في إحدى رحلاتها بين فرنسا والجزائر، طلب منها رجل الجمارك أن تفتح حقيبتها أمامه ليفتشها.. واستجابت لطلبه.. فما أن شاهد الموظف ترتيب محتويات الحقيبة الدقيق والجميل أيضا حتى رفض أن يدس يده فيها ويشوه ترتيبها الرائع وقال لها: أغلقي حقيبتك يا سيدتي، فلست أستطيع أن أفسد هذا التكوين الجميل !
أتعلمون من هذه المرأة؟!
اسمحوا لي اليوم أن أحدثكم عن خديجة، لقد كانت آية من آيات الحياة في دنيا الإنسان، فقد كانت طاهية، ونجارة، وحدادة، ومهندسة ديكور، وخياطة ملابس، ومنسقة زهور وحدائق، وفنانة تدبير منزلي واقتصاد، وآية في الذوق والنظافة، كأنما تمسك بعصا سحرية تحيل بها المكان الذي توجد فيه إلى مكان نظيف تنتشر فيه لمسات الجمال على قدر الحال.
هذه هي الأوصاف التي وصفها به زوجها ورصد من حياتها حينما كتب مذكراته شاهد على القرن.
فخديجة لم تكن فتاة جزائرية ولا عربية.. وإنما كانت فتاة فرنسية، تعرف عليها المفكر الكبير (مالك بن نبي) خلال سنواته الصعبة بباريس في أوائل الثلاثينيات، حين كان يدرس بمدرسة اللاسلكي ويتلقى دروسا مسائية في الميكانيكا والهندسة، ويعيش ببضعة فرنكات يرسلها إليه أبوه الموظف الصغير من الجزائر.
كان مالك_بن_نبي مواظبا على زيارة مكتبة للمطالعة في العاصمة الفرنسية باريس، وكلما طلب كتابا قيل له إن قارئة أخذته، وكلما طلبت هي كتابا قيل لها إن قارئا أخذه، اهتما معا بمعرفة هذا الثاني الذي يتوافق مع الآخر، فكانت قصة تعارف على الفاتنة الباريسية الأصيلة، تدعى سيليستين بول فيليبون، التي أحبها مالك بن نبي وتزوجها.. تم الزواج الرسمي عام 1935، بعدما أقنع صاحبنا سيليستين باعتناق الإسلام، وسماها خديجة.
أحبت خديجة الجزائر كثيرا وصارت جزائرية أكثر من الجزائريات، ترتدي الملاءة القسنطينية السوداء، وتتعلم طبخ الرغيف، هي الباريسية وحيدة أمها، والتي كانت تسكن بالضاحية الباريسية، قبل أن تشهد المكتبة اللقاء المنتظر مع رفيق العمر.
تزوجها وهو طالب جزائري فقير، لا يبشر مستقبله بأي خير، وخلال سنوات إقامته في باريس حاول مرارا أن يجد عملا ينفق منه على نفسه وزوجته، فلم يجد إلا الأبواب الموصدة أمامه وأمام غيره من أبناء بلده المستعمر، وكان يجمع بين الدراسة وبين العمل الفكري والاهتمام بقضية بلاده ودينه في مواجهة محاولة طمس الهوية الجزائرية، أما خديجة فقد راحت تتفنن في توفير وسائل الراحة له في البيت حتى من الناحية الفكرية.
كان هذا البيت وقتها غرفة مفروشة بلا ماء ولا حمام، ويشـتـركـان مع بقية مكان المبنى في صنبور للماء وحمام وحيد للجميع، ورغم ذلك وكما يقول: «فلقد لبثنا طويلاً نستنشق عبير هذه السعادة البسيطة الجادة في حياتنا».
وكان مالك بن نبي يستقبل في مسكنه مساء كل جمعة، صديقين له من أبناء بلده المهتمين بالعمل الوطني، فيتناولان معه العشاء ويتحدثان في شؤون بلدهم وقضية الدين، وكانت زوجته تصنع المعجزات خلال أيام الأسبوع لكي تدخر تكاليف هذه المائدة الأسبوعية، فتصنع لهم العشاء وترضيهم بأقل التكاليف، وبعد العشاء تبدأ جلسة العمل، فتجلس زوجته تستمع وكان محور المناقشة حول الأصالة والتمسك بالإسلام في مواجهة طوفان التغريب الذي يمثله الاستعمار.. وكانت خديجة تشاركه الإيمان بهذه الحقيقة وتدافع عنها بإخلاص.
وكان يعود في المساء عقب انتهاء دروس المدرسة، فيجلس مع زوجته بعض الوقت يشربان الشاي، ويتجاذبان أطراف الحديث حول القضية الجزائرية أو الدين، ثم يصلي المغرب ويتلو من المصحف بعض آيات الذكر الحكيم، فكان يروق لخديجة أن تستمتع لما يتلو من القرآن دون أن تفهمه بطبيعة الحال، لكنها كانت تتذوق جرس القرآن نفسه، وكانت تسأله في الدين كسؤال المريد المبتدئ لشيخه، أو تلفت انتباهه للقيم الأخلاقية المشتركة بين الإسلام والمسيحية، أو تلفت نظره إلى أشياء قد تبدو بسيطة، ولكن لها دلالتها، فلقد لفتت زوجته نظره أكثر من مرة إلى أن قطتهما «لويزة» حين تقفز إلى المائدة، وتسير فوقها لتذهب إلى خديجة في الناحية الأخرى، والمصحف مفتوح على المائدة بينهما، فإنها كانت تتجه دائما إلى يمينه أو يساره كأنما تتفادي عن عمد أن تضع أقدامها على المصحف، وهي في طريقها إلى ركبتي سيدتها ! »
ومع أن خديجة كانت تعيش مع قطتها «لويزة» أكثر مما تعيش معه، كمـا يعترف هو بذلك، بسبب دراسته الصباحية والمسائية، وفترات استذكاره الطويلة، وفترات صمته الطويل، ومعاناته التي كانت تصل به أحيانا إلى حد البكاء حين يحتدم الصراع بينه مسألة رياضية معقدة، فإنها لم تشك قط من وحدتها ولا من جفاف حياتها، وخلوها من أي ترويح أو تسلية، ولا أيضا من قلة الأوقات التي يتفرغ لها فيها زوجها، وإنما كانت تتركه ليصارع دروسه الرياضية على المائدة الوحيدة بالغرفة، وتجلس هي في ركنها المفضل من الغـرفـة، وتشغل وقتها بالقراءة، أو بتطريز مفرش صغير، أو صنع بلوفر شتوي لزوجها أو لنفسها أو حتى لقطنها.
وقد احـتـاج مالك ذات يوم إلى مقابلة مسئول فرنسي سعيًا وراء الحصول على عمل، ولم تكن لديه بدلة لائقة للمقابلة، فلم تدعـه زوجـتـه لـهـمـومه طويلاً، وخرجت على الفور واشترت من مصروف البيت قطعة قماش صوفية رخيصة من سوق الفضلات، وبجرأة شجاعة نقلت عن مجلة أزياء قديمة «باترونا» لبدلة رجالية، ثم أعملت مقصها في القماش وخاطته على ماكينتها، فإذا بالقماش يستوي بدلة رجالية لا بأس بها، ارتداها زوجها وهو لا يصدق نفسه، وذهب إلى المقابلة، التي لم تسفر عن تحقيق أمله، لكنها كشفت له عن موهبة جديدة ودفينة من مواهب زوجته المحبة.
و تظل خديجة دائمًا مع زوجها تخفف عنه هناء الحياة، وتشد من أزره كلما ضعف أو ضاق بالأزمات المستحكمة حوله، وتؤمن به دائما في أصعب الأوقات، إلى أن يحقق مالك بن نبي مـا كـان يراوده، وهو شاب صغير فقير من أحلام، لخدمة مجتمعه وبلاده والفكر العربي.!
لم يجد مالك بن نبي ما يقوله تعبيرا عن حزنه لرحيل زوجته سوى عبارته: "لقد أحسست باليتم بعد وفاتها…" ليلحق بها إلى دار البقاء بعد أشهر قليلة فقط من موتها، يوم 31 أكتوبر 1973م.
هذه هي خديجة الفرنسية، بنت فرنسا وربيبة الغرب، نستعيد ذكراها لنصفع المتمردات على طبيعة المرأة فيما يرددونه من هوس وجنون يخرج بالمرأة عن طبيعتها ووظيفتها ورسالتها في إيجاد بيت هانئ سعيد.