آخر الموثقات

  • أستاذ فلان ... رغم الدكتوراه
  • تفسير توقيت مصادقة موسكو على الاتفاقية الإستراتيجية مع طهران...
  • ترامب وبزشكيان في الرياض
  • الحرب الإيرانية الأمريكية : خطأ المحللين
  • طريقة إيران المبتكرة للتفاوض مع أمريكا
  • العرض المالي الإيراني لترامب .. إختراق غير مسبوق
  • إيران ووالد زيزو
  • مجابهة كل هذا القدر!
  • ضع الآتي حلقة في أذنيك
  • أنا البهية الفاتنة
  • ثقافة الاعتذار بين الأصدقاء… الكلمة اللي بتبني العمر من جديد
  • شكراً ... حضرة المدير 
  • أخاف أن أعود...
  • كذابة
  • سر القلوب النبيلة
  • دائما أشتاق إليك..
  • راقي بأخلاقي 
  • من دون سبب..
  • لحظات آنيه..
  •  ثقافة الاعتذار بين الأزواج… حين يطيب الحب بكلمة
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة انجي مطاوع
  5. ما وراء الخلود - الكنتيسة - الجزء الأول

عاشق الليل

أتعلم قصة «عاشق الليل»؟!

فلتُصغِ إليَّ سيدي الفاضل..

كان ياما كان..

في سالف العصر والأوان، حيث يعيش المدعو «عاشق الليل».. لُقِّب بين الأصحاب بـ«شيطان حياة».. نبي خارج النص، هو إنسان لكنه خليط ومزيج من أساطير العرب وخرافات الرومان، يظهر وقتما شاء ويختفي أغلب الأحيان، لكن لا..

انتظر..

لا يختفي؛

فهو يرسل طيفه ليشاكس حبيباته، هن فتيات أعماهن بسحر هواه، يتنقَّل بينهن وكأنه مارد من نار، وهن، آه منهنَّ، أنهار عذبة من حليب مصفَّى وحرير لامع.

معه تعتقد كل فتاة أنه دنيا ودين، تسعى إلى أن تنال رضا الله بإرضائه، تسعى إلى الخير ليعوضها معه الله.

هو حب وحياة.. تريد تحقيق أحلامها معه بهدوء، العيش ونسيان العالم بأحضانه، هو لحن وغناء.. تسعى إلى صفاء العالم بوجدانه، تسبح بأفكارها براحة بال بين موجات أفكاره، هو الدنيا كلها.. تتمنى معه حياة صافية ونقية.. هو آخرة.. تسعى إلى الوصول إليها.. لتنام قريرة العين بأمان.. أحلام تغلفها بكل حنان.. هو نصفٌ آخر.. هو كل.. وبعض منها، هو هي.. روح وحجر أساس.. لبنة بناء وأمان.. هو أمل في حياة وراحة بال.

هو من تُغني له الفتيات.. لأجلي.. علوت سلم الحياة بالمناجاة، اعتبرت غيرتي وحبي طيشًا.. يا ويلتاه، عشقتك ورسم القدر على جبيني خطاه، حب وغرام يملؤنا كنهر منهمر، طفلة أنا تعلقت بستائرك حتى السِّحر، وأنتَ طفل يعبث بقلبي كموج البحر، أنت الرفيق المقرب لسمائي.. أنت دربي وصوت غنائي، أنت العشق وسبب فنائي.. أنت الحبيب والطريق لمماتي، أنت بدايتي ونهايتي وحياتي.. حبك قدري ومصيري الآتي.

حبيبي.. فيمَ خوفك؟ فقلبي مرهون لك.. عيناي حزينتان للبعد – والله - عنك، قدمت نذور عمري لك.. ألَّا أفرح إلا بقدومك ولمس حنينك، شوقي بحر يفيض، مرسى وسفينة صكها باسمك..

مهما ارتحلت تجد قلبي بانتظارك.. يضمك.. قلوعي فرش حرير يُغطِّي واقع حياة صدمك.. هجرك مستحيل أن يكون غاية.. فقُربك وسيلة هنائي.. صوت أنينك يخنق فرحتي فأنت مُناي، حبك عقد ماس وذهب بريقه دوائي.. أحبك قلبًا ضم روحي مستوعبًا لصمتي.. حبي شمس عاشقة تلون ليلك الآتي.. قمر مضيء يدفئ قلبك.. وروحك حياتي..

أنت موجي العاتي وأنا رمالك الحبيبة، أنت سفينة رحالة وأنا شواطئك الأمينة.. أنت من سكن خيالي وأنا لعشقك رهينة.

يومًا سآتي إليكَ هامسةً: هيا يا حبيبي، انهض واستيقظ، هيا بهدوء أفِق؛ فالكل نيام، رقدوا في سُبات، كما لو كانوا يكنزون الماس في الأحلام، هيا لنهرب، ولنُبحر في العشق، ولننسَ أنَّا لهم مجرد هوام..

«شش شش».. لا تُصدر صوتًا، فنُمسك بالجرم ونُفضَح علنًا، سيقولون: صبِئا بالعفة وهم من منعوا هوانًا؛ لأني بنت العوام.

دعوكم مني أنا «عاشق الليل» وقصصي سأكملها لكم بعد أن أقص عليكم قصة الكونتيسة «رودينا» والكونت «حيدَر».

 

 

المسرحية

أمسكت «رودينا» برأسها بين كفيها في ضيق، أرهقت نفسيًا من كل ما تشاهده، المملكة تعاني كما تذيع أغلب القنوات، لكن القنوات المحلية تدعم وتساند الملك وتظهره كما بطل همام وشهم أنقذ المملكة من بين براثن الظلام، انتشلها من فك الوحش، أقام عودها بوقفته أمام من يتآمرون عليها، حاولت استيعاب هذه المتناقضات، هي تعيش حياة عالية المستوى، كل ما تشتهيه تجده، لكنها تعلم أن هناك غيرها الآلاف بل الملايين ممن يأكلون التراب ليعيشوا، اعتدلت في جلستها على الكرسي أمام مكتبها وهي تحاول تحليل الموقف، عقدت ذراعيها أمام صدرها، ضيقت عينيها وهي تتمتم:

ثورة الجياع

مظاهرات الطبقة الدنيا في المجتمع ضد الملك

عنف، قتل، سحل، اختفاء لشباب وفتيات دون أثر

تأففت وهي تقف لتنهب حجرتها ذهابًا وإيابًا

أكملت همهمتها مع نفسها وهي تتساءل:

هل أنا من الفتيات الساكنات الهادئات الفاتنات المثيرات؟ لا وألف لا؛ فأنا من الفتيات الشقيات المزعجات المتسرعات القانتات، هل أنا من الفتيات العاقلات الرزينات الجميلات؟ لا.. لا وألف لا؛ فأنا من الفتيات المجنونات الطائرات الخفيفات، إذًا من أنا؟ كثيرًا ما أتيه بين إجاباتي وأحتار في تناقضاتي، فأنا كل هؤلاء.

أنا متضادات كثيرة احترفن العزف رقصًا.. على أوتار الوجع، لتشتعل حواس هائمة في ملكوت أنَّات الألم.. قالوا: شتان بينهن، متضادات وزاد التنافر حبهن، من يشتهي الورد، بلا شبع، أشكالًا وألوانًا، ببستان قلوبهن للعهد نال.. عشقهن الجن، من فرط حسنهن، سحرهن بلا عنوان.. هذب أرواحهن، ليقترنَّ في بوتقة الهيام، ضمهن العشق بالأحضان.. أجسادهن بالتعاكس تراصت، قُسِّمت أنفاسهن كما موقف شطرنج قاتل.

يعذبهن أن خلف نهار عشق وانسجام ليل حياة بلا أمل، طير شغفهن جناحاه وزع نبضهن ليغمرهن وجدٌ بلا اقتران، سُلب لبهن عشقًا فترنحن طربًا على أنغام أبخرة عجوز سحر الغرام بلا ثمل.

هِمن حالمات، بوادي شغف مقدس بلا كلل، بدأ عزف أوتار نزفهن، على أطراف أنامل الأحلام، فداء عاشقهن، اخترن الفناء على مهل.. ذاك المُسيطر على قلوبهن، أطلق تعاويذ غضب، جان وبشر يلومهن بلا ملل.. سويت الأعاجيب: سحر وتأويلات شعوذة، غدر وتنبؤات منذرة، صادحة بالألحان.. أنين حارق، نزفه مبتهل، تنادي في فضاء الوجد: يا أنت.. أنا، روح وجسد، شياطين عاشقة، تراقصنا الأحزان للأبد بلا منال.. نريد الفرح عنوانًا، لبى نداء العشق فيض، بحر يحتوي كل صامت خجل.. فأقبل.

أخيرًا وبعدما تعبت من أفكارها، قررت أن تخرج تلك الضوضاء والفوضى من رأسها وتلقيها على كاهل أوراقها، جلست على كرسيها، أمسكت القلم بعدما أخرجت بعض الأوراق البيضاء ووضعتها أمامها، أغمضت عينيها تعيد ترتيب الأحداث، ثم انكفأت تكتب ما تمليه عليها قريحتها وخيالها..

* * *

 

الشخصيات:

الملك: (60 سنة) متوسط الطول، سمين يرتدي أزياء مبهرجة.

قائد الجيش: (40 سنة) طويل، أسمر البشرة، تبدو عليه مظاهر القوة والوجاهة.

قائد الشرطة: (50 سنة)، طويل، عريض، ممتلئ، تبدو على ملامحه الشراسة.

الثوار: (مجموعة مثقفين، شباب وشابات في سن صغيرة، نساء ورجال في أعمار مختلفة، وفلاحون وعمال).

حراس: (مجموعة).

مجموعه الأصدقاء: أربعة شباب جامعيين (20 سنة).

حياة: الأم (30 سنة) طويلة سمراء اللون بشعر أسود فاحم، تبدو عليها مظاهر العوز والحاجة، ترتدي السواد.

«أمان»: طفل قوي واثق من نفسه مشرد في ملابسه (12سنة).

«أمل»: طفلة قمحية اللون سوداء العينين فيها براءة وجمال بريء رغم ملابسها الرثة (7 سنوات).

«أمان»: شاب وسيم مفتول العضلات اسمر له هيبة وقوة شخصية واضحة.

«أمل»: شابه جميلة في العشرين جادة الملامح والتصرفات.

 



المشهد الأول

يقف الملك في الاتجاه الأيسر ناحية باب الدخول إلى المسرح، وفي المنتصف قادة الجيش والشرطة، تُغطي حائط المسرح المقابل للجمهور والناحية اليمنى مناظرُ لأبنية وشوارع تخترقها، وخلف الملك تبدو بوابة قصره الشامخ وخلفه مجموعة من الحرَّاس، ينظر الملك إلى قادته موجهًا إليهم خطابه، متحمسًا لبثَّ الرغبة في البقاء معه بشتى الطرق..

الملك

: (ملامح الصرامة تبدو على وجهه) اليوم ذكرى جلوسي على عرشي لكن لماذا يا قادة جيشي وحراسي، أرى ضحكات نفاق، وبسمات خيانة، أحضانًا تلدغ، وقُبلات ندامة، سلامًا حارًّا، وعيونًا كاذبة، كلامًا مرسلًا، ونظرات حقودًا؟! هيا تعالَ يا قائد جيشي، اسمع مني نصيحة، عمِّر جَيبك، فتِّح رأسك، اصرخ، هلل لمن بيديه مصالحك، ودع كُل البشر، انسَ الأهل، وخلانك، ابكِ على ما ضيَّعته بعيدًا عني، واللبن المسكوب، اضحك على من منكَ أصبح مخدوعًا، مثِّل، اخدع، راوِغ، شاغِب، نافق غيري لترضيني، هيا ستنجح وتصير بطل العصر، إنسانًا مُقنعًا من دون خجل، ستكون صديق الملك وخادمه.

قائد الجيش

: (ينظر إلى الملك مندهشًا مضطرب الوجه) لكن الشعب غاضب وجاء هنا كي يثور علينا!

الملك

: (يلتفت للجهة الأخرى غير مبالٍ ويشيح بيده اليسرى خلف أذنه وهو يسير بتمهل حول قائد الجيش) دعكَ منهم، بمجرد وعد مكذوب سيعودون، سأجعلهم ثانية لكرسيَّ وعرشي يغنون، ولقدمي يقبِّلون بخضوع طفل رضيع. سيقولون: كففنا عن الحب، عن العيش، وحتى الحلم براحة الموت، ولو كان الثمن جمودًا يصاحبه هسيس وأزيز الخفوت، كففنا عن الثورة، عن الحلم، وحتى الخوف بعلو الصوت، ولو كان الأمل خارجًا من أحشاء الزمن، سندفنه بمائة ألف سوط، كففنا عن العيش وعن الموت وعن الحياة، وبانتظار، بعض من رغد إنسانية تمنحنا إياها ملكنا، قررنا الاختفاء من الوجود.

يقطع حديثَهما صوتٌ هادر من خارج المسرح، صوت قوي كما بركان على وشك الثورة، يدخل مجموعة من الثوار من عامة الشعب في خليط من كل فئات المجتمع يقفون في الاتجاه المُقابل للملك، متحدِّين إياه.

(يتقدم قائد المجموعة مقتربًا من الملك، يصرخ بقوة، وهو شخص يستند على دعم زملائه).

القائد المجموعة

: يا ملك، المفسدون، منذ الأزل يُجالَسون هم وعبثهم، بين الفينة والأخرى تأتينا أخبارهم، فعلوا وقالوا وبالدنيا هذي سيرهم، رفعوا العمائر لعلَّها تخفي أسرارهم، لعبوا لُعبة الأقنعة وأجادوا أدوارهم، عاثوا وسط الخلائق ينشرون غيَّهم، أعلنوا الخلود كأنما يعلمون غيبهم، هددوا بالانتقام إحراقًا بجمر سخطهم، مُدت لهم السنون فتناسوا ربهم، عاشوا بانسجام مع غول أوهامهم، ظنوا الله غافلًا عن كشف سترهم. لكن لهوهم يومًا سيسلبهم أرواحهم، فينالون عقابًا آتيًا بمقدار عتوهم، وأنت في الأرض عثت فسادًا ومن خلفك هؤلاء (يشير بيده إلى جمع الشرطة والحراس).

الملك

: (مقاطعًا وغاضبًا) ماذا تريدون؟!

الجموع

: (يهتفون بصوت قوي وبسرعة) جئنا نطالب بحقوقنا المنهوبة يا ملك، ما لك حق بأقواتنا، دع ما بخزائن دولتنا، وإياك ومس حريتنا، راعنا ولك الاحترام.

الملك

: (ثائرًا مقاطعًا موزعًا نظرات الوعيد على الجميع) اخرسوا، أنا الملك فامنعوا الكلام، اعلموا أن مال الدولة مالي، أنا راعي الدولة والنظام، من جرؤ ولشروطه يُملي؟ اخضعوا بلا تذمر أو ملام، فالناس وعيالهم إرثي وعزالي.

الجموع

: (في صوت واحد هادر) ثورة.. ثورة، يسقط كل من بتجبر ملكَ ولرقاب البشر أخضع وذلَّ، ولأقوات رعيته سرق وغلَّ، ولحرية ورثوها قَهَرَ ليتدلل.

الملك

: (صارخًا فجأة) اخرسوا.

(يشير بإصبعه متوعدًا، يحاول إخفاء خوفه واضطرابه ويذهب كي يقف محتميًا بقادة الجيش والشرطة).

الملك

: أنا الملك، من عقرت النساء عن مثله أن تلد، أقداركم، أقواتكم، حياتكم، وحتى أنفاسكم، بيدي أنا؛ فأنا الملك.

الجموع

: ثورة.. ثورة، يسقط.. يسقط، لا بقاء لمن ظلم وباع، من رمى العرض، وتاجر بالأرواح.

(يتحرك الملك بثقة طاووس ناحية الحراس).

الملك

: (مناديًا) يا حراس، يا قادة الشرطة والجيش، أبيدوهم من خلف الأسوار، ومن عقر الدور خذوهم.

(يحدث اضطراب بين القادة ويصدرون بعض الوشوشة ثم بتردد يجيبه قائد الجيش).

قائد الجيش

: يا ملك.. هم إخوتنا، أبناؤنا، وأبناء عمومتنا وذوونا.

الملك

: (صارخًا فزعًا بتكبر) يا خونة، أنتم حفنة من الخونة، عني تخليتم، وللرعاع حميتم، للهاوية سأرسلكم، وللعذاب سأذيقكم، يا لها من خيانة عظمى!

 (يحدث هرج ومرج ويختلط الثوار مع قادة الجيش والشرطة صارخين في وجه الملك).

قادة الجيش والشرطة

: بل أنت الخائن، قوتنا توحِّدنا وعليك ستنصرنا، ومن لكَ نافق، ستعلو هامتنا بإشراق حريتنا، وبالعمل سنرقى، كُنتَ عقابَ تغافُلنا، لذا لله تذللنا، وعُدنا لنحمي مصائرنا، بعيدًا عمَّن ظلم وتجبر، فلتعلم أن الأيام دول.

(الملك يتوجه نحو باب القصر).

الملك

: (بفزع وتجبر) يا حراااس، عليكم بهم.

(يقترب من أحد حراسه، طويل ذي بنية قوية توحي بالشراسة، ويجذبه خارج صف الحراس).

الملك

: أنت تعالَ يا حارس، اليوم أثبت ولاءك وحبك لملكك، أنت الآن القائم بأعمال قائد الجيش وقائد الشرطة معًا، فأرني همتكَ.

(هرج ومرج والكل يَضرب أو يُضرب.. صراخ من الجميع بعد أن اختلط الحراس مع الثوار).

(إظلام)

 


 

المشهد الثاني

(يدخل المسرح شاب يجري ليقابل أصحابه، ثلاثة شباب جامعيين، يجلسون في حديقة يقرؤون، يقترب في خفة ويجلس وسطهم).

شاب 1

: هل سمعتم ما حدث؟ لقد قامت ثورة على الملك.

(ينتبه له الجميع ثم يصيحون في صوت واحد).

الشباب الثلاثة

: ماذا؟ كيف؟ مَن فيها؟ وكيف قامت؟

(يعلو صوت أنفاسه ليسمعه المحيطون، يتلفت كل لحظة وكأنما خلفه ملك الموت).

شاب 1

: ضرب رئيس حرس السوق أحد الأشخاص حتى كاد يموت، حاول أحد أصحابه مساعدته، جلدوه فمات، ثار التجار والعامة؛ فالمقتول ابن شهبندر التجار، كلمة من هنا وكلمة من هناك وفجأة وصل الجمع أمام القصر.

(تنبه الجميع أكثر وبدا عليهم نفاد الصبر، يقفون جميعا ثم يلكزه شاب 2).

شاب 2

: هيا أكمل، لا تتوقف.

(يشير شاب 1 بيده بمعنى: صبرًا).

شاب 1

: دعوني ألتقط أنفاسي وسأكمل.

(يقف منتصب الظهر كما بطل همام ثم بدأ يتحرك ويختال في مشيته مقلدًا الملك، يتحرك داخل دائرة قريبًا من أصحابه في أثناء إعادته خطاب الملك).

شاب 1

: هَلَّ المجنون كما قيصر روما، جاء يهلل أنا يا رعاع، سأربيكم!! كيف بسخف تعلو هممكم؟! كيف بسخط تنطق أفواهكم؟! أنا الملك الأعظم، أنسيتم مقامكم؟! أنا الإمبراطور أيها العامة!! بيدي آمر فتُعلَّق رقابكم على باب زويلة، هيا بسموي اعترفوا، وبندرة نوعي اقتنعوا، أنا سلطان وكَّله إلهٌ من فوق سبع سماوات، مبعوث لأعاقب مردة من شعب نسي جبروت الحكام، هيا اقتربوا، بهيبة قدري لوذوا واحتموا، لا تثيروا بغباءٍ، حنقي وسخطي، من فيكم تجرأ، وسب كياني؟!

من فيكم نسي سمو سلطاني؟!

يا أنتم، هيا أفيقوا!!

فبأصغر إصبع سأشنقكم وكل من صبحني، بكلمات أثارت غضبي، وبفحش القول، أشعل نيراني، يا أنتم، أنا بالدنيا ملك الأزمان، من يغضبني له مني ألف عقاب، فاحذروا مني، فسينالكم شر عظيم، وسوء ختام.

(يصمت قليلًا ثم يتلفت يمينًا ويسارًا ليتأكد أن لا أحد يتابعه من بصاصي الملك، يقترب من أصدقائه وكأنما سيخبرهم سرًّا).

شاب 1

: لم يدرك مجنوننا أن في الحكايات كان هناك، قيصر آخر ساء ختامه واغتيل وهو يسير يختال، وسط حراسه، منتفخ الأوداج.

(يصرخ الفتية بصوت يظهر من الفرحة أكثر مما يظهر من خوف).

الشباب الثلاثة

: هل قتلوه؟

(يبتعد الشاب عن الجميع وينكس رأسه ليلمس صدره، يهدل كتفيه وبصوت كسير).

شاب 1

: بل سُحبوا جميعًا للسجن الكبير، انتظارًا لعقاب مُريع.

(يفتح الثلاثة أفواههم صدمة ثم يقعون على الأرض عندما يفاجؤون بالعسكر حولهم).

(إظلام)

 


 

المشهد الثالث

(مسرح مُظلم/ الخلفية أضرحة متراصة يمينًا ويسارًا، وفي المنتصف بينهما طريق، شموع موزعة على جانبي المسرح، وترانيم جنائزية تصدح في الأجواء، مشهد ثابت لدقائق ثم يخرجنا من هذا السكون صوت «حياة»، وهي امرأة ثلاثينية تلتحف السواد، تنادي وهي واقفة بثباتٍ، يمين المسرح، على عيون لامعة بدهشة في زاوية المسرح الشمالية، فرحة بهدية منذ زمن الفتنة اختفت).

حياة

: «أمل»، هلُمِّي ومعكِ «أمان»، أحضرت لكما الحلوى.

(يقترب «أمان» و«أمل» وهما يبتسمان).

«أمان»

: أمي.. ما هذا؟ سكر نبات أحمر! أخبرتنا الجدة يومًا أنه أبيض!

 (تجلس على شاهد أحد القبور).

«حياة»

: «أمان» حبيبي، وهل هناك شيء ما زال على حاله أبيضَ ليظل هو أبيض؟! هيا خذاه وتعاليا لنؤنس وحدتنا في ظل قبر أبيكما، سأحكي لكما كيف قام مع زملائه بثورة.

(يصرخ «أمان» مبتعدًا).

«أمان»

: لا، قصتكِ نهايتها كئيبة؛ فلقد مات الكل وبقينا نحن نختبئ من ذئاب الغدر، يلاعبنا الموت ونلاعبه.

(تبتسم الأم وتجذب إليها «أمل» تمشِّط لها شعرها بيدها).

«حياة»

: هل سمعتما يومًا أن حياة بأكملها قد فنيت أو ضاع أمل وأمان للأبد؟!

(يقترب «أمان» ويمسك يد أخته «أمل» ويضحك).

«أمان»

: ما أعلمه أننا معكِ هنا يا أمي في سلام وهدوء.

(يقترب الطفلان ليقبِّلا أمهما، كلٌّ على خد في سعادة وهي تحتضنهما معًا).

(خفوت تدريجي)

 


 

المشهد الرابع

مشهد صامت، خلفية المسرح لا تتغيَّر مثل المشهد الثالث، يُضاف ضريحان يمين المسرح وآخران على اليسار، لتبدو الصورة وكأنها في عمق المقابر، فنرى أنه على الجانب الأيمن يتصل الضريحان بباقي ما رُسم على الخلفية في الاتجاه الأيمن ليكون صفًّا طويلًا، أعلى كل قبر رخامة كبيرة تحتوي على آيات من الذِّكْر الحكيم.

والجانب الأيسر، بالمثل، يتصل بباقي ما رُسم على الخلفية في الاتجاه الأيسر ليكون صفًّا طويلًا أعلى كل قبر رخامة فخمة بالاسم وورود متنوعة ما بين الأبيض والأحمر أو باقة تيوليب.

الأيمن فيه مقابر مَن تم تنصيبهم أولياء الله الصالحين من مواليهم وتابعيهم، هم شهداء أُعدموا بأمر من مَلِك السلطة، والأيسر فيه مقابر من رُسِّموا شهداء الواجب والدفاع عن الوطن من مؤيديهم ومناصريهم، هم شهداء قُتلوا بأمر من يريد السلطة. أما الطريق الواصل بينهما، فمرسومٌ عليه أجساد ممددة ومتراصة بشكل سريالي، ليكون تعبيرًا عن أنهم كانوا مجرد وسيلة يصعد عليها المنتصر ويحقق أهدافه.

عُلقت لوحة إرشادية كبيرة جدًّا مكتوب عليها بخط رديء «مقابر من استُضعفوا ودفعوا ثمن صراع الغير على السلطة»، ومكتوب أسفل عنوان اللوحة: هذه المقابر تضم أجساد «شيوخ بعمائم، رجال متأنقين، شباب دماؤهم نبعها الثورة، أطفال نضجت وجوههم قبل الأوان ليحصدهم جهل وتخلف زُرعا منذ عصور ولَّت لكن يدها ما زالت تحكم، نساء وفتيات كُنَّ حطب غضب أعمى، مثقفين، متعلمين، رهبان... إلخ، لا فرق؛ فالكل يموت فداءً لمصلحة الباب العالي، أأأ.. أقصد مَن ملك زمام السلطة والمال».

وفي نهاية منتصف الطريق، يجلس شاب وفتاة تتوسطهما عجوز تضعضع وجهها؛ لكن العينين ما زالتا تلمعان في انتظار نبوءة ميلاد جديد يطرح نبتته في قلوب المساكين زهر «الحياة»، ويؤجج فيهم الـ«أمل» والـ«أمان» المفقودين. تنظر «حياة» حاملة أسمال طفليها البالية بين يديها، في سعادة وهما يتأكدان من هندامهما الجديد.

تسلَّط إضاءة حمراء على الثلاثة، يقبِّل الشابان أمهما على خدَّيها، ثم يمسك «أمان» يد «أمل» ويتحرك إلى منتصف المسرح.

«أمان»

: هيا معي «أمل»، حان أوان زرع الـ«أمان» في قلب «الحياة».

(إعتام مع صوت دق طبول يرتفع معلنًا الحرب).

(ستار)

* * *

 

وضعت «رودينا»القلم جوار الورق المزين بكلماتها، أغمضت عينيها بعدما فركتها بأناملها ثم فردت ظهرها لتسمع صوت طقطقت عمودها الفقري، حركت رأسها لليمين واليسار وهي تبتسم، نظرة إلى ما في الورق بين يديها مرة ثانية برضا، وضعته داخل ملف بلاستيكي ونحته جانبًا، ثم ذهبت لتنام.

 

خوف

داخل حجرة مظلمة إلا من إضاءة خفيفة على الكمود المجاور للسرير، جزآن من غرفة نوم فرنسية التصميم اختارتها «رودينا»، الجالسة وسط سريرها مع صديقتها «ميليسا» تتباحثان في مشكلة كونية رهيبة، هي حالة الاكتئاب المصاحبة لـ«رونا» منذ شهور كثيرة، من دون وجود سبب مُعلَن.. مجرد ملل.

هي و«ميلي» - كما يناديها أصدقاؤها - صديقتان منذ الطفولة؛ نظرًا لجيرتهما وتشاركهما الاهتمامات، خاصة مع صداقة الأهل، حاصلتان على بكالوريوس من كلية العلوم قسم حيوان (لا داعي للاستغراب، مجرد قسم أعجبهما، وبالدروس الخاصة بالكاد كانتا تنجحان)، عائلتاهما من علية القوم، تذهبان صيفًا إلى باريس للتبضُّع، وشتاءً إلى إيطاليا وروما، لا شيء ممنوع..

كل شيء وأي شيء متاح، تُفتح لهما كل أبواب جنتهما المزعومة، لديهما أصدقاء من الجنسين، ومن جميع البلاد، ولِمَ لا وقد كانتا في الجامعة الأمريكية (AUC)؟ تلك التي لا ينضم إليها إلا كل من ملك تذكرة الدخول الباهظة بأمواله والواسطة المتمكنة، وهما السمتان المميزتان لعالم الأثرياء.. كما كانتا في إحدى المدارس الألمانية سابقًا، تلك التي تجد بها طلابًا من جميع الجنسيات والأعمار أيضًا ممن فشلوا ولديهم آباء يملكون من النفوذ داخل المملكة ما لا يُسمح معه بفشل الأبناء، وإلا ضاعت إمبراطورياتهم مستقبلًا، فتتسلمهم تلك المدرسة لتُخرِج جيلًا قادرًا على الصمود وسط عالم النفوذ والسلطة، بل والتفوق.

تعشق الصمت والكتابة، أما صديقتها الصدوق «ميليسا» فتعشق السرد والثرثرة؛ لذا فهما تُكملان بعضهما جيدًا، تعرَّض والد «رودينا» لأزمة مالية طاحنة جعلته يُعلن إفلاسه، ما لم يتحمَّلْ وقْعَه، فأصيب بأزمة قلبية وتوفي منذ ثلاثة أعوام، خلفت والدتها «حليمة» ذات الشخصية المتسمة بالعناد والإرادة القوية، قاومت حتى استطاعت تجاوز الأزمة خلال مدة تعتبر وجيزة.

في عامين، عاودت الصعود للقمة، عوَّضت ما خسر زوجها، انتشلت نفسها وولديها (رودينا ولؤي) من المستنقع الذي أسقطهم فيه زوجها، بفشله في إدارة مؤسسته وسقوطه ببشاعة ليخسروا كل شيء في ثوانٍ كما تحكي عنه.

عاطفيًّا قطعت علاقتها مع صديقها «شيكو» منذ ثلاثة أشهر؛ فهو لم يحقق لها الإشباع الكافي نفسيًّا كما تتهمه، كما أنه يستمتع بمشاكسة أيَّة فتاة تمر من أمامه ولا يكتفي بحبها.

في المجمل، هما والرفاهية على وفاق تام، لا ينغص عليهما إلا حزنها المستمر وافتقادها بهجة الحياة وملذاتها من دون سبب واضح.. افتقادها الدائم لشيء مجهول لا تدري كنهه.

فتحت دفتر كتاباتها تقرأ لـ«ميلي» ما كتبت عن «شيكو»:

ناديت عليه: حبيبي.. متمكن أنتَ من الروح، حبك عشق يغلفني، وردة زاهية بحمرة الشمس الحارقة في ظهر أيام أغسطس، مُبعِد بِحُرقة الموت لكل من يفكر في الاقتراب سواك.

بهدوء وثقة أجاب: وكيف يكون عشق الروح يا أنتِ؟ أتلهينني بكلماتك الكبيرة؟ أنتِ.. السهر والدلال.. العشق والهيام.. الوجد والغرام.

ثم أضاف أني جمال وضياء شبابه.. ريحان ونرجس أيامه.. زهرة وقرنفلة عمره.. وزاد أنه الحياة وأني ماؤها، فأنا عشق وشغف لياليه، فجر ضحكته وبسمة نهاره، حبي.. أنتِ بعضي وكلي.. مني كل التمني.. في لحن الأغاني.. حبي منكِ وإليكِ.. دنيا فرح خطفتني.. من كل الأماني، أنتِ مصير مكتوب أتمناه، أنتِ.. أنا.. يا نبض قلبي، أقولها.. حبيبتي أنتِ.. سكر حياتي، شهد أحلامي، عسل ذكرياتي، خيالي الجميل، ملاك أنا شيطانُه، لكِ دون سواكِ أنا.

أظهرت الثقة وأنا أجيبه: حبيبي.. أنا طاووس مغرور بزهو، بفضل حبك وهواك، فاحتوِ قلبي واحنُ عليَّ، يا من تعشق كل ما هو قاسٍ جاف معي، أشعرني بوجودك كرجل شرقي في حياتي، فأنا لا أهوى الغرباء.

سخر مني ولكنه شجَّعني بعدها بكلمات من نور؛ طمأنني بقوله: أتهذين؟ أثق بك، فاذهبي تعرفي، اقتربي، انطلقي في الدنيا لتصيري كاتبة شهيرة...

قاطعته: حبيبي.. سأتنازل عن مغريات الحياة وأعيش بحبك أنت، بقربك وبأحضانك، لا أريد غيرك، فضم قلبي بهواك، لِمَ تأتي أوقات فراغك كأني آخر اهتماماتك؟ ألستُ شريك هواك؟

قاطعتها صديقتها بحماسة زائدة: وماذا قال «رونا»؟

زفرتْ بضيقٍ قبل أن تكمل بثقة: قال: أعلم أني كثيرًا ما أقسو على عاشقتي الأثيرة، لكن أنتِ الغالية فاعذريني، حياتي ترهقني، قاطعته ثانية بعد أن أغاظني؛ حبيبي.. تعب قلبي من كثرة نكثك لما وعدت وتعد به، أحبيبتك أنا أم فتاة تلعب وتلهو معها؟ أشعرني بوجودي بحياتك، ولا تعاملني بذنب مَن سبقوني ممن جرحوا قلبك الصافي.

زفر بغضب، وهو ممتعض يُخرج كلماته بنفاد صبر: يسوؤني سوء ظنك وعدم ثقتك، لِمَ توقُّع السوء؟ أتعتقدين أني أوهمك بالحب لأؤذيكِ؟

كان عليَّ التصرف سريعًا ومحاولة ترضيته فتبسمت وقلت له: أغار وأجن من تصرفاتك مع الأخريات، فلِمَ لا تراعي قلبًا يعشقك؟! لِمَ تحن لحب سابق خذلك وتصر على متابعة أخباره حتى مني أنا؟! حبيبي.. أنت لا تهواني ولا تعشقني.

قاطعتها ثانية: «يا للوقاحة! بالتأكيد ظَنَّكِ مجنونة».

- نعم قاطعني: مجنونة أنتِ كعادتك.. ولن أجيبك.. كم أتمنى لو تتوقفين عن التفكير بتفاصيل غريبة!

أشرت بأصابعي لأسكته: حبيبي.. تظلمني وتهينني بالبقاء بحياتي حبًّا مخفيًّا بأستار ظلام الليل، وقلبي المسكين يهواك رغم نكرانك لحبي أمام الجميع، كم يرهقني خذلانك وأتمنى لو أكرهك قليلًا! لكنه أثار حنقي وهو يبرر أفعاله بسماجة، متفاخرًا وهو يجيب: أنتِ حبيبتي، فأنتِ من تثيرين خيالي وإلهامي، فاعذري غدري، أحبكِ وأحب غيركِ.

أوقفته ليفكر فيما يخبرني: حبيبي.. لمَ أحب شخصًا لا يملك أي صفة لتحب وأثبت أنه نقطة ضعف بحياتي ويهوى تعذيبي؟! ابتعد لأفيق من هوى خداع وكاذب القسمات والتكوين منذ بدء مولده.

أصر على ما يهرطق به مكملًا: استوعبي موقفي، أنتِ حبيبتي رغم قسوة كلماتك، عندما قلت له إنه هكذا قتلني أجاب: تتوهمين، أخبريني كيف تريدين حبي إذًا؟! حاولت جعله يستوعب أنني أريد أشياء بسيطة..

أخبرته: يا حبيبي.. مطلوب الآتي يا سر حناني: قرب وهدوء يلامسان كياني.. تودع وتهجر معي كل أحزاني.. يكون حبُّك متدفقًا وعشقك مُغرقًا، عاشق بخيال الفرسان، بالبراءة تملؤني.. شقاوتك تغمرني وتكون مرساة لأماني..

حبك جارف يُغرق حيائي وسكوني، موت وغرام يستعمران حياتي وجمالي.. تصرفات حمقاء لعاشق بالدنيا لا يبالي، من أجلي.. تحيا أسيرًا أيامًا وليالي، قائدًا لجيوشي وفارس أحلامي، بحارًا تبحث عن كنوز عشقي، مزارعًا تسقي زهور هيامي، أشرعتك حريرية تستوطن جزر غرامي، سجل هذا.. ووافِني بحالك بجواري.

انطلقت «ميلي» صارخة فجأة: آه «روني».. «رون».. حبيبتي «رونا».. لقد فهمت الآن، أنتِ تفتقدين الحب في حياتك؛ لذا تتصرفين بهذه الغرابة والقتامة.. راجعي ما نسجته من كلمات لتفهمي مثلي، أفسحي لقلبك المجال، يمكنني أن أُعرفك على صديق جديد.. «جو»، صديق أخي «ميرو»، أنهى دراسة علوم تجارية معنا بالجامعة، وحاليًّا يكمل دراساته العليا مثلنا.. هاه، ما رأيك؟!

- يوووه «ميلي».. ابتعدي عني، مللت من تنقُّلنا بين الأصدقاء هكذا، لا أعلم لِمَ أنا بالذات تفشل جميع علاقاتي.. لم أعد أملك في حياتي شيئًا مثيرًا غيركِ أنتِ وقلمي. صديقتي.. أتمنى مقابلة شخصية مثيرة تُنعش حياتي.

- أتتمنين لقاء «أوباما» أم «فرانك سيناترا»؟ لا تضربيني هكذا.. تؤلمني مخدتك تلك..

لتصدح الحجرة بصوت ضحكاتهما الصافية؛ حيث تضاربتا مزحًا، توقفت «رونا» فجأة لتقول: أريد مقابلة «دراكولا» أو «بات مان» أو «سوبر مان»، أي شخصية خارقة أحقق معها طموحاتي.

لا.. «دراكو» هو الوحيد القادر على منحي كل ما أريد، هو ذاك الشخص هاوي الحسناوات، يمنحهن السلطة والقوة والمستحيل.. يغني لكل جميلة أغنية تناسبها..

يا غيداء القد، أنا رجل هاوٍ للحسناوات، أعشق مغازلة الصبايا الجميلات، فاحترسي.. يا مالكة أشهى وأنقى الوجنات، اقتربي لأختصر معك الغزوات، يا شهية هلمِّي..

فالسوداوان عيناكِ مغريتان، قسماتك تعلنك عربية، أسرتني لهجتك الشرقية، ففيك تلك الأنفة البهية، وتأثيرك أقوى يا عالية، فطباعك بريئة حانية، يا صبوحة الوجه، عن غيرك عيناي مغمضتان فلِمَ دومًا عني مختفية؟

لتصرخ «ميلي»: ماذا؟! هل جُننتِ «رودينا»؟! بالتأكيد أنتِ جُننتِ!! آه يا ربي..

«رونا»: أبدًا لم يحدث.

وانتفضت واقفةً تُكمل تخيل ما يمكنه منحي: الخلود، التنقل بخفاء، العشق الناري، التحكم والسيطرة، القوة المطلقة، بالإضافة إلى خبرة قرون بمجرد عضة رقبتي.

وأشارت إلى المكان بأصابعها الرقيقة: تنتقل إليَّ كل خبراته وأحاسيسه؛ صحيح أرتعب لمجرد فكرة رؤيته، ولكن لمَ لا؟!

قد كنت أخاف أشياء كثيرة حدثت في حياتي، فتغيرت شخصيتي للأفضل..

تخيلي معي «ميلي»..

آه «ميلي».. أتدرين؟!

ما خِفتُ شيئًا إلا وتعثرت به، خِفتُ ذُلَّ الأيام، فأشقتني مرارًا بكأس تجرعتها.. خِفتُ الخيانة والخداع، فرُزقت بهما فيمن أأتمنه، خِفتُ ضياع الأهل، فمر شريط ذكريات كُنتُ قد نسيتُه، خِفتُ وداع الخلان، فهجرت أغلب من أحببته، خِفتُ الفراق، فكفَّنت واحدًا تلو الآخر ودفنته..

حتى في عالم الخيال.. خِفتُ الحُب وتجنبت طَرِيقه، لكن التقيته، خِفتُ العشق وآلامه، فاستيقظت مرتمية بأحضانه، خِفتُ الانفصال عن قلمي، لكن أهملته فأضعته، خِفتُ مُفارقة مُلهِمي، فتُركت أهذي مخبولة وحيدة..

خِفتُ الوحدة والجفاء، فوجدتني بصحرائي شريدة.. خِفتُ الهواجس، والساحرات، خِفتُ الخوارق، والبراكين، خِفتُ الأشباح، والطواغيت، خِفتُ الجحيم، والسنين، خِفتُ البشر الملاعين، خِفتُ الجميع، الحيوانات والطيور وكل ما يسير على أربع أو حتى يزحف، عشت وحيدة، لكنني.. التقيت الجميع.

امتعضت أسارير صديقتها قبل أن تخرج ما في جعبة كلماتها:

- حبيبتي.. «دراكولا» خاصتك ينطبق عليه قول الشاعر:

يا شاعر الحب يا جوالًا بالطرقات، يا راقصًا على أوتار كلمات الأحياء، منك ستضيع الأيام كما تتركك الأهواء، ستظل تبحث عن حب تتنفسه هواءً، ستبعد عنك شمس الحب دون عناء، يا من يعيش مزهوًّا بحب أبيات وكتابات، وأنت مجرد شرفة تطل منها الحلوات والفاتنات، تزخرفهن بعالم ساحر زاهٍ له منجذبات، بحارك نقش أظافر بمعزوفة الجميلات، يا شاعرًا متقوقعًا بالأصداف واللؤلؤات، أمواجك عاتية وجوفك صارخ بالنبوءات، حبك جارف ساحق لكنك تبقى مجرد كلمات جوفاء، فابتعد قليلًا، ما لك أنت وعالم الملكات؟!

- لا تقولي على حبيبي هكذا من فضلك «ميلي» (متصنعة الحزن، راسمة تكشيرة كبيرة على وجهها).

- حسنًا.. حسنًا.. سأترككِ الآن، فقد يأتي حبيبك هذا ويلتهمك الآن.. قد ننتهي وقتها منك ومن هذا الأمر..

- حسنًا.. اذهبي وتعال أنتَ حبيبي، أُريدك..

أريد أن أذوب فيك، أنصهر بك، أتعشق معكَ، أتوحد بشغفكَ، أتفتت منكَ، أريد أن أصير وجعكَ؛ جوعكَ وعطشكَ، فامنحني عشقك. تعالَ؛ أريد التبخُّر بين أنفاسكَ، التعمق داخل شرايينكَ، الاشتعال بردًا بحرارتكَ، الانسجام مع ذراتكَ، التنفس من خلالكَ، الابتسام عبر ثغركَ، الهيام في دنيا عشقكَ.

أشتهي الخلود بصدركَ، حرقك بنيران اشتياقي، استباحة قوتك، عجنك بخبز حبي، السباحة في أنهار حنانك، أريد التهام أنَّات همساتكَ، اعتناق مذهب هواكَ، أسيرة أنا لترويضكَ.. فأسكرني بقسوتكَ، يا عشقي تلهث همساتي صرعى قُبلاتكَ، فليغنِّ كل ما فيكَ لتبعثرني ضماتكَ، وتحتويني همساتكَ حياةً، أحبكَ، أهواكَ، أعشقكَ، شغفي بكَ عنوان لعمري وعمركَ، كلماتي كلها عنكَ وإليكَ، أنتَ تشكلني أنثى؛ عاشقة لضيائكَ، ليفنى عالمي بعالمكَ؛ فاقتلني عشقًا وغرامًا.

سألتها «ميلي» بفضول يشوبه الخبث:

- ماذا لو خانكِ بتعدد عشيقاته «رونا»؟ ماذا ستقولين له؟!

فزعت «رونا» رافضةً الفكرة بتحريك رأسها لليمين واليسار، وبحدة أجابتها: الكونت لا يخون.. وفرضًا إن حدث، سأصرخ فيه: همست صارخة في شرايينكَ، ما أشهاك وأنتَ مستعمر كل تكويني حتى في أحلام يقظتي، يسلبني لبي عطرُك السفاح، تغتال أنفاسك هدوئي وسكناتي، تطوي كل مسامي بهمس بحار يجوب بحار العالم بتأني مركب غرق مجدافه، طار شراعه لينضم لعشيقته، نجمة تتوسط السماء، أعلم أنكَ تراني الفُضلى لكني أُخبركَ أنه أنتَ؛ يا سر قوتي وضعفي، دومًا تعلم ما أُعاني ولِمَ، تتقرب لعلكَ تُنسيني واقعنا الحالي حتى مللت الواقع وحالي، والآن معي تُعاني فلا داعي، لا داعي ليُعاني كلانا، يكفي أنا، لأجلي وأجل أحبابك كُن بخير، حبيبي الساهر لا تبتئس، ليت الواقع كما الخيال باليد يُنسج، بمعسول الحديث وحرارة الكلمات يُرسم كما نراه؛ لا سراب كلما اقتربنا؛ فر بعيدًا مقهقهًا، صارخ فينا وداعًا أيها العشاق الساهون عن الحياة وواقعها.

بالتأكيد سيفعل كما فعل «شيكو»..

بشَّت «ميلي» واعتدلت في جلستها قبل أن تكمل: أخبريني باقي حكايتك معه.

أغمضت عينيها وظهر الامتعاض على ملامحها قبل أن تترجم ما بداخلها إلى كلمات:

أرسل نظرات باردة بلا ملامح، أتذكر وقتها شاخت الكلمات قبل أن ينطقها فكُفِّنت داخله، ذابت موسيقى لمساته بين أوتاره المُتصلبة فاستبيحت أوصالها بفتور، ضاعت لغة حوارنا المشتركة، حتى الصمت بات باردًا بلا ملامح، غير موصل لحرارة النبضات، ولا قرع طبول القلب ودقاته، بتُّ أحتاج لمن يفهمني لا من يصرعني زجرًا؛ ولا من ينتهز الفرص لينقض ما بُني بقلبي، ذات حزن ودمعة طلبت منه ألَّا يُفجعني فيه كرهًا أو احتقارًا فمضى هازئًا، وها نحن الآن على أعتاب الاثنين نترنح.

ما بين همسة وبسمة كان الوداع، أهملني لتسرقني منه الشكوك، تحتضنني سوء الظنون، تضُمني بقوة أقبح الأفكار، تخذلني قُبلة عشق موءودة، تحرق قلبي همسة شغف مسلوبة، تسحلني على رصيف ذكريات غير مُعبَّد لمسات مفقودة، أهملني فأهملَتْني ذاتي وبتُّ مقهورة، لأهيم في شوارع الغدر مكشوفة الروح، عارية الحب، مكسورة الفؤاد، ذليلة الجسد، مسجَّاة بين الرمال، تُغطيني أمواج البحر، مستباحة الدماء في نظر النجوم.

انطلقت «ميلي» تصرخ فيها: يا لسخافته..! فأوقفتها «رونا» قائلة: دعيني أكمل. قلت: حبيبي.. ملَّ الضجر منا ومن شِبَاكِ جراحنا المتلاحمة، وأوشك أن ينتحر على سراب الفرح، فترك الجسد المنهك ليغتسل بماء منحدر من العين في ليالي الوجع، ثم يتسربل بحشايا الهجر وأثوابٍ بالآهات نسجتها يد الوضاعة، في غفلة من عشق كان منهمرًا فصار جرحًا لا يندمل.

نحن ضحايا أنفسنا حبيبي، فلا تلُم أحدنا، عشقت كل ما فيك يوم كنت المُضحِّي، المُقاتِل كي يعيش، يوم كنت العاشق للبراءة، البسمة الحانية تغطي كل مآسيك، تُخان فتعالج الخائن بنظرة، تُقهر فتجتاز المستحيل بصبر.

تراني الملكة والمليكة، الأم والابنة، النفس والروح، الأولى والأخيرة، يوم كُنت تعيش الحياة لا الحياة ما تعيشك، والآن قد اختفى هذا وبقي المجاهد في سبيل الهائمات؛ الثيِّبات، الخاضعات بعذرية العشق، خلف ستار الكلمات المنغَّمات المُتبادَلة بينكم، يا وجعي.. بل يا وجعكَ؛ عصفوراتك كلهن احترفن فن البوح بالكلمات؛ يا لوجعهن! أسمعني العشق في رَحِمِه الكُره مُستكينًا بانتظار لمحة اشتعاله، والعند يولد الكُفر؛ فاحذرني.

بُهتت «ميلي» وحاولت الاستفسار: ماذا؟ هل ستتمنين له السعادة وتودعينه فقط؟!

- الآن نعم، لكنني لا أعلم غدًا ماذا سيكون رأيي وقراري فيما سألتِ عنه؛ فأنا كاتبة مُتقلبة الأحوال.

- الكتابة وجع، وأنتِ عاشقة للكتابة والوجع.

- بل أنا عاشقة لأي شيء وكل شيء، وللوجع عنوان يسكنه العشق، يجمع الكاتبُ أجزاءهما بترقب القط ودهائه؛ فالكاتب خليط من روح يحفها الجنون ومس خفيف، وقلب يلهب مجونه الخيال، بغلاف حماية عين العقل، الكاتب متورط جدًّا في كل شيء، هارب بجد من أي شيء، على حافة الأشياء يعيش، مختنق بالأشياء، لاهٍ عن الأشياء، غائص حتى أذنيه بين الكلمات، عازف بالكلمات لا عليها.

قاطعتها صديقتها للمرة المائة قائلة: مقتنعة ألَّا أحد يستحق الكره ولا الحب، وعلى الجميع الحياة على حافتيهما ليموتوا بسلام، وإلا فليعشقوا الحياة ويختاروا أحدهما، لا داعي لأن يحيا العقلُ والقلبُ الخيالَ، لأنه مطلب يضاهي طلب إبليس للجنة، عليهم تصنُّع السعادة، فقد يسعدون بل سوف يسعدون.

ابتسمت «رونا» في شقاوة بعدما أعجبها رأي صديقتها، وأضافت: نعم، عليهم البحث عن عشق بلا منتهى يحتويهم، على كل إنسان البحث عمَّن يُغنِّي له مثلي:

حبك وردة نبتت بجوهرة قلبي ذات بسمة، زاد ضياءَه شمعةُ ودك، نقته دموع السماء، عفريتتك الرعناء أنا، بل ربما طفلتك البكر، فهل مني تغضب؟! تعالَ ففي شعاب قلبي وزعت صك أمانك، هيا اقترب، فأنا أُغالب نفسي كي لا أكون نرجس حياتك، وأقتل كل من يقترب، ضمني يا من همستك بوصلتي الصباحية، بسمتك وردة صباحي، لمستك ميقات إشراق فجر صباح جديد في عمري.

من تمدحه بجزيل الكَلِم، تصدح مُغنية، قبل اشتهاء الكلام، وقبل الأغاني ودق المعازف، قبل صدح ملكات مستعبدة للجواري لإغراء الملوك، قبل الصمت بين أمواج الكلام بمد من غير احتباس، قبل جذر أخلاق وخلق وانفجار آبار الخجل، قبل الحياة وضحكة الأمل في عيني شاب قُتل بلا ثمن، قبل صرخة الميلاد لطفل شارع وصراخ نعش ضم قاتلًا سابقه القتيل، قبل الحروب ودمار النفوس خلخال طمع العشائر، قبل السيوف ودموع دماء البنادق واحتراق الخدود، قبل ندم أشعل نيران الفراق أعمدة بحيطان الجسد، عشقتك ودمع قلبي ودَّعك بروح سكنها الخفوت.

وقفت «ميلي» لثوانٍ ثم عادت لتجلس بجوار «رونا» قائلة: علينا تحذيره من اللعب معنا نحن الفتيات وإلا ضاع.

ضمت «رونا» شفتيها كما البطة، وعقدت ساعديها على صدرها، حركت رأسها علامة الموافقة وأكملت:

- لديكِ حق لنزيد، يا هذا حاذر من الاقتراب ممن يتوجعن؛ فهن فراشات تتلظى على نيران بريق أمان خداع، أنهى عذابهن سكين برودة الأفعال، أفاقهن من السراب مطر خيانة يدندن بلا انتباه، ففروا ملحدات بقوانين الشعر والألحان؛ فالأشعار كلمات تبتز البراءة والخيال لتسجل هدفًا في مرمى غاويات لاهيات اشترين بالسمينِ الغثَّ، آملاتٍ في المصالحة مع الحياة، مظنة أن العشق يرجح كفة الميزان، صارخات: أيا أوجاعًا للقلب صائدة، رفقًا فالنفس منك أوشكت على القتل، والروح تنوح لتصعد إلى بارئها ربما ترتاح، توبي يا عاشقة عن أناتك، فلا رفيق أو حبيب يلزمه النصح المبين.

هن ثيبات وأبكار، ينُحنَ فاردات الشعور تطوِّحها رياح الحقد، من قال إن القاتل متجهم كالبوم، أسود كالغراب، قادم متستر بليل بهيم والقمر محاق في كبد السماء غريق؟! القاتل نسمة عابرة فحيحها الياسمين، طلقته سكين من رياحين، بسمته السحر المبين، وبنيانه يهز عرش السلاطين، لمساته من تراتيل شعوذة المنجمين، بنظرة تشفي القلب العليل لتسلمه لمنكر ونكير في غمضة بلا زفير، لا تكن ذئبًا خسيسًا.

همَّتْ تتحدث بلهفة صديقتها مقاطعة: لا «رونا»، لم يأكل الذئبُ يوسفَ، بل كان إخوته من نهبوا أمانه، الذئب بشر لا إنسان أعجم؛ ضحكت الفتاة حتى دمعت عيناها، قبل أن تهدأ وتكمل:

- أوه صحيح، أسوأ ما يمكنه إيلامك صديقتي أن يوقظك أحدهم بحدة عن طريق ضربة موجعة، هامسًا بعتب المضطر لنصحك قائلًا؛ كف عن الأوهام، فما أنا لك إلا سراب، وها هي قد لملمت الشمس أشرعتها ورحلت حاملة معها سرابك الحبيب، ليطل عليكَ الكاتب ناصحًا في النهاية:

افرح وابتسم، حاول أن تحيا بثبات، العمر يمضي، وفي لحظة تجد الكفن عليك مفرودًا، ستغطيك الصحراء لتلتهم قلبك في صمت، لن تشفع دقات القلب ولا نبضاته ثانية لتفك أسر الروح لتنهل من براح الغد، فقد فات الأوان.

أتعلمين «ميلي»؟ أعتقد أن على كل كاتب الاعتراف بأنه إنسان مجنون مثلي، عليه أن يصرح للجميع بحقيقته:

أنا الساكن في الاتجاه الآخر للحياة، النابض بالموت، دمائي سم زعاف، روحي غراب نقار، عيناي بومة خائنة، جسدي أرض تسكنها الحيَّات، أنفاسي لهيب من جوف السعير، فأنا الحي الملعون، الميت المأهول بالنبضات، العاقل المجنون، الحي المدفون، الميت الطليق، كما أنني غضب شيطان مارق، وربما شيطان طيب، أنا ملاك في زي إنسان.. بالاختصار: قد أكون ملاكًا شريرًا يُدعى «إنجيل»، أي: الملاك الشيطان.

- وهل تدركين أنك هذا الإنسان البائس الذي تحكين عنه؟!

- لئيمة.

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

332 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع