قال لي متألما وإحساسًا بالظلم يملأ قلبه وتفكيره ووجدانه: لقد أخذ مني ملايين الجنيهات بغير وجه حق, وأصبح حقي لديه مغتصبًا لا أقدر على إعادته منه,
واستطاع أن يقنع من حوله بأنني لست صاحب حق عنده, رغم ما لدي من مستندات توثق ما أقول, ويشهد الله على صحة كلامي.
بهذه الكلمات التي لم استطع أن أصيغ حرقتها كما خرجت من فم صديقي, بدأ يشرح لي ملابسات المعاملات بينه وبين الآخر, وكيف كانت بداية التعامل جيدة ونواياه فيها صادقة على عكس ما انتهت به المعاملة من ظلم كما يراه بناءًا على ما بين يديه من عقود.
وفي الحقيقة لم أشأ أن أكلمه مباشرة في ما سأطرح لسببين, أولهما أنه لم يكن في حالة نفسية تسمح بأن يستقبل إلا ما يراه هو من وجهة نظره, وثانيهما أن ما سأقوله له هو أمر عام, وددت أن نناقشه جميعًا ونسبر أغواره.
ولقد فكرت مليًّا في أمرٍ قد انتشر وشاع بين الكثيرين, ونراه يتكرر مع الناس, بين نكران الحقوق وأخذها, ورفض إرجاع الأموال والاستيلاء عليها, مما جعلني أتعجب على حال البعض ممن ينزلقون إلى مزالق أكل الحقوق وإنكار التعهدات والعقود.
وفي الحقيقة أنني اؤمن –كما يؤمن الجميع- بأن كل منا قد ضمن له الله أمرين, الأول عمره والثاني رزقه, أيا كان نوع الرزق,
فالرزق أنواع شتى تتراوح بين المال والصحة والعقل والفهم والحكمة والأولاد,,, الخ, مما سيحصل عليه الإنسان بين مولده وموته لا ينقص منه شيئًا مهما تعدى عليه الناس.
و المعروف أن كل الناس تعلم ذلك, ولا ينكرونه بل يصدعون بعلمهم به ويكررونه في كلماتهم قولًا يتنافى أحيانا مع أفعال بعضهم, فيحدث منهم ما ذكرناه أعلاه وما اشتكى منه صديقي بحرقة.
ولكي نبحر شيئًا ما في بحر معاني هذا المفهوم "الذي يعلمه الناس" يكون لزامًا علينا أن نأخذ مثالًا بالأرقام حتى نتبين المفهوم وتتضح المعاني,
فببساطة لو أنني سأعيش ستون عامًا, فإنه بولادتي سيكون لي رصيدًا مرصودًا في الغيب فيه من أنواع الرزق المتنوع مقادير معلومة,
ولو تكلمنا عن نوع الرزق في المال, فلنقل مثلا أن رزقي فيه سيكون عشرون مليونا مرصودة وسأمتلكها بشكل ما, لن يأخذ منه غيري مقدار أنملة, كما نعلم جميعًا.
وبالتالي فحين يأتي أحدهم ويأخذ مني خمسة ملايين على سبيل المثال, بغير وجه حق في يوم ما من تاريخ حياتي, فإن المتبقي لي من تلك العشرين مليونًا المرصودة لي سيكون, أيضًا عشرون مليونًا كما هي وليس خمسة عشر,
في حين أنه أخذ الخمسة ملايين من رزقه المرصود في نوع المال, بمعنى لو كان مكتوبًا له أن يحصل من نوعية المال كرزق في حياته بمقدار ثلاثون مليونًا, فإنه بأخذه لتلك الخمسة ملايين مني قد أخذها من رصيده المرصود له, وليس في حقيقة الأمر من رصيدي المرصود لي سلفًا.
وبالتالي فالذي يَسلُب من غيره أموالًا بدون وجه حق, فهو في الحقيقة لا يأخذها منه, لأن أرزاق الناس لا يستطيع أحدٌ أن ينقص منها أو فيها يزيد,
ولا يعدو الأمر إلا أنه قد أخذ جزءًا من رصيده هو بشكلٍ حرام, وليس من رصيد المظلوم الذي ظلمه سلبًا.
لو تفهمنا هذا المعنى بقوة وتركيز, ولو ربينا أبناءنا على أن ما تسلبه من غيرك فهو حرامٌ وله الحق تمامًا في أن يقاضيك وعليك جرم ذلك يوم القيامة,
بخلاف أنك تأخذه من رصيدك المرصود الذي كان سيأتيك حتما لأنه ليس لغيرك فيه شيء -وفي الحقيقة لم تأخذه منه- لتوصلنا إلى مجتمع يتحرى إعطاء الحقوق سواءًا المالية أو في مجال إتقان الصنعة وإحقاق عموم الحقوق المادية للآخرين.