مر وقت لم يعرف مدته ولم يحدد إن طال أم قصر.
تحسس بيده جانب رأسه. تبدو كندبة صغيرة. تلمسها بأطراف أصابعه. هذا الملمس يعرفه جيدا. إنها " ميكروتشب". لفت انتباهه أن ذراعه أصبح حرا طليقا بينما الجسم لايزال مقيدا بالأحزمة وكذلك الساقين. لكن متى حدث ذلك؟ هل غيبوبتي ستظل تناورني طويلا؟ هل ستتحكم فيَّ طول الوقت محددة متى أغيب عن الوعي ومتى استرده؟ لعل هذه الرقاقة الدقيقة التي زُرعت في رأسي تتحكم في وعيي و إدراكي من خلال نبضات ترسلها مباشرة لدماغي دون ارادة مني؟
_ مَن هؤلاء؟ لم يسيطرون عليّ ويقيدوني ثم يطلقون ذراعيّ؟ اريد أن أفهم. هل من أحد هنا يجيب عن تساؤلاتي؟
ظل يهذي بصوت مرتفع و ساقاه تثوران و تعترضان رفضا لتلك القيود بكل ما أوتيتا من رفصات وركلات ويداه تحاولان تحرير هذا الجسد المجبر على الخضوع تحت نير قيوده.
غابت عيناه مجددا عن محيطهما الضيق لتنطلقا في الفضاء الشاسع في جولة بين النجوم والمجرات والسُّدُم والغبار الكوني .
لم يكن بحاجة إلى تلسكوب هابل او كومبتون فالضوء المرئي وأشعة جاما لن تصل إلى هذه الأعماق السحيقة. كان يرى أبعد مما يراه تلسكوب سبيتزر. أصبحت عيناه قادرتين على رصد الأشعة تحت الحمراء و تلتقطان صورا أوضح مما التقطه تليسكوب جيمس ويب.
فهذه الاشعة الكهرومغتاكيسية ذات الترردات الصغيرة و الطول الموجي الكبير تسافر إلى أعماق الكون المتناهية البعد والانزياح الاحمر دائما يشير إلى اتساع الكون نتيجة ابتعاد الاجرام المتحركة عن الارض.
ها أنا انطلق في الفضاء الكوني بأبعاده الأربعة مسافرا في المكان والزمان، اقترب من ذلك الثقب الأسود العملاق وهو يدور بسرعته الفائقة و يبعد عن الأرض بأكثر من خمسين مليون سنة ضوئية. ترى أي نجم عملاق انهار على نفسه ليكون هذا الثقب الهائل بعد أن فقد معظم وقوده فأصبحت الغلبة لجاذبيته فانكمش على نفسه وانضغط مكونا تلك الكتلة اللانهائية في نقطة التفرد بمركزه والتي لها القدرة الفائقة على أن تبتلع هذا الكم الرهيب من النجوم العملاقة التي تندفع نحوه متأثرة بانحناء نسيج الزمكان لتتخطى أفق الحدث مكونة قرصا مزوِّدا متوهجا حوله يزيد من كثافته و جاذبيته و محررة سيل رهيب من أشعة إكس.
لا لن أخش اختلاف الجاذبية الواقعة على قدمي ورأسي لن تقوم بمطي كالاسباجتي وتفتتني لاتحول في النهاية إلى غبار، لن يحدث ذلك فكتلتي مهملة اذا ما قورنت بالثقب عظيم الكتلة و الذي يدور بسرعات فائقة وانا ابعد بعدا لا نهائيا عن نقطة تفرده ومركز جاذبيته.
هذه المكنسة الفضائية العملاقة ستشفطني حتما وتسحبني... لكن تُرى إلى أين؟
ربما يتلقفني ثقب أبيض يعمل بصورة معاكسة فيقذف ما بداخله بعيدا في الفضاء الكوني... هل أنا في طريقي للدخول إلى حرم إحدى الثقوب الدودية تأخذني إلى عالم موازٍ.؟
انتظر ما ستسفر عنه اللحظات القادمة فلم أعد أملك شيئا أفعله لأتجنب أيا من ذلك..
بينما هو في تلك الحالة من الترقب و التأهب، استفز عينيه ذلك النور الساطع. اعتقده النور المنبعث من القرص المزوِّد لكنه كان ضوء الغرفة بالمشفى مرة أخرى.
ايقظه الصوت مجددا.
هل أنت بخير؟
ثَم من يستهزئ بي بهذا السؤال.
قال بنبرات حادة: فكوا قيودي لقد استعدت وعيي.
جاءه الصوت مستهزئا : نعلم ذلك بالتأكيد.
_ وعدتوني أن تجيبوا عن جميع تساؤلاتي وقد جعلتموني انتظر كثيرا.
_ بل كنا نُعِدك ونهيؤك لتلقي الإجابات.
يكاد الفضول يعصف برأسي لكني سأتريث و أنصت لتلك الإجابات
. : من أنتم؟
_هذا آخر سؤال سنجيب عنه.
لن انهار أو أفقد أعصابي: أين أنا؟ هل لهذا السؤال من إجابة؟
_ فقط إن كنت مستعدا لتلقي الإجابة.
_ نعم أنا مستعد.
حسنا.. أنت في عنقود لانياكيا العظيم على أطراف الكون المرئي.
_ماذا تعني؟
_ أعني الكون المرئي الذي يحتوي على تريليون مجرة. نحن على إحدى هذه المجرات.
لم يستوعب ما قيل. ظل صامتا يحدق في صور مايملكه من معلومات مبسطة عن الفضاء تتداعى إلى عقله بصورة مكثفة...
لايمكن حدوث ذلك. كيف واقرب نجم للشمس " بروكسيما سنتوري " يبعد ٤ سنوات ضوئية. و تحتاج المركبة فويجر ٧٠ الف سنة لتصل إليه. و مجرتنا درب التبانة التي تحوي ما لايقل عن مائة مليار نجم، أقرب مجرة لها " اندروميدا " تبعد عنها اثنين ونصف مليون سنة ضوئية
أما عنقود لا نياكيا العظيم ذاك فطوله خمسمائة وعشرون مليون سنة ضوئية. وهو ما يحتاج إلى مليارات السنوات لكي أصل إلى هذه البقعة.
صاح مستنكرا: الأمر مستحيل بكل المقاييس. إنه يتنافى مع ما تعلمناه من قوانين .
لا تحدثني عن قوانين الفيزياء العقيمة التي تنهار كلها وتتحول إلى معضلات في مواجهة أي مشكلة في الفضاء. أنت تعلم الخلاف المحتدم بين ميكانيكا الكم ونسبية آينشتاين. بل إن اينشتاين نفسه دحض نظريات نيوتن فيما يتعلق بالجاذبية والزمن كونه بعد رابع
قوانينكم تلك هي التي تبعد مليارات السنوات الضوئية عما وصلنا إليه نحن من علوم. فأنتم و أدواتكم بالنسبة لنا ليس أشبه بمن لايزال يستخدم القرص المرن او من يستخدم الحمام الزاجل ولكن الأمر يتعدى ذلك للعصر الحجري و الكتابة على جلود الحيوانات وعظامها أو حتى قبل اكتشاف النار.
حافة الكون المرئي بالنسبة لكم يليها المجهول لكنه بداية كون مرئي جديد بالنسبة لنا.
لا تتعجب فالكون أشبه بصفحة كبيرة من الزمكان يمكن لنقطتين مرسومتين على طرفي هذه الصفحة أن يلتقيا إن قمنا بثني الورقة لتنتقل إحدى النقطتين إلى الأخرى بكل بساطة.
اتذكر الثقوب البيضاء؟
هي قادرة على نقل المواد فوريا فيختفي الجسم من مكان ليظهر في مكان آخر في نفس اللحظة في لا زمن.
_ عجبا كنت أحلم بهذه الثقوب قبل أن توقظوني وقد علمت عنها في الحلم الكثير مما كنت لا أعلمه حتى في الواقع.
_ لم يكن حلما.
_ ماذا تعني؟
_ما اعتقدته حلما كنا نحن من نبث هذه المعلومات في عقلك اللاواعي لتسترجعها ذاكرتك البعيدة . فقد أردنا انعاشها لأنك ستحتاجها في وقت لاحق. وهذا ما فعلناه معك منذ أن وصلت إلى هنا. الأمر معقد ويتخطى كل إدراك نعلم ذلك جيدا.
_ فكر مليا ثم ابتسم بغضب وهو يضغط على أسنانه و يهمس إلى نفسه : إنها " الميكروتشب " ولهذا قاموا بزرعها في جسدي ليتحكموا بي
فما الذي حملهم على فعل ذلك؟ ومن هم؟ ولماذا أنا هنا؟
هذا ما سنعرفه في الجزء الثالث إن شاء الله