قالت لي لونا بنتي إن "المسلسل" سيعجبني وأنها تراهن أني سأتيّم به لأنه يحقق أمنيني التي لطالما جاهرت بها أمامها، حتما سأحبه.. مسلسل "عمر أفندي".
ذلك الشاب الذي وجد ممرا سريا لزمن آخر حيث أربعينيات القرن الماضي وصار يذهب هناك من آن لآخر عبر هذا الممر.
وتساءلت هل يستطيع الإنسان بالفعل في مرحلة ما أو عبر مكان ما اختراق الزمن؟ العودة للوراء تحديدا، إذ ليست بي رغبة لاستكشاف المستقبل.
إن فكرة العودة للماضي أو الذهاب للمستقبل كانت خيالية، لكن أثبتت التجارب والنظريات وجود كتل نجمية ضخمة جدا وكواكب وأجسام فضائية تسير بسرعة الضوء فتتسبب في تباطؤ الزمن بشكل كبير في جزء معين مظلم في الفضاء، وهو ما يسمى بالثقب الأسود والذي يجذب بقوة كل من أو ما يقترب منه بسبب جاذبيته الجبارة وقد يبتلعه فيلقي به لزمن آخر بسبب السرعة بداخله والتي تفوق سرعة الضوء، وبهذا يمكن لأي جسم يتحرك بسرعة الضوء أن يكون قادرا على السفر عبر الزمن.
إذن.. هل أستطيع أن أعود للماضي؟ أعيش في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي؟ أشاهد طفولة أبي ومولد أمي؟ أرى جدتي في ريعان شبابها وأشاهد بعيني حكاياتها التي حكتها لي...حلم جميل..ترى لو عدت للماضي هل سأقبل بالعودة لزماننا هذا؟؟قولوا أنتم !
بالتأكيد سأحب فساتين "زينات" الانسيابية الأنثوية الرقيقة وشعرها المنسدل بحرية أحسده عليها، و"الجيب" الرقيقة حيث لا بنطلونات مقطعة ولا بلوزات مثقوبة. سأحب وجهها الطبيعي ونضارتها الربانية وقوامها الرقيق بلا ملامح منفوخة ومفاتن بلاستيكية دون شد أو شفط أو نفخ.سأرى الوقار يزين أجساد البنات والسيدات دون غطاء رأس ولا نقاب ولا حجاب، لكنهن منتهى الاحترام والتحضر والاحتشام.
ولربما أسعد بالاستماع لذلك الشاب الأسمراني طويل القامة وقد خلع طربوشه احتراما لي واقترب مني هامسا لي وهو يغازلني "بونسوار يا هانم..الجو بديع أوي النهارده...تحبي نقعد في "آ لا ميريكان" واطلب لك "جلاس".." سأنظر له بانبهار...
وقد أجد في عينيه أملا وخوفا وترقبا من ردة فعلي، فأبتسم له..مسكين هو ألطف وأرق من أن أنهره، "وأهمس في سري: يا سلااام ده انا ابوس راسك ع الكلمتين الحلوين المؤدبين دول والله" على الأقل لم يُسمِعني ما نسمعه تلك الأيام من فحش وبذاءة لم تسلم منها بنت ولا ست مهما اختبأت خلف نقاب أو حجاب.
ولربما أرتدي "الملاءة السوداء اللف" تلك التي تلتحف بها نساء المناطق الشعبية وأضع البرقع الشهير وأنزل للسوق أشتري كل ما يلزمني ثم أركب "الحنطور" ليخترق بي الشوارع والحارات حتى أصل لحديقة الأزبكية فأرى الحديقة الغنّاء تمتلىء بأصوات الموسيقى والعازفين ويجلس الناس متناثرين هنا وهناك للاستمتاع بالجو الجميل والموسيقى الهادئة دون أن تزعجهم أبواق السيارات وأصوات الباعة الجائلين والأسواق الموجودة على الجانبين بالميدان الآن.
وساعتها سأهنأ بالجو الرائق المشهور عن مصر وقتها، حين كان جوها معتدل صيفا دفيء ممطر شتاء، بدلا من النار التي تكوينا أغلب أيام العام فلا شتاء ولا مطر إلا أياما معدودة.
قد أذهب لسينما "سهير" في العباسية ولربما أقابل جدتي هناك ونشاهد سويا فيلم "عفريتة هانم" للست سامية حيث الاستعراض المبهر بأزيائها الموحية ورقصها الفاخر، وخدودها الكلثومية، وقوامها الأسمر.الجبار، وفريد يشدو بجانبها ادي الربيع عند من تاني، والبدر هلت أنواره وفين حبيبي اللي رماني من جنة الحب لناره،
وربما في هذا الوقت المبكر من أربعينيات القرن الماضي استطيع بمنتهى السهولة أن أستقل القطار الواصل من القنطرة إلى القدس وحيفا ومنها إلى يافا بفلسطين، سأحجز تذكرة درجة ثانية إذ نفدت تذاكر الدرجة الاولى لكثافة الزائرين للقدس مثلي، فأنا سأزور صديقة لي عاشت معي زمنا بحي الظاهر حيث بيت جدتي ثم عادت لوطنها، سنتنزه أنا وهي في حدائق البرتقال اليافاوي الشهير، آآه لكم اشتهيت أن أتذوق برتقال يافا، كما سأذهب معها لإحدى حدائق الزيتون طوال اليوم.كانت قد وعدتني بزيارة المسجد الأقصى ودعتني لأصلي في القدس، وها انا أفعل فقد ذهبنا معا وصلينا هناك، لم تكن هناك حواجز ولا حدود ولا نكبات ولا.... صها ينة ،!
أو ربما ذهبت لصالة الباتيناج التي كانت جدتي تذهب إليها وأرى هناك الممثلات الشهيرات التي كانت تحكي لي عنهن، ثم أتوجه ل"صحراء مصر الجديدة" أشاهد الأطلال التي ظهرت بفيلم الوسادة الخالية والشوارع الخالية.
ولعلي كنت سأنخرط في جماعة سرية لمقاومة الاحتلال الانجليزي وأجتمع بهم في مقهى "ريش" بوسط البلد وقد ألتقي هناك المثقفين جميعهم والشعراء الذين لطالما أحببتهم درويش وسرور ونزار ودنقل، ربما يقول فيّ أحدهم شعرا...
ولم لا..فسأكون بالنسبة لهم مخلوقة عجيبة لا يدرون من أي مكان هبطت.!
وقد أنجح في حجز تذكرة لحفلة الست أم كلثوم في الخميس الأول من أحد الشهور بسينما أوليمبيا بوسط البلد، فأرتدي معطف والدتي "المينك" الأصلي الذي اشتراه لها بابا من إيطاليا و أهدتني إياه ولم أجد للآن مكانا يليق به، لعل حفلة أم كلثوم هي المكان المناسب لهذا المعطف المبهر..لعل هذا المعطف ينتظرني لأركب عجلة الزمن وأتوجه به إلى حيث ينتمي..!.
وهناك...قد ألتقي شخصا ما... يشبه في شخصيته المتزنة الحالمة التي تنضح بالاحتواء والحب والحنان والتفهم "حسين" بطل فيلم الباب المفتوح وهو ينظر لي نفس النظرة التي نظرها لفاتن نظرة تمتلىء بالحب والاحترام والشوق.وسيسألني مشدوها من أنت؟ ومن أين أتيت، فألوذ بالصمت خوفا من ضياع الحلم..!
أتنهد وقد أفقت من خيالاتي على صوت لينة بنتي تقول لي "طبعا تتمني تكوني مع عمر أفندي"،نعم يا ابنتي، أتمنى أن أدخل ثقب الزمن وأعود لهذه الفترة، إذ أشعر بانسلاخي التام عن هذا العصر وانتمائي للماضي بروحي وعاطفتي، تتردد في أذني كلمة بنتي (يا ماما أنت حتى لما بتتكلمي كأنك خارجة من فيلم ابيض واسود). تعتبره بنتي نقدا لأفكاري وطباعي ومفرداتي، وأراه مدحا لماض تمنيت أن أعيشه فغرقت في تفاصيله حتى صرت على هذا الحال من التفرد.. والشعور بالغربة !