الشخصية في الدراما هي فعل ورد فعل، والفعل فيها مبني على عدة مؤثرات تبني الشخصية، وتؤثر وتتحكم فيها أيضا
وضعت الدراما الأساس بكلاسيكيتها إن ندرك السبب والنتيجة في مسارات الأحداث، وكذلك بالنسبة للشخصيات، ليأتي
بعد ذلك الفنان ويتمرد على هذه الكلاسيكية، ويقوم أحيانا بإخفاء الدافع خالق بذلك التساؤل، وتعزيز الفضول لدى المشاهد
إذا خرجنا من نطاق الدراما المحكية إلي النطاق الأوسع لدراما الحياة، نجد أن كل نفس تنطوي على خفاياها، لديها أسبابها وأفعالها التي تتفاعل بسببهم مع محيطها، هذا هو الواقع الذي يحافظ عليه المخرج الألماني كريستيان ببتزولد في أعماله، لا يسرد حكاية بمفهومها التقليدي الأرسطي، لكنه يتتبع شخصيات، لهم ماض وتوجد أحداث تؤثر على قراراتهم، وبناء عليها نشاهد ردود أفعالهم، لكنه في الوقت نفسه لا يحاسب شخوصه، بل يتوقف عند مسافة بينهم، لاستعراض مواقفهم في
الحياة.
قد يبدو لوهلة أن صوت بتزولد غائب في الحكاية، لكنه قد يكون على لسان راو مراقب مثل فيلمه انتظارا مؤقتا- ترانزيت، أو قد يصل إبداعه في حفظ المسافة بينه وبين شخوصه في أن يضع رأيه في أغنية تستمع إليها الشخصيات، وتجري كلماتها على ألسنتهم، لكنهم بعيدون كل البعد عن رسالتها، مثلما حدث في فيلمه الرجل الميت، بعنوانه الألماني Toter Mann
معنى العنوان بالألمانية هو “وضعية السباح الذي يطفو على سطح المياه وهو يضم ساقيه، فاردا ذراعيه إلى جانبيه” وهي الوضعية التي نقابل بها ليلى بطلة الفيلم في أول الأحداث، في حمام سباحة عام، تلفت أنظار أحد المحامين يدعى توماس، تتقرب منه وتقضي ليلة في منزله ثم تختفي بعدما تسرق حاسوبه الخاص، وتترك عملها وتغير محل إقامتها، لنراها بعد ذلك تعمل في أحد المصانع، تجذب انتباه مجرما سابقا يدعى بلوم، ندرك مع تطور الأحداث أثناء رحلة بحث توماس عن ليلى العلاقة بينها وبين بلوم
ملخص حكاية لفيلم حرص من خلاله المخرج على حجب الأسباب والدوافع، وبقي أمامنا ردود أفعال، الحجب هنا مرتبط بدوافع البطلة، التي كانت تشبه حورية السيرانة في الأساطير الإغريقية، التي كانت نصف إنسان ونصف سمكة، تغوي الصيادين بغنائها حتى تقودهم إلى حافة الجنون.
ليلى كانت دائما بالقرب من الماء، خرجت منه في أول الأحداث عندما وقعت أنظار توماس عليها وانجذب إليها، لتبدأ لعبة الإغواء المستتر مثل الحورية المغوية، لكنها لا تغني وإنما تنسج خيوطها بالتدريج حوله حتى تختفي من حياته بعد أن تسرق حاسوبه المحمول، وهنا تظهر الأسئلة الدرامية الأولى في الأحداث، لماذا فعلت ذلك، ولماذا غيرت مسكنها، وتركت عملها، ولماذا سرقت حاسوبه، ولماذا هربت منه عندما قابلها بالصدفة قبل رحيلها
نرى دموعها وتأزمها عندما تشاهد صورا لحادث على الحاسوب، لا نعرف السبب ولماذا تأثرت، حتى تاريخ شخصية ليلى وخلفيتها الاجتماعية قد حجب عن المشاهد مثل أسباب والدوافع وراء أفعالها، تذهب إلى بلدة أخرى وتعمل في مكان لا يليق بها، تستأجر منزلا بملحق لا أحد يستأجره، وهي تقوم بذلك بحجة أنها فنانة وبحاجة للهدوء، تتقرب من بلوم الخارج من السجن مؤخرا، من هنا يبدأ الفيلم في ربط خيوطه السردية المبعثرة، هذا المسجون هو نفسه الذي يتولى توماس الدفاع عنه ويحرص على حصوله على فرصة أخرى في الحياة.
موضوع الفرصة الثانية موجود في كل أعمال المخرج، لكن دارئما هنالك ما يحول بين شخصياته وبين هذه الفرص، في حالة ليلى يظهر الدافع المستتر وراء أفعالها وهو (الانتقام) فهي تسعى للانتقام من المجرم الذي اغتصب شقيقتها
وبالتالي هي أيضا ثيمة انتقام لكن مع ببتزولد قام بتغيير النمط المعتاد في سردها، لم نر الجرم، ولم نتعاطف مع الضحية، ولم نر أثر الجريمة على عائلتها، ولم نر تصميم شقيقتها على الانتقام، لكنه أخفى كل هذا بداخل نفس ليلى
والثأر محفز عاطفي يحث الشخص على الفعل من أجل استعادة السلام النفسي، لكنه يتوقف به الزمن أمام ألمه، بينما تمر أيامه، توقف الزمن أمام الرغبة في الانتقام هي التي تعد الوقود لهذا المحفز، إذا جاز لنا التعبير عنه بأنه زمن نفسي، أمام الزمن الفعلي للحياة التي تمضي به، هذان الزمنان جديران بخلق صدع في الشخصية بين الرغبة في الانتقام، والحاجة إلى استكمال الحياة، مثلما فعلت ليلى بعدما استجداها توماس قبل أن تختفي من حياته، كانت تصارع نفسها بين ولائها للانتقام وبين إعجابها به، وهذا المشهد كان نذيرا لحقيقة شخصيتها واختيارها في النهاية عند مواجهتها للمجرم.
شخصية المجرم كانت شخصية معقدة أيضا، بدءا من اختيار الممثل سڤين پيپج بهيئته التي تستجدي تعاطف المشاهد، وطبيعة شخصيته الهادئة، وكذلك إخفاء السبب وراء قضاء عقوبته في السجن، زد على ذلك أن المخرج قد وضع شخصية زميل له في العمل متحرش بالنساء، ولم نر من شخصية بلوم أي تجاوب معه
وهذا سيضع المشاهد في مأزق أخلاقي إذا ما أحب أن يصدر بحكمه على هذا الرجل، وما فعله بعدما أعترف بجرمه أمام
ليلى، وأمامنا
يطرح بتزولد من خلال هذه الشخصية معضلة فلسفية وهي هل بلوم في الوقت الذي نقابله فيه وكذلك ليلى هو نفس المجرم الذي ارتكب الجريمة، أم هل تغير، وهل يجب الصفح عنه؟، أسئلة يضعها أمامنا المخرج وأمام بطلته، ورغم أن بلوم قد قرر هو مصيره بنفسه في النهاية، إلا أن المخرج لم يصدر أي حكم عليه، ولا على أي من شخوصه
أفلام بتزولد معقدة سرديا أكثر منها أسلوبيا، الفيلم هنا ينتمي لجماليات السينما الواقعية، إضاءة طبيعية، تصوير في أماكن خارجية، بمصادر إضاءة طبيعية، وكذلك زوايا وحركة كاميرا لا تلفت الانتباه. عدا مشهد المواجهة، استخدم فيه بتزولد التباين بين الظلال والنور، وجعل ليلى في ظلال سوداء وهي تحكي ما وقع لشقيقتها، هنا كان لسان المنتقمة يتحدث، لذا؛ كان اختيار حجبها في الظل اختيار رائع ومعبر عن احتجاب نفسها وراء نزعتها الانتقامية
طبيعية الصورة وواقعيتها عززت من لغز دوافع شخصية الأبطال، استخدام اللون الأزرق مع ليلى، وهو لون هادئ وبارد على عكس ما يعتمر بنفسها، وهو أيضا كان له وظيفته المضللة عن حقيقة البطلة
، واستخدام المياه كعنصر مرئي متكرر، وتواجدها بجانبها في بداية الأحداث، ثم عند انتقالها إلى مكان آخر كانت تجلس
بالقرب منها، كانت مثل حورية السيرانة التي تشتد جاذبيتها بالقرب من المياه…
كما استخدم أيضا بتزولد عنصر الموسيقى/ الأغاني لأداء وظيفتين
الأولى كانت بمثابة لسان حال المخرج في أن خلاص شخصية ليلى والمأزق النفسي الذي تعاني منه هو الحب والمغفرة، وهذا كان من خلال اختياره لأغنية
What The World Needs Now- ما الذي العالم بحاجة إليه الآن
أما الأغنية الأخرى فهي التي حمل الفيلم اسمها في عنوانه باللغة الإنجليزية
Always Something There to Remind Me- شيء ما ليذكرني
هذه الأغنية كانت وظيفتها التذكير الدائم ( الزمن النفسي) الذي يعيش وراء أسواره كل من ليلى وبلوم، عندما أختار المخرج أن تكون في مشهد العشاء الحميم بينهما قبل المواجهة.
جدير بالذكر أن هذا الفيلم شهد بداية التعاون بين المخرج والممثلة نينا هوس، التي قدمت في هذا الفيلم أداء مقيد، لا تبوح ردات أفعالها بما تضمره، لكنها سمحت لعواطفها أن تطفو على السطح في نقاط ظهرت من خلالها هشاشة البطلة ومعاناتها، مثل مشهد انهيارها بعد المواجهة، لكن هناك مشهد ربما يمر مرور الكرام على المشاهد لكنه يبوح الكثير عن معاناة الشخصية، كانت ليلى تغني بالمطبخ الذي تعمل به، وإذا ببلوم يدخل عليها المكان ويقطع خلوتها، هنا تحول أداء الممثلة من الهدوء والانسجام الي شراسة الحيوان الذي يدافع عن نفسه وعن مكانه الخاص، هذا الأداء كان مساهم رئيسي في تعميق التساؤل حول غموض شخصيتها وتصرفاتها
الفيلم يحمل ثيمة انتقام ليست بجديدة، لكن بتزولد جردها من عاديتها ونزل بها على درجات سلم الواقعية ليقترب أكثر من شخصياته حتى يتسنى للمشاهد تفهم دوافعهم وربما الحكم عليهم بحب