إذا كان (فعل الكتابة لا يتم دون أن يصمت الكاتب) كما يقول (رولان بارت) فإن هذا الفعل أقرب ما يكون انطباقا على كتابة السيرة الذاتية.
ترجع بدايات هذا الأسلوب إلى (جالتون) في دراسته عن العباقرة التي نشرها في كتاب بعنوان (العبقرية الوراثية) و قد امتد الاهتمام بهذا الأسلوب من الكتابة حتى وقتنا الحالي، و لكن بأشكال و مناهج مختلفة و مثال ذلك الدراسات الحديثة التي قدمها (هوارد جريبر) و (سارا دفيس) و غيرهم حول مجالات مختلفة من الإبداع الإنساني.
فالسيرة الذاتية تنبع إذا من القاموس الإنساني الذي يحوي في معظم لغات البشر كلمات تعبن عن الوحدة، و العزلة، و الانطواء، و التأمل و الاستبطان، و التفكير العقلي، والضمير و الوعي الفردي... الخ..
و مهما كان من أمر انشغال الإنسان بالعالم و بالآخرين فإنه لابد من أن تأتي عليه لحظة من الزمن يجد نفسه فيها في حوار مع نفسه.
و كتابة السيرة الذاتية تتم حينما يكون في مقدور كاتبها قطع صلته ـ إلى حين ـ بالبيئة الخارجية، لكي يختلي بنفسه و يجمع شتاتها، محاولا تملك زمامها، ليلم أطرافها و تناقضاتها في النص الأدبي الذي يتخذ صبغة السيرة الذاتية بين فنون القول المختلفة
و من هنا لابد من التمييز بين السيرة الذاتية و أشكال أدبية أخرى عبارة عن نصوص خاصة بالكشف عن الذات المرتبطة بها ارتباطا وثيقا و هي اليوميات و المفكرة اليومية و المذكرات.
و كل هذه الأنواع المذكورة قد تختلط و تمتزج ببعضها لتحقيق استعراض كامل لحياة الكاتب أو لجزء منها و مثال ذلك رواية خاصة شخصية للسنوات الأربع التي قضاها في سجن سيبريا تنفيذا لعقوبة وقعت عليه.
و الدافع للسيرة الذاتية كثيرا ما يتم إرضاؤه لا في السيرة الذاتية فقط بل أيضا في عمل أدبي له أهمية شخصية أكثر من المعتاد و قصة (دافيد كوبرفيلد) هي إعادة إبداع واضحة لبواكير حياة المؤلف.
كذلك يجب التمييز بين السيرة الذاتية و السيرة الغيرية، فالسيرة الذاتي نقل مباشر لمعالم حياة الكاتب و قصته المتميزة بكل ما ينبض به قلبه من أحاسيس و عواطف و ما حصل له من أحداث متوخيا الموضوعية و الصدق و استبعاد الخيال.
أما السيرة الغيرية فهي عبارة عن ترجمة حياة الآخرين و كاتب هذه السيرة بالإضافة إلى وجوب توخي الموضوعية في نقل الأحداث عن طريق الشواهد و الشهادات و الوثائق، يلم الحقائق بأمانة و يفهم بإحكام و يصيغها بأسلوبه، بينما كاتب السيرة الذاتية يكون ذاتيا قبل كل شيء، ينظر إلى داخله و يسلط أضواء النقد و الملاحظة على شخصيته هو نفسه.
فمترجم غيره يقف موقف الشاهد لا القاضي بينما مترجم نفسه يجمع بينهما معا يقول (إحسان عباس): و (مثال هذا التقيد لا يمكن فرضه على من يترجم لنفسه فما يقوله يقبل على وجهه، و نتيجة لهذه الفروق تنبع السيرة الذاتية من الداخل متجهة نحو الخارج على عكس الاتجاه الذي تمشي فيه السيرة الغيرية، و نجاح من يكتب سيرة غيره، فيقاس بمقدار تجرده و غيرته) إن الأديب الذي يكتب سيرته الذاتية يحاول أن يكون صادقا مع نفسه، و حتى يكون كذلك، فإنه يتمرد على العالم الخارجي المحيط به و ينزوي بعيدا، متطلعا إلى ذلك العالم من بعيد، في أمان، يحرص على إيجاد نوع من الطمأنينة يقول (زكريا إبراهيم) (و نحن نميل إلى تحقيق دواتنا، و لكننا نحرص أيضا على الطمأنينة، و من هنا فإنا كثيرا ما نجد أنفسنا من حيث ندري أو لا ندري مضطرين إلى أن ننطوي على أنفسنا)
و هذا الانطواء هو الذي تناوله (كارل يونج) بإسهاب و الذي ليس سوى مظهر من مظاهر دفاع كاتب السيرة عن نفسه تجاه العالم الخارجي يقول (زكريا إبراهيم) أيضا ( فنحن نعيش في العالم و لكننا نخشاه، و نحن محبوسون في الخارج و لكننا نحن دائما إلى دفء الداخل ! ِن الداخل في نظرنا إنما يعني الحرارة و الطمأنينة و الأمن و الصدر الحنون، و من هنا فإذا كانا نحن إلى (الذات) فذلك لأننا نتحرق شوقا إلى صدر الأم)
إن هذا الجانب النفسي في السيرة الذاتية هو موضوع هذا البحث و من خلاله سأتمكن من الانتقال إلى المبحث الأول الذي أستعرض فيه للتحليل البيوغرافي و دوره و وظيفته في فهم النص الأدبي.
المبحث الأول: توظيف التحليل البيوغرافي في فهم النص الأدبي
اهتدى (فان بروكس)، و هو من النقاد المعاصرين إلى أن القضية الأساسية المسلم بها في النقد المعتمد على السيرة أن الخيوط الرئيسية التي تهدينا إلى إنتاج الأديب إنما توجد في دراسة حياته و ذاته و شخصيته.
و قد كتب بروكس يقوف في كتابه (أمركية تشب عن الطوق) ( أن الطريقة الوحيدة المثمرة هي دراسة الشخص نفسه.)
و بعد ذلك قام في كتابه (آراء ألوفر أومستون) بتوضيح ما يقصده بالإتجاه الشخصي في دراسة السيرة و ميزه عن الإتجاه العملي يقول:(أما هذه الحقائق (حقائق التحليل النفسي فما عادت أنفع من سواها، و تظل كل الحقائق عنه عديمة الجدوى حتى يأتي كاتب السيرة فيستوعبها و يتمثلها تحت ضوء من قدرته الحدسية الإستبصارية بكل ما يتمتع به من تحسس للحقيقة، و هذه القدرة أداة ذهنية تختلف عن الذكاء، وواقع الأمر أن الذكاء يشلها عن العمل، فليست العلل هي التي تهمنا في السيرة و إنما الشخصية نفسها، الشخصية التي تنتمي إلى المجال الأخلاقي، و هو مجال منفصل تماما عن مجال العلية، فإذا حاول أحد أن يتحول بالسيرة ِإلى علم، فذلك عبث لا طائل تحته كما هو الأمر في التاريخ)
و إن من أمتع النظريات عند بروكس ما صرح به في تكابه عن (جون إدننجتون سيموندر) حين يبرز أن اختيار الأديب لموضوعاته ليس أمرا عارضا, و أن الناقد يحاج أدباء بينه و بينهم وشائج خاصة، و أنم الإنتاج النقدي "فلتات لسانية" و "أنصاف اعترافات".
و لقد عرف التحليل البيوغرافي تطورا كبيرا مع (سانت بوف) فيما كان ينشره تحت اسم أحاديث الاثنين و هو يعرف ذلك النقد بقوله: (يتكون النقد الحق، كما أجده من دراسة كل شخص، أعني كل مؤلف، أعني كل ذي موهبة، حسب أحوال طبيعته لكي نقيم له وصفا حيويا حافلا حتى يمكن أن ينزل فيما بعد في موجعه الصحيح من سلم الفن.)
و قد كان (سانت بوف) يقوم طبقا لطريقته تلك بدراسة أدق تفاصيل حياة الأديب بدءا من مظهره الجسماني إلى أبسط مجريات حياته اليومية.
و ألمانيا نجد (إوته) يصرح أن الفن ينبع من المرض و (شوبنهاور) ينص على آلام الفنان، و (نيتشه) يبين أن الفن ليس فقط نتاجا للمرض و لكنه تسجيل له، و أن كل فلسفة اعتراف أو نوع لا إرادي، لا واع من الترجمة الذاتية و حديثا في النقد المعاصر، نجد أن (هنري جيمس) يوظف في نقده التاريخ الخاص للأثر الفني نفسه أي ماذا أعمل الفنان و ماذا سمع و ماذا قال... ألخ..
و (فيرجينيا وولف) طريقة خاصة في بلورة موضوع كتابها ( القارئ العادي) مقلدة بذلك (بلتون ستراشي) الذي قصر همه تقريبا على الشخصيات التاريخية.
و هكذا، و من خلال ما سبق، يتضخ أنه لا يمكننا أن نتوصل إلى فهم النص الأدبي إلا باعتمادنا على التحليل البيوغرافي فلا يمكن حسب (أندريه غرين) إقصاء مسألة الذات يقول: (هل من الممكن عدم إقامة أية علاقة بين الإنسان و إبداعه؟ فمن أي قوى يقتات هذا الإبداع إن لم يكمن من تلك التي تعمل عند المبدع.)
و يحق السؤال أيضا، من منا لا يميل إلى مطابقة شخصية وهمية على (شخص حقيقي) أو إلى استنتاج نفسية الكاتب مباشرة من أثره؟.
إن ( فرويد) في (الغراديفا) مثل ( لاكان) في ( الرسالة المسروقة) تغميظهما هذه المشكلة التي تصادفهما خلال قراءتهما بالذات فالصياغة الأسلوبية النموذجية للعمل الأدبي هي التي تميزه عن قصص المريض، لذلك فإن الأثر الذي يتركه في قرائه يكون له مفعول التطهير و المعرفة الذاتية إضافة إلى المتعة التي تصبغها الناحية الجمالة على الحقيقة فـ ( فلوبير) حين يقول ( مدام بوفاري هي أنا) فإنه يعبر أن هناك تعقيد و غموضا على صعيد عملية الخلق الجمالي.
و حينما يخول ( لاكان) تحليله للشخصية، المتناولة كأنها شخص حقيقي إلى تأول رمزي، فإن هاملت يصبح صورة للإنسان الحديث، ضحية مأساة الرغبة، و الملكة صورة الألم التي تغوي الأب و الإبن و أوفيليا صورة " مأساة الأنثى الواقعة في شرك الرغبة الذكرية".
تقول ( جوليا كريستيفا) عندما تنصح القراء ضعيفي المزاج بعدم قراءة ( دوراس) (فالموت و الأم هما شبكة عنكبوت النص، و ويح للقارئ المتواطئ الذي يستسلم لسحره فهو قد يقع في الحب حقيقة.)
في حقيقة الأمر، فإن أي عمل أدبي قد يثير أزمة شخصية، ثم هل يجب رج مثل عدوى العذاب النفسي هذه إلى عيب في البناء الجمالي أم إلى حقيقة أن النصوص المعاصرة المجددة تبطل دفاعنا لإنها لا تندرج في التقليد الثقافي.
فهذا ( دومينك فرنانديز) يحدد بصورة واضحة مبادئ التحليل البيوغرافي و وظيفته في النص الأدبي في كتابه ( فشل بافيز) يقول: ( العمل الأدبي سر طفولة مبدعه) و هو يؤكد أن الإنسان هو مصدر هذا العمل الأدبي إلا أنه لا يمكن فهم ها هو عليه هذا الإنسان إلا من خلال هذا العمل) فالكتابة المتعلقة بالسيرة الذاتية هي إعادة كتابة طفولة و تاريخ، تنفح طوال الحياة على صورة حكاية، و تفكيك تلك الحكاية أو الذكريات و يتم طلك عبر تحليل الشبكة النصية لأن الحياة تصبح في هذا الوضع نصا.
فالعمل الأدبي، إذن هو ( اعتراف مطول) لا قيمة تطهيرية له، لا يمنع ( الفشل) الإنساني (القلق و الحنون و الانتحار ) و تقوم ( سارة كوفمان) بنقد هذه الحتمية في كتابها "طفولة الفن" مقابلة إياها بنموذج آخر من السببية يجعل من الدراما النفسية بنية العمل الأدبي، و يجعل من العمل الأدبي البناء الرممي لهذه الدراما و طريقة تشكلها، و هنا يصدق القول ( العمل الأدبي ينجب أباه)
و يحق السؤال مع ( بيلمان نويل) إزاء كل ذلك: (ماذا نقرأ حينما نقرأ، ماذا تعني قراءة مؤلفات الأديب عندما يكتب؟ الجواب واحد في العمل الأدبي، فمهما يكن ـ منتجا أو مستهلكا، نقرأ قبل كل شيء ذاتنا)
و في هذا الباب نجد أندريه غرين يبدي ملاحظة حول شعور الحياء الذي يمتلك المرء عندما يقرأ نصا موسوما بالجرأة ذلك في نظره برهان يدل على أن نظر الشخص الآخر يسيطر علينا أثناء القراءة الفردية
( إن نصي هو الذي يراقبني و بطريقة معينة يحاكمني).
المبحث الثاني: استفادة التخليل النفسي من التحليل البيوغرافي
إن جذور المنهج النفسي في النقد الأدبي بعيدة تمتد إلى عمق تلك المراحل التي لم تكن قد تبلورت فيها بشكل منهجي كملاحظات على بعض ظواهر الإبداع شارحة بعض وظائفه من خلال الملاحظات التقنية أو الفطرية.
فقد نجد مثلا في المدينة الفاضلة لأفلاطون بوادر الاهتمام بالجانب النفسي في بحث فلسفة الأدب، و كذا فيما يتعلق بنظرية التطهير عند أرسطو التي تربذ الإبداع الأدبي بوظائفه النفسية، و إذا توجهنا إلى النقد العربي القديم و استعرضنا بعض اللوحات منه، سنجده يتعرض لعلاقة الشعر بنفسية المبدع، و بواعثه و أهدافه و وظائفه النفسية لدى المبدع من جهة و لدى المتلقي من جهة أخرى.
لكن المنهج النفسي لم يبدأ بشكل علمي منظم إلى مع بداية علم النفس ذاته و ذلك منذ 100 عام، أي في نهاية القرن التاسع عشر و ذلك بصدور مؤلفات فرويد في التحليل النفسي، و تأسيس لعلم النفس مثبتا أن الأنا ليست سيدة نفسها في مسكنها الأصلي مميزا بين مبدأ اللذة و مبدأ الواقع، فالأول المرتكز في الهو مهمته تخليص الشخص من التوتر، أما الثاني و هو مبدأ الواقع، أو بعبارة أخرى الأنا و عملها يتلخص في معارضة الهو و فرض المراقبة عليه فذكاؤنا و إرادتنا لا يتمتعان بالسيادة لأن جزءا كبير من ذهن الإنسان بقدر ما يحاول الإفلات من رقابة الوعي بقدر ما تمارس عليه الإديولوجيا السائدة فاعليتها و تصلبها من خلال ضغوط متنوعة ، العائلة ـ المدرسة ـ الدين ـ الاقتصاد، التجارب الشخصية المعددة، و لكن قوة الجذب الأخرى، ف الحد الآخر، في الهو، و في اللاشعور تجعل شيئا فينا يفكر و يوجه أفعالنا مع أفكارنا دون أن نعرف أن هناك ظواهر تحدث و نحن إذا تتبعنا مقتضيات النموذج التوصيلي الذي يفسر العملية الأدبية على أنها عبارة عن عدة علاقات متشابكة بين ثلاثة أطراف: المرسل، و المرسل إليه، و الرسالة، يمكننا أن نعتبر أن انطلاق التحليل النفسي للأدب كان ابتداء من الاهتمام و التركيز على المرسل أي المبدع الأديب، و الربط بين إنتاجه، و بين تاريخه الشخصي المتمثل في مجمل تجاربه و خبراته منذ طفولته على أساس أن الطفولة هي التي تترك بصماتها على كل التصرفات الإنسانية و خاصة عند الأديب المبدع الذي يجد فيها المرجعية الحقيقة مل يستعمله من أدوات الإبداع الأدبي.
و قد تطورت و نشأت مدارس أخرى مختصة في التحليل النفس و كان لها أثرها البالغ في تجاوز الطابع الفردي الذي نهجه فرويد، منها مدرسة ( كارل يونج) الذي أسس مفاهيمه على اللاشعور الجماعي و التي يركز فيها على التصورات الجماعية التي تدخل في مجال الانتروبولوجيا.
و هناك أيضا مدرسة ( أولر) الرمزية التي تربط بين الأحلام و الرموز الأدبية.
ثم هناك ( جان بياجيه) الذي اهتم في منهجه البنيوي بعلم نفس الطفل، و بكيفية تكون اللغة عند الأطفال، و لكن الذي أحدث نقلة نوعية في مناهج التحليل النفسي للأدب هو ( لاكان) الذي اعتمد في دراساته النفسية على أن بنية اللاوعي هي بنية لغية أساسا، أساسها التداعي، و غير ذلك من قوانين اللغة التي أسسها
( سوسور) فالأدب في نظره هو أقرب التجليات اللغوية إلى تمثيل اللاوعي. و هو سرعان ما يعمم الحالة الفردية في انتقاده لكتاب ( دولاي) بعنوان " شباب أندريه جيد" (إن جيد يطرح مشكلة شخصية لجرجة أنها تصبح مشكلة شخص بلا زيادة أو نقصان، و هذا المشكلة هي مشكلة الكائن (l’être) أو الظاهرة ( le paraître) و روايته العائلية تغدو السيرورة النموذجية للذات المذكرة الواعقة بين فخاخ صورة الأم و غياب كلام الأب.
فغاية علم النفس تكمن في دراسة التفاعل بين الإنسان و الأثر و دراسة وحدتيهما اللتين ندركهما خلال الحوافز اللاشعورية.
و من المسلم به أن الإطار الملائم يتجدد على أساس طفولة الفنان فالمختص بعلم نفس السيرة يعتقد أن الآثار الأدبية وثيقة الصلة بالحياة، و لا علاقة لها بمبدأ السبب و النتيجة، فعلى الذي يستند إلى مفهوم الفجوة الرمزية، و( فرنانديز) الذي يلتزم بضرورة قياس تأثير الأحداث على العمل الأدبي في حين المقارنة مع الظروف المتعلقة بالسيرة تتناسب مع التداعي الحر للأفكار الخاصة بـ(فرويد)
فالنقد التابع لسيرة يعتبر أن العمل الأدبي هو امتداد لتجارب حياة المؤلف بينما التحليل النفسي يجد فيها انقطاعا كما يذكر ذلك أنريخ غرين في كتابه ( غين إضافية).
نستنتج من كل هذا أن التحليل النفيس يعتمد التحليل البيوغرافي، فكلاهما يعطي الكثير للآخر، و لا يمكن أن يقوم التخليل النفسي دون استناد على التحليل البيوغرافي الذي يشير بوضوح إلى الكائن الإنساني في محاولته القلقة لكي يفهم نفسه و الآخر، فالأنا و الأنا الآخر موجدين في الحقلين التحليلين معا.
هناك جملتان للكاتب ( برنار بانغو) توضحان الافتراض المزدوج لهذا الإجراء النقدي: (هناك لعبة كاملة من التداعيات لا نملك مفاتيحها، و هي تهدم باستمرار النص الذي ندعي السيطرة عليه و في ذات الوقت تقوم بتنظيمه دون علمنا).
( ولن يلجئ المرء إلى الكتابة فيما لو استطاع الاكتفاء بالحلم (....) و العمل الأدبي الذي يتوجه إلى الآخر هو في الوقت ذاته شيء آخر) تخلص إلى أن السيرة الذاتية بوجه عام ليست مجرد تحطيم لحدود
( الذاتية) عند الأديب المبدع، و إنما هي في جانب منها نحث للشخصية، و عرض للذات أمام العالم و أمام الآخرين، لذلك فإنه يمكننا القول ( بول نديل) إن الأديب ذرة صغيرة ألقي بها في وسط خضم زاخر و هو إن كان لا يمثل سوى نقطة صغيرة في محيط الكون إلا أنه مع ذلك لا بد من أن يشع فيما حوله منتشرا على شكل ( موجات) متجددة متلاصقة لا تكف عن الإتساع.
و هكذا يتبين بصورة واضحة و أكيدة العلاقة الرابطة بين التحليل البيوغرافي و التحليل النفسي و استعانتهما ببعضهما، إن تصور البعض أن الإدراك الحسي هو عبارة عن صورة موضوعية للبيئة الحارجية، لهو تصور يستلزم استبعاد الإنسان، مادام و جود الإنسان هو الذي يشيع الحياة في النظر و هو الذي يلقي عليه ما يشع عليه من أضواء،
لذلك فإن السيرة الذاتية لا تعبر عن بعدي الداخل و الخارج فحسب، و إنما تعبر كطلك عن بعد ثابت هو ما يسميه الفلاسفة ( الفوق) فنحن نشعر أن للموجود البشري بعدا رأسيا هو الذي يجعل منه موجودا ميتافيزيقيا لأن الإدراك الإنساني ليس هو الاندماج في العالم فقط بل يعني بالإضافة إلى ذلك عملية إعادة تركيب العلم وفقا لفاعلية حرة هي الدوام في أثر (المعاني) فالإنسان وخده هو الموجود الطبيعي الذي يرى ما في الطبيعة عمق ميتافيزيقي لأنه وحده خالق المعاني و مبدع القيم و منظم الطبيعة
و تصبح أبعاد الإنسان الثلاثة، الداخل و الخارج و الفوق هي أساس السيرة الذاتية، لذلك فإن عملية الإبداع الفني في السيرة الذاتية تقوم أساسا على نوع من ( الاتصال الذاتي) أي أنها تستفيد استفادة كبيرة من التحليل النفسي، مما يجعل منها نصا أدبيا صالحا للتوصيل.
و تأسيسا على هذا الفهم نستطيع أن نلقي الضوء على العملية الإبداعية للسيرة الذاتية و ذلك من خلال عدة عوامل منها: أن الكاتب يتقبل أكثر الذكريات التي تتفق مع تصوره خال الكتابة لسيرته الذاتية و يستعيد الرسائل التي تجعله يستبقي أو يحتفظ و يدعم معتقداته و قيمه، أما الرسائل التي لا تتفق مع هذا التصور، فستواجه مقاومة إما عن طريق تجاهلها و تجنبها، و أما بالجدل المضاد لها لتقليل من شأنها و إما بالهجوم على مصدر قيمتها أو بإساءة تفسيرها أو تحريفها، فتصبح تأثيرات الاستدعاء و التضاد أكثر طهورا كلما ازدادت أهمية الموضوع بالنسبة للمتلقي، و كلما كانت مقاومته أكبر لها خاصة إذا لم تكن تتفق مع أبعاد معرفته. و إذا تمكن الكاتب من إشباع احتياجاته فالرسائل أو الذكريات التي تتضمن معلومات مفيدة و التي تشير إلى طريقة للحصول على مكاسب أكبر ببذل مجهود أقل، لأن الأشخاص عادة ما يتقبلون المعلومات التي تتصل باحتياجاتهم ، ثم إن الكاتب يدرك من خلال اعترافه وقوع تغييرات على الظرف المحيط به الشيء الطي يدفعه إلى إلى أن يكون أكثر تقبلا للرسائل الاعترافية، لأن تلك التغييرات المذكورة تعمق إحساسنا بعدم اليقين و تنقص من دقة تصورنا للعالم الذي نعيش فيه و هذا يجعل يقين الكاتب يضعف بالنسبة للأسلوب الذي يجب أن يعمل بمقتضاه في هذا العالم.
و عن هذا نجد ( زكي نجيب محمود) يحدد علاقة التحليل البيوغرافي بالتحليل النفسي و استفادتهما من بعضهما حيث يقول: ( أما مجمل مذهبي في الأدب فهو أن الكاتب مهما تكن الصورة التي اختارها لأدبه، شعرا أو قصة أو مسرحية أو مقالة، لا ينتح أدبا بمعناه الصحيح إلا إذا عبر عن ذات نفسه ـ أولا ـ، و إلا إذا جاء هذا التعبير ـ ثانيا ـ بحيث تتكامل أجزاؤه في بناء يكون بمثابة الكائن الفرد الذي لا يشاركه في فرديته هذه كائن آخر من كائنات الوجود فهذا التفرد هو من أخص خصائص الكائنات الحية، و كذلك ينبغي أن يكون من أخص خصائص الأثر الأدبي لو أردنا حقا أن يجيء الأدب صورة من الحياة، و لم نقل هذا العبارة عبثا و لهوا...)
يظهر جليا من هذا القول أن القضية الأساسية في النقد المعتمد على السيرةـ و الذي وجوبا له علاقة وطيدة بالتحليل النفسي و يعتمد عليه أيضا ـ أن الخيط الرئيس الذي يهدينا إلى إنتاج الأديب، إنما يوجد في دراسة حياته و ذاته و شخصيته.
و قد كتب ( لينغ) في مؤلفه ( الإدراك البين شخصي) يقول: ( إن حلق تجربتي ليس ممثلنا فقط برؤيتي المباشرة لنفسي ( الأنا) و ( للآخر) بل ممثلنا أيضا بما نسمه ما وراء المنظورات أي رؤيتي لرؤية الآخر لي، و يمكن ألا أكون قادرا بالفعل على رؤية نفسي كما يراني الآخرون، و لكني دائما أفترضهم يرونني بطريقة خاصة، كما أنني دائما أعمل في ضوء المواقف و الآراء و الحاجيات التي يتبناها الآخر تجاهي ... ألخ ... سواء كانت حقيقية أو مفترضة)
و يقول جان بلمان نويل في تقديم كتابه التخليل النفسي و الأدب بعنوان: (سيمياء الجرح الثالث): ( هذا الإنسان ( بالحرف الكبير) لا يختلف كثيرا عن مأساة أوديب، تلك المأساة لا تبارح البنية النفسية لكل واحد منا، تستهلك مادة الاستيهامات توزع الأدوار، تتقمص الرواية لتنتج السيرة الذاتية حيث بسير الأديب مسرحا لذاته و محرجا لحياته بعد أن كان يتوارى في شخصيات تنكرية...)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
10ــعبد العزيز شرف مجلة سلسلة أدبيات السيرة الذاتية مكتبة لبنان، الشركة العالمية للنشر لونجمان ط 1 1992 ص 7.
ـ11ـــــ ن. م. س ص ـ 45 و عبد العزيز شرف مجلة سلسلة أدبيات السيرة الذاتية مكتبة لبنان، الشركة العالمية للنشر لونجمان ط 1 1992 ص 7.
ـ 11ـــ ن. م. س ص ـ 45 46.
12ـ إحسان عباس فن السيرة دار الثقافة بيروت 1956 ص 110.
13 - زكريا إبراهيم مشكلة الإنسان مكتبة مصر القاهرة 1972 ص 23 و ص 24.
14ــــ ن. م. س ص
15- ستانلي هايمن النق الأدبي و مدارسه الحديثة الجزء I ترجمة إحسان عباس ـ الدكتور محمد يوسف نجم بيروت دار الثقافة ص 185.
16ـــ ستانلي هايمن النقد الأدبي و مدارسه الحديثة ترجمة إحسان عباس ـ الدكتور يوسف نجم م.س ص 206.
17ـــ ن. م. س ص 187
18ـــ مارسيل ماريني، النقد التحليلي النفسي ترجمة رضوان ظاظا مراجعن المنصف الشنوفي مجلة عالم المعرفة سلسلة كتب قافية شهرية، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب الكويث عدد 221 ماي 1997 ص 90.
19 ـــ ن. م. س ص 88.
20 ــ ن. م. س ص 88
21ـــ مارسيل ماريني النقد التحليلي النفسي ترجمة رضوان ظاظا مجلة عالم المغرفة مدخل إلى المناهج النقد الأدبي م. س. ص 90.
22 ـــ ن. م. س ص 92.
-23ــ مارسيل ماريني النقد التحليلي النفسي ترجمة رضوان ظاظا مجلة عالم المعرفة مدخل إلى منهج النقد الأدبي م. س. ص 92
24 ـجان بيلمان نويل التحليل النفسي و الأدب تعريب عبد الوهاب ترو ـ سلسلة زدني علما 213 علم النفس منشورات عويدات. ط 1 ـ 1996 ص. 43. 25ـ صلاح فضل مناهج النقد المعاصر دار الآفاق العربية ط 1. 1997 ص 67. -26 مارسيل ماريني النقد التحليلي النفسي ترجمة رضوان ظاظا مجلة عالم المعرفة مدخل إلى منهج النقد الأدبي م. س. ص 92.
27- جان بولمان نويل، التحليل النفسي و الأدب تعريب عبدالوهاب ترو م. س. ص 95.
28- مارسيل ماريني النقد التحليلي النفسي ترجمة رضوان ظاظا مجلة عالم المعرفة مدخل إلى منهج النقد الأدبي م. س. ص 88.
29 - عبد العزيز شرف مجلة سلسلة أدبيات أدب السيرة الذاتية ص 45. - 30عبد العزيز ؤق شبشبة أدبيات سلسلة أدبيات أدبيات أدب السيرة الذاتية م. س. ص 136.
31 - عبد العزيز شرف سلسلة أدبيات أدب السيرة الذاتية م. س ص 145 ـ ص 146.
32ـ فولغانغ إيزر فعل القراءة ( نظرية جمالية التجاوب ) في الأدب ترجمة حميد الحميداني و الجلالي الكدية منشورات مكتبة المناهل مطبعة النجاح الجديدة ص 96.
33 ــــ جان بلمان نويل التحليل النفسي و الأدب ترجمة عبد الوهاب ترو م. س. ص (الغلاف< بتاريخ :15/12/2023