كان الدرويش بعد إلتحامه بجسد الكلب قد أصبح أشد ضراوة وقسوة من ذي قبل، قفز فوق أسامة: محاولاً أن يلقيه أرضًا ناشبًا أنيابه الحادة ومخالبه القوية في رقبته وصدره بعنف،
أتركنى دعنى وشأنى أرجوك لا شأن لي بما حدث، ظل أسامة يردد هذه الكلمات كمن يهذي والرجل بالكرسي المقابل له يحاول تهدئته دون جدوى، ما أن أفاق ووجد نفسه بالقطار حتى انتبه لحركة جسده وتوتره
في خوف ووجل، قال موجهًا حديثه للرجل وهو ما زال يلهث ماذا حدث؟ بل وماذا يحدث لي!
وأين أنا؟ أردف قائلًا هل ما زلنا بالقطار؟
كانت هذه كلمات أسامة والتي كانت مشوبة بالحيرة والقلق، بينما يحاول الرجل تهدئته وهو يخبره أنه لاحظ عليه وهو في بداية نومه أنه بدأ يتململ، من ثم بدأ ينتفض والعرق يتصبب فوق جبينه وعلى وجهه لينزل فوق رقبته، أخبره أن جسده كان يتحرك وكأن هناك من يتحكم به أثناء نومه.
إعتدل أسامة فوق كرسيه محركًا شفتيه وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، مرددًا ما يحفظه من آيات قرآنية حتى استعاد أنفاسه وهدأ بعض الشئ في محاولة مستميتة لاستعادة رباطة جأشه.
نظر من النافذة يتابع القطار وهو يأكل الطريق ويطويه، أسند رأسه بجوار النافذة محاولاً أن يشغل نفسه بالقراءة بتلك الصحيفة التي يطالعها الرجل وذهنه مشغول بما يحدث مع أسامة،
تململ الرجل بمقعده محاولًا إخفاء دهشته وإستغرابه مما يحدث لأسامة أمامه دون أن يملك أي تفسير.
أراد أن يشاركه الحديث ربما يستريح له ويكون هذا بداية الخيط ليتحدث معه أسامة ويشرح له ما يحدث، وجه حديثه لأسامه وهو يقول في نبرة حزينة غلب عليها الآسى يا له من حادث مروع للغاية، أسامة :أي حادث تقصد؟
الرجل: ذلك الفنان الشاب الذي ألقى بنفسه من الطابق الحادي عشر بعد أن أصبح نجمًا شهيرًا يشار له بالبنان! إستطرد يقول بلا توقف لا أدرى حقًا فيما يفكر هؤلاء الناس! فهم يمتلكون كل شئ ولديهم كل ما يحلم به الأخرون، لديهم المال والشهرة والأضواء مسلطة عليهم دومًا.
أثارت كلماته دهشة أسامة وقد لفت إنتباهه حديث الرجل والذي أيد كلامه بصورة الفنان المنتحر والذي ما أن رآه أسامة حتى أصيب بالهلع والفزع، فلم يكن ذلك الرجل سوى صديقه المقرب
(سمير) ألجمته المفاجأة وتساقطت دموعه رغماً عنه فها هو صديق طفولته ورفيق دربه يموت وليته مات موتتة طبيعية ولكنه أنهى حياته بيديه ليموت منتحرًا.
تساقطت دموعه وغلب عليه الحزن، حاول مداراة مشاعره عن الرجل الجالس أمامه والذي بادره بالسؤال قائلًا هل تعرفه؟
أم أنك أحد معجبيه؟
وقبل أن يتحدث الرجل بأية كلمة شرد أسامة بذهنه ليعود للوراء متذكرًا حديث العراف عندما ذهبا إليه هو وسمير لقراءة الطالع، ما زالت كلمات العراف تدوي برأس أسامة وعقله عن سطوع نجم سمير وإشراقة شمسه، تذكر عبارته الغامضة عن صرخة الولادة من ثم يأتي الرحيل، ومن بعد ذلك يحل الظلام.
ها هو قد حل الظلام على حياة صديقه ورحل بعد أن نال الشهرة وبزغ نجمه كما قال الدرويش،
لا يدري ماذا حدث أو أين ذهب الرجل؟ حتى أنه لا يشعر بحركة القطار أو إهتزازه، فقط ما يشعر به هو الظلام يحيط به من كل جانب قبل أن يتحول المكان فجأة الى حديقة ممتلئة بالنباتات والزهور وعلى مد البصر، رأى أمه تأتي من بعيد بملامحها الهادئة وابتسامتها الصافية ورقتها التي تشبه الملائكة، كانت تتقدم نحوه بإبتسامة ساحرة وهى تقدم له وردة بيضاء وتقول له بصوت رقيق هل عرفتنى يا أسامة؟
ليجيبها بحب وابتسامة ودودة وكيف لا أعرفك يا أمي!
كم إشتقت إليك كثيرًا، ولكن أخبريني كيف حدث هذا؟
أين نحن وماذا تفعلين هنا؟
الأم كل هذا لا يهم يا أسامة لا يهم أبدًا، ولكني أريدك أن تعدني بشئ وتحققه لي.
أسامة بحنو وهل عصيت لك أمراً من قبل يا أمي؟
الأم في خوف لا تركب القطار يا أسامة، مهما حدث عدني أنك لن تركب هذا القطار.
أسامة: ولكن لماذا لا أركب القطار يا أمي؟ الأم عدنى أنك لن تركب القطار مهما حدث يا أسامة، عدني بهذا يا بني.
أسامة: كم كنت أتمنى أن أحقق رغبتك يا أمي، ليتني أستطيع كنت أن ألبي طلبك هذا ولكننى داخل القطار بالفعل ولا يمكنني مغادرته.
الأم وهى تبتعد وصوتها يخفت رويدًا رويدًا، عندما كنت صغيراً صنعت لك حجاب كما تفعل النسوة بالقرىة به عين زرقاء ليحفظك الله لي والأن أنت رجل ولا حاجة لك بهذا الحجاب أو تلك الخرزة فلتعدها لصاحبها يا بني، عدني أنك ستعيدها لصاحبها يا أسامة، عدني بذلك.
كادت صورتها تختفي من أمام عينيه بينما ما زال صوتها يتردد في أذنيه، عدني ألا تركب القطار، عدنى أنك لن تركب القطار مهما حدث، عدنى يا أسامة، عدنى بذلك أرجوووووووك.
أسامة: بصوت خائف ومرتجف ولكن لماذا يا أمي؟ من فضلك أخبريني لماذا؟ الأم وهى تستجديه قائلة لا تركب القطار، سيحترق القطار بمن فيه، ولده سيحرق القطار لينتقم وليحصل على خرزة والده الفرعونية، هو من دمر وقتل الجميع لينتقم منهم. كان يستعيد كلماتها وهى تقول مغالبة دموعها، أنت لست منهم، أنت برئ من دمه أنت برئ من دم أبيه.
ما زالت كلمات أمه تملأ أذنيه ليتردد صداها بين جنبات صدره
لا تركب القطار يا ولدي.
حاول أن يعلم منها ما حدث وعن أية خرزة تتحدث؟ ولكنها ظلت
تبتعد بينما ما زال صوتها يأتيه من بعيد لا تركب القطار لا تركب القطار.
فجأة وكما بدأ الأمر انتهى.
أستاذ يا أستاذ يا أستاذ استفاق أسامة على صوت النادل بكافتريا المحطة وهو يطلب منه الحساب بينما يخبره أن القطار الذي سيستقله متوقف برصيف المحطة وأنه سيتحرك بعد قليل.
أسامة: منذ متى وأنا هنا؟
النادل: منذ أتيت قبل ساعتين وجلست تنتظر القطار وأنت نائم وأثناء نومك كنت تهذي ببعض الكلمات وتصرخ وكأن الجن يطاردك! أسامة وهو يدفع الحساب أشكرك، النادل هيا لتلحق بالقطار حتى لا يفوتك كما فاتتك قهوتك والتي بردت أثناء نومك.
مزق أسامة التذكرة وهو يقول في حسم لن أسافر اليوم، لن أسافر اليوم، لم يحن الوقت بعد لسفري.
عندما استيفظ أسامة صباح اليوم التالى كان صوت المذياع مرتفعًا للغاية بينما هناك من يهاجم الحكومة ويطالب بإقالة وزير النقل والمواصلات بسبب تعدد حوادث القطارات بالآونة الأخيرة، كان هناك أحد شهود العيان يتحدث في نبرة حزينة عن احتراق العربة السادسة بالقطار ليمتد الحريق لباقي العربات مما تسبب في موت الكثيرين بهذا الحريق الضخم.
وضع أسامة يده بجيب قميصه لتصتدم يده بجسم صلب صغير، عندما أخرجه لم يكن سوى تلك الخرزة الزرقاء والتى عندما نظر إليها بعمق شعر وكأن وجه أمه منحوتًا عليها فيما يبدو مبتسمًا. بحركة عفوية ابتسم وهو يقول شكرًا يا أمي شكرًا يا أمي.
للحظات خيل إليه أن صوت أمه يتردد بأذنه جميعهم دفعوا الثمن،
بوقت ما لابد وأن يدفع أحدهم الثمن وما عليك إلا أن تعيد الأمانة لصاحبها لتنعم بالأمان، أردفت قائلة والأن أصبحت تعلم أين وكيف ولمن ستعيد الأمانة.
أسامة: وكأنه يجيب ذلك الهاتف الذي راوده، نعم يا أمي أعلم أين وكيف ولمن سأعيدها.
ستعود الأمانة يا أمي أعدك بذلك ستعود من حيث أتت وحيث يرقد صاحبها.
تمت