حينما انتهيت جلست إلى حاسوبي، لأنهي كتابة بعض مخاطبات العمل المطلوبة على وجه السرعة، لم يكن هناك أي ضوضاء بالمنزل، كنت أرفع رأسي من حين لآخر، لأجد إلى جانبي فنجان قهوة، أو كوبًا من الشاي مع كيك البرتقال الذي أعشقه، بدأت بعض الضوضاء؛ فأوقفت عملي لآخذ استراحة كانت السادسة، فوجدتهم جميعًا بغرفة تاليا، يتحرك طفلىَّ بنشاط أمام شاشة التلفاز ففهمت أنهما يلعبا بجهازألعاب إلكترونية جديد، وحنان تضحك، وهي تقرأ شيئًا ما بهاتفها، متكئة إلى ظهر سرير تاليا، ولم تنتبه لوجودي
حتى وقفت بمحاذاتها
-"حنان متى أحضرتِ هذا الجهاز؟؟؟"
ارتباكها بدا لي واضحًا وإغلاقها السريع لشاشة الهاتف، لكنها استجمعت هدوءها سريعًا
وقبل أن تُجيب قال عمار، وهو منهمك باللعب
-"الذي أحضر....."
ولم يُكمل قاطعته أمه بنبرة صوت عالية إلى حد ما.. من يسمعها يشعر وكأنها تنبه عمار
-"أنا أحضرته منذ أسبوعين بيوم عيد ميلادهما لم تنتبه، لأنك كنت بألمانيا فلم تحضر الحفلة لا عليك هو أكثر حداثة من سابقه يكفي أنهما يتحركان"
لا أعلم لما شعرت بالضيق، وكنت أنظر إلى الهاتف بيدها بقلق، أنا لم أشعر بالغيرة يومًا على حنان لم ينتابني يومًا الشك بتصرفاتها، أنا وحنان تزوجنا بعد قصة حب دامت لعامين، حنان تكبرني بثلاث سنوات لكن من يرانا يشعر أنني أكبرها بأعوام كثيرة؛ فشعري اصطبغ بالأبيض، ليس لأنني بالثانية والأربعين ولكن منذ أن كنت بالعشرين من عمري والشعر الأبيض فرض سيطرته على شعري وشاربي والآن على ذقني .
تعرفت على حنان من خلال قناة للتواصل الاجتماعي، كانت تعجبني كتاباتها وأتابعها باهتمام، لكنها هي من بدأ التواصل، وبدأ الحديث بيننا بشكل يومي، رغم تعدد علاقاتي، مخالطتي أصناف مختلفة من سيدات الأعمال، لكن وجدت راحة في الحديث معها، حتى اعترفت لي بحبها، ووجدتني أسيرًا لحنانها، وقلبها الطيب، وقررت أن نتمم زواجنا، وبالفعل تزوجنا، لم يرزقنا الله بأطفال لمدة سنتين، أخدت حنان المنشطات، والأدوية اللازمة، حتى كانت المفاجأة بتوأمينا الجميلين.
قصر قامتها جانبي جعلها تبدو كلعبة صغيرة،، قبل تاليا وعمار كانت تهتم بنفسها وبي وبكل ما يخصني لكن بعد ذلك ذهب جسدها المتناسق أدراج الحمل والولادة لكن على ما يبدو عادت إلى طبيعتها، وجهها يوحي بالبراءة، والرقة ليس الجمال المبهر هو الجمال الطيب، عيناها سوداوتان كسماء ليلية لامعة، تبتلعك تمامًا بنظرة منها، تحتويك وتشعرك بالأمان، وشعرها كان أسود فاحم، طويل،
شردت لحظة بما مضى قبل أن أجدها تتحرك عن سرير تاليا قائلة
-"وقت العشاء"
لتترك تاليا ذراع اللعب سريعًا، قائلة :
-"هيا يا عمار ألم تسمع ماما؟؟؟"
ليترك ذراع اللعب هو الآخر، ويهز رأسه بالموافقة، تركا الصغيرين اللعب بمنتهى السلاسة ، وأغلقا الجهاز، واتبعا أمهما إلى المطبخ،
واتبعتهم لأجد تاليا تضع أطباق التقديم والملاعق على طاولة الطعام، وعمار يأخد من أمه أطباق الطعام الكبيرة ويحملها بعناية، يضعها بمنتصف الطاولة، كل مساء لا أفق من قيلولتي إلا بنداء حنان " الغداء جاهز" تساءلت نفسي
-متى تعلما ولداي كل هذا!! ليس ببعيد ذلك الخلاف الذي نشب بيننا أنا وحنان، بأنها يجب أن تجعل طفلينا يعتمدا على نفسيهما ببعض المهمات وكان ردها
"مهمتهما طفلان يا حازم، يجب أن يسعدا، ويلعبا، لِمَ يحملا الأعباء من الآن؟؟"
هذا ما يجعلني أتعجب أحيانًا من حنان تقيم العالم والحروب، وترفض بشدة، ثم تفعل تمامًا ما أريد بنهاية الأمر، عجبًا للنساء حقًا، صدق من قال حينما تقول المرأة.. لا... تعني بها.. نعم....
جلسنا إلى طاولة الطعام، وقد وضع عليها ما لذ وطاب، لكن حنان لا تتناول سوى الحساء، ففهمت طبعًا.... هي الحمية التي تتبعها،
فأردت أن أمازحها لنضفي جوًا من المرح، فقلت لتاليا وأنا أنظر لحنان مبتسمًا مدعيًا الخبث
-"أترين يا تاليا والدتك تضع لنا الأكل الدسم ليزيد وزننا، وتضعف صحتنا، وتأكل هي الطعام الصحي، لتصبح هي وحدها رشيقة"
وضحكت، لكن لم يضحكوا بل عادت نوبة غضب عمار مرة أخرى، ورمى بملعقته محدثًا صوتًا بطبقه، وهو يقول بعصبية
-"ماما تأكل ما يحلو لها ...ماما ...."
هنا وُجد من يقاطعه مرة أخرى، لكنها كانت تاليا التي قالت بصوت يعلو صوت أخيها
-"لا تفشي السر يا عمار"
لأجد وجه حنان وقد تلون، واهتزت الملعقة بيدها، أكاد أجزم أيضًا أنني لمحت دمعة ستهرب من عينيها، لأسأل تاليا وأنا لا أرفع عيني عن حنان، التي كانت تحني رأسها كأنها تتوسل إلى طبقها لو يبتلعها
-"أي سر هذا يا حبيبتي؟؟!! أيوجد أسرار على أبيكِ"
ردت تاليا سريعًا وهي تنقل نظرها بيننا
"لا يا بابا لكن ماما كانت تود لو تجعلها مفاجاة، ولكن..."
ونظرت إلى أمها بحنان مكملة
-"ولكن يا أمي أحب أن أخبره..... أمي تحيك فستانًا جميلًا رائعًا لحفل شركتك السنوي، وتود أن يكون جسدها مناسب، بابا لقد كبرنا هذا العام أيمكن أن نذهب معكما؟؟"
هززت رأسي المشوش وقلت
-"مؤكد يا تاليا لقد وعدتك العام الماضي حينما تبلغا الثامنة ستحضرا الحفلة"
تحمست تاليا وابتهجت وهي تقول
-"يحيا بابا ..كم متبقي على الحفل؟؟"
"أربعة أشهر يا عزيزتي"
كنت أتحدث مع تاليا، وألقي بطرف عيني من حين لآخر نحو عمار الذي أمسكت أمه بيده، وهي تنظر له بحنان كأنها تطمئنه، فهمت الآن ما يحدث، عمار لديه نوبات غضب... ضحكت في داخلي بسخرية، هذا ما حذرت حنان منه منذ عام، وأخبرتها أن دلالها له لن يثمر إلا بضرر بالغ، وها هي نبوءتي تتحقق، وحنان تحاول أن تسيطر على الوضع حتى لا ألاحظ، وأسقط عليها اللوم، لن أتحدث فى الحقيقة، فلتجني ما زرعت، نظر لي عمار ولازالت يده بيد حنان لكنه تحدث بنبرة أقرب للاعتذار الذكي دون أن يعتذر بشكل صريح
-"ألا يمكن أن تكن هذه الحفلة بميعاد أقرب ؟؟"
نظرت له بهدوء متجاهلًا تصرفه
-"ميعاد الحفل لا يتغير كل عام يا عمار، أخشى أن يتأخر أكثر هذا العام؛ بسبب أحوال الوباء المتفشي الآن، لكن أظن بعد أن ينتهى أسبوع الحظر الكامل، ستتضح الرؤية تمامًا، وستعود الأمور كما كانت، فقبل الحظر الكامل لم يكن هناك اصابات، وهذا الأسبوع للتحرى والتأكد، والتعقيم الشامل، وكل الأمور ستكون على ما يرام."
هز رأسه متفهمًا ونظر لأمه نظرة حب، وأكمل تناول طعامه.
انتهينا من العشاء، وعدت إلى عملي على الحاسوب، واختفوا جميعًا داخل الفيلا مر الوقت، وأنا من هنا لهناك على حاسوبي، وبين أرقامي ومشاغلي حتى اقتربت الساعة على الثالثة صباحًا، وشعرت بالنعاس يداعب جفوني المرهقة؛ فقررت الاستسلام ذهبت إلى غرفة النوم، وحينما فتحتها لم تكن حنان بها يبدو أنها بغرفة الصغيرين أو بالحمام، لم أكترث، وخلدت إلى النوم، ومر يومنا الأول من أسبوع الحظر .
في صباح اليوم التالي
-"بابا ...بابا ..هيا حضرنا الفطور هيا"
أفتح عيني بصعوبة وأجد تاليا وقد أسندت ذقنها الصغير على صدري، وتنظر لي بعينها السوداواتين... يا الله كم تشبه أمها يومًا بعد الآخر بشعرها الأسود الطويل الذي غفا على كتفي، ورائحتها ، رائحة الفراولة، احتصنتها بقوة، وشعرت كم كنت بحاجة لضمها، يبدو أنني في حضرة الصغيرة، أنا الصغير وليست هي، قبلت خدها، وجبينها، ثم قمت بدغدغتها، لتضحك بمرح ولطافة آخاذة، طفلتي كبرت، وأصبحت الأجمل
-"صحوت يا جميلتي، لكن ما معنى حضرنا الفطور!! هل حضرت لى التوست الفرنسي اليوم بنفسك سيدتي الجميلة؟؟!!
وقفت تاليا ووجهها الأبيض يشع بنور البراءة، لتتحدث بفصحى قوية للغاية
-لا أميرنا المبجل... اليوم الجمعة، مختلف كليةً في قائمة الطعام المقدمة لكم، وللأسف سيدي... ليس لك اختيار... تقبل اعتذاري"
تنحني، وهى تضع يدها على بطنها بحركة تمثيلية تهدل على أثرها شعرها إلى الأمام،لأندهش من أدائها الرائع، واختيارها للكلمات؛ فصفقت لها بقوة
"من أين عرفتِ بهذه الكلمة؟!! عزيزتي ما هذا الأداء المبهر؟؟
و و أميرنا المبجل ؟؟
جلست، وقد ضمت ساقيها ووضعت يدها الصغيرة حول فمها، وهمست
- "أتدرب على مسرحية لنهاية العام، لكن لم نخبر عمار بعد بدوري، لأنها مسرحية سندريلا، وعندما عرف أنني سأكون سندريلا التي يحبها الأمير غضب بشدة، لذا أخبرته أنني جارية ..كذبة صغيرة ليمر الموقف"
تضع يدها الصغيرة على فمها الوردي الصغير لتكتم ضحكتها.
نظرت لها بدهشة
-" لماذا كذبتِ على عمار؟؟ و لماذا يغضب عمار؟؟ بالتأكيد لا يريد تمثيل سندريلا بدلً عنك؟! "
تزيح يديها لتطلق سراح ضحكتها المرحة، وبصوت هامس
"لا لا ..لأنه يغار على أخته يا حازم، أحمد صديقي الذي يمثل الأمير على غير وفاق أبدًا مع عمار، ولا يحب أن يراه يتحدث معي."
نظرت لابنتي وكلماتها تزيدني دهشة، ووجدت نفسي بعيدًا جدًا أكثر وكأن حجمي يتقلص ساعة بعد الأخرى، توقفت عن معرفة أولادي عند مرحلة بداية الكلمات والخطوة الأولى، اكتشفت من كلمات ابنتي أنه حقًا فاتني الكثير، كم كبرت ، و زادت رقة ولطافة ودلال الصبايا، كم أحببتها حينما قالت حازم دون كلمة أبي بتلقائية جميلة ومهذبة، صدمت بشدة وشعرت بالارتباك ليجول برأسي سؤال:
-أين أنا من تلك الحياة؟؟!!...
،،يتبع،،