استوقفني فيلم الطاهرة للمخرج مايكل موهان، وبطولة سيدني سويني، بسبب حملة الترويج له من قبل شركة نيون لخوض الممثلة الشابة تجربة إنتاجه أيضاً.
الفيلم يدور حول راهبة شابة تدعى سيسيليا تترك بلادها بعد غلق الأبرشية التي كانت تنتمي إليها في أمريكا، وتذهب إلى إيطاليا بعد دعوة أحد القساوسة لها لكي تقدم نذورها في دير يعني بخدمة الراهبات المسنات، لكنها تكتشف أسرارا مخيفة حول المكان
يستهل الفيلم أحداثه بصوت إحدى الراهبات وهي تردد
آية من إنجيل لوقا
«مباركة أنتِ في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنك»
قد تبدو هذه الآية عادية تتلوها الراهبة وتستنجد بالعذراء لمساعدتها.
لكن الفيلم الذي ينشد أن يتذاك على المشاهد بنصه الركيك، يحاول هدم الصورة المقدسة لهذه الآية بما بتناسب مع الوضع المعاصر
قررت أن أتعامل مع نص هذه الآية بمعانيه المجردة، بكل ما تنطوي عليه، انا لا أقرأ نصا مقدسا ولا اقدم تفسيرا ولكن احاول قراءة النص التحتي الذي اعتمد عليه نص الفيلم واتخذ من هذه الآية سترا له
يتعامل الفيلم مع مفهوم عفة العذراء، وارتباطها بابنها في النصوص المقدسة، ولو توقفنا على مسافة من هذه النصوص، سنجد أن هوية العذراء مرتبطة ارتباطا وثيقا بوليدها وهويته، بل هذا الابن هو الذي شكل هويتها أمام العالم، فهي التي أتت به دون دنس، ومعجزة للبشرية
يحاول الفيلم شطر هذه الصورة بطريقة ساذجة، وكتابة رديئة، بداية من المشهد الأول الذي حاول من خلاله المخرج بناء جو الفزع والتشويق عند محاولة إحدى الراهبات الهروب من الدير، ليظهر ورائها أربع راهبات ملامحهم غير واضحة يغلفهن الضباب ويتحركن بإيقاع ثابت يدعو للرهبة على وقع موسيقى مشؤومة، كأنهن الفرسان الأربع في سفر الرؤيا المبشرين بيوم القيامة، يمنعن الفتاة من الهروب بطريقة مرعبة، وضع هذا المشهد لتأسيس المزاج العام للفيلم، ولطرح الأسئلة، وفي نفس الوقت يعلن انتماءه للأفلام الطوائف
وبشكل تقليدي ينتقل الفيلم بعد ذلك لنقابل بطلته سيسيليا وهي تخضع للتفتيش في المطار، دار بينها وبين الضابط حوار، وهو يحاول أن يفهم أنه لا بد من أن قرارها بالرهبنة كان قرارا صعبا، لترد عليه أنه لم يكن قرار من الأساس، هذا الرد إن دل على شيء فإنه يدل على أن يقين هذه الفتاة راسخ في شخصيتها ولم تكن هناك حياة أخرى عزفت عنها لتختار طريق الرب بديلا لتسلكه.
تذهب بعد ذلك إلي الدير، وتتعرف على من هناك، هناك دائما الراهبة التي تحقد على الوافدة الجديدة وتحاول أن تثنيها عن تقديم نذورها، ليأتي بعد ذلك مشهد تقديم
نذور العفة أمام الكاهن الأكبر في مشهد يشبه الزواج، ، مع لفتة لا معنى لها بالنسبة لراهبة تستعجب من تقبيل الخاتم البابوي عند رسامة الراهبات وتقديم نذورها
فأصبحت مقدمة الفيلم تشبه قدوم العروس الجديد لبيت زوجها
يبدأ الفيلم بعد ذلك أن يكشف عن نصه التحتي المتذاكى تدريجيا، عندما تسمع الراهبة صوتا بكاء راهبة أخرى وهي تبتهل أمام الصليب فتسألها عن مصابها وهو سؤال كان سخيفا يصدر من راهبة شابة سبق أن تواجدت في دور الرب، لتقم الأم الكبيرة بتقديمها إلى أثر مقدس يحتفظ به الدير وهو أحد المسامير التي قد ثبت بها جسد المسيح على الصليب، تحمله الفتاة في يديها ثم يغشى علي
لتصحو من نومها بعد كابوس أشبه بكابوس الحمل من الشيطان في فيلم طفل روزماري للمخرج رومان بولانسكي
بعدما تمضي الأحداث واستقرار الراهبة في الدير تصاب بالإعياء، لتكتشف بأمر حملها رغم عذرتيها، ويصدق عفتها الكاهن الأكبر والأم الكبرى ويشهدون أن ثمرة بطنها مباركة ومعجزة جديدة
مشهد الكشف عن الجنين والذعر على وجه الشابة التي لا تفهم ما أصابها، كانت تظهر إلى جانبها أيقونة العذراء تحمل طفلها، وكذلك الصليب المعلق في الحجرة
يبدأ بعد ذلك تقسيم الفيلم إلى أثلاث وهي فترات الحمل، ومعاناة الراهبة فيهم، وارتيابها إن ما يحدث لها ليس مباركا وإنما من الشيطان
هنا يحاول الفيلم ألا يهجو المقدس صراحة لكن يطرح فرض أن ما حدث للعذراء قد فرض عليها، وربما تخبطت في حياتها لتقبل الأمور وهلعت مثلما تفعل الراهبة
عند إعلان عفة الراهبة ومعجزة الطفل، يتم الاحتفاء بها في مشهد ايقوني يضع الممثلة في إطار الأيقونة بالرداء السماوي للعذراء والطوق فوق رأسها بدل هالة النور، ورفعت في مستوى أعلى من البقية، وتطلعت إليها الكاميرا من أسفل لتضفي عليها جلالا ومهابة مثل العذراء
لكن إذا ما دققنا في هذه الصورة المنمقة الأيقونة نجد حزن الفتاة وهلعها، تعكس بذلك تأويل آخر لتجربة العذراء.
مع تطور الأحداث تتلقى التحذير من الراهبة التي قابلناها في أول الأحداث، وأثناء محاولة هرب تلك الراهبة تتبعها سيسيليا لتكتشف أنها تخضع للتعذيب والعقاب من قبل الأربع راهبات المتلثمات، والراهبات التي تحقد عليها نكتشف سبب حقدها لأنها كانت تتمنى أن تكون هي المختارة، لقدم بعد ذلك على الانتحار في مشهد مستوحى من فيلم
the omen
تحاول الفتاة الهرب والنجاة بحياتها بعد هذه الاكتشافات، ليعرض عليها القسيس الذي أتى بها إلى هذا المكان من البداية حقيقة ما يحدث، وان الدير يحاول استنساخ المسيح من أنسجته المتبقية على مسمار الصلب، وأنها ما هي إلا واحدة من سلسلة طويلة من التجارب على أخريات قبلها وهناك أخريات في حال إذا ما فشلت هي،
الحوار هنا بينها وبين القسيس عند مواجهته بأنه يحاول أن يلعب دور الإله والإتيان بمعجزة جديدة
إذا ما نظرنا لهذا المشهد بالتجاور مع البقية في الحكاية فهو يعلن بكل قوته عن السلطة الأبوية المتمثلة في الرب وفرضها على العذراء، لكنه يعرضها بسذاجة أن الوليد سيحمل وسيستكمل نفس رسالة المسيح، منطقا ساذجا بنيت عليه حجة حبكة الفيلم
تنجح بالنهاية الفتاة في الهروب وهي تعاني من الام المخاض، وتخرج من الدير بعد صراع دام مع القسيس الشاب كخروج جنينها من الرحم، في مشهد يحاول العبث فساداً بصورة الولادة، فالراهبة مخضبة بالدماء تصرخ بأعلى صوتها، والكاميرا لا تبتعد عن ملامحها الغاضبة والمتألمة، لتقطع بعد ذلك الحبل السري باسنانها، ثم تقرر مصير هذا الجنين
في مشهد يطرح مصيرا مغايراً للعذراء وولدها، ويطرح من خلال الحل في النهاية الفصل بين ربط هوية العذراء بمعجزة الطفل وسطوة الإله، حرص المخرج على عدم ظهور الجنين، ولكنه لم يقصد ذلك اقتداء بما فعله رومان بولانسكي في فيلم طفل روزماري الذي تسبب في هلع المشاهدين من ترقب رؤية ابن الشيطان على الشاشة الكبيرة ، لكن هنا نسمع فقط أنفاس جنين لم يصرخ حتى، يقطع بيننا وبينه المخرج اي صلة مرئية حتى لا يخلق اي تعاطف يمنعنا من الموافقة فيما ستقدم على فعله الأم حتى تتحرر منه.
لم يكلف السيناريو نفسه عناء تفسير السبب وراء اختيار سيسيليا تحديدا، واكتفى بأنه إن لم تكن هي فستكون أخرى غيرها، أو أهتم بتأسيس حكايتها، عدا نقطة أنها أنقذت من موت محقق وهي طفلة فأدركت أن لا بد للرب له خطة أو غاية لتقم بها،
الفيلم يعاني من فقر في رسم شخوصه، ناهيك عن الممثلة من الأساس، ربما يحتسب لها تنوع أدوارها، لكن تظل صورتها المثيرة في أدوارها السابقة حاضرة وتلقي بظلالها على هذا الدور، حتى الزمان في الفيلم مبهم، هو الحاضر خارج الدير، لكنه أي حاضر، أي عصر من العصور، الزمان المبهم جعل من الأحداث والمؤامرات من هذه المؤسسة وارد حدوثها في أي وقت
لا يعلق في الذاكرة أي أداء يذكر في الفيلم، ولا حتى لحظة هلع واحدة، عدا صراخ البطلة في النهاية، فالمخرج أكد أن مشهد النهاية الدامي كان يعد له من البداية، حتما سيتذكر المشاهد الممثلة وهي تصرخ مليء رئتيها
صورة الفيلم جيدة، لكنها لم تأت بالجديد في المزاج العام للفيلم، فتفردت الموسيقى التصويرية التي وضع فيها المؤلف جهدا باستخدام آلات موسيقية من أوروبا الشرقية، جميعها وتريات ذات صوت له طبيعة خاصة، مع ترانيم كورالية، هي التي خلقت الجو المشؤوم للاحداث
تدثرت فكرة الفيلم في عباءة الأفلام التي تهاجم المؤسسة الكنسية، وتصويرها كطائفة متطرفة، لكنه باقترابه الساذج من قدسية العذراء، وتصويرها بشكل مغاير ليتماشى مع سياسات الوقت الحالي بهدم المقدس وتحدي الأنظمة الأبوية أصبح مرآة مشوهة تعكس فكر صانعيه