور إلى القاهرة، وقبل دخولنا إلى هناك على بُعد ساعتين منذ مغادرتنا مكاننا، وجدنا أنفسنا نسير في بحرٍ من رمال الصحراء المُلتهب، الأمر الذي أدَّى بنا إلى معاناتنا جميع صنوف الألم والتعب والجوع والعطش، وسبب هذا قلة الطعام والشراب!

سرنا تحت وطأة شمسٍ لا تغيب؛ حيث لا سكن ولا طعام؛ مما أدى إلى القلقلة في صفوف الجنود، وبعضهم تمرَّد على مواصلة الإقدام، علم الجنرال "ذوجا" ما حدث لنا، فطلب من القائد معاقبة المتسبب في هذه الجريمة، ويقصدني أنا، ولأن القائد كان يحبني فلم يفصح عن اسمي في وقتها، لكن كنتُ أعلم أنها مسألة وقتٍ، ولا بد من أن يُعاقَب المتسبب في هذا.

بعد دخولنا القاهرة قامت معارك بيننا وبين المماليك، دفعتهم إلى الهروب إلى منطقة "إمبابة"، والاحتماء بمدفعيات ضخمة على ضفاف النيل أمام القاهرة، كان هناك ما يزيد عن ألفي مملوكٍ، ومثيلهم من الفلاحين عزموا على مقاومتنا، لكن سرعان ما حاصرنا المدينة ودخلنا منطقة الأهرامات، وقد استسلم لنا أهالي المنطقة، فأمكن لنا دخول الأهرامات من خلال فتحة متقنة.

كنتُ أنا أحد الذين دخلوا إلى حجرةٍ تُسمَّى "حُجرة الملكة"، ومن خلال هذه الحُجرة دخلتُ حُجرةً أكبر تسمى "حُجرة المَلِك"؛ كان فيها مجموعةٌ من التماثيل الذهبية المُغطَّاة بالتراب والطين، وقد أمرني القائد بإزاحة التراب من فوقهم، وخلعهم من الأرض، وقال لي إنه سيسلم هذه التماثيل إلى بعثة الآثار القادمة معنا! وعند ذلك الحين -أقصد عند خروجي من الحُجرة-، سقطت قطعة حجرية كبيرة من أعلى، كادت أن تحط على رأس القائد، لكن سرعان ما انتبهتُ لها، والتقطها من فوق رأسه، فأهداني تمثالًا من الذهب الخالص كهدية.

ولقد علمتُ بعد ذلك أن هذا التمثال أقيم الأشياء التي عُثِر عليها؛ فهو يُثمَّن بمبلغٍ عالٍ جدًا، يصل إلى ملايين الفرنكات، ناهيك عن أنه مصنوعٌ من الذهب الخالص.

- يعني هذا التمثال هدية من القائد لك لشهامتك؟!

- نعم، يا شيخ.

- لكن هذا التمثال مِلْك لمصر، وليس لك أو للقائد أو حتى لي!

- أعلم هذا -يا شيخ- لكن أنت تدرك حال البلد الآن، مَن متفرغ كي يبحث عن تمثال؟! ولو أردنا رده إلى الحكومة، فالحكومة مشغولة بأعمالها!

- معك حق -يا ابني-، أكمل كلامك.

- وبعد أن خرجنا من الأهرامات ظل الجيش مُعسكرًا على الضفة اليسرى للنهر، وبعد أن دخلنا شوارع القاهرة الضيقة، وكان لنا في كل شارعٍ أعوان مرسَلة من الباب العالي شخصيًا

- لكن -يا جان- أنا سمعت أن الباب العالي أصدر فرمانًا مكتوبًا فيه: "إلى شعب مصر، نُحيطكم علمًا بأن الباب العالي قد بلغه أمر الغزو الفرنسي إلى البلاد، وهم يدَّعون زورًا أن لديهم تصريحًا بهذا، وما هي إلا فرمانات سلطانية مُزيفة لم يصدرها الباب العالي، وخطابات مُزيفة باسم شخصياتٍ بارزةٍ، وباسمها يريدون طرد الأمراء من مصر، وهم يحققون نواياهم تحت عباءة الفِسق والضلال، ونشروا سمومهم في أقطار البلاد".

- أنا أعلم -يا شيخ- لكن أنا أحكي واقعًا عشتُه، وتجربةً كانت في حياتي.

- على كل حالٍ أكمِلْ -يا جان- أنا أسمعك.

- بلَّغني القائد بأن عليَّ الاختباء لفترةٍ قصيرةٍ، لأن الجنرال "ذوجا" طلب منه ثانيةً معرفة مَن المتسبب في كارثة عدم إمداد الجنود بالطعام، مما اضطر القائد إلى البوح باسمي، فطلب منه الجنرال إعدامي رميًا بالرصاص أمام الجنود!

هذا -يا شيخ- ما دفعني إلى المكوث في البنسيون طيلة هذه الفترة، وقبل وصولي إلى هنا تكبدتُ العناء أيامًا كثيرةً.

- اسمع -يا جان- أنت الآن في مقام ابني، فإن كان الله قد شاء لي ألا يرزقني بصبي، ورزقني  "فريال" ابنتي الوحيدة، فأنت الآن ابني، وأي شيءٍ تحتاجه فأنا موجود، وسأحاول أن أدبر لك عملًا يساعدك في المعيشة، إلى أن ينصلح حال البلد، وبعدها نستخرج لك الأوراق المطلوبة لتعيش وسطنا باعتبارك واحدًا منَّا، لكن -يا جان- أنت تتحدث جيدًا بالعربية!

- أنا أتكلم العربية مذ قرابة عشر سنوات؛ تعلمتُ العربية في المغرب العربي عند أخوالي، لأن أصل والدتي من أصل مغربي، ودائمًا نذهب إلى المغرب العربي لزيارة العائلة.

شكرًا -يا شيخ- ربنا يجزيك عني خيرًا.

بعد أن نويتُ الخروج من عند الشيخ لمحتُ فتاةً تبدو أنها ابنته، شبيهة بالفتاة التي رأيتها من نافذة البنسيون، لكني كنتُ غير متأكدٍ إن كانت هي أم لا!

اليوم التالي كنتُ قد بتُ ليلةً هانئةً هادئةً بعد أن شعرتُ أنني لستُ وحدي بعد الآن، فقد كان الشيخ "حسن" أشعرني كما لو كنتُ مع أهلي، بالإضافة إلى أني حلمتُ بتلك الفتاة الجميلة التي رأيتُها بالأمس تمشي في الشارع، ليتني أراها مرةً أخرى، كانت يدي تمتدُ إلى مقبض النافذة لأفتحها، وبعد أن نظرتُ إلى الشارع وجدتُها تقف في محل الألبان المقابل للبنسيون، استدرتُ وفتحتُ باب الغرفة، وارتميتُ على السلالم دون أن أرتدي ملابسي عساي أن ألحق بها، لكن لم أجدها، وكان جميع المارَّة ينظرون إليَّ ويضحكون إلى أن التقطني الخواجة بريان، وأدخلني إلى البنسيون، وفجأةً نظرتُ في مرآة الصالة وجدتني بالملابس الداخلية؛ مما آثار حرجي، وأدركتُ لماذا كان الناس يضحكون!

قال لي الخواجة بريان:

- ما بكَ يا جان؟!

- لا شيء -يا خواجة-، لا شيء.

- كيف، وأنت من الأمس لستَ كعادتك؟!

 - معك حق يا خواجة، أنا لستُ أنا!

لقد رأيتُ من تشبه الملائكة تمشي في الشارع، خطفت قلبي، وجعلتني لا أفكر في أي شيءٍ آخر إلا وجهها الجميل!

- ومَن هي صاحبة الوجه الجميل -يا ابني-؟

- لا أعلم، ولا أعلم أيضًا إن كانت تعيش معنا هنا أم لا، لكني رأيتُها منذُ قليلٍ في محل الألبان، وهذا ما دفعني إلى النزول بهذا الحال إلى الشارع!

- من الأفضل يا ابني- أن تفكر في كيانك، وماذا ستفعل؟!

تركتُ الخواجة وذهبتُ إلى غرفتي، وفكرت في كلامه الذي أفاقني من حلمي الجميل، وأمسكت كتابًا في محاولةٍ منِّي للقراءة، لكن لم أفتحه، وبتُ أتخيل تلك الأنثى التي لوعتني، ولففت ذراعيَّ حول نفسي، وتدحرجتُ دحرجةً خفيفةً، وبدأت أتذبذبُ كالوتر المشدود، وصورتها تتدحرج أمامي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، وحملتُ مشكاةً وتسللتُ بين أعضائها وسراديبها، وأصبحتُ على قيد ذراعٍ منها، وتمددتُ في حديقةٍ ظلها كالزهرة، وأصبحتُ كالطفل في قبضتها إلى حين استفقتُ من حلمي، وأشعلتُ ما يقارب عشر سجائر، ما بين الكرسي والنافذة ذهابًا وإيابًا، وبعدها تمددتُ على السرير، وما لبثتُ إلا أن وجدتني خارج البنسيون حتى قادتني خُطاي إلى بيت الشيخ "حسن"، وبعد دخولي إلى منزله رحَّبَ بي، وقال:

- جئتَ في وقتك يا جان، كنت أفكر فيك للتو، يبدو أنك ابن حلال!

- سلمتَ -يا شيخنا- خيرًا، أكنتَ تحتاج شيئًا منِّي؟!

- يا ابني، ليلة أمس فكرتُ في الكلام الذي حكيتَه لي، وعرفت أنك شاب طيب الخُلق، أرأيت هذا البيت الذي نحن فيه الآن؟ هذا بيتي الذي ورثتُه عن أبي "أبو المجد باشا"، وكل طوبةٍ فيه لها معي قصة وحكاية، وأكيد انتبهتُ إلى المحل المغلَق بالأسفل؟

- نعم -يا شيخ- رأيتُه.

- هذا المحل كان أكبر محلات العطارة، لكن مع كبر سني ومرضي، وبعد أن تأكدتُ أنني لن أقدر أن أُديره قررتُ أن أغلقه وأستريح في البيت، والآن أفكر أن أفتحه من جديد.

- خيرًا ما فعلتَ، يا شيخ.

- لكن -يا جان- أنا لم أعد أقدر عليه، وأنت  ما زلتَ شابًا، ما رأيك تديره أنت، وتكون شريكًا لي في ربحه، وبذلك تتحقق الفائدة لكلينا؟

 - يا شيخ، هذه ثقة كبيرة منك أن تأتمنني على مالِك.

- يا ابني، المال مال الله، لعلنا نقدر أن نرجعه إلى ما كان عليه...

- لكن يا شيخ، ممكن أن أطلب منكَ طلبًا؟

- تفضَّل.. يا ابني.

كنتُ قد سمعتُ عن الدين الإسلامي، وقرأتُ عنه كثيرًا أثناء إقامتي في فرنسا، وكانت نفسيتي تهدأ كثيرًا كلما سمعتُ قرآن المسلمين.

أنا أريد الدخول في الدين الإسلامي.

- حقًا يا جان؟!

- أنا يا شيخ، من اليوم اسمي "محمد"، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

لم يصدق الشيخ ما سمعه منِّي! وطلب أن أكرر الكلام ثانيًا حتى تأكد أنِّي أصرُّ على هذا.

وقال لي:

- الحمد لله الذي أنعم عليك بنعمة الإسلام.

- الحمد لله -يا شيخنا- لكن أنا أريد أن أتخلَّص من الأشياء التي تنغص عليَّ حياتي، أريد التخلص من هذه الجنِّية التي تؤرق حياتي، وأريد أن أتخلص من جميع المجانين الذين في البنسيون!

- الصبر -يا ابني- الصبر.

هذا ما قاله الشيخ، لكني لا أستطيع الصبر!

طلبتُ من الشيخ أن يعلمني الوضوء والصلاة إلى أن عزمتُ الصلاة بعده، وجلست بعدها أدعو الله أن يكشف عنِّي الضُر، في حين ذهب الشيخ "حسن" إلى أهل بيته، ليُعلِمهم أنني أسلمت.

كنت أنا قد اهتديت إلى أن أذهب للسكن في شارعٍ آخر، خشية الوقوع في معصيةٍ تُغضِب الله، لكن سبقني الشيخ، وأخبرني أنه يجهز لي غرفةً تحت بيته مغلقةً منذ فترة، وقال لي عليك أن تترك هذا البنسيون.

 فرحتُ لهذا الخبر، وقلتُ ربنا استجاب دعائي.

خرجتُ من عند الشيخ مسرورًا، وعندما تذكرتُ أمر "طوما وميلو" الشبحين اللذين يطاردانني أصررتُ الحزن داخلي، وذهبت إلى البنسيون لأبلغ الخواجة بريان بمغادرتي البنسيون.

وبعد أن نزلتُ مِن البيت، ودون نية أو تخمين، قابلتُ تلك الفتاة الجميلة وهي صاعدة إلى أعلى، التقت نظراتنا، والتقى شغفنا، وكان الكلام المُباح بيننا هو الصمت؛ الصمت الذي علمتُ منه أنها تحبني كما أُحبها، وأصبح وجهها مملوءًا بالعرق الصاعد المتصبب، يجري كخيطٍ شفيفٍ على أخاديد صدرها، وخواتم جسدها البض، وقناديل الشفاه البازغة، والطيور المشتهاة ترفرف فوق ذؤابتها.

تنهدتْ هي فانتفل عظمي كأرجوحة، واختلط بدمي أوردة الماء الصافي الذي تصبب من جبهتها الفضية.....

استدرتُ وصعدتُ السلم، وبقي المكان معبأً بعطرها الأنثوي، فقلتُ في نفسي:

هذه حصاة الرغبة الصغيرة فماذا أنت فاعل؟ وأنت جالسٌ على عرش التخيُّل، وفي يدك كُرةٌ ذهبيةٌ تدحرجها نحو الأرض، أنت في مكمنك الأبدي تراقب تفتُّح السماء، وتراقب أخاديد الدم المنسرب صوب حياتك الماضية.. لا.. لا! سوف أغيِّر، وأتغيَّر.

استكملتُ طريقي إلى البنسيون، لكن عقلي وقلبي قد تخلُّوا عنِّي، وظلوا على طليعة السلالم ينتظرون أن تقذف لهم السماء تلك النجمة الفضية.

تيقنتُ وقتها أن تلك الفتاة هي ابنة الشيخ حسن "فريال"، التي حكى عنها أمامي، لكن هل تكون الصدفة سريعةً إلى هذا الحد الذي جمعني بها؟!

هل كان دعائي مُستجابًا؟

كدتُ أشك بأن هذا تهيُّؤ، وأمنيات!!

دخلت البنسيون، وأنا في حالةٍ لا تسمح للحديث مع أحد.

لكن ما رأيته جعلني أضحك وأهذي كالمجانين؛ كان الخواجة وشلة المجانين مجتمعين لتحضير الروح التي يريدون إحضارها، جاعلين "مرجان" هو الوسيط، و"سيلان هانم" ممسكة بكتاب عن الجن والعفاريت، وزوجها يجلس يداعب الفراشات والنمل، بينما كانت ماريا، وصوفيا، وهند يُعِدُّون موائد اللذة، ومتأهبين لملاقاة أول زبون! وتوفيق أفندي مُمسك بفرشاته الخالية من الألوان، ويحاول رسم الهواء على الهواء.

و"طوما وميلو" يتشاجران كالعادة، و"أم مندور" تحاول أن تصلح بينهم!

ظللتُ أتأملهم، ثم صعدت إلى غرفتي أتشحُ بالفرح والسرور.

كنتُ أهيئ نفسي لعاصفةٍ من الخلاص، أصنع من جسدي خميرة المحبة المحتدمة، وأجفف مساحات الضوء المتناثرة، وجلستُ إلى أريكة الفراغ الخالية، وأخذتُ أرتب أمرًا ما؛ ليس الجنون أو الغفلة!

بدأنا العمل في المحل، وجهزنا البضاعة، وأعددناها للبيع، وفرح أهل الشارع، ومرت الأيام والناس كلها عرَفتني، لكن لسوء حظي العاثر أنني كنتُ مشغولًا جدًا بعملي، وليس لي فرصةٌ لأنظر خارج المحل لأرى ابنة الشيخ "فريال"، لكن دائمًا كنتُ أراها في أوجه الزبائن، وكنتُ أنتظر أي فرصةٍ كي أراها حتى لو من بعيد، لكن لم يحدث هذا إلى حين أتتني في صباح يومٍ -أعتبره أفضل يوم في حياتي- تطلب منِّي أن أفتح لها بوابة البيت الحديد، لأنها لا تقوى على شد المزلاج، وقبل أن تطلب منِّي هذا كانت نظراتها لي أشبه بنظرة الأم إلى رضيعها، تجمَّعت فيها القطرات الصغيرة، تتدحرج كما اللؤلؤ إلى أن امتلأت، وأنا أتلصص مثل ياقوتةٍ صغيرةٍ خضراء، وأسترق بعض النظرات...

كان المزلاج أخف من أن تفتحه هي، فتأكدتُ أنها كانت تريد أن تحادثني، وأمر المزلاج كان حُجَّةً!

فتحتُ لها الباب وانتظرتُ حتى استقلت السلالم، لكن ما لبثت إلا وانهالت عليَّ من فوقهم وسقطت على الأرض، أمسكتُ إحدى رجليها فصرخت، فأسرعتُ وأمسكتُ يديها حتى قامت، لكنها كانت تتألم كما لو كانت كُسرت ساقها؛ ذهبت إلى المحل وأحضرتُ كوب مياهٍ، وسكبته على رجلها ويدها، دون شعورٍ منِّي لاطفتُ رجلها، فتطاوح جسدي كالنخل من فرط النشوة، وانصهر الضوء من فوقنا كقطراتٍ من الماس والزمرد، والتطمت أمواج الشوق، سافرت إلى لوعةٍ هي للشوق أقرب منَّا إلى الولع.

- فريال، أنا أحبكِ، وأتمنى أن تكوني مثلما قلتُه!

 نسيت وجع رِجلها، وأسرعت تهرول فوق السلالم، ولم تنطق بكلمةٍ، لكنها استدارت وابتسمت.

كان شعوري قد فَجَّر الرماد المرير في حلقي، وأصبغ على قلبي النشوة والارتياح.

تركتُ بنسيون الخواجة بريان بعد أن جهَّز لي الشيخ "حسن" غرفةً بالدور الأرضي في بيته، ومن قبل قد خضتُ عراكًا كثيرًا مع الخواجة بريان بسبب تركي للبنسيون؛ فكان يعاملني كابنه، وكان رافضًا أن أترك البنسيون.

بعد أن تركتُ البنسيون، وسكنتُ في هذه الغرفة إزاء شعوري بالوحدة؛ فالخواجة كان دائمًا يسهر معي، وأوقاتًا كان يبيت في غرفتي، لكن منذ أن سكنتُ هذه الغرفة، وأنا صباحًا في المحل وليلًا بالغرفة، لا أكلم أحدًا إلا صفًا طويلًا من النمل يتخذ طريقًا مستقيمًا في شق الحائط، وبعض القطط التي باتت تطاردني حتى في فرشتي؛ فتلك الغرفة بها ممرٌ طويلٌ يؤدي إلى بابٍ خشبي قديمٍ، يكاد ينخلع كلما دبَّت رجلي على الأرض.

الأمر الذي أزعجني كثيرًا، خصوصًا لأنه مليء بالثقوب التي أصبحت المعبر الرسمي للفئران والأبراص، فكنتُ قد طلبت من الشيخ "حسن" أن نفتحه ونطرد الحشرات التي تسكن خلفه، ونقوم بإصلاحه، لكنه كان دائمًا يتهرب من سماع مثل هذا؛ مما جعلني أرتاب! وفي ليلةٍ هي الأصعب -منذ أن سكنتُ هنا- سمعتُ صوت صفيرٍ مجنونٍ يخرج من تلك الثقوب، فتخيلتُ أن الباب وراءه جان أو عفريت، فأشعلت لمبة الجاز لأمحو من الغرفة خُبوَّها، وجلستُ مقرفصًا تحت الشباك؛ فهُيِّئ لي أن هذا الباب ينفتح، ويخرجُ منه جان! فصرخت وأسرعتُ إلى الشارع فلمحني الشيخ "حسن" ونزل إليَّ، فقال:

- ما بك؟!

- أنا لن أبيت الليلة في هذه الغرفة؛ لقد رأيتُ فيها جانًا!

فضحك ضحكةً عاليةً، وقال لي:

- تعالَ أرِني أين هو؟!

دخلنا إلى الغرفة، وأشرتُ إلى ذلك الباب، فقال:

- إن هذا الباب لم يُفتح منذُ سنوات بعيدة! انظر إلى ترباس الباب، إنه مليء بالصدأ، فكيف فُتِح الباب ورأيتَ ما رأيتَ؟!

- لا أعلم يا شيخ، لكنني متأكد أنني رأيت جانًا!

- يا ابني، أنت الآن رجلٌ مؤمنٌ وصالحٌ، أكيد الشيطان هو من هيَّأ لك ما رأيتَ!

- لكن يا شيخ... أنا سأذهب لأبيت عند بريان.

- يا ابني، لا تخف، قم توضأ، وصلِّ لتهدأ.

- حسنًا يا شيخ، ممكن أن أطلب منك طلبًا؟

- تفضَّل يا ابني.

- هل ممكن أن نفتح الباب لأطمئن؟!

- لكن -يا محمد- الترباس يأكله الصدأ، كيف نفتحه؟!

- سنحاول.

- اسمع -يا محمد- أنا سوف أفتح لك الباب، أنا أعرف طريقة فتحه، لكن تعدني ألا تخبر أحدًا عمَّا وراءه!

- وماذا وراءه يا شيخ؟!

- اصبر يا ابني؛ عاهدني أولًا.

- أعاهدك أمام الله ألا أخبر أحدًا.

- يا ابني، أنت وثقتَ في وأخبرتني سرَّك، أنا أيضًا سأخبرك سرًا لا يعلمه أحد إلا أنا، حتى أهل بيتي! هذا الباب هو مدخلٌ إلى سرداب قديم، لا يوجد به شيء إلا مجموعة كتبٍ، كنتُ قد ورثتُها عن أبي، الذي ورثها عن أبيه، هذه الكتب قيِّمة جدًا؛ فهي مكتوبةٌ بخط اليد، وترجع إلى القرن الخامس للميلاد، وما هي إلا كتبٌ تتحدث محتوياتها عن الطبيعة، والعناصر الأربعة، وتأثيرها على الإنسان باستثناء مجموعةٍ صغيرةٍ منها تتحدث عن تحضير الأرواح، والتناسخ، والتجسيد، والتقمُّص، وتلك المجموعة هي الأهم، وكان جدي يحكي لأبي -الذي هو بالطبع حكى لي- أنه يخشى أن تقع هذه الكتب في أيدي أحدهم فيسيء استخدامها.

- يعني هذا الباب وراءه كُتُب فقط يا شيخ حسن؟!

- نعم، يا محمد.

- أنت قلتَ هناك سرداب، لكن إلى أين يؤدي؟

- لا أعلم -يا ابني- حاولتُ كثيرًا أن أتتبعه، لكنه مثل الدائرة؛ كلما أدخل من اتجاهٍ أخرج إلى نفس المكان الذي دخلتُ منه! لكن كل هذا لا يهمني، المهم الكتب. تعالَ معي كي تطمئن.

دخلنا من الباب، وكما قال الشيخ لا يوجد إلا بعض الكتب التي كادت تتآكل من الحشرات!

بدأت أطمئن قليلًا، وتملَّكتني شجاعة بعد أن استأذنت الشيخ، وأخذتُ أحد الكتب أقرؤها، وكنتُ قد وعدته أن أعيده مكانه.

قال لي الشيخ "حسن" بعد أن أطال في مقدمات؛ أنه رجل كبير، وليس له إلا فتاة وحيدة، وليس لها سندٌ غيره، وأنه يخشى أن يموت ويتركها تكابد عناء الحياة بعده:

- اسمع -يا ابني- أنا أريد أن أزوجك ابنتي؛ تلك التي رُزقتُ بها من الله.

سمعت هذا الكلام، وكأن الأنوار ملأت الغرفة، وقلبي تعالى في دقاته حتى كاد ينخلع، كنتُ لا أصدق ما قاله الشيخ إلى أن قال لي إن "فريال" ابنته على علمٍ بما أقوله لك، وهي موافقة وسعيدة، لم أشعر بنفسي إلا أن وجدتني أحتضن الشيخ، وعيني تذرف دمعًا من شدة الفرح.

بعد أن خرج الشيخ، جلستُ على الأرض، وأنا أمسكُ بالفراغ، وأزيِّن نفسي وأصنع التخيلات، وأجلس إلى أريكة الفضاء كأنني طير، كما لو كنتُ في بهرجة الطفولة وطقوس الحلم، وإدراك الحواس وغير الحواس!

نمتُ على الأرض نومةً بهيجةً وثملةً حتى دخلتُ في مدارك السُبات، وأغطية الحلم الدافئة، وغفوتُ في حلمي على شجرة جسدها البض -أقصد جسد فريال-ونمتُ فوق أرائك الخضرة المذهبة بين نهديها الملفوفين بالحرير، المُحلَّيين بالعسل المُصفَّى، والمُزيَّنين بالزبرجد واللؤلؤ المكنون، وتأهَّبتُ لمنازلة العشق حتى مدَّت يديها، وقالت لي: هيت لك.. هيت لك، ودخلنا في شراشف الرغبة المحتدمة، ثم استفقنا من حلمنا الذي هو داخل حلمي، واستدارت هي وألقت يديها ممدودةً إلى ترباس السرداب، وقالت: ما هذا؟! قلتُ لها: هذا الذي لا أعلم!

دخلنا السرداب، وإذا برؤوسٍ مقطوعةٍ، تلتوي على الأرض كأنها جان؛ فولَّينا مُدبرين إلى الباب، فأُغلق الباب، وخرج من الأرض شرر أخضر يهتز ويتراقص، وعظام نخرة تتطاير أمامنا، والأوراق تتابع كالفراش المبثوث، فقلتُ لها:

- انظري إلى القطط التي تتقافز هنا وهناك.

- انظر أنت إلى الأقمار التي تصطدم بالكواكب!

فالتففنا على بعضنا بعضًا، وأسرعنا نحو ضوءٍ يخرج من فوهة، يتصاعد منه جسد مفجوع مقرفص، فقال: "ادخلوا" فدخلنا؛ فإذا بفضاءٍ شاسعٍ يأخذ تخطيطات مُدن الأولين؛ وتماثيل معجونة بحبَّات الياقوت، كأنها آلهةٌ لزمن غابر فصرخنا، وبكينا، وصعُب علينا الخروج، فقعدنا عند ظل شجرةٍ، وما لبثنا إلا خرجت علينا الحيات من كل فرعٍ في الشجرة، فامتلأت قلوبنا رعبًا وفزعًا.

قمتُ مسرعًا من على الأرض، وقلتُ ما هذا الذي رأيت؟! يبدو أنه كابوس! لكني سعيدٌ أن "فريال" كانت معي في الحلم!

نظرتُ نحو الباب المُغلَق، وأدمتُ النظر إليه، وذهبتُ إلى النوم بعد أن قرأتُ آية الكرسي.

في اليوم التالي دخل الشيخ حسن عليَّ المحل، وقال لي: - علينا أن نذهب إلى صلاة الجمعة في الجامع.

وفي الطريق كنت أدردش مع الشيخ، وقلت له:

- غدًا سأحضر زواج الخواجة بريان؛ لقد عزم أن يتزوج ماريا التي تسكن معه في البنسيون!

- مبارك للخواجة.

ثم انصرفنا إلى البيت.

أتمَّ الخواجة بريان زواجه، ولم يمر أسبوع، وسمعنا خبر وفاته، وكَتب البنسيون باسم زوجته! وأصبح البنسيون مِلكًا لماريا؛ مما جعل كل أهل الشارع يضربون كفًا بكف!

كانت "فريال" كل يوم تأتيني بالغداء في المحل، وكنتُ أنتظرها كل يومٍ في شوق، وفي يومٍ قلتُ لها:

- أنا لا أعرف مدى حبكِ لي.

- بعد ما حصل بيننا لا بد أن تتأكد أنني أحبك.

قالت هكذا، وشعرتُ أن قلبي تزنر بتقاطيع الحُمرة، وتزيَّن بأخاديد الشمس ومعارج القمر....

كنتُ أنتظر مرور الشهر بفارغ الصبر، فمن قبل اتفقت مع الشيخ على تحديد موعد الفرح، كنتُ لا أنام؛ تارةً أفكرُ في فريال، وأخرى في خوفي المتزايد من الغرفة والسرداب، خصوصًا بعد الحلم الأسود الذي رأيته، قررت أن أشغل وقتي؛ فبدأت أكتب كل شيءٍ يطرقُ ذهني، وكل شيء في الماضي، تشاغلت بكتابتي التي هي أشبه بالمذكرات إلى حد كبير، ونسيت بعض الخوف.

مرَّ شهرٌ، تزوجت "فريال"، وسكنَّا مع الشيخ "حسن" وزوجته في المنزل، كانت أيامنا سعيدةً جدًا، وكل شيء في حياتنا هادئًا.

ومن قبل كنتُ قد قدَّمتُ للشيخ حسن التمثال الذهبي مهرًا لفريال، لكنه رفض وقال هذا مِلكٌ للدولة، ولا يحق لنا أخذه، لكنه أخذ منِّي التمثال، وقال لي سنسلمه للسلطات حينما تستقرُ البلاد، وعلينا أن نحتفظ به في مكانٍ آمن لأنه أمانة ستُرد، فوضعناه في السرداب بجانب كتبه! وقال لي:

- سنبني حائطًا من الطوب خارج السرداب، لأن الباب قد هلك.

- ولو أردنا إخراج التمثال سنكسر الطوب؟!

- نعم يا ابني، سنكسره.

مرت سنوات، وكنتُ قد رُزِقتُ بولدين توءمين: "سعيد، وجاويد"، ونسينا أمر السرداب، والتمثال.

كان الشيخ "حسن" يُحب أحفاده لدرجة كبيرة، على الرغم من تمرد أحدهم على العيش في شارع "كلوت بك"؛ كان دائم الشجار مع جده ومعي، وكان يطالبنا أن نذهب للعيش في الأرياف، لأنه يحب هذه الحياة!

تُوفيَ الشيخ "حسن"، ثم توفيت زوجته، وعمَّ الحزن بيتنا، ولم تعد لنا رغبة في البقاء في هذا البيت؛ كان كل شيء في البيت يُذكِّر "فريال" بأبيها وأمها، وكانت على وشك الجنون؛ فلذلك قررنا أن نترك البيت فترةً حتى تهدأ فريال، ونعود مُجددًا.

اخترنا منطقةً ريفيةً بالقرب من مدينة "دسوق"، واشترينا هناك بيتًا، كان "سعيد" ابني فرحًا جدًا بالحياة هنا، على عكس "جاويد" فكان دائم الإلحاح على الرجوع إلى بيتنا في "كلوت باشا".

مكثنا أكثر من ثلاث سنوات هنا، وكان لنا جيران طيبون، قد تزوج "سعيد" ابني بإحدى الجيران، وسكن في المنزل، ورجعنا أنا وفريال إلى "كلوت بك" مع "جاويد" ابننا، ثم تزوج جاويد وعاش معنا في البيت.

وكان "سعيد" يزورنا على مضض، وآخر زيارة علِمنا أنه أنجب ولدًا سمَّاه "شاهين"، وجاويد قد تأخر في الإنجاب، وبعد فترةٍ مَنَّ الله عليه ب "ثريا"، الابنة الوحيدة له.

ما زلتُ أكتب كل كبيرةٍ وصغيرةٍ في دفاتر مذكراتي كنوعٍ من العادة، أو كحب فعلٍ مثل هذا!

لا أعلم...!

هيئة التحقيق

1922م، في الأول من مايو...

فُتِح المحضر في تاريخه:

- س: ما اسمك، وسنك، وعملك؟

- اسمي: شاهين سعيد محمد بارك فرنسيس.

عمري: ٢٩ سنةً، أعمل في مستشفى العباسية للأمراض العقلية.

- س: ما هي علاقتك بالمجني عليه "الخواجة مالي"؟!

- هو جارنا يسكن في البنسيون المُطل على ناصية شارعنا، حدثت له أزمة صحية اضطرته للمكوث في المستشفى، وكان يحتاج إلى نقل دم، وأنا تبرعتُ له بدمي، ومن وقتها وهو يحبني وأنا أيضًا، وكنتُ كثير التردد إليه في البنسيون.

- س: ما هو دافعك لقتله؟!

- أنا لم أقتله!

- س: بماذا تفسر بقع الدماء التي وُجِدت على قميصك؟

- كنت أزوره كالعادة، ودخلت عليه الغرفة وجدته ساندًا رأسه إلى مكتبه؛ فاقتربت منه، كنتُ أظنه نائمًا، وبعد أن رفعت رأسه وجدت الدماء تملأ بدلته فاحتضنته، وحاولت أن أحمله إلى السرير، لكن وجدته مطعونًا في قلبه؛ فصرخت وناديت "لولو" صاحبة البنسيون.

- س: لماذا اتهمتك السيدة "لولو" بأنك أنت الذي قتلته؟

- لا أعرف، ربما لأنها رأت بقع الدم التي كانت على قميصي.

س: لماذا اعتدتَ زيارة المجني عليه يوميَا، خصوصًا قبل زيارتك الأخيرة، فقد امتنعت عن زيارته لأكثر من أسبوع؟!

- أنا كنت منشغلًا في موضوعٍ مهمٍ بالنسبة لي.

- س: وما هو الموضوع المهم الذي منعك من زيارته؟

- أنا كنتُ.. كنتُ سأحكي لك الحكاية من البداية...

كنتُ طفلًا صغيرًا في تلك الليلة، حين فاضت روح أبي، حينها تشاجرتُ مع الله، وبعدها لُمتُ نفسي، وجاءت أمي فضربتني، وقالت إنك تتحدث مع الله بأسلوب غير لائق حينذاك، أدركتُ أن عقلي محدودٌ جدًا لدرجة أنني عدتُ واستغفرت، وطلبت من الله السماح، ولم يمر وقت إلا وجدتني أصرخ في وجه الله ثانيًا، وأقول له رد لي أبي!

مرت الأيام، وأنا لا أرى سوى أمي، وهذه الحقول العريضة، وطيورها التي تُحلق في السماء، وكثيرًا ما كنتُ أركضُ خلفها لعلي أرى موطنها الذي تسكنُ فيه، كان عمي الشيخ "جاويد" كثيرًا ما كان يزورنا ليطمئن علينا، ويقضي لنا بعض حاجاتنا، كانت أمي دائمًا تشكو إليه عدم انتظامي في الصلاة، وعدم الإصغاء لكلامها؛ فقرر أن يأخذني معه إلى بيته في القاهرة، في شارع "كلوت بك"؛ حيث جمال الطبيعة والبيوت القديمة التي تحمل عبق الأزمنة الجميلة، وصوت الزغاريد الذي لا ينقطع ليل نهار، والضحكات الرنانة في كل نواحيه.

دخلت مع عمي بيته الذي هو أشبه بالبناية الخاوية، فأدركتُ وقتها مصيري الأسود وحظي العاثر، كان أول شيء رمقته عيناي هو ذلك المدخل الضيق.

حينما دخلتُ إلى حوش المنزل استغرب عمي "جاويد" لِمَا فعلته؛ فحين وطَأت رِجلي أول درجةٍ للمنزل أخذتُ أبكي وأصرخ وأنادي أمي، فأخذني وصعد بي السلالم، وألقى بي فوق كنبته البالية، وصرخ في وجهي قائلًا:

- هنا أفضل من الطينة التي وُلِدتَ فيها.

- إن منزلك مُخيف جدًا، كيف تعيشون هنا؟!

 ردت زوجته السيدة " فاطمة"، وقالت بعد أن ضحكت بصوتٍ عالٍ:

- هذا المنزل له مكانة بين أهالي الشارع؛ فهو كان خط الدفاع الأول ضد الجنود الإنجليز، وهو ما كان يجتمع فيه الثوار، وجدك كان صاحب العقل المُدبر لهؤلاء الثوار!

كنتُ لا أستمع إلى كلامها، وكانت عيني تدور في أركان البيت كله، بينما كان عمي يلوم نفسه، لأنه أخذني من أمي.

كانت ابنته "ثريا" تجلس على الأرض، وتلعب في رباط حذائي.

صوت طرقات على الباب، فأسرع عمي وفتح، فكان الشيخ "صلاح" صاحب عمي "جاويد"، جاء ليجلس معه، دخلا الاثنان إلى غرفة المكتب.

وبعد فترةٍ رأيت خيالات وراء زجاج باب الغرفة، تتمايل يمينًا ويسارًا، فصرختُ وارتميت في حضن زوجة عمي، وعلمت بعد ذلك أن عمي وصديقه يقومان بعمل "حَضْرة" كل أسبوع في غرفة المكتب، كنتُ لا أفهم وقتها معنى كلمة "حَضْرة".

خرج عمي وصديقه بعد فترةٍ، وعلى وجوههم العرق يتصببُ!

كانت أولى أيامي التي فارقتُ فيهما حضن أمي، وجاء الليل والبيت أصبح هادئًا، دخلت غرفة المكتب، وأخذتُ أفعل كما كانوا يفعلون؛ أتمايل ذات اليمين وذات الشمال عدة مرات، حتى استولى عليَّ التعب، وسقطتُ إلى الأرض، وغلبني النوم بعد أن سقطتُ على الأرض، ووجدتني أصعد إلى جبلٍ عالٍ، وبينما أنا صاعد استولى عليَّ التعب وهدَّني، فاستويت قاعدًا عند مبنًى قديمٍ، تخرجُ منه شجرة خضراء ليس بها ثمار، وأخذتُ أدقُّ على جدران المبنى، وحولي الريح تصفر صفيرًا مجنونًا يضرب أذني، وتكحَّلت عيني بالتراب، وجسدي تهيَّأ للفجيعة، كان طعم الهواء حامضًا؛ كلما تنفستُ امتلأت رئتي بالفزع، وجلستُ مقرفصًا مرتعدًا، وفجأةً سمعتُ صوت قرقعة، ورأيت الهواء يتمايل ذات اليمين وذات الشمال، والحصى تتحرك حركات جلبة كأنها جان! أغمضتُ عيني وفتحتها وأنا أدعكها بيدي؛ فإذا بجثثٍ ميتةٍ تتكاثر أمامي!

فوليت مُدبرًا، هويتُ ساقطًا، وضُربت رأسي بصخرة عظيمة، ووجدتني أنظر الى اليمين؛ فإذا بامرأةٍ بهيجةٍ تنظر نحوي، وتمُد يديها كي تلتقطني، ففزعتُ أكثر وأكثر، وحاولت الهرب لكن جسدي الخائر منعني، فمددتُ رأسي في التراب وتلوت آية الكرسي، وسلَّمت أمري لله؛ فإذا بصوتٍ يصدح حولي:

"لا تخف.. لا تخف".

بدأ قلبي يخفق وتتسارع دقاته فأغُشيَ عليَّ، فرأيت ما رأيت؛ امرأة مُحاطة بالأنوار تمدُ يديها إلى رأسي!

وفجأةً استيقظتُ، وأنا أصرخ صُراخًا مجنونًا، فجاء عمي وضربني، وقال لي:

- لِمَ دخلتَ إلى هذه الغرفة؟!

أنقذتني زوجته من يده، واحتضنتني، وأحضرت لي كوب لبنٍ دافئ، وأدخلتني إلى الغرفة لأنام.

مرت أيام وأيام، لا أرى فيهما أمي حتى جاءني عمي بخبرٍ هو الأسوأ في حياتي، وهو وفاة أمي!

الآن لا أب ولا أُم لي...

حاولتُ الاندماج مع الوضع الذي أُجبرتُ عليه، كنتُ كل يومٍ أكبُر، وتكبر أمامي الحياة.

طلبت زوجة عمي من عمي أن يعلمني القراءة والكتابة، ويُلحقني بالمدرسة.

دخلتُ المدرسة، وكانت "ثريا" ابنة عمي تصغرني بسنتين، وبدأت أتعلم من عمي القراءة، لكنه كان حريصًا ألا نجلس في غرفة مكتبه، وكان دائمًا يحذرني من هذه الغرفة، ويقول لي إياك أن تدخلها ثانيةً؛ مما دفعني إلى أن أحاول دخول الغرفة لمعرفة ما يخفيه عمي!

عشتُ في هذا البيت لسنين طوال؛ مما جعلني أحفظ كل شيء، وأعرف كل الناس، وكأنني من السكان الأصليين للشارع.

على سطح البيت؛ حيث الهواء المليء بروائح البيوت القديمة، كنتُ دائمًا أحبُ الجلوس في عَشية كل يومٍ فتهدأ نفسي، كانت السيدة "لولو" الأربعينية، صاحبة البنسيون المُطل على أول الشارع؛ أم خدود تشبه حبة الكُرنب، والجسم المليء بالدهن، لكنها تتصرف كما لو كانت شابةً صغيرةً، كانت نظرتها لي من بعيد تجعلني أنكمشُ في جلدي، كنتُ أعلم أنها امرأةٌ لعوب، عرفتُ هذا من نظراتها لي، وكانت دائمًا تطلُ من نافذة البنسيون دون ملابس، كما لو كانت تداعب الهواء!

كانت جدتها قد تزوجت الخواجة بريان؛ ذلك العجوز المتكئ دائمًا على عصاه الخشبية منذ سنوات بعيدة، بعد أن أوقعته في شِباك غرامها، وأصبحت بعد موت بريان صاحبة البنسيون الذي يُسمى الآن "بنسيون الشرفاء"، وهو مكوَّن من ثلاثة أدوار؛ الأول والثاني للزبائن، والثالث تسكن فيه "لولو".

كان عمي الشيخ "جاويد" دائمًا يحدثنا عن تلك المرأة بطريقةٍ توحي لنا دائمًا أنها شيطانة تتجسد في صورة امرأة، وكان يحذر زوجته وابنته من الاختلاط بها.

في الليل دائمًا كنتُ أرى خيالات تطلُ من الدور الثالث للبنسيون، كأنه جن يرقص ويتمايل، وبعد ذلك اتضح لي أن "لولو" تصطحبُ الشباب عندها في الغرفة، وتقوم بالرقص لهم و....

كانت "ثريا" آنذاك الوقت قد بلغت سن الخامسة عشرة، وهي جميلة، وكل شباب الشارع كانوا يتمنون أن يحظوا بحبها، لكنها كانت تحبني وأنا أيضًا أحبها، عشنا طيلة عشر سنوات كأخ وأخت، وحين مرض عمي "جاويد" واحتُجِز في المستشفى كنتُ أنا وزوجته نرافقه كل يوم، وقبل خروجه من المستشفى طلبت منِّي زوجة عمي أن أذهب لإحضار بعض ملابسه استعدادًا للخروج.

دخلت المنزل، وكانت ثريا تجلس عند جارتها، وحين سمعتْ باب شقتهم يُفتح أسرعت لترى مَن فتح الباب، فقالت:

- مَن هنا؟!

فقلتُ:

- أنا شاهين، ابن عمكِ.

فدخلت معي تُجهز الملابس، وعند دخول غرفة نوم أبيها كان الشيطان قد سبقنا، وأعدَّ عُدته؛ استدارت نحوي وأومأت بجسدها النحيل لجسدي، وحلَّت ضفائرها واسترسلت شَعْرها على الصدر والبطن، فافترقت خصيلاتها كالخيول تدب فوق صدري، وحطت شموسها وراء السحاب الباسم بغيثه، والتقينا واستراح كلٌّ منَّا، وقلنا هذا حب بيننا.

خرج عمي من المستشفى، وما مرَّ إلا ساعات قليلة على خروجه، فجاءه الشيخ "صلاح" صديقه، ودخلا الغرفة، وبدأت طقوسهم تستعيد الأيام التي قضاها في مرضه، ونُصِبت "الحَضْرة" كالعادة، وفجأةً سمعنا صوت إسعاف، وصراخًا يأتي من "بنسيون الشرفاء" (كلوت بك سابقًا).

بعد موت الخواجة بريان تزوجت ماريا من أحد الرجال، وأنجبت منه بنتًا تُدعى "ميري"، كبرت ميري وتزوجت وأنجبت "لولو"، وأصبحت لولو بعد ذلك صاحبة البنسيون، الذي تغير اسمه من "كلوت بك" إلى "بنسيون الشرفاء".

فقطع عمي وصديقه "الحَضْرة"، وذهبا ليروا ما حدث، كنتُ أنا قد سبقتهم، دخلنا إلى البنسيون فوجدنا السيدة "لولو" مُنهارةً، وتصرخ قائلةً:

- أنقذوا الرجل، سيموت..

 ذهبنا وراء الإسعاف، ومعنا أحدهم يُدعى الخواجة "مالي" أرمل، يعيش بمفرده، يسكن في إحدى غُرف البنسيون، ذهبنا معه إلى المستشفى القريبة من الشارع، وقال لنا الطبيب إنه يعاني من فقر دمٍ حادٍ، وعلينا إحضار متبرعٍ له بدمه؛ أخذتني الشهامة فقلتُ أنا سأتبرع له بدمي، وبعد إجراء التحاليل، جلستُ بالسرير المجاور له، وبدأ هو بالحديث معي، وبعد أن شكرني قال لي:

- انتظرني في غرفتي بالبنسيون.

- إن شاء الله.

وذهبتُ إلى البيت، كان عمي يواصل حَضْرته في الغرفة، وزوجته تعدُ لنا الغداء، في حين كانت "ثريا" تنتظرني في شرفة المنزل، وحين دخلتُ المنزل استقبلتني بحرارةٍ كما لو كنتُ مسافرًا! وقالت لي:

- قد علمتُ من أبي أنك تبرعتَ للخواجة "مالي" بدمك، لماذا فعلتُ هذا يا شاهين؟! أهو من أهلنا؟!

- هذا واجب يا ثريا، وأي أحدٍ في موقفي هذا سيفعل مثلي.

- حسنًا، تعالَ لتأكل لتعوض الدم الذي سُحِب منك.

ووضعت يديها فوق رأسي، فشعرتُ وقتها بأن الدم ازداد داخلي وعلى وشك الانفجار، وأصبحتُ مثل كومةٍ من القش؛ لا حول لي ولا قوة، وارتجفت يداي، وبدأتُ أتشمم رائحة جسدها البَضِّ وهي تحاول إبعادي، وتقول: نحن على السُّلَّم!!

دخلت البيت، وبعد أن ملأتُ معدتي بالطعام دق جرس الباب، كانت السيدة "لولو" قد أرسلت صبيها يستدعيني لأمرٍ مهمٍ!

لم يسبق لي دخول البنسيون من قبل إلا وقت ما سمعتُ الصراخ.

ذهبتُ إليها وأنا أفكر في طريقي؛ أهي تريد أن تصطحبني إلى غرفتها أم تريد أن تلومني لأني أحدق بها كثيرًا، وهي دون ملابس؟!

- أهلًا مدام لولو.

- أهلًا.. أنت شاهين، صحيح؟

- نعم، أنا شاهين.

بدأت تبللُ شفتيها وتبتلعُ ريقها، وتحاول هزَّ صدرها الذي يشبه الكرنبة!

- أتحتاجينني في شيءٍ، يا مدام لولو؟!

- نعم، أحتاجك.. أحتاجك جدًا، أقصد الخواجة "مالي" هو من يحتاجك!

- أين هو يا مدام؟!

- هو في الدور الأول، غرفة رقم (٢)، لكن لا تنادِني ب "مدام"! أنا اسمي "لولو"!

- حاضر يا لولو، بعد إذنكِ سأصعد إلى الخواجة.

- تفضَّل.

- أهلًا يا شاهين، يا صاحب الشهامة.

- أهلًا يا خواجة.

- هذا مبلغٌ بسيط، اعتبره هديةً منِّي لك.

- لا يا خواجة، أنت تعطيني ثمن دمي الذي أعطاه لي الله!

- لا يا ابني، هذا حقك، خذه حتى أكون مرتاحًا.

- لا يا خواجة، اطمئن ولا يهمك، لكن ما هذه الكتب كلها؟! كتب.. كتب في كل مكان، حتى لا يوجد مكانٌ نجلس عليه، كيف تنام أنت في هذا الوضع؟!

- يا ابني، أنا ظللت عشر سنوات أعيش وحدي أنا والقطط والنمل!

وهذه الكتب -لعلمِك يا شاهين- فيهم كتب غالية جدًا وقيِّمة، وفيهم مخطوطات نادرة جدًا!

على كل حال -يا شاهين- أنا أحببت أن أشكرك على معروفك معي.

خرجت من عند الخواجة، وكانت لولو تنتظرني على السلم، وأول ما رأتني سحبتني من يدي، وأجلستني على الدرج، وطلبت منِّي أن أتناول معها فنجان قهوة!

 نزلنا إلى صالة البنسيون، وأمرت لنا بقهوة، ودردشنا مع بعضنا بعضًا، وقالت:

- لماذا أرادك هذا المجنون؟!

- مجنون! عمَّن تتكلمين؟!

- عن الخواجة "مالي"، هذا رجل مخبول؛ طوال الليل يخبط ويكلم القطط، وكل يوم في حال؛ أوقات يقول إنه مليونير، وأخرى يقول إنه لا يملك غير المعونة التي ترسلها إليه الكنيسة، ناهيك عن كتبه التي ملأت البنسيون، وخرافاته!

- يا لولو، هذا الرجل يبدو أن وراءه الكثير من الحكايات والألغاز!

بعد أن شربت القهوة كانت لولو تطمعُ في شيءٍ آخر، لكن تذكرت وقتها ثريا، واستأذنتُ منها، ورجعت إلى البيت، وكان قد حلَّ الليل، وعمي ما زال في الحَضْرة، يبدو أنه يعوِّض الأيام التي قضاها في المستشفى، ليتني أعرف ما تحتويه هذه الغرفة التي يمكثُ فيها أيامًا؟!

طلبت منِّي زوجة عمي أن أعطي الشاي لعمي في الغرفة؛ طرقتُ الباب، وحاولتُ فتحَه، لكن كان مغلقًا بالمفتاح من الداخل!

فقال لي بصوتٍ خشنٍ:

- انتظر مكانك، أنا سأخرج إليك!

كأنه يُخفي شيئًا في هذه الغرفة، حتى زوجته وابنته ممنوع عليهم دخولها!

- كنت أريد أن أتكلم معك يا عمي.

- تفضَّل.

- الخواجة "مالي" طلب منِّي زيارته في البنسيون، وعندما ذهبتُ إليه وجدت غرفته مليئةً بالكتب، وقال لي إنه يمتلك مخطوطات نادرة جدًا، وكتبًا ثمنها غالٍ جدًا!

سمع الشيخ جاويد هذا ومن قبله الشيخ صلاح، فقالا بصوتٍ واحدٍ:

- نريد زيارته!

بالفعل، بعد أن استأذنتُ من الخواجة "مالي" ذهبنا إليه.

كانت صدمةً كبرى لعمي وللشيخ صلاح حين رأوا مكتبته الضخمة، وما تحويها من كتب، أظن أن هذه الكتب لا يعرف قيمتها إلا هؤلاء العجائز!

دخلت علينا مدام لولو الغرفة، وقدَّمت لنا الشاي، فقال لها الخواجة:

- أول مرة تأتي بالشاي بنفسكِ!

ضحكنا جميعًا، وعادوا هم للتفحص في الكتب، وكنتُ أتلاعب مع لولو لعبة القط والفأر؛ هي تحاول أن تخرجني من الغرفة، وأنا أتجاهل نظراتها، حتى أمسكت بكوب المياه الفارغ، وأسقطتْه على إحدى رجليها، فصرخت وطلبت منِّي أن أصطحبها إلى صالة البنسيون! وهي نازلة معي على السلالم غرست أظافرها في معصمي بشدة، كأنها تحاول أن تقول لي أنت غبي، لا تفهم!

بعد فترةٍ نزل عمي والشيخ صلاح، وعلى وجوههم الرضا والفرحة، وقال لي عمي:

- أول مرة نستفاد منك شيئًا!

فهمتُ وقتها أن الخواجة أصبح لهم الضلع الثالث في الحَضْرة، لكن كيف وهو أرميني؟!

رجعنا إلى البيت، وذهب الشيخ صلاح إلى بيته.

قال لي عمي إنه توسَّط لي عند أحد أصدقائه للعمل معه في مارستان العباسية، طبعًا أنا واجهت الخبر بصدمة! وقلتُ له:

- تقصد مستشفى المجانين؟! يا لحظي النحس!!

تسلمت العمل، ولا أعرف طبيعة عملي، هل من الممكن أن أعمل مجنونًا؟!

ظللتُ لأكثر من أسبوع أذهب صباحًا وأعود مساءًا، وما بينهم أظل جالسًا على دكة العيادات الداخلية للمستشفى، أنام وأقوم... أنام وأقوم.... إلى حين جهزوا لي عملًا، وهو قطع تذاكر الكشف.

فرحت ثريا جدًا بعملي، وقالت:

- الآن يمكنك أن تطلبني من أبي ونتزوج، ونعيش معهم في هذا البيت.

- حاضر يا ثريا، سأحدِّثُه في الأمر.

دخلت إلى البلكونة لأدخن سيجارة، كان الشارع يعجُ بالمارة، وأصوات ورش النحاس وعمال المحال تصدح في أذني، ولا تجعلني أستمتعُ بالسيجارة؛ فصعدتُ إلى سطح البيت، وظللتُ أشعل سيجارةً تلو أخرى، وأنظر إلى القمر، وأتأهب لمنازلة النوم، بينما كانت مدام "لولو" تحاول لفت نظري إليها، لكنني كنتُ لا أشغل بالي بها، وأقول في نفسي لو كانت جميلةً لكنتُ.....

فراودتني ثريا، وكانت قطرةً صغيرةً من الندى تتلألأ فوق مخيلتي حتى كانت حقيقة، جاءتني ثريا بجسدها وضحكت لي وفكَّت عروة ثوبي، وما كان عليَّ إلا أن أقطف من هذه الوردة البرية بعضًا من رحيقها، فاستفقنا على صوت زوجة عمي، وهي تقول:

- ثريا.. أين أنتِ؟ ثريا..

وسمعتُ أرجلها تدب على درج السلم، كنا لا ندري ماذا نفعل؟! لو رأتنا معًا هنا في هذه الساعة المتأخرة، ستخبر عمي.

أخذتُ أبحثُ عن مكانٍ أختبئ فيه، لم أجد إلا عِشَّة الفراخ فدخلتُ إليها، وانتظرتُ حتى نزلت ثريا وأمها ثم خرجتُ، وأخذتُ أنظف ملابسي، ثم استدرتُ إلى اليمين فرأيتُ تلك الأفعى "لولو"، وهي تضحكُ وتبدي حركاتٍ غريبةً بيديها، كأنها تتوعدني!

ذهبتُ في صباح اليوم التالي إلى عملي، وفي طريقي قابلت الخواجة "مالي"، وهو يجوب "كلوت بك" يطارد قطط الشارع، وهو مُمسك بمجموعة جرائد قديمة، فطلب منِّي أن أُبلِّغ عمي "جاويد" بأن يأتيه ليلًا بالبنسيون، فقلت له سأبلغه.

ذهب عمي "جاويد" إلى الخواجة، وبعدها جاؤوا إلى البيت، ومعهم الشيخ "صلاح"، ودخلوا الغرفة وأغلقوا الباب بالمفتاح كالعادة، في هذه اللحظة قررتُ أن أعرف ما الذي يدور داخل هذه الغرفة، ولحسن الحظ كانت ثريا وأمها عند الجيران.

تصنتُّ من وراء الباب، وبدأت أسمعُ بعضًا من حديثهم، كان الخواجة "مالي" صوته عالٍ إلى حدٍ ما، سمعته يقول لعمي:

- سأحضر لك كتابًا أفضل من هذا الكتاب، وسأنتظر إلى حين تنتهي جلسة تحضير الأرواح، وسآخذه معي.

كنتُ لا أصدق ما سمعته؛ عمي يُحضِّر أرواحًا؟! وما شأن شخص "أرميني" بهذا الأمر؟! أمعقول اجتماع مسلم وأرميني في جلسة تحضير؟! كيف ذلك؟!

يبدو أنني أحلم! لا ليس حلمًا!!

أنا لا بد أن أدخل الغرفة، وأعرف ما بها.

انتظرتُ حتى خرج الخواجة، وبعدها خرج الشيخ صلاح، وبقي عمي بمفرده فذهبتُ إلى الجيران، وناديتُ ثريا، وقلتُ لها ما سمعته، لكن الغريب أنها لم تُبدِ أيَّ استغراب، وكأنها كانت تعلم!

اتفقتُ معها أن تصرخ، وتقول عندي مغص، وتنادي عمي "جاويد"، وبعدها سأدخل الغرفة!

أسرع عمي "جاويد" حين سمع صُراخ ثريا، كنتُ أختبئ تحت أحد المقاعد القريب من باب الغرفة، فدخلتُ واختبأت وراء ستارة الشباك، وبعدها دخل عمي وجلس على كرسي مكتبه، وأمسك بقلمه، وأخذ يرسم خطوطًا متعرجةً، ويكتب كلماتٍ عربيةً، لكن ليس لها معنى، تبدو هذه الكلمات لغةً جديدةً لا أعرفها! لكن الشيء الذي لم أفكر به هو عند خروج عمي من الغرفة، فهو دائمًا يغلق الباب بالمفتاح!

 أنرتُ ضوء الشمعة، وأخذتُ أتفحص كل شيء فيها، وقد نسيتُ أمر الباب المُغلَق بالمفتاح.

كانت الغرفة عبارة عن مجموعةٍ من الأوراق المكتوبة بخطٍ غير مفهوم، إلا مجموعة من الأوراق كان مكتوبًا في أول ورقة منهم: "مذكراتي أنا محمد بارك فرنسيس"؛ علمتُ وقتها أنها مذكرات جدي محمد، لكن أنا أول مرة أسمع أن جدي كان كاتبًا مذكراته، قرأت أول صفحة، وفجأةً فُتح الباب، كانت ثريا قد سرقت مفتاح الغرفة بعد أن علمت أن أباها أغلق الباب، وأنا بالداخل، رأت ثريا المذكرات، وقالت لي اتركها مكانها، حتى لا يعلم أبي أن أحدًا دخل الغرفة.

قلتُ لها نأخذها لنقرأها، ثم نعيدها، رفضت وقالت لي ممكن في يومٍ آخر يكون الوقت مُناسبًا، أو يكون أبي غير موجودٍ بالبيت، تدخل أنت كما دخلت، وتقرؤها.

خرجنا من الغرفة، لكن بات الأمر مُحيرًا؛ ما تلك الأوراق المكتوبة بهذا الكلام الغريب؟!، وما دَخْل مذكرات جدي بهذه الأوراق، خصوصًا أنها كانت تتوسطهم؟!

في صباح اليوم التالي، قررتُ ألا أذهب إلى العمل، وانتظرتُ حتى دخل عمي الغرفة، ودخلتُ عليه، وطلبت منه أن يجالسني معه، وبعد طول مناهدةٍ وافق، وقال لي بشرط ألا تسأل عن أي شيء، ولا تتحدث نهائيًا!

 بعد فترةٍ من جلوسي معه حاولت أن أستعطفه، وقلتُ له:

- أنا أريد أي كتابٍ أقرؤه.

 فأعطاني كتاب القرآن، وقال لي:

- هذا أفضل كتابٍ تقرؤه.

- أنا أريد قراءة كتبٍ من نوعٍ آخر.

- هذه الكتب لا تنفعك، ولا يمكن لك أن تقرأها، ومن الأفضل أن تخرج من هنا!

ومن قبل كانت عيني تدور حول مكتبه حتى وقعت عيني على ورقةٍ مكتوب فيها بخط اليد: "كيف تُحضِر روح مُتوفَّى؟!

خرجتُ، وكانت ثريا تعلم بدخولي عند أبيها؛ فقلتُ لها:

- أبوكِ يُحضِّر أرواحًا!

- أرواح!! ماذا تعني؟!

- يعني أناسًا ليسوا موجودين في الدنيا، وهو يستدعيهم ليأتوا إلينا بطريقةٍ ما، مكتوبة في بعض الأوراق لدى أبيك.

- وما شأننا بهذا؟! أسيحضر روح فرعون مثلًا؟! لا يهمنا هذا في شيء! دعك من هذه الأمور.

طُرق الباب فكان الشيخ "صلاح" قد جاء إلى عمي؛ دخل معه الغرفة، وبعد فترةٍ خرج ونزل ثم جاء مُجددًا، لكن هذه المرة جاء معه الخواجة "مالي"، ودخلا الغرفة، وأُغلِق الباب بالمفتاح!

كانت تقريبًا الساعة الثالثة عصرًا وحتى الساعة السابعة مساءً لم يخرجوا من الغرفة؛ الأمر الذي أزعج زوجة عمي، لأنها لم تتناول طعام الغداء حتى هذه الساعة! فطلبتْ من ثريا أن تدخل إلى أبيها، وتقول له تعالَ لتتناول الغداء؛ فرفض وأخرج ثريا من الغرفة!

كان عندي حب استطلاع لمعرفة ماذا يحدثُ في هذه الغرفة، فانتظرتُ حتى خرجوا، وبعدها ذهبتُ إلى بنسيون "لولو"، وقابلت الخواجة "مالي"، وجلست أتحدث معه، لكنه شَعرَ من كلامي أنني أريد معرفة شيءٍ ما.

طلبتُ منه بعد ذكَّرته بيوم تبرعي له بدمي، وأنه قال لي إن هذا الموقف يتمنى لو يرده لي:

- أنا –يا خواجة- أريد منك طلبًا؟ أريد أن أعرف ماذا تفعلون عندما تدخلون غرفة عمي وتغلقونها بالمفتاح؟

ضحك الخواجة وقال:

- اسأل عمك!

- لا يا خواجة، أنت تعرف أن عمي لم يقُل لي شيئًا، وتعرف أيضًا ألا أحد يمكن استدراجه في شيء، لأنه حريصٌ جدًا، وغير لين!

قال الخواجة بعد أن سكت لوقتٍ عن الكلام:

- اسمع يا شاهين، أنت صاحب فضل عليَّ، ولولاك ما كنتُ حيًا الآن، لكن لا تحرجني معك، وتطلب منِّي شيئًا أنا لا أريد أن أنفذه أو حتى أحكيه!

- لكن يا خواجة، أنا أصبحتُ أرتاب من أفعال عمي، ولا أستطيع معرفة أي شيء، لو حقًا أنا صاحب فضلٍ عليك -مثلما تقول- أخبرني ماذا يحدث؟!

- اسمعني جيدًا -يا شاهين- أنا رجلٌ كبيرٌ في السن، ولن يرضيك أن عمك يقول عني إنني خائن لسره لو علم أنني قلتُ لك شيئًا!

- صدقني يا خواجة، لن يعلم شيئًا عمَّا ستخبرني به، وبعد إلحاح شديد وأيمان كثيرة، قال لي ما لا أصدقه حتى الآن!!

قال لي:

- إن جدك "محمد" كان كاتبًا مذكراته، وهذه المذكرات عثر عليها عمك في الغرفة أسفل الشقة، وأن المذكرات مكتوبٌ فيها أن المنزل الذي تعيشون فيه يوجد به غرفةٌ مفتوحةٌ تؤدي إلى سرداب؛ هذا السرداب يوجد به بعض الكُتب القيِّمة الغالية الثمن، بالإضافة إلى تمثال أثري مصنوع من الذهب الخالص؛ هذا التمثال عُثِر عليه إزاء الأهرامات تزامنًا مع الحملة الفرنسية، التي كان جدك محمد أحد ضباطها، وهو يريد معرفة مكان السرداب، حتى يتمكن من أخذ الكتب، وبيع التمثال لأن هذا التمثال يساوي ملايين الجنيهات!

- لكن يا خواجة، لماذا قال لك، وأنتم لا تعرفون بعضكم بعضًا؟!

- لا يا ابني، نحن نعرف بعضنا بعضًا جيدًا، بيننا أشياء مُشتركة؛ كحب الكتب النادرة، وكما أنا كنتُ وعدته بأن أبيع له التمثال، بالإضافة إلى أنه حين زارني وجد عندي بعض الكتب الخاصة بتحضير الأرواح، التي هي أمله الوحيد للعثور على السرداب!

- انتظر يا خواجة، أنت تقصد أن عمي سيصل إلى السرداب عن طريق تحضير الأرواح؟! وأي روحٍ سيُحضرها؟! هذه خرافات!

- لا ليست خرافات -يا شاهين- هذا علم، وعلم كبير، فعمك يريد تحضير روح جدك محمد، لمعرفة مكان السرداب!

- آآه، لذلك كان يغلق الغرفة بالمفتاح، لأنه خائف من روح جدي تخرج إلينا تفجعنا، ههه!!

- أنا أتحدث بجد -يا شاهين- عمك يريد تحضير روح جدك.

- حسنًا، لكن ما علاقة الشيخ صلاح بالموضوع؟ عمي يبحث عن التمثال، وأنت ستبيعه له، أما هو فما دوره؟!

- هو يمثل أهم دور فينا، هو الوسيط الذي ستحضر الروح من خلاله، وهو من سيتواصل معها، وعن طريقه سنعرف كل شيء.

- أنا ممكن أن أكون الوسيط، ومثلما يقولون: "يكون زيتنا في دقيقنا!"، ههه!!

- اسمع -يا شاهين- لا تجعلني لأشعر بالندم لأنني حكيت لك!

- أنا أمزح -يا خواجة-!

- حسنًا -يا شاهين- اعتبر أنك لم تسمع مني شيئًا، لكن غدًا ستعرف أن الحق لدينا.

خرجت من عند الخواجة، وأنا مملوء بالسخرية مما قاله، وفجأةً قابلتُ سيدة الحُسن والجمال "لولو" هانم واقفةً على السلالم، وواضعةً إحدى يديها على خصرها، وقالت لي:

-  حمدًا لله على سلامتك يا سيد الرجال، أنت لا تأتي هنا إلا من أجل الخواجة فقط؟!

- أبدًا يا لولو، لكنني كنت مشغولًا قليلًا، بعد إذنكِ أنا مضطر أن أذهب.

- لا عليك، تفضَّل اذهب، لكنك يومًا ما ستأتي برغبةٍ منك!

- قلتُ في نفسي: حقًا امرأة مجنونة!!

دخلت البيت، وبعد أن حملتُ ما حكاه لي الخواجة على محمل الضحك والمزح فكرت في الأمر جيدًا، وبدأت أصدقه، وقلتُ: نفترض أن ما قاله صحيح؟! وأن ما قاله عن تحضير الأرواح حقيقي!! ولمَ لا؟!

حاولتُ أن أجمع معلوماتٍ عن تحضير الأرواح، وجدتُ أن الموضوع فيه شيءٌ من الصِحة، وأن في الإمكان تحضير روح ميت والحديث معها! وربطتُ بعض الأحداث على مر التاريخ، فتيقنتُ أن تحضير الأرواح حقيقي.

وأنا أحدثُ نفسي، تذكرتُ هذا الرجل الذي يُدعى "سيد المرسي" الشهير ب "سيد تكتكة"؛ ذاك الرجل الماكث بالمستشفى في عنبر (ج) حالات خَطِرة، غرفة رقم (٣)، كنتُ أسمعُ من زملائي أنه يمتلك قدراتٍ خارقةً؛ مثل: ثني قطع النقود المعدنية بعينه، ولف أصابعه حول بعضها، والمشي على الهواء، وكانوا يقولون عنه إنه يُحضِّر أرواحًا! فسمعتُ أنه حضَّر روح زوجته، وعرف منها أنها كانت تخونه، وهي التي زجَّت به إلى السجن قبل دخول المستشفى للتخلص منه بعد أن اتُّهِم بجريمة قتل، وحضَّر روح أبي طبيب لمعرفة أين كان هذا الأب يخبئ ثروته، وحين ذهب الطبيب إلى المكان الذي دله إليه، وجد ثروة أبيه.

وحكايات كثيرة غريبة قيلت عن هذا الرجل!!

ذهبت اليوم التالي إلى عملي كالعادة، وطلبت من أحد الممرضين أن يسهل لي مقابلة "سيد تكتكة"، وبعد مقابلته وحديثي معه طلبتُ منه أن يُعلِّمني طريقةً أحضر بها روح جدي.

ضحك تكتكة وقال:

- ما شأني بروح جدك؟! أنا مشغول في تحضير روح توت عنخ أمون!

- اسمعني يا سيد، لو علَّمتني كيف أحضر روح جدي، سأعطيك نصف الثروة التي يمتلكها.

- ألم يمت جدك؟!

- نعم، قد مات، لكنه خبَّأ ثروةً ضخمةً، ولذلك أريد تحضير روحه. 

- حسنًا، لا مشكلة ما دام ما قلته صحيح!

 هناك أكثر من طريقة لتحضير الأرواح، سأعلمك أسهلهم؛ أحضر منضدةً دائرية، وضع أعلاها فنجانًا مقلوبًا، ويكون معك أي شخص تستخدمه كوسيط، ولا بد أن يكون عدد الموجودين فرديًا بالوسيط؛ يعني، ثلاثة، أو خمسة، أو سبعة.....

ثم تقرأ هذه الكلمات التي سأكتبها لك، وتفعل ذلك بعد المغرب، ثم تجلب خمس شمعات بيض، وتشعلهم بعد أن تقول تلك الكلمات وترددها، إلى أن تنطفئ الشمعات وحدها، إلا واحدة منهم ستظل مُشتعلةً! ثم تجعل الوسيط يُغمض عينيه، ويردد اسم الشخص المطلوب إحضار روحه، لكن احذر لو لم تنطفئ الشمعات لن تفلح عملية التحضير، ولا بد أن تعيد من جديد كل ما فعلته، ولا تنسَ أن يكون الوسيط مغمض العينين.

- أهذه هي عملية تحضير الأرواح يا سيد؟!

- نعم.

- شيء سهل جدًا! أمتأكد أنك مجنون يا سيد؟

- مجنون!! افتعلتُ الجنون لأنني كنت مسجونًا، والحياة في السجن لا أطيقها أبدًا.

- نعم، أنا أشكرك جدًا يا سيد، سأذهب لأجرب ما قلته.

خرجتُ من عند سيد، وذهبت إلى البيت، وقلتُ لثريا ما قاله لي سيد، فقالت لي:

- أنت مجنون؟! أتصدق هذه الخرافات؟!

- نعم، صدقيني، لن تخسري شيئًا إذا كنتِ معي، وأنا أحاول إحضار الروح!

- كيف وأنا أخاف من هذه الأشياء؟!

- لا تخافي..

- أين سنحضر روح جدنا؟ أهنا في البيت؟!

- لا طبعًا، أكيد ليس هنا! سنفتح الغرفة التي بالأسفل، ونأتي بمنضدةٍ دائرية، ونجهز كل ما قاله سيد.

- لكن هناك مشكلة؛ نريد وسيطًا يكمل عددنا، لكن من سنثق فيه؟!

- ما رأيك نخبر أبي، وهو سيساعدنا!!

- أنتِ تريدين أن يُميتنا! لقد عرفنا سرًا من أسراره، ثم إن الخواجة "مالي" هو من قال لي ألا أخبر أحدًا!

 - الخواجة مالي! ما رأيك أن يكون هو الوسيط

- فكرة جيدة.. المهم أحضري خمس شمعاتٍ، وفنجانًا، وغدًا بعد المغرب ننزل الغرفة، والآن سأذهب إلى الخواجة "مالي" لأخبره بالأمر

- ذهبتُ في نفس اليوم إلى الخواجة، وكالعادة قابلتني "لولو"، وطلبت منِّي أن أحمل كرسي الصالة، وأصعد معها إلى غرفتها، ثم قالت لي:

- أنا أحبك يا شاهين..

وجرت ورائي! وأحمد الله أنني تمكنت من الخروج قبل أن...!

دخلت إلى الخواجة "مالي"، وحكيت له ما حدث مع "سيد تكتكة"، فقال لي إنه موافق، لأنه يحب المغامرات.

كان عمي "جاويد" اعتاد أن يدخل الغرفة، ويغلق الباب، لكن في هذا اليوم تركه مفتوحًا فدخلتُ إليه، وتحدثت معه، لكنه كالعادة لا يرد عليَّ، وأنا أجلس إلى مكتبه حاولتُ سرقة كتابٍ صغيرٍ اسمه: "كيف تُحضر روحًا؟"، ونجحتُ فعلًا في سرقته، وخرجت.

قرأت الكتاب، وكان فيه كما قال "سيد تكتكة"، بالإضافة إلى طرائق أخرى كثيرة..

الجلسة الأولى...

بعد التجهيز للجلسة، وكنا قد أحضرنا كل شيء، والخواجة "مالي" قد أتي إلينا.

نزلنا إلى الغرفة، وأغلقنا الباب؛ وبعدما أعددنا كل شيء -كما قال لي سيد تكتكة-، أغمض الخواجة "مالي" عينيه، وأنا قرأتُ الكلمات، وكنتُ أنظر إلى الشمع، لكن لا تنفطئ أي واحدةٍ من الشموع، مرت ساعة ولا جديد، ولم يشعر الخواجة بشيء، ولا انطفأت الشموع!

فجأةً ضحكت ثريا ضحكةً عاليةً، وقالت:

- أنا قلتُ لك إن هذا هُراء!

بعدما يئسنا من أن تحضر أي روح، خرجنا من الغرفة، وكان اليأس قد أحاط بنا، فقال الخواجة:

- ربما اليوم غير مناسبٍ لحضور الروح، فلنجرب يومًا آخر.

في هذا الحين كان عمي "جاويد" يستمع إلى كل كلامنا حين كان يصعد السلالم، فنزل وقال للخواجة:

- أنا آمنتك على سري، فلمَ قلتَ لهم؟!

صمت الخواجة عن الكلام، وبدأ يميل وجهه إلى الحُمرة، في حين كنتُ أنا قد تشجَّعت، وقلت له:

- الأمر أصبح مكشوفًا الآن؛ علينا أن نجتمع، ونحاول أن نحضر روح جدي، وبعدها نسأله عن مكان التمثال!

 قال عمي "جاويد":

- أنتم حاولتم وفشلتم في تحضير الروح، ونحن حاولنا وفشلنا! فماذا علينا فعله الآن؟!

فقلتُ بعد أن طرقت عقلي فكرةٌ:

- مساحة سطح البيت أكبر من هذه الغرفة والمحل، والمَنْوَر! إذًا هناك مساحة غير معلومة، وهي التي يشغلها السرداب.

صمت كل الحاضرين، ووجهوا بصرهم ناحية اليمين، وقال "جاويد":

- هنا.. وأشار إلى الحائط...

وبعدها استقررنا أن نهدم جزءًا من الحائط الغالب عليه الشك، بالفعل قمنا بتكسير الطوب، فكانت المفاجأة؛ السرداب على مشارف الظهور، أخذنا نهد في الطوب إلى أن دخلنا إلى السرداب، وأخذنا نفتش حتى وجدنا مجموعةً من الكتب المتهالكة، لكن لم نعثر على التمثال إلا حين حفرنا تحت أحد الجدران الداخلية، فوجدنا التمثال!

عمي "جاويد" كان لا يصدق أن التمثال أصبح في يده، ولا أنا!

أخذ الخواجة "مالي" التمثال لبيعه، لكن كما حدث قُتِل الخواجة، واختفى التمثال!

- يعني -يا شاهين- أنت قتلت الخواجة لتسرق التمثال؟

- أنا لم أقتل الخواجة.. لم أقتله.

كان المُحقق "بدر الدين" قد استدعى المُفتش "جودت فؤاد"، وكان رجلًا شديد الثقة بنفسه، ولا تفوته فائتة، وطلب منه إجراء تحريات عن واقعة مقتل الخواجة "مالي"، والمُتهم فيها "شاهين جاويد محمد"، وأن أغلب الظن أنه قتَل من أجل السرقة؛ سرقة التمثال الذهبي -كما قال شاهين-.

قال المُفتش:

- التمثال مِلك شاهين وعمه، فكيف له قتل الخواجة، وهو الذي أعطى الخواجة التمثال لبيعه؟!

فقال المُحقق:

- من الممكن أن يكون شاهين قد طمع فيه لنفسه؛ فقرر أن يسرق التمثال بعد أن قتَل الخواجة!

هزَّ المُفتش رأسه، وضحك ثم قال:

- لا أظن.

كان المُفتش "جودت" رجلًا ذا خبرةٍ في معرفة المجرمين، فبنظره إليهم تراه يقول إنه بريء أو مُدان!

استدعى المُحقق "بدر الدين شاهين" المُتهم، وكان المُفتش "جودت" يجلس معهم، وبعد أسئلة المُتهم، وإجابة الثاني بالنفي، ودرء الجريمة عن نفسه، قال المفتش لشاهين:

- سنذهب اليوم إلى البنسيون لتمثل الجريمة.

فقال شاهين، وقد بدأ في البكاء:

- أنا لم أقتل الخواجة "مالي".

بعد خروج شاهين من غرفة التحقيق، نظر "جودت" إلى "بدر الدين"، وقال له:

- إن هذا الشاب بريء، ولم يقتل الخواجة!

- ومن أين علمتَ هذا، أيها المُفتش؟!

-  إحساسي يقول إنه بريء.

- لكن لماذا وُجِد وقت وقوع جريمة القتل؟! وماذا عن الدم المُلطَّخ به قميصه؟!

- لا أعلم، لكن أنا متأكد أنه بريء، عمومًا كل شيء سيتضح اليوم.

أحضر المُفتش "جودت" شاهين، وذهبا إلى البنسيون، وبعد أن تفحص بالنظر كل زبائن البنسيون، والسيدة "لولو" صاحبة البنسيون، وقع شكه على ثلاثة أشخاص؛ رجل كبير في السن يعمل كاتبًا، وخادمة البنسيون السيدة "تفيدة"، و"لولو" صاحبة البنسيون.

قال لشاهين:

- كيف قتلتَ الخواجة "مالي"؟

قال شاهين بعد أن أمسك بالقرآن حالفًا:

- أنا لم أقتله.

كان المُفتش يعلم جيدًا صدق شاهين، لكن كي يساعده في إثبات براءته كان لا بد من توجيه التهمة إليه، حتى يطمئن القاتل الحقيقي، فيقع في يده.

بدأ المُفتش يبحث في الغرفة مرات عدة، وشاهين يجلس على الكرسي، وقد أتعبه التحقيق، فغفت عينه، إلى أن أفاقه المُفتش، وخرجا إلى صالة البنسيون، وكانت نظرات المُفتش حادةً جدًا إلى الثلاثة المشكوك فيهم، طلب من السيدة "لولو" أسماء جميع الزبائن الذين كانوا موجودين وقت وقوع الجريمة.

وسألها عن الكاتب "شفيق أفندي"، وعن مدة وجوده في البنسيون، فقالت:

- هو موجود في البنسيون منذ سنةٍ ماضيةٍ تقريبًا، جاء لأنه يكتب، وهذا البنسيون كان له مهبط الوحي! وكما علمت منه أنه يحب الهدوء، لذلك ترك بيته وسكن في البنسيون.

- الخادمة "تفيدة"، منذ متى وهي تعمل معكِ؟

- منذ خمس سنوات تقريبًا.

بعد أن ترك المُفتش جودت وشاهين البنسيون وفي طريقهم إلى المحبس، كانت ثريا موجودةً في الشارع، فرأت شاهين فأسرعت إليه واحتضنته، وقالت له:

- لا تخف -يا شاهين-؛ إن الله سينجيك.

في اليوم التالي بعد دخول المُفتش إلى المُحقق "بدر الدين" قال له:

- لقد صدقت ظنوني أن هذا الشاب بريء، والقاتل هو أحد الثلاثة الموجودين في البنسيون.

كان شاهين في تلك الفترة قد بدأ ييئس من إثبات براءته، وقرر أن يعترف للمُحقق بأنه ارتكب جريمة قتل الخواجة، كي يلقى مصيره الذي تملل من انتظاره، وقال في نفسه: نهايتي حتمًا ستكون الموت عاجلًا أم آجلًا!

طلب شاهين مقابلة المُحقق، وقال له:

- أنا الذي قتلتُ "مالي"!

 فنظر إليه المُحقق نظرة عطف، وقال له:

- أنا أعلم أنك لم تقتل الخواجة.

فتبسم شاهين ونظر إلى الأعلى شاكرًا الله.

فقال له المُحقق:

- انتظر، أنا أعلم أنك بريء، لكن لا بد من إثبات البراءة، ولن يتم هذا إلا عند القبض على المُتهم الحقيقي.

كان "جاويد" يجلس في غرفته يلوم نفسه؛ التمثال ضاع والخواجة قُتِل، وشاهين الله أعلم بحاله، فذهب إلى الشيخ صلاح، وهو أيضًا كان مهمومًا فقال له:

- تعالَ معي إلى غرفة السرداب.

 دخلا الغرفة، وتفحصا الكتب جيدًا، وبعد تجميع بعض الأوراق المقطوعة من أحد الكتب، وبدآ يقرؤون فيها اكتشفا أن هذا السرداب كان موجودًا قبل بناء البيت! وأنه عبارة عن مقبرةٍ قديمةٍ ترجع إلى الأسرة السادسة، وكان أبو جده الشيخ "أبو المجد" يعلم هذا، لكن الجد "حسن" لا يعلم ذلك فبقيت سرًا إلى الآن.

 فرحا بهذا الاكتشاف، ونسيا أمر "شاهين" المحبوس، وبدآ يبحثون عن الكنز المُخبَّأ في السرداب.

في حين كان المُفتش "جودت" قد استأجر شقةً أمام البنسيون، وسكن فيها دون علم أحدٍ من البنسيون، وذلك لكشف المُجرم الحقيقي.

لأكثر من ثلاثة أيام يمكث المُفتش في غرفةٍ تطلُ على البنسيون، وأخذ يسجل كل شيء في ذاكرته، ويربط الأحداث بعضها ببعض، عساه أن يتوصل إلى القاتل، لكن كان كل شيء طبيعيًا في البنسيون.

كانت ثريا تسير في الشارع، فرآها المُفتش فأسرع وراءها، وقال بعد أن كشف عن هُويته لها:

- آنسة ثريا، من فضلك أريد التحدث معك في أمرٍ مهمٍ، أنا أريد مساعدة شاهين، وأعلم أنكم تحبون بعضكم بعضًا، وأعلم أن شاهين بريء، لكن لا بد من دليل.

- شاهين إنسان طيب ويتيم، واستحالة أن يقتل إنسانًا، أنا أعلم هذا.

- وأنا أيضًا -يا ثريا- أعلم هذا، لكن علينا مساعدته قبل أن ينفد الوقت؛ أنا أريد منكِ طلبًا، أريدكِ أن تذهبي إلى البنسيون، وتقابلي السيدة "لولو"، وتقولي لها إن المُفتش "جودت" اكتشف القاتل الحقيقي، وإن شاهين بريء، لكنه ينتظر إلى أن يُقبض على المجرم الحقيقي.

وبعد أن اتفق المُفتش مع ثريا على خطته، ذهبت ثريا إلى البنسيون، وقالت للولو ما طلبه المُفتش...

 قالت لولو:

- ومَن الذي قتل الخواجة؟

- يقولون واحد من شارعٍ مجاورٍ لنا.

- حسنًا يا ثريا، ربنا يرده إليكِ بالسلامة، أنا أعلم أنكِ تحبينه.

- شكرًا يا لولو، لكن هناك مشكلة أن أبي رافض رجوع شاهين إلى البيت، لأنه خائف من كلام الناس علينا!

- لمَّا يخرج شاهين أخبريه أن يأتي إلى البنسيون ليبيت في غرفة الخواجة "مالي"، لأن الزبائن من بعد الحادثة يخافون المبيت فيها؛ فوجوده في الغرفة يطمئنهم.

 رجعت ثريا إلى المُفتش بعدما نجحت الخطة، فرح المُفتش، وذهب إلى المُحقق وعرض عليه خطته، وطلب منه إخلاء سبيل شاهين، لكن دون أن يعلم أحد أنه ما زال على قيد التحقيق.

وافق المُحقق، وتحمَّس لفكرة المُفتش، وأمر بخروج شاهين، وقد علم من المُحقق أمر الخطة، وأن عليه الذهاب إلى البنسيون، كانت لولو تنتظره بشدة، خصوصًا أنها كانت تود إقامة علاقة معه، وهذه فرصة لها.

ما زال الشيخ صلاح وجاويد يبحثان عن الكنز في جميع فتحات السرداب، لكن لم يعثروا إلا على بعض الهياكل العظمية لمجموعةٍ من الفئران، والقوارض! وكان السرداب مليئًا بالحيَّات السامة التي أخافتهم كثيرًا، وقرروا أن يقتلوا تلك الحيَّات أولًا، وبعدها يبحثون مُجددًا عن الكنز، لكن حدث شيءٌ أزعجهم كثيرًا؛ كانت بعض الحيات صفراء وبها خطوط عرضية، وهذا النوع لا يسكن إلا في الأراضي الصحراوية! فقال جاويد لصلاح:

- يبدو أن السرداب مفتوح على إحدى مناطق الصحراء، التي تبعد عنَّا عشرات الكيلومترات، فهذا سوف يرهقنا جدًا، ولن نقدر أن نصل إلى أول السرداب، ومن الممكن أن يكون الكنز ناحية الصحراء!

 رد صلاح:

- هذه ورطة كبيرة، لكن علينا أن نبحث في حدود البيت، وليكن ما يريده الله.

 جاء شاهين إلى البنسيون فاستقبلته "لولو" استقبالًا حارًا جدًا ينمُ على الاشتياق، وقالت له:

- حمدًا لله على سلامتك.

- شكرًا يا لولو.

- ألا يوجد غير غرفة الخواجة؛ أنا أخاف النوم فيها؟! – لا، لا يوجد غيرها، لكن توجد غرفتي، أتنام معي؟!

- لا، سأنام في غرفة الخواجة، وأمري لله!

كان شاهين قد فهم من المُحقق الخطة، وماذا عليه أن يقوله للولو، ولتفيدة الخادمة، وللكاتب.

في اليوم التالي نزل شاهين إلى صالة البنسيون، وقابل "شفيق أفندي" الكاتب، وبعد محادثة مطولة معه، وبعد أن تقرَّب له شفيق، وصاروا أصدقاء، قال شاهين:

- أنا لديَّ بعض العملات المعدنية المصنوعة من الذهب، أريد بيعها، أتعرف أحدًا يشتريها؟!

- سأسأل لك عن أحدٍ يشتريها منك، و-إن شاء الله- سأبلغك.

كانت "تفيدة" قد سمعت الحديث بين شفيق أفندي وشاهين، فذهبت وحكت للولو، وهذا تمنَّاه شاهين، كما قال له المُحقق إنه لا بد أن يعلم الثلاثة أنك تمتلك نقودًا ذهبيةً تريد بيعها.

بعد سماع لولو أمر النقود، حاولت أن تقترب من شاهين أكثر وأكثر، لأنه سيصبح من الأغنياء عند بيعه النقود، لكن كان عليها أن تجعله ينسى أمر ابنة عمه "ثريا" حتى يتفرغ لحبها!

 بدأت تتزين له كلما رأته، وتحاول أن تلاطفه، وكان شاهين يعلم أنها تفعل ذلك لتعرف منه مكان النقود، فبات الأمر له كاللعبة؛ هي تقترب منه وهو يحاول الابتعاد!

كان شاهين يخاف كلما دخل غرفة الخواجة، لكن ليس لديه أي اختيار، فلا بد أن يسمع كلام المُفتش لينال من المُجرم الحقيقي، الذي لا يخرج خارج الثلاثة المشكوك فيهم.

كانت الليلة الرابعة لشاهين في البنسيون، والمُفتش يراقبه من بعيد، قد استولى على شاهين التعب لعدم نومه فترةً كبيرةً، فقعد على مكتب الخواجة، وأخذ يقرأ في كتبه، حتى اهتدى شاهين إلى ورقةٍ مكتوبةٍ بتاريخ شهر ماضٍ، وفيها ما يشبه عقد زواج الخواجة مالي بلولو صاحبة البنسيون! هذا يبدو غريبًا على شاهين، لأنه كان يعلم أن لولو ليست متزوجةً، ودائمًا كان الخواجة مالي يسبِّها ويعاملها معاملةً سيئةً أمام شاهين، فكيف تزوجا؟!

وضع شاهين الورقة في جيبه، ونزل إلى صالة البنسيون، وطلب من لولو فنجانًا من القهوة، وبدأ يدردش معها، لكن كانت لولو لا يشغلها أي كلام غير أنها كانت تتحدث معه بجسدها، فلم يستفِد منها شاهين أي شيء!

 انتظر شاهين حتى انشغلت لولو مع أحد الزبائن، وأسرع إلى المُفتش "جودت" الذي أصبحت هذه الجريمة بالنسبة إليه موضع اختبارٍ لثقته بنفسه.

قال المُفتش "جودت" بعد أن اطلع على الورقة:

- أنت لم تقرأ الورقة جيدًا يا شاهين!

- إن الورقة تفيد أن الخواجة مالي تزوج بلولو، وهذا ما تحتويه الورقة فقط!

- لا يا شاهين، انظر إلى أسفل الورقة؛ يوجد شاهد على العقد، وهذا الشاهد هو...

نظر شاهين إلى الورقة بتمعنٍ؛ فوجد اسم شفيق أفندي بكونه أحد الشهود على العقد.

 قال جودت:

- يبدو أن شفيق ولولو يخبئان شيئًا؛ فهم لم يذكروا في التحقيق أن لولو تزوجت بمالي!

علينا الآن -يا شاهين- أن نمسك بخيط القضية لكن من آخره؛ سنبدأ بشفيق أفندي، ونعرف مدى علاقته بالخواجة، اذهب أنت الآن واتركني، لكن عند وصولك إلى البنسيون لا تحاول الكلام مع شفيق أفندي.

في اليوم التالي دخل المُفتش "جودت" البنسيون، وطلب من لولو أن تستضيفه عندها الليلة بحجة أنه ينتظر أحدهم في البنسيون، وأن البنسيون مشهور، فمن السهل المقابلة فيه!

رحبت لولو بالمُفتش جودت، وأعدت له غرفةً للنوم.

 كان شفيق أفندي كالعادة يجلس في غرفته يكتب ويقرأ، وحين علم أن المُفتش "جودت" نزيل البنسيون هذه الليلة خرج من غرفته، وجلس في الصالة، ومعه كتاباته وكتبه، وبعد أن سلَّم على المُفتش "جودت" قال له جودت:

- أيمكنني أن أجلس معك لشرب الشاي؟

- طبعًا سيادة المُفتش، هذا شرفٌ لي.

-أتكتب روايات؟

- نعم، أنا أكتب روايات.

- من الممكن أن نحتاجك في شغلنا.

- لكن أنا لا أفهم شيئًا في شغلكم!

- نحتاجك لكتابة نهايات بعض الأحداث التي تبدو لنا غامضةً، ممكن أن نستفيد منك في ذلك.

- حسنًا، سيادة المُفتش.

كانت نظرات جودت إلى شفيق تنمُ على الهدوء وعدم الشك؛ الأمر الذي اطمئن له شفيق، خصوصًا أن شفيق لا يختلط بالناس كثيرًا على حد قول لولو!

مرت الليلة، وكان جودت قد أعدَّ المصيدة للقاتل الذي لا يُستبعَد عن الثلاثة المذكرين، فبدأ يتكلم عن الخواجة مالي، وأن مالي كانت لديه ثروة كبيرة، قد علمتها الجهات المختصة من بنك مصر، وأنه ليس له وريث، وأن هذه الثروة ستدخل خزانة الدولة لعدم وجود وريث لها.

فقال شفيق أفندي:

- ولو كان لديه وريث، سيرث كل ثروته؟

- طبعًا يا شفيق أفندي.

- حسنًا يا سيادة المُفتش، هل من الممكن أن يكون الوريث زوجةً له مثلاً؟!

- طبعًا ممكن، لكني أعرف أن الخواجة "مالي" لم يكن متزوجًا! 

- أجل، أنا أقول ذلك على سبيل الافتراض فقط.

استأذن المُفتش جودت وخرج، وشاهين وشفيق أفندي ذهبا إلى غرفتيهم، وبعد فترةٍ نزل شفيق أفندي إلى الصالة، وأخذ يحكي للولو على ما قاله المفتش جودت، فكان رد فعلها:

- "مالي" كان طوال عمره يشتكي من الفقر، ما هذه الثروة؟!

- من الممكن -يا لولو- أن يكون قد خبَّأ شيئًا علينا، على كل حال هذا الموضوع يحتاج إلى تأكيد.

كان المفتش جودت قد ذهب إلى البنك، وطلب من مديره -بعد أن شرح له موضوع أن الخواجة مالي يمتلك ثروة طائلة موجودة في حسابه- أن يقول هذا الكلام لأي إنسانٍ يسأل عن الخواجة مالي، لأن جودت يعلم أن شفيق أفندي سيبلغ لولو، وأكيد لولو ستسأل في البنك.

ذهبت لولو إلى البنك، وبعد أن سألت عن حساب الخواجة مالي تبين أن له ثروةً كبيرةً، ولا وريث له، وأن الثروة ستأخذها الدولة إن لم يظهر له وريث!

فرجعت إلى البنسيون والتفكير يكاد يقتلها، فأحضرت شفيق أفندي، وقالت له ما سمعته في البنك، والاثنان أصبحا في حالة ذهولٍ!

قالت لولو لشفيق:

- لو كنتُ أعلمتُ المفتش "جودت" أمر زواجي من "مالي" كنت أخذت الثروة بالتأكيد!

فقال لها شفيق:

- بيدنا فعل ذلك؛ فأنتِ معكِ نسخة من ورقة الزواج، أظهريها له.

- أنا خائفة -يا شفيق- لو أظهرت الورقة بعد هذه الفترة كلها سأنال من المفتش "جودت" بعض الشك، خصوصًا أنه رجل ثعلب!

- لا تخافي يا لولو، قولي له لم تأتِ فرصةٌ تبلغينه فيها عن زواجك بمالي، لنمتلك الثروة معًا، ألن تعطيني بعضًا منها؟!

- لا يا شفيق، أنت تعلم أني سأعطيك، أنت شريكي في كل شيء، لكن أولًا أخبرني ماذا فعلتَ في التمثال؟!

- انتظري إلى حين يهدأ موضوع قتل الخواجة.

كان شاهين يستمع إلى كل هذا الكلام؛ مما أراحه كثيرًا، كونه بدأ يعرف مَن الجاني، فأسرع وأبلغ جودت ما سمعه.

فتبسم جودت، وقال:

- كنتُ أعلم أن هذا سيحدث، وأنا أنتظر لولو تُظهِر لي ورقة الزواج، خصوصًا أنني علمت أنها ذهبت إلى البنك، وسألت عن حساب "مالي".

- يعني أنا بريء الآن، والقاتل هو شفيق أو لولو؟!

- أو الاثنان هما من قتلا الخواجة؛ انتظر حتى نمسك دليلًا ماديًا.

ذهبت لولو إلى الحكمدارية، وسألت عن المفتش جودت، وطلبت من أحدهم إخباره أنها تنتظره في البنسيون.

ما زال جاويد وصلاح يبحثان في السرداب عن الكنز، ولم تهدأ لهم هادئة...!

جاء المُفتش جودت إلى لولو، فقالت له بعد أن أظهرت عقد الزواج:

- أنا الآن وريثة الخواجة، صحيح؟!

- صحيح يا لولو، انتظري حتى أُنهي إجراءات الميراث، وبعدها أسلمه لكِ.

مرت ثلاثة أيام ثم جاءها جودت مجددًا، وقال لها بعد أن بدأ يتغزل فيها، وهي تذوب كالحلوى من شهد كلامه:

- أنا -يا لولو- أريد أن أتزوج بكِ!

لم ترد لولو لفترة، ومال وجهها إلى الحُمرة، وجبينها ينزُّ بالعرق، وقالت له:

- أنت تريد أن تتزوجني لمَّا عرَفت أنني سأصبح غنيةً؟!

- لا.. لا يهمني إن كنتِ غنيةً أم لا! أنا معي مال كثير، وثروتكِ لا تعنيني في شيء، أنا أحبك يا لولو!

- أنت مسلم وأنا على غير ديانتك، فهل يجوز الزواج؟!

- نعم، يجوز فأنتِ على دينكِ وأنا على ديني!

كان هذا الخبر بالنسبة للولو كخبر ولادتها من جديد؛ فرحت به جدًا، خصوصًا بعد أن تأكدت أن جودت لا يهمه الورث الذي ورثته، ولا البنسيون الذي تمتلكه، إنما هو يحبها لنفسها!

قالت لولو لجودت إنها موافقة على الزواج، لكن بعد أن تتسلم الميراث، فقال لها جودت:

- حسنًا، لكن لي شرط وحيد لإتمام الزواج؛ وهو أن شفيق أفندي يترك البنسيون، لأنني أغار منه عليكِ، ولا أريده موجودًا في البنسيون!

طبعًا شفيق أفندي لا يعني أي شيء بالنسبة للولو أمام زواجها من رجلٍ غني وذي سلطة، فما لبثت إلا أن طلبت من شفيق أفندي أن يترك البنسيون بعد أن اتفقت معه على إعطائه نصف الميراث، لكن التمثال يكون حق لولو، وطلبت منه أن يعطيها التمثال.

كان شاهين يستمع جيدًا إلى الحديث بينهم، فذهب لإبلاغ المفتش، وعندما حضر جودت كان شفيق أفندي في غرفته، يجهز أغراضه لترك البنسيون، فلما رأت لولو جودت نسيت أمر شفيق والتمثال، وقالت له إن شفيق سوف يرحل اليوم.

نزل شفيق من غرفته ومعه حقيبته، ونوى الخروج من البنسيون إلا أن لولو اعترضته، وطلبت منه أن يسبقها إلى غرفته لتأخذ التمثال، وقالت لجودت سأذهب معه كي يسلمني الغرفة قبل خروجه.

دخلا الاثنان الغرفة، وكان جودت قد أعدَّ قوةً من البوليس قبل دخوله البنسيون، وصعد وراءهم متلصصًا ومعه شاهين، وسمعا الحديث الذي دار بين لولو وشفيق حول التمثال، وأن لولو ستأخذ التمثال، والميراث سيُقسم بينهما، فدخل عليهم الغرفة وقيدهم، وأحضر شاهين قوة البوليس، وقُبِض عليهم، ثم أُجرِي التحقيق معهم، واعترفوا بالجريمة التي ارتكبوها لينالوا التمثال الذهبي.

تزوج شاهين بثريا، وعاشوا مع أبيها جاويد، وتسلَّمت السلطات التمثال، وأُغلِق البنسيون.

انضمت ثريا إلى أبيها مع شاهين والشيخ صلاح للبحث عن الكنز!

القاهرة ٢٠٢٠

(مستشفى الأمراض العقلية)

اسم المريض: محمد أحمد شاهين محمد بارك فرنسيس

سبب دخول المستشفى: عدم العثور على كنز جَدِّه في سرداب البيت...!!!

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

602 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع