الرادرجي وحيدا .. في سيارة معطلة .. على طريق مهجور ..
و وجبة ريفية من الفطير المشلتت .. لم تكن على البال .. أو الخاطر .!.
و ... يعيش أهل بلدي ... يعيش .. يعيش .. يعيش ..!.
( حكاية طويلة حبتين .. لكن مسلية .!.) . ( فقرة من كتاب نوتة الرادرجي ) .
الزمان .. أوائل عام 1972 .. و المكان .. طريق فرعي مجهول .. في دلتا مصر ...
في ذلك الوقت .. كانت كتيبتي .. في مرحلة .. تحريك كتائب الصواريخ البتشورا .. من جنوب الصعيد .. إلى وسط الدلتا .. تمهيدا لدفعها إلى جبهة قناة السويس ..
وفي يوم قارص البرودة .. وكنا قد انتقلنا إلى موقع بالقرب من المنصورة .. و قد أتممنا تجهيز الكتيبة .. وعملنا لمدة يوم ونصف .. بدون أي توقف .. أو أي راحة .. ، كانت نوبتجية محطتي تنتهي في الساعة التاسعة صباحا .. وكنت أتمنى أن احصل على قسط بسيط من النوم أو الراحة .. حين استدعاني قائد الكتيبة .. إلى دشمة القيادة ..
قال .. محطة الرادار بتاعت زميلك ( فلان ) .. عطلانه .. ومطلوب منك .. تروح تساعده ..
قلت .. يا افندم .. أنا تعبان .. 36 ساعة .. واقف على رجلي .. ومن حقي بعض الراحة ..
قال .. كلنا تعبانين .. وبعدين زميلك .. دماغه قفشت .!. ومش عارف يظبط محطته ..
قلت .. يا فندم .. زميلي ده .. دماغه .. قافشه على طول .!. وما ذنبي .. لكي اعمل شغله.. إحنا اتخرجنا في نفس الوقت .. دخلنا كلية ضباط الاحتياط في نفس الوقت .. أخدنا فرقة الرادار مع بعض وهوه أول ما يكون عنده عطل .. دماغه بتقفش .. على طول .. زائد أن الإصلاح من مسئولية الرائد (محمود ) .. هوه ضابط إصلاح رادارات الفرقة ..
قال .. الرائد محمود .. قدامه أربع ساعات .. علشان يوصل للموقع .. أنت ممكن توصل في ساعة .. والعطل ياخد منك .. اقل من ساعة .. وترجع بالسلامة .. في حين أن الرائد محمود .. حيكون .. لسه في الطريق .. زائد أن محطتك حا تفضل شغالة .. لغاية لما محطة زميلك تتصلح ..
احتكم الأمر .. ولا مفر .. .. وصلت سيارة من سرية النقل التابعة للقيادة .. لنوصيلي إلى موقع زميلي .. كانت سيارة نقل ثقيل .. موديل كراز 214 .. متهالكة .. أكل عليها الدهر وشرب ..!.
راحت السيارة تسير و تترجرج .. حتى وصلت إلى موقع زميلي ..
قابلني رئيس العمليات .. وكنا نعرف بعضنا .. من أيام ما كنا في الصعيد .. رحب بي .. وقلت له .. من فضلك يا أفندم مش عايز أشوف زميلي ( فلان ) .. أحسن أفرغ في دماغه اللى قافشه .. دفعة رشاش .!. يمكن .. تفك و تشتغل .. ابتسم الرجل .. وقال .. هوه راقد تعبان .. والبركة فيك .. ذهبت الى المحطة .. ورحب بي الطاقم ..
كان العطل ..( ميستيون ) .. فقد اختل التوليف بين المرسل و المستقبل .. وحين حاول الزميل إعادة توليفها .. تحرك بالتوليف في الاتجاه العكسي .. فأضاع التوليف نهائيا ..
خلال نصف ساعة .. تمكنت من إعادة توليف المحطة .. وكان بجواري بعض الضباط من الزملاء .. ثم طلبت من رئيس العمليات الانصراف .. ، بينما طلب مني الضباط ..أن أتناول معهم طعام الغداء في الميس .. ،
قلت لرئيس العمليات .. يا أفندم .. مش عايز حاجة .. غير أني ارجع كتيبتي .. اناااام ..انااااام .!. فسمح لي بالانصراف .. بعد أن أعطي التمام للقيادة ..
انطلقت بالسيارة عائدا إلى كتيبتي .. ثم خطر على بال السائق المتفلسف .. أن يسير في طريق فرعي صغير .. ظنا منه أن ذلك يختصر المسافة .. كان طريقا فرعيا غير ممهد .. وكانت السيارة ترتج و تترجرج .. وبعد أن سرنا فيه لفترة .. إذا بصوت انفجار قوي .. ثم توقفت السيارة .. نزلت من السيارة لاستطلاع الأمر .. كان خرطوم الهواء لفرامل العجلة الأمامية اليمني ,, قد انفجر .. وفرغ خزان الهواء .. فتوقفت السيارة ..بحث السائق حوله على الأرض .. عن قطعة من الخشب .. وهذبها بالمطواة .. وحشرها في مدخل خرطوم الهواء .. وراح يدق عليها بحجر .. ولو تمكن من غلق هذا المدخل .. فيمكن للسيارة أن تسير .. ولكن عند استخدام الفرامل .. سوف تنحرف السيارة إلى اليسار .. مش مهم .. ممكن أن نسير بسرعة بطيئة حتى نصل إلى مكان مأهول .. وبعدها نتصرف ..
ادار السائق موتور السيارة .. وقبل أن يمتلئ خزان الهواء .. اندفعت قطعة الخشب من مخرج خرطوم الهواء .. مثل الرصاصة .. ولم تفلح هذه العملية ..
كان الطريق خاليا تماما وسط الحقول الزراعية .. ويخلو من المارة ..أو أي نوع من الحياة .. واقرب منزل كان على مسافة سبعين متر ..
قلت للسائق .. ارجع بالخطوة السريعة .. لغاية آخر نقطة شرطة عسكرية .. عدينا عليها .. أو أقرب وحدة عسكرية .. وأطلب نجدة من عندهم ..
صعدت إلى كابينة السيارة وأغلقت الزجاج .. ورحت أغفو .. ثم استيقظت على صوت طرق على زجاج السيارة .. نظرت وجدت رجلا عجوزا عليه إمارات الوقار و الهيبة .. يرتدي الملابس الريفية وفوقها عباءة .. وهو يطرق على زجاج السيارة .. بالعصا التي كان يحملها في يده .. فقدرت إنه قد يكون عمدة القرية .. نزلت إليه من السيارة المرتفعة .. قلت له .. .. فيه حاجة يا آبا الحاج ..؟!.
قال .. يا حضرت الظابط .. من تلات ساعات و العربية واقفه .. مش محتاج أي مساعدة ..؟.
قلت .. تشكر يا آبا الحاج .. العربية عطلانه .. وأنا أرسلت السواق .. يطلب نجده ..
قال .. طيب كل لك لقمة .. على ما قسم يا أبني ..
نظرت .. فوجدت بجواره صبية .. تحمل صينية نحاسية مغطاة بالشاش الأبيض .. لم ادري ماذا أقول .. شكرت الرجل بكلمات مرتبكة .. وحملت الصينية وصعدت إلى السيارة .. ورفعت الشاش .. وجدت .. نصف فطيرة مشلتته مطوية و من الحجم العائلي الكبير .!. وطبق من الصاج به بعض الجبنه القديمة .. وثمرتان من الطماطم ..!. وكوز كبير من الماء .. كانت الفطيرة دافئة .. ويسيل منها الزبدة الفلاحي وشهية .. يدرجة لا تصدق .!.
أكلت .. وحمدت الله على نعمته .. وأخذت أفكر .. لقد فقدت أحساسي بالزمان و المكان نهائيا .. من الإجهاد و التعب .. أين أنا الآن .. أنا على طريق فرعي غير ممهد .. وغير مطروق .. في طريقي إلى المنصورة .. ولا ادري .. هل تجاوزنا مدينة المحلة الكبرى .. أم لا .؟. وهل نحن بجوار مدينة السنطه .. هذه المدينة .. التي ولد بها جدي و أجداده .. وعاش بها جدي .. وأنجب عمي و والدي و عماتي .. وما سر الارتياح الغريب الذي شعرت به .. نحو هذا الرجل العجوز .. لعلة عمدة القرية التي تعطلت السيارة بقربها .. إنه يشبه جدي و والدي وعمي .. أأكون بجوار هذه المدينة .. مسقط رأس عائلة أبي و جدي .. أني لم ازور هذه المدينة .. في حياتي من قبل ..هل تجمعنا رابطة الدم .. وأنا لا أدري .. وهل فعلا .. الدم .. يحن إلى الدم ..؟.
أفقت من تأملاتي .. على وصول السائق المتفلسف .. وهو يلهث .. ويحمل خرطوم هواء جديد .. وبعد أن التقط أنفاسه .. اتجه إلى مقدمة السيارة ,, لكي يخلع الخرطوم القديم .. ويركب الجديد .. ، ولكنه التفت إلى قائلا .. لكن يا فندم .. العربية .. ما فيهاش صندوق عدة ..!.
صحت فيه .. بالذمة .. فيه سواق يطلع بعربيه .. من غير ما يكون معاه صندوق عده .؟.
قال .. يا افندم .. انا كنت متعين سواق نبطشي .. وقائد سرية النقل .. قال لي أطلع المأمورية .. بالعربية دي .. وأنا طلعت ..!.
قلت له .. يخرب بيتك .. على بيت قائد سرية النقل بتاعتك .. في يوم واحد .!.
كان قد تجمع حولنا بعض الشباب و الصبية من القرية .. فتدخل احد الشباب قائلا .. يا حضرة الظابط فيه جنبنا هنا ميكانيكي .. ممكن نروح نجيب لسعادتك .. اللي أنت عايزه ..
إن إيقاع الحياة .. في الريف .. متأني .. وغير متسرع .. بخلاف ايقاع الحياة في المدينة .. وأبناء الريف لديهم .. الكثير من الأناة و الحلم .. بخلاف المتصربعين .!. أمثالي من سكان المدن .. وعبارة " فيه ميكانيكي جنبنا ".. معناها .. إنه يبعد نصف ساعة على الأقل عن هذه القرية .!.
قلت للسائق .. روح معاهم بالخطوة السريعة .. هات طقم مفاتيح بلدي .. ومفتاح فرنساوي .. على سبيل الاحتياط .. ، وراح السائق ومعه بعض شباب القرية .. في مظاهرة حاشدة .!. لإحضار العدة المطلوبة ..
رحت أتمشى حول السيارة .. محاولا اكتشاف المكان .. ولاحظت أن بعض الصبية من شباب المدارس .. يتهامسون .. ويشيرون إلى الرشاش الكلاشينكوف الذي احمله ..
ابتسمت .. وقلت لهم .. بكره .. لما تخلصوا تعليمكم .. وتدخلوا الجيش .. حا يبقى معاكم رشاش .. زي اللي معايا ..!.
رحت افكر ثانية .. عن الظروف التي أوصلتني الى هذا المكان .. فكرت أن اسأل الشباب " هيه السنطة .. بعيدة عن هنا .." ، ولكني تراجعت .. حتى لا أبدو جاهلا في نظرهم ..!.
....... ووصل السائق الفيلسوف .. ومعه العدة اللازمة.. وتم تركيب الخرطوم الجديد .. وانطلقنا بالسيارة ..
وصلت إلى كتيبتي .. بعد الغروب .!.. دخلت إلى رئيس العمليات .. وأديت له التحية العسكرية .. ووضعت أمامه خرطوم الفرامل المنفجر ..
قال .. أتأخرت ليه .. يا حضرة الظابط سامح .. إحنا كنا قلقانين عليك .. وعمالين نسأل عليك في المستشفيات و الوحدات الصحية .. قلنا يمكن يكون تعب .. والسواق وداه عيادة .. أو مستشفي .. , شرحت له الموضوع بإختصار .. وختمته قائلا .. " يا افندم .. ده لو سرية النقل .. بتنقل شوال فول .. والا شوال عدس .. كانت طلعت له عربية .. أحسن من اللي كانت معايا ..!.
تدخل أحد الزملاء مداعبا .. لتلطيف الجو قائلا .. " وإحنا ما نعرفش نعيش .. من غير الفول و العدس ..!. " .
وقال آخر .. " كنا حنطلع عليك المنادي .. في العزب و الكفور اللى جنبنا .. ينادي .. رادرجي .. تايه .. يا أولاد الحلال .." ..!.
قال رئيس العمليات .. أتفضل يا حضرة الظابط سامح .. روح الميس .. كل لك لقمة .. وأرتاح .. زي ما أنت عايز ..
قلت .. يافندم .. أنا ارتحت .. ونمت .. وأكلت في السكة .. ومش محتاج حاجة ..
....................................................
وبعد أن انتهت مدة خدمتي العسكرية .. أرسلني صاحب الشركة التي كنت أعمل بها .. لمعاينة أحد المصانع المعطلة .. على وجه السرعة .. بالقرب من مدينة سمنود .. ومنحني سيارته الخاصة .. فولفو آخر موديل .. وبالتكييف .. وبسائقه الخاص .!. وقد فكرت .. أن ابحث عن هذه القرية .. لأني كنت بالقرب منها.. ولكن بعد أن انتهيت من العمل .. كنت قد نسيت كل شيء عن هذا الموضوع ..
.. ولكن هل صحيح أن الدم يحن ..!. اعتقد أن هذا القول .. صحيح .. بدون أدنى شك ..!.
مهندس سامح فرج . ( منقولة من كتاب نوتة الرادرجي ) .