ـ ان الاحداث التي تمر بنا لم تخلق عبثا وانما تمنح لتمنع ما لم يجري به القدر فتحجبه وتشرق من خلاله شمس ما قدر وهذا الحب الذي أفر منه انما يدركني أينما كنت
علي محمد الفشني
-----
لا مفر أوقد الليل نجوم المساء فبدت كشموع ينسل ضوءها الى غرفة مظلمة واقتربت ساعة الحظر وتهيئ الجميع لترك كافة شئونهم في انسجام شديد مع حركة الكون فالكل يغدوا الى السبات ويلجئون الى السكون ليس للفوز بقسط من الراحة ولكن استجابة للحظر المفروض للحد من انتشار فيروس كورونا وقد أدرك عمرو رجل الاعمال صاحب الشركة العملاقة للاستثمار العقاري ان المال ليس درعا يقيه شر هذا المرض فحسب ولكن الالتزام بالتدابير الاحترازية الواجبة نحو الوقاية من خطر الاصابة بهذا الوباء هو الاساس فدرهم وقاية خير من قنطار علاج وعلى الفور استقل عمرو سيارته الفارهة وانطلق متجها الي بيته كالبرق حيث لا توجد حركة للمرور تعوقه أو تحد من سرعته وكان يلتفت كثيرا وفي كل لفتة ترافقه الدهشة فقد بدت المدينة خالية تماما من أي مظهر من مظاهر الحياة وكان الصمت يداعبه فيتسرب اليه الخوف مجرد شعور أدركه دون ان يدرك دوافعه واقترف من مخيلته كلمات تطمئنه:
ـ الخوف في ذاته دافع أصيل لتجاوز أي عثرة
واستمر بسيارته يجوب الشوارع الخاوية في طريقه الى بيته متأملا الماضي القريب الذي لم يلبث يوما أو بعض يوم وكانت شوارعه تموج بالمارة والسيارات والحافلات وكانت الحوانيت والمتاجر يشاركن القمر في ليله ويصدعن سكون الليل بضوضاء مريديها وكانت الحياة مكتظة بتوافه الامور وعدم الاكتراث. كانت الحياة تسير على وتيرة واحدة من اللهو والغفلة لم يسع أحدنا ان يرفع جفنيه كي يبصر الافق وما يواريه من مستجدات ولم يسع أحدنا ان يستنبط حاجته من مسلتزمات كانت نظرتنا سطحية نظرة لا تتجاوز رؤيتنا لاثار أقدامنا فنظرنا الى المال كغاية وليس وسيلة فما فائدة المال اذا لم نستطع مبادلته بما نريد ونظرنا الى الشهوة كأنها حق أوجبته الفطرة فأفرطنا في تناولها فكانت الحياة بالامس القريب كأنها جنة خالية من تفاحة ادم كل شيء فيها مباح .
وانتبه عمرو فجأة وهو يقود سيارته بسرعة مفرطة فثمة أمر عظيم سلب تأملاته وأعار واقعه الخيال فقد وجد فتاة بارعة الجمال تقف بجانب الطريق من ناحية شماله تترصد سيارة أجرة لتقلها الى مقر عملها تملكتها الحيرة فقد احتلت أحوال العتمة المساء وبدا الليل يحتضر برغم مولده للتو .. وقفت الفتاة تتمايل كغصن اجتثه السيل فانهار أو يكاد تلوح بيديها ..
ـ هل من مغيث؟
فالوقت يمر واقترب موعد مناوبتها في المشفى العام .. الساعة الان تمام الثامنة مساءً ومضى كثيرا على وقوفها في انتظار وسيلة مواصلات آمنة تبلغ بها عملها وقفت تحاور نفسها:
ـ لا فائدة من الانتظار فالشوارع خالية ماذا أفعل الطريق الى المشفى طويل ومحفوفا بالمخاطر في ظل هذه الظروف فربما اتعرض للاعتداء وربما للسرقة .. ماذا أفعل يا ربي
وفي هذه الاثناء مر بها عمرو بسيارته تتسارع لديه مسألتان مترادفتان مسألة الواجب الذي يحتم عليه اغاثة الملهوف ومسألة قلبه الذي زادت نبضاته عندما رآها وفي لحظة وبدون ان يمنح الفرصة لمخيلته ان تدير هذه المسائل بداخلها كبح سرعة سيارته بالضغط على فراملها فوقفت بعد ان أحدثت ضوضاء صارخة من أثر الاحتكاك جعلت المتواجدين بالمحيط يلتفتون اليه وجعل الفتاة تفزع كأنها صعقت ولكنها اطمئنت قليلا حيث شعرت بأنه شخص يقدم المساعدة فقالت له دون ان ينطق ببنت شفاه:
ـ شكرا
صوب اليها نظرات حانية:
ـ هذا ليس عرض قابل للرفض والقبول هذا واجب وطني
ألجمتها الدهشة في حين استطرد عمرو قائلا وقد لاحظ دهشتها:
ـ لا تتعجبين انتم الجيش الابيض لقد اطلعت الى بطاقة تحقيق شخصيتك هذا المعطف الابيض الطويل الذي يعانق ذراعك يضفيك رونقا من التضحية والفداء انتم صمام الامان والركن الشديد الذي نركن اليه في اضعف لحظات حياتنا
أفعمتها هذه الكلمات راحة نفسية وزادتها اطمئنانا فاستقلت معه السيارة وانطلق يحملها الى المشفى وهو لا يستطيع ان يخفي السعادة التي غمرته والتي نمت عنها تلك الابتسامات العريضة التي لم تفارقه منذ ان جثت بجواره في السيارة وأخذ عمرو يختلس منها بعض النظرات وهي تلحظ ذلك وتبادلا الاثنان معا الصمت فعمرو لا يجد ما يعبر به عن هذه السعادة التي بدت كضوءٍ لا يخبو نوره وهي لم تعثر على استفهامٍ تتسائل به عن حالته ولكن عمرو رد عليها ضالتها وأجابها دون ان تبدي سؤلها:
ـ لا تأخذيني فأنا أشعر كأني أعرفك منذ زمن .. كأننا التقينا قبل ذلك
ـ أقدر شعورك النبيل .. يخلق من الشبه أربعين
قالت ذلك ثم أخرجت من حقيبتها السوداء المضجعة فوق حجرها كمامة بيضاء وارتدتها باحكام فتأملها عمرو للحظة ثم أردف قائلا:
ـ الان تبدين كقمر يتوارى خلف الغمام .. سبحان من سواك على أي حالٍ يتجلى جمالك دون نقصان
احمر وجهها خجلا والتزمت الصمت ربما دلالة عن الرضا فمثل هذا الحديث يثير عند الانثى بركان من الانوثة الخاملة بفعل الحياء وربما رهبتها من الموقف الذي جمع بينهما دون ثالث غير الوساس الخناس فأثرت الصمت وعبرت عن قلقها بمجرد النظر الى ساعة يدها أكثر من مرة في وقت قصير مما دعى عمرو أن يطمئنها قائلا:
ـ اقتربنا .. بضع دقائق فقط ونصل ان شاء الله
وفي هذه الاثناء رن هاتفها النقال عازفا لحنا عذبا بلغ صداه قلب عمرو فأحدث في مشاعره ثورة انتفضت لها جوارحه فشرع مرددا كأنه يلقن الهاتف نغمته:
ـ يا فؤادي لا تسل أين الهوى
كان صرحاً من خيال فهوى
اسقني واشرب علي أطلاله
وارو عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب امسى خبراً
وحديثاً من أحاديث الجوى..
لم يتم حيث أومأت اليه على سبيل الاستإذان بالرد على المكالمة الواردة اليها فأشار اليها على الفور:
ـ اتفضلي
فكان حديثها مع أحد زميلاتها في المشفى تستفسر عن تأخرها عن موعد مناوبتها فقالت على استحياء وبصوت أقرب الى الهمس:
ـ أكاد أصل .. انتظرت كثيرا كي اجد سيارة اجرة ولم احصل على شيئ لو لا ان رزقني الله بشخص كريم ذو مروءة يتمتع بأعلى درجات الشهامة
قالت ذلك لزميلتها بالهاتف وهي تعير عمرو بعض النظرات ليس على سبيل المدح والثناء ولكن استدعاء لهذه الجوانب لديه لتكون ثالثهما بالسيارة
*** *** ***
كانت زميلتها حسناء التي تواصلت معها عبر الهاتف مناوبة بالمشفى خلال الفترة المسائية وقد تجاوزت موعد الانصراف ولم تحضر من تحل محلها في المناوبة التالية ولا تستطيع مغادرة المشفى قبل ان تحضر زميلتها التي تماثلها فلا يجوز ان يترك محلها فارغا ولو للحظة فقد أعلنت حالة الطوارئ وفي كل لحظة يطرأ شيئ جديد فكل من بالمشفى رهين كل أمر مستجد وكان خطيبها ثاويا خارج أسوار المشفى قيد الانتظار يصارع الشوق اليها ويبارز القلق عليها فكان يخشى ان يبلغه أحدهم بأن خطيبته حسناء قيد الحجر الصحي وكان يعمل مهندسا معماريا في أحد شركات المقاولات الكبرى ونظرا للظروف القاسية التي يمر بها العالم منذ ان غزاه هذا الفيروس الملعون تم تسريحه هو وبعض زملاءه لحين اشعار اخر.
وظل القلق يتلقف علاء الى ان برزت له حسناء من خلف بوابة المشفى الحديدية العملاقة حيث بدت له كنجمة يضيئ سناها دربه فاهتدى بها الى مراده وعلى الفور وبحركة لا ارادية لوح اليها مناديا:
ـ حسناء .. طبيبتي حسناء ..
فالتفتت اليه حسناء وقد وثبت السعادة من وجناتها ونادته بصوت حاني:
ـ علاء .. مهندس حياتي علاء ..
ثم أردفت تقول:
ـ لقد أنهيت مناوبتي على خير .. الحمد لله
ثم قالت مازحة وهي تعبر بوابة المشفى الى الخارج:
ـ الحمد لله .. اللمبي أخذ براءة يا رجالة ..
كانت تمزح ترويحا لنفسها فهي تدرك تماما ان الموت خرج على الناس يلاحقهم في كل مكان أدركت ان هذه الجائحة لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر إما حياة في منفى تعيش غريبا عن ذاتك وإما موت بلا تكريم ورغم هذه الظلال الكئيبة لم تمنعها من ممارسة حياتها على الوجه الذي يلطف من شدة سعيرها وينسيها لبعض الوقن ألامها وما ان عبرت حسناء البوابة حتى اسرع خطيبها بفتح باب سيارته المتواضعة ومد ذراعه الايمن بحذاء رأسه للامام كأنه يسبح وانحنى قليلا في وضع أقرب للركوع ثم أخذ يرمقها ببعض النظرات وقال مداعبا:
ـ اتفضلي يا مولاتي
فاستجابت حسناء لمزحة خطيبها بشيئ من السعادة وتحركت نحو السيارة كأنها ملكة وأومأت اليه تأمره بسرعة القيادة والانطلاق واستمر خطيبها يحاكيها في دور التابع لاميرته فاحتضن عجلة القيادة وأراد ان يحقق رغبتها وينطلق بالسيارة ولكن السيارة أبت ان تحاكي صنيعهم واعربت عن ذلك بتعطلها وأخذ خطيب حسناء يتحايل عليها ويستعطفها أن تتحرك ويهمس اليها كأنه يخاطب حيا:
ـ تحركي أقبل يديكِ دوري .. أم أنك تقصدين احراجي مع الاميرة ..تحركي من فضلك
ولكن باءت كل محاولاته بالفشل مما اضطره أن يلتمس من أميرته أن تقرضه بعضا من قوتها فتنزل من السيارة وتدفعها للامام كي تدور وتتحرك فأعارته حسناء نظرات ساخره:
ـ أميرة تجر عربتها
قالت ذلك ثم أرسلت حنجرتها تطلق الضحكات ونزلت بالفعل من السيارة وشرعت في دفعها من مؤخرتها للامام وكان على الجانب الاخر من الطريق تقف سيارة عمرو الفارهة كانت قد وصلت منذ قليل ونزلت ضيفة عمرو من السيارة بعد ان أعلمت زميلتها حسناء بوصولها عبر الهاتف وكان ذلك ما دعى حسناء بالانصراف من المناوبة وأسرع عمرو بالنزول من سيارته كي يقوم بمراسم الوداع وكي يقوم بايداع رصيدا له لدى ضيفته فتقدم بتعريف نفسه وقدم لها بطاقة صغيرة ببياناته وتبادلا التعارف فقالت له وهي تصافحه:
ـ دكتورة ولاء
ثم وجهت له الشكر ثم قالت مستطردة:
ـ فرصة سعيدة .. واسمح لي ان أكرر شكري على معروفك
وانتابت عمرو حالة من الخجل الشديد لم يمر بها من قبل ولكنه تغلب عليها حتى لا يضيع على نفسه الفرصة في التواصل مع الدكتورة ولاء وحتى يطيل أمد الحديث معها ويأنس بها ولو قليلا فرفع يده الى السماء وقال متضرعا:
ـ الحمد لله الذي هيئ لي هذه الفرصة لكي أساهم ولو بشيء يسير في رد الجميل لكم
ثم أردف قائلا:
ـ دكتورة ولاء حبكم أصبح فرض عين أصبح واجب وطني .. اسمحي لي ان أعلنها مدوية .. دكتورة ولاء .. إني أحبك ..
ثم وجم هنيهة وتبسم قائلا:
ـ أحبك في الوطن وعلى سبيل الواجب
فانفرجت شفتاها عن ابتسامة عريضة وهمست بصوت يصارع الحياء:
ـ أشكرك على شعورك النبيل
ـ سيدتي لا شكر على واجب
قال لها ذلك ثم عرض عليها رغبته في التطوع للانضمام الى صفوف العمل معهم ولو بأي شيئ واقترح عليها استعداده التام في تسخير سيارته في خدمة توصليها في مثل هذه الظروف الحرجة وفي أي وقت تشاء وعبر عن سعادته بذلك مازحا:
ـ ما عليك الا ان تنادي بصوت مرتفع .. جزر .. يا جزر .. وسوف تجدينني مستقرا أمامك
ثم بسط عمرو يده كي يصافح الدكتورة ولاء ولكن ليس مرسما من مراسم الوداع هذه المرة وانما اراد ان يتحسس يديها لينظر ان كانت مرتبطة من عدمه فوجد أناملها عارية من أي ارتباط وقد شعرت الدكتورة ولاء بذلك وارتجفت يدها واحمر وجهها خجلا وسحبت يدها بحركة انفعالية وأسرعت مهرولة تعبر الطريق نحو بوابة المشفى وأثناء عبورها وجدت زميلتها حسناء وهي تدفع السيارة بطريقة تنم عن وهنٍ شديد حيث أسندت ظهرها على مؤخرة السيارة وأخذت تدفعها بقدميها للخلف فقالت لها على سبيل المزاح:
ـ هذا في الخطوبة فماذا بعد؟
قالت الدكتورة ولاء ذلك ثم أوت الى المشفى.