ما أكتبه هنا هي وقائع حقيقية حدثت في نهاية أربعينيات القرن الماضي وصولا لحقبة أواخر الستينيات روتها لي جدتي السيدة "رئيفة هانم أحمد" جميلة جميلات حي الظاهر وشبرا العريقين "وتلك الصورة المرفقة هي صورتها في أوائل شبابها ثم صورة لها بعد زواجها وإنجابها في الستينيات"،
وأكملت لي والدتي السيدة سهير عز الدين ما غمض علي أو التبس بحكم سني الصغيرة جدا حين روت لي جدتي تلك الوقائع.
======
ما ان فتحت الجارية السمراء العجوز الباب لسيدتها الصغيرة "رئيفة"حتى دخلت مهرولة إلى حيث حجرة تتوسط الدار بها أكثر من صالون لتنهار على أول كرسي..وتغمغم وسط دموعهاانزلي حاسبي (الاجرة)
( تقصد التاكسى آنذاك)
دخلت وراءها الجارية مدهوشة فزعة فقد كانت هي التي ربت رئيفة مع الأم "جليلة" بعد أن اشتراها والد رئيفة أواخر القرن التاسع عشر من على حدود دارفور وصارت بمثابة واحدة من الأسرة لما لمسوه من نظافتها الشخصية وورعها وتقواها حتى أن عهدت لها جليلة بتربية "رئيفة" تحت إشرافها..
كانت الجارية( إشراق) ذات صوت رخيم تغني به بلهجتها( الدارفورية) أغان حزينة تمس قلب رئيفة وجليلة، فلم ينزلوها منزلة الجارية، بل كان الرجل وزوجه يعاملانها كمديرة منزل رغم ميلها للحزن وحنينها الدائم لقريتها بحضن النيل، حتى حثت جليلة زوجها كي يبحث لها عن زوج ليعيش الاثنين في كنفهما بحجرة صغيرة ملحق بها حمام خاص وباب يؤدي لخلفية البيت..
لكن اشراق رفضت بإنفة كل من تقدم لها، حتى اشفقت عليها جليلة والسيد كامل احمد فعرضا عليها أن يعطيانها ورقة عتق مختومة ويرسلا معها من يوصلها عبر الجنوب حتى تصل دارفور.
والغريب أن إشراق رفضت وفضلت البقاء لدى سيدتها جليلة بعد تعلقها الشديد برئيفة .
جاءت الأم على صوت الجرس تستطلع وبيدها "مجلة الكواكب" التي تتابعها بشغف لما تحتويه من أخبار النجوم والأفلام السينمائية التي تعرض والتي ورّثت رئيفة عنها حبها ومتابعتها أسبوعيا.
وضعت جليلة المجلة جانبا وجلست بهدوء بجانب الابنة المنتحبة فالتفتت لها بكل جسدها ومالت على صدرها تبكي والأم هادئة تطبطب على الباكية بتاثر فطري يخفيه ثبات غريب.
قالت رئيفة وهي تنشج بالبكاء: أختك ضربتني
أزاحت الأم ابنتها عن صدرها وتفرست في وجهها ملتاعة قائلة: كيف ولماذا
قالت رئيفة: تريد أن تتحكم في أنا وعز ...صفعتني على وجهي....
شعرت جليلة بغصة شديدة فنادت على الجارية لتأخذ السيدة الصغيرة لحجرتها ثم قامت لتستعد للخروج وقبل أن تغلق الباب وراءها قالت للجارية :إذا جاء عز الدين ابلغيه ألا يتحرك حتى أعود .
كانت السيارة تشق بها الطريق إلى شبرا وهي تقلب الأمور من كل الجهات، وتضع حساباتها بمهارة مشهورة بها تزن كلامها بميزان الذهب.
في هذا الوقت كانت "أم عز" في حيرة وقلق شديدين بعدما أخبرتها "إنصاف" ابنتها أن "رئيفة" غادرت بملابس البيت،
هي تعرف أختها جليلة جيدا فعلى رغم انها اختها الصغرى إلا أن شخصيتها طاغية ولديها من الحجج ما تغلب به أعتى رجال العائلة فما بالها بأختها حتى لو كانت تلك الأخت هي "أم عز" ، التي لم يعد أحد يناديها باسمها توقيرا لها ولا سيما بعدما أنجبت "عز الدين" زهرة شباب العائلة.
دخلت جليلة على أختها ثابتة ووجهها غائم تدق الأرض بحذائه الانيق وقامتها الممشوقة وبدون أن تحييها جلست أمامها وباغتتها قائلة وصدرها يتهدج: أعطيتك "رئيفة" فضربتِها.
نظرت "أم عز" ذاهلة" لأختها وقد أسقط في يدها بهذا الهجوم المفاجىء ..
غمغمت وقد ارتجت الكلمات "هي ابنتي مثل إنصاف ومحاسن وانا خالتها الكبرى.
جليلة: نحن لا نضرب بناتنا..هل تضربين إنصاف؟ لم اسمع بذلك يوما همت السيدة بالاعتراض فقاطعتها جليلة:
اسمعي يا "أم عز" تعرفين ما لرئيفة من مكانة عندي "وعند ابنك" ولولا ثقتي بأنك ستعاملينها كما ينبغي ما زوجتها وابعدتها عن حضني،
نهايته، إذا ما غضبت رئيفة مرة ثانية وجاءت لي فلن أعيدها إليكم ابدا.. السلام عليكم (يا أختي.)
وانطلقت نحو الباب وأختها تشيعها بنظرات حيرى ذاهلة وقلبها الطيب يدق و يؤلمها لزعل أختها وكذلك شعرت بالحنان والاشفاق.على للصغيرة الغاضبة التي يحبها الجميع خصوصا إخوة عز الدين البنات،
هي بالفعل تحبها كابنتها وسعيدة بجمالها الذي اضاء البيت الكبير ولكن شعورها بهذا التدليل الذي تراه زائدا والذي لم تنله إنصاف ومحاسن كان يؤرقها من وقت لآخر...
كما ان الصغيرة تطاولت عليها وهي خالتها وردت عليها الكلمة بكلمة.
ما ان عادت جليلة للمنزل حتى وجدت الشابين عز الدين ورئيفة جالسين في انتظارها ووجههما محمر من البكاء.
فقالت موجهة كلامها لعز الدين.
سنحضر الغذاء ..تتغدى معنا وتأتي غدا لتأخذ رئيفة.. ذهل الشابان وخصوصا عز الدين الذين بادرها مرتعبا(لن اخذ رئيفة؟ لماذا؟ ماذا قلت( لأم عز)؟
قالت جليلة بهدوء: لا شأن لك بي انا واختي وإياك أن اسمع انك عاتبتها او حتى فتحت الموضوع معها.
وهنا التفتت لها رئيفة بنظرة عتاب، فقالت موجهة كلامها لها:
وانت أيضأ لا شأن لك بما فعلته انا واختي ولكن لك الا يتكرر ما حدث ابدا ..
واستعدي لنخرج سويا سأشتري لك فستانا جديدا واسورتين من (بيوكي) .
تهلل وجه الصغيرة ونظرت لعز الدين بفرح وقامت فاحتضنت والدتها لكتها عادت والتفتت في حيرة قائلة
ولكن كيف سنخرج ولم احضر معي فستانا
نظرت لها الأم بابتسامة عاتبة قائلة: مازالت مقاساتنا متقاربة..
ولنا حديث اخر عن خروجك للشارع بقميص نوم وروب.!
يتبع
(سيرة عز الدين حنفي ابوجبل)