وهكذا ارتقيتُ في معرفة الإمام عبد الحليم محمود خطوة بعد خطوة حتى جاءت المرحلة الرابعة من هذه الرحلة المباركة، التي سعدتُ بها أيما سعادة، وأحتسبها عند الله في مجاورة الأنبياء والصالحين يوم اللقاء الأكبر في ظل رحمانيته سبحانه وتعالى.
أما عن هذه المرحلة فلقد انطلقت من «معهد نبروه ع/ث بنين - الدقهلية»، ذلك المعهد الشامخ الذي له معي أجمل الذكريات وأعطر اللحظات، حيث ربطني به رباط العلم والمعرفة والتَلمذة؛ إذ كان محل دراستي في المرحلة الثانوية، وكان شاهدًا على أهم مرحلة في تكوين شخصيتي الفكرية والروحانية.
وسعادتي وحبي لهذا المعهد لم يكن ناشئًا عن العلاقات الطيبة التي كَـوَّنـتُها فيه مع أصدقائي ولا مع أساتذتي فحَسبْ، ولا ناشئةً عما اهتدى إليه عقلي من علوم ومعرفة فقط.
بل تَـعلَّـق قلبي بهذا المعهد وكُنـتُ أُحـبُّ الحضورَ إليه يوميًا دون غياب؛ لأرى تلك (الصورة الفوتوغرافية) الكبيرة المُعلَّـقة على جدران الدور الأول العلوي من المساحة المخصصة لقطاع نبروه الأزهري، ألا وهي صورة «الإمام عبد الحليم محمود».
نعم، كان - ولا زال - يتزين جدران الدور الأول العلوي للمعهد بعدد من الصور الكبيرة الواضحة لمجموعة من أئمة الأزهر كالشيخ الشعراوي والشيخ الغزالي والدكتور محمد سيد طنطاوي والدكتور أحمد عمر هاشم . . . وقبلهم جميعًا صورة حبيبهم وقرينهم الإمام عبد الحليم محمود رضي الله عنه.
وكنتُ يوميا في وقت الفُـسحة أقفُ في (حـوش المعهد) وأظـلُّ أنظـرُ لأعلى وأتمعَّـن في صورة الإمام عبد الحليم محمود، مستحضرًا ما في ذاكرتي من مواقف ومعلومات حوله.
ولا تعجب - أيها القارئ - حين أقولُ لك أنَّني طوال المدة التي مَكثـتُـها في هذا المعهد - ثلاث سنوات - كنتُ مرتبطًا بهذه الصورة ارتباطًا وثيقًا، ارتباطًا أضَـاء في داخلي مشاعـل النـور، وأحيَا في وجداني الكثير من المعاني والروحانيات !!
وكنتُ أيام الامتحانات أتفائل بها جدًا، وكنتُ أجمعُ زملائي وأسألـهم: هل تعلمون مَنْ أولئك الذين في تلك الصور؟
فكانوا جميعًا يعرفون الشيخ الشعراوي، ومعظمهم كان يعرف د. أحمد عمر هاشم، وبعضهم كان يعرف د. محمد سيد طنطاوي، لكن لم يكن أحدُ فيهم يعرفُ الإمام عبد الحليم محمود، فيدفعني ذلك إلى تحديثهم عنه وعن مواقفه يوم حرب أكتوبر، وعن قصة الحجرة التي تلألأت له نورًا بعد قراءة إحدى صيغ الصلاة على النبي ﷺ !!
فكانت تلك الصورة - ولمدة ثلاث سنوات - تَذكرةً ومعونةً لي على دوام ذِكر الدكتور عبد الحليم محمود وعدم نسيانه أو الغفلة عنه.
وهي مدة ليست بسيطة، كفيلة بأن تجعلني دائم التذكر والتفكر لهذا الإمام الكبير.
ومما يرتبط أيضًا بمدينة نبروه وهذا المعهد خاصة - على إثر ذكر الإمام عبد الحليم محمود - أنْ قد شَرُفَـت به أرضُ مدينة نبروه وسَعِد به أهلها، حين زارها الإمام - وكان شيخا للأزهر - في سبعينيات القرن الماضي لافتتاح هذا المعهد المحظوظ بقدوم الإمام الكبير والولي الصالح.
نعم، حَـظي معهد نبروه ع/ ث بتشريف الإمام عبد الحليم محمود يوم افتتاحه، وذكر لي بعض آبائنا ممن حضروا هذا اليوم المشهود، أنَّ مدينة نبروه استقبلته استقبالا حافلا يليق بمكانة شيخ الأزهر.
ومما حُكي لي: أنَّ في هذا اليوم وبعد أن انتهى حفل افتتاح المعهد قام رجال الجمعية الشرعية بنبروه بدعوة فضيلته لمائدة الغذاء؛ فما كان منه إلا أن اعتذر ورفض وبإلحاح شديد، لدرجة أنه رفض تناول المشروب البارد الذي قُـدِّم له.
وذكر لي أحد آبائنا أنَّ فضيلة الإمام الأكبر عبد الحليم محمود بعد أن اعتذر لكل مَـنْ أراد استضافته، قال لهم: «أنا جئت لافتتاح المعهد الديني، والحمد لله قُضيت المهمة، ولسوف أتناول غذائي وسط أولادي».
وهذا نموج عملي لزهد الإمام وورعه وتقواه شاهدَهُ أهالينا بأنفسهم، فرضي الله عن إمامنا وأستاذنا الذي تأثرت به دون أن أراه، ونسأل الله أن ينفعنا بحبه يوم يُحشر المتحابين على منابر من نور يوم اللقاء العظيم.
وللحديث بقية إن شاء الله