إنَّ هذا الكون صناعة، وأيُّ صناعة، إنه صناعة متقنة حكيمة من لدن صانع حكيم، ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِیۤ أَتۡقَنَ كُلَّ شَیۡءٍۚ﴾.
ولا شك أن لهذه الصنعة سر، احتفظ الله به لنفسه، فلا يعرفه مخلوق قط، وإلا لكان نقصًا في حق الذات الإلهية المطلقة الكمال والجلال، فلا يحيطُ بها فِكر ولا يتصورها عقل، وحاشاه سبحانه أن يصاب بنقص.
وبالرغم من ذلك فقد وجَّهَ اللهُ عقولنا إلى قضية التفكير المستمر والتدبر والتأمل في صناعته، ففي أكثر من ألف آية من كتابه الكريم المُنزَّل هداية للعالمين وهو يستفكر العقول ويستنطق الحواس إلى كونه الفسيح بما فيه من كواكب ونجوم وبحار وأشجار وأرضين وفضاء ونبات وحيوان، أمرنا بالتفكر في كل شيء، إلى أن أمرنا بالنظر والتفكر في أنفسنا ذاتها فقال: ﴿وَفِیۤ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ﴾ [الذاريات ٢١]
لدرجة أنَّ من كثرة حثِّ القرآن على قيمة التفكير، واستعراضه للآيات الكونية التي تتطلب النظر والتفكر، ظن المسلم أنَّ تلك القضية من الفرائض التي فرضها الإسلام وألزم بها كل العقول البشرية، فانبرى بعض الكُتَّاب والمفكرين يؤلف في هذا الصدد، كالأستاذ الكبير عباس العقاد في كتابه الأوحد «التفكير فريضة إسلامية».
من أجل ذلك فإننا نتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى؛ استجابة لهذا المطلب القرآني العظيم.
والحق أننا كلما تفكرنا في مخلوقات الله السائرة، وتتبعنا - مثلا - حركة النجوم والكواكب ودورة حياة النباتات والحيوانات وميكانيكة عمل الجسم البشري ودورة الليل والنهار وفصول السنة .... نلاحظ كأنَّه شيء يسير ببساطة دون أدنى تعقيد أو صعوبة!.
♦️فالفلَّاح يرمي البذرة في الأرض ثم يضع عليها الماء؛ فإذ بها تخرج نباتا جديدًا، وبعد مدة يؤتي ثماره، بكل بساطة وبدون أي تدخل من أحد!
عملية حياة لبذور ميته في تربة ميته تحدث بكل بساطة، مَنْ في العالمين يستطع فعل ذلك؟!
♦️ تعمل الكليتان بكل بساطة يوميا على فلترة 200 لتر دم، بما يعادل فلترة دم الجسم كله 30 مرة في اليوم الواحد !
سبحان الله!! ومن ينظر إلى مريض الفشل الكلوي وهو يتردد على المستشفيات يوميا لفلترة دمه (الغسيل الكلوي) في عَناء ومشقة وصعوبة، يُدرك ما كان فيه من بساطة!!.
♦️تحتوي خلايا الجسم على حوالي 300 مصنع لتوليد الطاقة (ميتوكوندريا) بكل بساطة، ونحن في الواقع المعيش نحتاج إلى مليارات المليارات من الدولارات لإنتاج الطاقة!!.
♦️تسير الكواكب في أفلاكها والنجوم في مداراتها، ﴿لَا ٱلشَّمۡسُ یَنۢبَغِی لَهَاۤ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّیۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلࣱّ فِی فَلَكࣲ یَسۡبَحُونَ﴾ بكل بساطة وسهولة.
فلا تقف عن الحركة لحظة، ولا تغيب الشمس يوما، وما تأخر القمر ساعة، كل يسير بحركة مستمرة منتظمة، وكأن الأمر بسيط وسهل!!
ما هذه البساطة التي نراها في هذا الكون الفسيح؟!
إنها البساطة النابعة من يد القدرة المطلقة الخالقة والمدبرة والمسيِّرة لحركة الكون والوجود.
📚 أليس ربنا هو القائل:
﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبࣲ﴾ [ق ٣٨]
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ یُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَیُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ یَجۡرِیۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى وَأَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ﴾ [لقمان ٢٩]
﴿لِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا فِیهِنَّۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرُۢ﴾ [المائدة ١٢٠]
﴿أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِیعࣰا﴾ [البقرة ١٦٥]
﴿إِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِیعًاۚ﴾ [يونس ٦٥]
نعم، إنها البساطة الناتجة من قوة القادر سبحانه وتعالى!!.
💥 وهذه المعاني ترشدنا إلى أمرين:
1- عظمة قدرة الله سبحانه وتعالى، وأن أي أمر مهما كان صعوبته عندما ينسب إلى فعل الله يكون في غاية السهولة والبساطة، لذا شُرع التوكل على الله والتفويض له.
2- أنَّ هذه رسالة من الكون كله إلى بني الإنسان تدعوهم فيها إلى (البساطة) التي هي سر صناعة هذا الكون الفسيح.
وكأن الله ينادينا بلسان كتابه المنظور (الكون) أن تحلَّوْا بالبساطة في حياتكم وكلامكم وأفعالهم، وإياكم والتكلُّف والكبر والغطرسة.
👈 نعم، أوَلم يقل ربنا سبحانه في كتابه المسطور: ﴿قُلۡ مَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرࣲ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِینَ﴾ [ص ٨٦]
👈 أوَلم يقل رسول الله ﷺ: (حَرُم على النارِ كلُّ هيِّنٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناسِ).
👈 أوَلم يقل النبي ﷺ: (إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ منكم بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ).
نعم، إنها البساطة سر صناعة هذا الكون، وجوهر ديننا السهل الحنيف، لذا ينبغي أن تكون منهج حياة البشر أجمعين.