وقفة مع رواية أنا خير منه
للمستشار الكاتب: بهاء المري
عدد الصفحات: 315
الغلاف:
أتى معبرًا عن رؤيا زينب التي استشرفت الرواية، والتي حملت في مكنونها بداية العمر وآخره، وأحسن القصص ومنتهاه، فحين صافحته عيني، وامتلأ بضجيجه قلبي، كنت أشعر أن الأنا حين بلغت من الإثم عتيًا، وشبعت من خطايا صاحبها؛ تبرأت منه، وفرّت منه فرار الهلعين من الموت، والعالقين في الذنب من التوبة، فنبذته بالعراء عاريًا إلا من الحمق، فطفق يخصف على سوءة كبره من ورق الجهل، والجهل لا يواري سوءة، ولا يوضئ ملطخًا بالغدر، فحمل على عاتقه دم أخيه يدور به في غياهب المتاهة أربعين سنة من ضياع؛ علّ الأرض تتخفف من ثقل خطوه عليها، أو تتهيأ لالتقاط صور الصفح، واستعادة نفحات العفو من فم الأثر في طبطبة يوسف ـ عليه السلام ـ على ندم إخوته وهو يعانق رجفتهم بالبُشرى مهدهِدًا:
(لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
الراوية اجتماعية تجملت بالواقع رغم ما تسرب إليه من مرارٍ آسنٍ بما كسبت أيدي البشر، إلا أن الشعور بجمال الأقدار ـ وإن أتت على غير هوانا ـ يكمن في القدرة على فهم ما تحويه في باطنها من رحمة ولطف، وما تسديه لعقولنا من حكمة ووعي لو ظل المرء طيلة حياته عاكفًا في محراب العلم ما وصل إلى قلبه منها إلا بمقدار ما فقِه حِسه وشعر،
والتصدي لما تصطدم به قلوبنا من الظاهر الذي يتراءى لنا وكأنه فيه العذاب، وذلك كله لن يتم إلا بالاستعانة والتسليم لرب الأقدار ومجريها.
الأسلوب:
مذهل، يُرشف على مهل لروعته وجلاله، جمع فأوعى، تنوع بين الفلسفة، والوعي، والإدراك، والفهم، والفكر الثاقب الذي ينبثق من قلب خاشع، وعقل حكيم.
يولد الإنسان على الفطرة، تلك الفطرة التي لم تخدش بكارتها إلا ما نبذره فيها من أثر، ونتعهده بالرعاية والقيام؛ حتى لا تستقطبه يد العابثين، فيهوي في الدرك الأسفل من العنا والعمى، فلنغرس الحب ونرعاه؛ لنجني في كل خطوة ثمار السلام.
بدأ الكاتب الرواية برؤيا (زينب) والتي اقتحمت عليها سباتها العميق أكثر من مرة!
وهنا أتساءل: لماذا لم يلتفت عقل زينب إلى الرؤيا ويأخذ حذره، أوَليست الرؤى جامعة لكل شيء من بشرى، وحذر، وإنذار ونوازل؟!
لكني أشعر أن القلب حين توجس خيفة سلّم لرب القدر وربت على هلعه مهدهدًا:
"دعني لأمرٍ قد قدره الله لي".
ولأن كل موقف ضمته الرواية، ورؤية وجملة للكاتب، تستدعي فكرنا لأن يستيقظ، والقلب لينزعج من رقدته وغفلته، فكان كل فصل يحتاج وقفة من كثرة ما يزدحم ويعتمل داخلنا من ضجيج!
الفصل الأول:
تُرى، لمن تكون الغلبة؛ لقلب المؤمن الذي اتسع لأمانة الحياة فعمر أرض الحيارى بغرسه الطيب، وثبت بفراسته وهداه أوتادها مثلما فعل الحاج (البدري حسين) الذي قدم روحه قربان سلام لإنهاء قضية الثأر، أم لعقل المدرك الذي لُف بعمامة الشهادات وأُسر في قيد العادات فعششت العصبية بين تلافيف قلبه، وعاش يصارع نواميس الكون، وطبيعة الحياة؟!
وهل من صكِّ لمن أخذته العزة بالأنا والخلود لشطحات الهوى، يمنحه نظرة الصفح إن لم تذبحه سهام الشفقة المضرجة بدم الأخوة المراق على نصل الأنا والعمى باسم الدين والوطن؟!
ـ ليس لمن نقض العهد بعد إبرامه صكًا يمنحه نعمة العفو ونظرة الغفران، واسترداد ميثاق الثقة بعد كسره؛ لأنه هرب إلى طينه، ولاذ بثقله، وتمكنت منه لعنة الإخلاد إلى الأنا، فطفحت الأدواء والعِلل على ملامحه واستقر بخوائه الهوان، فكانت عاقبته الترْك لشيخوخة الجُبن ونار التخاذل تأكل جسده وتنهش روحه.
يسلط الكاتب الضوء على قضية هامة، بها تقام القلوب السوية، وتنهض الأمم، وتعاش الحياة بسلام، ألا وهي "البر بالأبناء"، والغوص في أعماقهم، والنزول لتفكيرهم، واحترام عقولهم بإسناد الأمر الهام إليهم مثلما فعل والد زينب معها وهو يرمي بأمنياته على ضفاف قلبها قائلًا:
"أتمناه شخصًا مختلفًا يا زينب صاحب فكر، وصاحب رأي يكونه بنفسه..."
وكأنه يرجوها، أن اصنعيه رجلًا يا زينب!
وحين ردت زينب على والدها ذكَّرتني بقول السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تربت على رجفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلة:
" كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ"
حيث قالت زينب:
سيكون كما تحب له؛ فهو ابنك، وقد منحك الله الحكمة والبصيرة، تنصح الناس بإخلاص وترفق بهم، وتحاول تغيير أفكارهم وعاداتهم إلى الأفضل، سيكون مثلك ـ إن شاء الله ـ يا أبي، وسيهديه إلى الصواب وتراه كما تحب".
وبالفعل، استطاعت زينب ـ وهي من شخصيات الرواية الرئيسية ـ أن تدفع مرارة فقد والديها بصنع أخيها بطلًا تشكر الأرض وجوده، وتعرفه السماء كما سنرى فيما بعد.
ثم يرافقنا الكاتب لرحلة مع نوع ثان من البر...
"اعذريه يا زينب، إخوته يحبونه حبًا كبيرًا، ويتمنون له الذكر، وهي عادات أهل الصعيد يا ابنتي"
وهنا يضعنا الكاتب بحنكته، وفطنته، وذكائه أمام امرأة تعي أمانة وكيفية أن تكون "أمًا" ثم "إنسانة" ثم "زوجة"
فهنا الأم بوعيها، ورحمتها، وإنسانيتها، وبرها بابنتها لم تشعل رماد الغضب المخمود داخل طبيعتها كامرأة ترفض أن يميل قلب زوجها لأخرى، أو حتى تلمح نظرة تائقة في وجه أخرى تضمه بعينيها، فلم تدفعها فطرتها المجبولة عليها لتنتصر لذاتها، فتنساق لفورة الحزن التي تجتاح قلب ابنتها وتطعمها حنقًا وثورة على أعمامها الذين يصعقون آذان أبيها كل حين ليتزوج بأخرى لتنجب له ذكرًا، فتحرق الأواصر وتهدم الوشائج، وتصنع الفجوة الكبرى ـ التي لن يذيبها وصل أو تهزمها محبة ـ بين البنت وأعمامها.
فطوبى لفعلها، وحسن عاقبة! فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان من رب الإحسان؟! فأراد لها ربها أن تنعم بالبر، والوفاء النادر من قبل زوجها في حياتها وبعد مماتها؛ إذ قال لابنته حين دفعها إلحاح أعمامها على والدها ليتزوج بعد وفاة والدتها أن تطلب منه أن يتزوج، فرد قائلًا:
أعرف يا زينب أنه أمر طبيعي، وليس غريبًا يا ابنتي، ولكني لن أجد مثل أمك، وأخشى أن أظلم غيرها إذا قارنتها بها.
برع الكاتب في الربط بين قضية الثأر والانتقام وقضية الإرهاب كما سنرى فيما بعد..
الفضاء السردي: "أسيوط، الأسكندرية، سيناء"
#زينات_مطاوع