منذ أن تعالت أصوات النسوية و الصوابية السياسية في السينما الأمريكية مطالبةً بضرورة أن تحتل المرأة مساحة أكبر في الافلام، ظهرت على الساحة السينمائية أفلامٌ كثيرة تتخذ من المرأة محورًا لها، وتطرح وتناقش قضاياها وهمومها في المجتمع، مستغلةً في ذلك مختلف الأنواع الفيلمية، وعلى سبيل المثال فيلم «المرأة الأعجوبة» Wonder Woman الصادر عام 2017 الذي يعد أول فيلم بطلة خارقة تخرجه امرأة (باتي جينكينز) وبغض النظر عن مستواه فإن المتلقي سيجده فيلمًا أدّت دور بطولته امرأة، وشاركت في كتابته وإخراجه امرأة، لكنه يظل متخذًا من رحلة «البطل» نموذجًا لرحلته، مثله في ذلك مثل أفلامٍ عديدة ذات توجهات نسوية وبطولات نسائية اتخذت من نموذج رحلة البطل بنية سردية لها، في حين أن ثمة بنى سردية أخرى مختلفة تخص «البطلة»، وتعني بالتطورات النفسية والروحية والعاطفية والجسدية الخاصة بها.
كانت الكاتبة والمعالجة النفسية اليونجية -نسبة إلى المحلل النفسي كارل يونج- مورين ميردوك أول من أتت بمثل هذا النموذج في كتابها المشهور “رحلة البطلة: بحث المرأة عن الكمال”. وفيه تولي رحلة البطلة اهتمامًا كبيرًا بالجانب النفسي لدى الأنثى، والتحولات الطارئة عليها طوال رحلتها. ويأتي الكتاب ردًا منها على كلام منسوب لأستاذها الكاتب وأستاذ الأدب الأمريكي جوزيف كامبل صاحب نموذج رحلة البطل في كتابه “البطل ذو الألف وجه” عن أن «النساء لسن بحاجة لرحلة خاصة بهن، فالمرأة موجودة دائمًا في عالم الأساطير، وكل ما عليها فعله هو أن تستوعب أنها المنزلة التي يحاول الجميع الوصول اليها!»
ظهرت بعد ذلك عدة كتابات نسائية أخرى تناولت رحلة البطلة في الأساطير والحكايات الفلكلورية، ومنها ما كتبته جيل كاريجر في كتابها “رحلة البطلة”، حين وضعت فيه نموذجها الخاص مستشهدا بأمثلة من الروايات والأفلام من الثقافة الشعبية الحديثة إلى جانب عدد من الأساطير القديمة، ونموذجها لا يخضع للنظام الچندري السائد في مجتمعات كثيرة، فقد يكون البطل رجلًا ولكن يتخذ من رحلة البطلة نموذجا لرحلته، مثلما دلّلت على ذلك بسلسلة هاري بوتر
ونموذج رحلة البطلة حسب كاليجر ينقسم أيضا إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي:
مرحلة الهبوط
– تندفع فيها البطلة نحو الحدث نتيجة عائلة محطمة، أو بسبب فقدان صديق، أو الوالدين، أو خسارة مكانتها الاجتماعية.
– تتخلى البطلة عن مكانتها، أو مصدر قوتها.
– تنسحب لا إراديا من الحياة.
– تتلقى العون من العائلة ولكن دون جدوى.
مرحلة البحث
-يؤدي فقدان البطلة للعائلة إلى وقوعها في فخ المخاطرة والانعزال.
– تلجأ إلى استخدام حيل التنكر، أو التخريب، أو تغيير هويتها.
– ثم تبدأ في تكوين شبكة عائلية جديدة وعلاقات بديلة مكتسبة.
– تزور العالم السفلى أي مواجهة أزمتها ومخاوفها بمساندة الأصدقاء أو العائلة البديلة المكتسبة.
مرحلة الصعود
يؤدي نجاحها في رحلة البحث إلى اكتسابها عائلة جديدة، أو تولد رمزيًا من جديد، ويرتبط هذا بمدى قبولها بالحلول الوسط التي تعم بالفائدة على الجميع.
والرحلة التي تقوم بها كاسي (كاري موليجان) بطلة فيلم“ شابة واعدة
– Promising young woman
الصادر عام 2020، تتماشى مع النموذج السابق، في سيناريو حاز على جائزة الأوسكار لأفضل نص سينمائي أصلي عام 2020 قامت بكتابته وإنتاجه وإخراجه إيمرلد فينيل في أول عمل روائي طويل لها.
تمر كاسي خلال رحلتها بالمراحل الثلاثة حسب نموذج كاليجر، أولها مرحلة الهبوط أو المشاكل التي تعاني منها البطلة. وتتعمد المؤلفة إخفاءها في مرحلة تأسيس الشخصية لتعزيز رسم صورة مضللة عنها، فنحن نقابل البطلة في أول الفيلم وهي تخفي هويتها الحقيقية لاصطياد الرجال من الملاهي الليلية بعد اقناعهم بأنها ثملة، لتفاجئنا المخرجة بعكس ذلك، استخدمت الكاتبة في بناء شخصية كاسي عقدة مادونا والعاهرة، فهي تنطوي شخصيتها على تناقضات عديدة، فهي تعمل في أحد المقاهي بعد تركها دراسة الطب فجأة، تخرج ليلًا لاصطياد الرجال وتسجل أسماءهم وأعدادهم في مذكراتها دون توضيح السبب أو حقيقة ما يحدث بينها وبينهم.
ولم تكتف المخرجة بذلك على مستوى السيناريو ولكن امتد أسلوبها في استخدام التضاد وتمويه الحدث ليشمل بقية العناصر الإبداعية الأخرى في الفيلم، مثل تصميم المشهد المصاحب للعناوين الافتتاحية، يسبق هذا المشهد مشهد تحرش أحد الرجال بكاسي واصطحابها لمنزله بعد اعتقاده أنها في حالة سكر شديدة، تقطع المخرجة المشهد بعد أن يكتشف الشاب أنها واعية وغير ثملة، يبدأ المشهد المصاحب للعناوين في اليوم التالي، وكاسي تمشي حافية القدمين، مرتديةً ملابس غير مرتبة، وملطخة بسائلٍ أحمر نعتقد في أول الأمر أنه دماء، ولكن باستعراض الكاميرا صعودًا على جسدها نكتشف أنها تتناول طعامًا يتساقط منه سائلٌ أحمر يلطخ ثيابها وجسدها، حتى تبتعد الكاميرا عنها، تصاحبها في الخلفية الموسيقية للمشهد أغنية «إنها تمطر رجالاً». قس على أسلوبها في هذا المشهد بقية مشاهد الفيلم، فهي تتعمد البدء بصورة موحية لشيء مضلل للكشف عن حقيقته في النهاية. حتى اختيار الممثلين، سواء كاري موليجان، أو بو برنهام، أو كريس لويل، فكلهم يملكون وجوهًا تعتليها لمحات البراءة، على عكس وجوهٍ حقيقية أخرى يخفونها.
ونظرًا لأن رحلة البطلة تتفق مع رحلة البطل في ضرورة عدم توافر كافة المراحل، ولا أن تتواجد بنفس الترتيب وذلك لخدمة السرد. تعمدت المؤلفة تأجيل الكشف عن السبب وراء انسحاب البطلة اللاإرادي من الحياة، أي الأسباب وراء ترك كاسي للدراسة وهو الحادث المأساوي الذي فقدت بسببه صديقتها المقربة، والعيش برفقة أهلها، وإصرارها على العمل في مكان لا يلائم إمكانياتها.
واستعانت المؤلفة بمحاولات الدعم من جانب الأسرة، وصاحبة المقهى جيل ( قامت بالدور الممثلة لاڤيرن كوكس) لتقديم يد العون للبطلة دون جدوى.
تنتقل كاسي إلى المرحلة الثانية من الرحلة وهي مرحلة البحث عندما يلتقيها ريان (بو برنهام) زميلها السابق في كلية الطب. يحدث بينهما إعجاب متبادل ليبدأ من هنا خط درامي خاص بهذه العلاقة يمثل في رحلتها خطوة محاولة إنشاء وتكوين علاقات بديلة تعويضا لما فقدته في حياتها. ودور ريان محفزا للأحداث فمثلا عندما يذكر اسم آل مونرو (كريس لويل) أمام كاسي تعلو ملامح الاضطراب على وجهها، وتقترب منها الكاميرا لتكن هذه هي النقطة المحفزة التي تبدأ عندها مرحلة البحث في رحلتها. واستعانت المؤلفة بحالات العزلة والمخاطرة من نموذج رحلة البطل كنتيجة لحدث فقدان صديقتها المقربة مما دفعها للتحرك نحو مواجهة العبء المحمل على كاهلها من الماضي.
أما حيلة التخريب استخدمتها البطلة في مخططها الانتقامي لمعاقبة المسؤولين عن مأساة صديقتها، لكنه لم يكن انتقاما عنيفًَا، وهو ما كان مقصودًا لإن من سمات رحلة البطلة رفضها الفعل الانتقامي، فبدأت بالبحث عن معلومات عن هؤلاء الأشخاص، والبداية كانت مع احدى صديقات الدراسة الجامعية وكانت شاهدة على الواقعة ساندي (أليسون بري)، لجأت كاسي لاستخدام نفس الأسلوب الذي ينتهجه معها المتحرشين بها ليلاً، استدرجتها، وجعلتها تثمل، ثم ذكرتها بموقفها السلبي، وعندما لم تبد أي ندم تركتها ثملة، لتترك رقم الغرفة لأحد الرجال لتطلب منه إتمام المهمة، تقطع المخرجة تدفق الحدث مؤجلة الإجابة عن حقيقة ما حدث لمشهد مفصلي لاحق.
تنتقل بعد ذلك إلى الهدف التالي على قائمتها – حيث عنونت المخرجة كل قسم من رحلة البحث والانتقام بنظام العصا tally marks مثلما تدون كاسي في مدونتها بعيد انتقامها من المتحرشين بها ليلاً- عمدة الجامعة والكر (كوني بريتون)، نصبت كاسي أولا فخا لابنتها المراهقة، ثم ذهبت لمواجهتها في الجامعة، وعند تذكيرها بموقفها تجاه مأساة صديقتها نينا، جاء رد العميدة استفزازيا متحيزة لجانب الجاني، توهمها كاسي بالخطر المحدق بابنتها، ليتحول ميزان القوة في هذا المشهد مرة أخرى إلى كاسي بعد توسلات العميدة لها، وهنا استخدمت المخرجة مشهد بليغ لتصوير مجازي عن المعاناة التي قد تواجه الفتيات عند التوجه بشكواهم للمسئولين، انتقلت المخرجة بالمشهد خارج مكتب العميدة، حتى نسمع صوت توسلاتها مجرد غمغمات غير مفهومة تصل إلى مسامع سكرتيرتها التي تجاهلت بدورها الصوت وارتسمت على وجهها ابتسامة محرجة امام احدى الطالبات التي تجلس تحت اعلان للجامعة مكتوب عليه «ان مستقبلك يبدأ هنا».
ولأن الانتقام كما سبق وذكرت ليس من خصال البطلة مقارنة بالبطل في رحلته فهي تخضع لضميرها وينعكس رد فعلها في سلوكها التدميري المنعكس في حياتها الليلية التي تستمر فيها، حتى يكشفها رايان مصادفة ليتأزم وضعها أكثر في الرحلة.
ومن أفضل المشاهد التي عكست مأزقها الروحي كان بعد مشهد المواجهة مع عميدة الكلية، نراها ترتعش مضطربة بداخل سيارتها، وهي ترتدي نصف القلادة التي تحمل اسم صديقتها نينا، واختارت المخرجة الخلفية الموسيقية للمشهد مقطوعة افتتاحية أوبرا تريستان وايزولت لفاجنر والمقطوعة التي تليها بعنوان محبة الموت.
كان اختيارا مغايراً عن بقية اختياراتها للاغاني المصاحبة لأحداث الفيلم والتي كانت جميعها أما تتهكم أو تعلق على ما تشعر وتعايشه الشخصية. لكن على أنغام تلك المقطوعة تجسدت حالات الندم والغضب والتوق التي اعترت كاسي في هذا المشهد.
تتدرج كاسي في رحلتها الانتقامية، بالصديقة (تعكس موقف المجتمع)، ثم عميدة الجامعة (موقف النظام)، ليأتي الدور على جوردن محامي الجناة (موقف القانون) الذي قام بدوره الممثل الكبير (ألفريد مولينا) في واحد من المشاهد الجميلة على مستوى الكتابة والتصميم البصري، كان هو الوحيد ممن كانوا على قائمتها الذي يتأكله الذنب جراء فعلته، واستحق أن ينال منها المغفرة. طغى اللون الرمادي على المنزل، في تكوينات بصرية متماثلة (سيميترية)، ونباتات ذابلة في أرجاء الغرفة، فكان كل شيء في المكان يعكس ثقل الذنب والخراب النفسي الذي يعتصر ساكنه.
يتخلل رحلتها خط آخر غير مرئي وهو بناءها شبكة دعم من أشخاص تستعين بهم في الإيقاع بمن جار على صديقتها، ولكن تؤخر المخرجة ظهورهم حتى نهاية كل مشهد لخلق حالة من التشويق عند المشاهد في ما قد تفكر فيه وتدبره البطلة.
وبعد اقتراب البطلة من استكمال رحلتها الانتقامية، تستكين وتهدأ بعد اعترافها بالذنب الذي يعتصرها أمام والدة صديقتها وتتلقى منها نصيحة بتخطي الأمر ومواصلة حياتها. وبأخذ تلك النصيحة تدخل البطلة في مرحلة القبول والتسوية والعدول عن معاقبة أخر واهم شخص على قائمتها، فتبدأ في لم شتات حياتها وتعدل عن مخططاتها الانتقامية، وتصلح علاقتها مع ريان ليسود الاستقرار حياتها لوهلة، ولكنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة، تتغير دفة الأحداث بتلقيها معلومة جديدة تعيدها مرة أخرى إلى مسار رحلتها الانتقامية مستكملة آخر فصولها وهو مرحلة الصعود.
وفيها تسعى البطلة للم الشمل مع من افترقت عنهم، من خلال التضحية بالذات والانتقام من المتسبب في مأساة صديقتها، ولو أنها أجبرت على هذه التضحية محققة نهاية أغضبت الكثير ممن شاهدوا الفيلم ولكنها كانت منطقية لرحلتها منذ البداية, في واحد من أكثر مشاهد الفيلم استفزازا، مشهد التخلص من جثة كاسي، قلبت فيه المخرجة حس الكوميديا السوداء به ضد الشخصيات لإدانة تصرفاتهم، من خلال الأداء الأخرق المستفز من كلا الممثلين الشابين، على أنغام أغنية “شيء رائع” من فيلم آنا والملك، كلمات الأغنية كانت لإقناع المحبوبة بتقبل حبيبها كما هو، يحدث هنا تضاد صارخ بين انغام وكلمات الاغنية وما يحدث في المشهد. لتتمكن كاسي أخيراً من تحقيق العدالة لها ولصديقتها حتى بعد الموت، ليحدث بذلك لم الشمل الأخير في رحلة البطلة.
استغلت المخرجة كل الخيارات الإبداعية المتاحة لها إلى جانب الاستعانة بنموذج رحلة البطلة لتقديم صورة مضللة عن بطلتها تتفق مع النظرة الذكورية الخاطئة عنها في الفيلم تارة، لتعود وتتهكم من تلك النظرة في مشهد آخر تارة اخرى، مثل استخدامها للنظرة الأنثوية في أول مشاهد الفيلم لأجساد الرجال وهم يتمايلون في ساحة الرقص.
و يزخر الفيلم بالألوان الهادئة، على عكس الصخب اللوني للحياة الليلية للبطلة، وتؤطر كاميرا المخرجة بطلتها دائما في إطار أيقوني مثل أيقونة العذراء بالألوان الأزرق الفاتح والأبيض، أو تستغل إطارات معينة في بعض المشاهد لتمنحها أجنحة مثل الملائكة، مانحة إياها هالة القداسة في رحلتها الانتقامية.
لهذا تخدم البنيات السردية المختلفة لرحلة البطلة في التعليق على المشاكل الاجتماعية مثل التحرش والاغتصاب كما في فيلم شابة واعدة، وتقديم سرد مختلف عن السائد لمخالفة توقعات المتفرج وحثه على المشاهدة والمشاركة الإيجابية للعمل السينمائي.