نعيش اليوم في مسيرتنا حول موسوعية الحضارة الإسلامية مع أحد أعلام اليمن السعيد، في القرن الرابع الهجري، وأحد الموسوعيين العظام في دولة محمد ﷺ، الذين اصطفاهم الله من جُملة الخلق والأمم؛ ليحملوا رسالة دينهم إلى العالمين، بالفكر الرشيد والعلم النافع والعقل المستنير.
إنـه لسـانُ اليَـمن، وعلَّامتها وقارئ مساندها، جامع شَتات العلوم، سيدي أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهَمْداني، حجة الأنام وأحد دواوين الإسلام الأعلام.
الرجل الذي نبغ في الكثير من العلوم المختلفة والمتباعدة، فكان حجة زمانه في الجغرافيا والتاريخ والكيمياء والفلك والطب والفلسفة والشعر والأدب ....
وما هذه بمزايدة من عندي، بل بأكثر من ذلك وصفهُ كبار المؤرخين وأصحاب التراجم.
فها هو القفطي يَصِفُهُ في «إنباه الرواة» بأنه: «الأديب النحوي الطبيب المنجم الأخباري اللغوي ... نادرة زمانه، وفاضل أوانه، الكبير القَدر، الرفيع الذكر، صاحب الكتب الجليلة، والمؤلفات الجميلة، لو قال قائل إنه لم تُخرج اليمن مثله لم يزل لأن المنجم من أهلها لا حظّ له في الطب، والطبيب لا يد له في الفقه وهو قد جمع هذه الأنواع كلها وزاد عليها».
وقال السيوطي في بغية الوعاة: «لم يُولد في اليمن مثله علمًا وفهمًا، ولسانًا وشعرًا، ورواية، وفكرًا، وإحاطة العرب من النحو، والبلاغة، والغريب، والشعر، والأيام، والأنساب والسير، والمناقب، مع علوم العجم من النجوم والمساحة والهندسة والفلك».
وقال عنه الزركلي في الأعلام: «مؤرخ، عالم بالأنساب، عارف بالفلك، والفلسفة، والأدب، شاعر مكثر».
نعم، إنه سيدي الحسن بن أحمد الهمداني، الذي ألَّف وصَنَّف في كل هذه العلوم، وفي مكتبات العالم دليلُ كلامي وصدق برهاني.
⬅️ ففي علم الفلك والهيئة: ألَّفَ كتاب «سرائر الحكمة» وهو كتاب كبير يحتوي على ثلاثين مقالة، في التعريف بجمل علم الهيئة ومقادير حركة الكواكب وتبيين علم أحكام النجوم واستيفاء ضروبه وأقسامه. وهو من أوائل الكتب التي صنفها الهمداني في رحلته.
⬅️ وفي علم الكيمياء: له كتاب «الجوهرتين العتيقتين المائعتين من الصفراء والبيضاء» وهو من أهم المراجع في الكيمياء، ففي هذا الكتاب قام الهمداني بدراسة المعادن المعروفة في عصره وخواصها وطرق تنقيتها واستعمالاتها الصناعية والطبية.
⬅️ وأما في علوم الأرض: فيُعدُّ الهَمْداني أول من أشار إلى حقيقة الجاذبية الأرضية، حيث قال في كتابه «الجوهرتين العتيقتين» في سياق حديثه عن الأرض ككرة (وهذا إنجاز آخر) وما يرتبط بها من مياه وهواء، حيث قال: «فمَن كان تحتها - أي تحت الأرض من الجهة الأخرى ككرة - فهو في الثابت في قامته كمن فوقها، ومسقطه وقدمه إلى سطحها الأسفل كمسقطه إلى سطحها الأعلى، وكثبات قدمه عليه، فهي بمنزلة حجر المغناطيس الذي تجذب قواه الحديد إلى كل جانب».
وكذلك كان الهمداني في طليعة القائلين بكروية الارض، ذكر ذلك في كتابه «صفة جزيرة العرب» بقوله: «اعلم أن الارض ليست بمسطحة ولا ببساط مستوى الوسط والأطراف ولكنها مقببة، وذلك التقبب لا يبين مع السعة إنما يبين تقبيبها بقياساتها إلى أجزاء الفلك، ... إلخ».
⬅️ وأما في أنساب الأمم وأخبارها: فقد كان موصوفًا «بالنَّسابة»، بسبب كثرة تصانيفه في أنساب الأمم، ولعل من أشهر ما كتبه في هذا الباب كتاب «الإكليل من أنساب اليمن وأخبار حمير»، وهو موسوعة علمية ألفها الهمداني في عشرة مجلدات، تناول فيها أخبار أهل اليمن وأنسابهم وعلومهم وعاداتهم والثقافة المنتشرة بينهم.
وله أيضًا كتاب «أخبار الأوفياء»، وكتاب «الأنساب»، وكتاب «عجائب اليمن».
⬅️ وأما في علم الجغرافيا: فله كتاب «صفة جزيرة العرب»، وهو من أشهر مؤلفات الهمداني بعد الإكليل، وصف فيه جغرافية الجزيرة العربية وحياتها النباتية، وقدم دراسة لأبرز الملامح الطبيعية والأجناس والقبائل والحيوانات والثروة المعدنية في شبه الجزيرة العربية.
وله أيضًا كتاب «المسالك والممالك»، وكتاب «الزيج» وهو عبارة عن جداول توضح أطوال وعروض المواضع الجغرافية موزعة على الأقاليم السبعة، وهو ما زال مخطوطًا في مكتبة الأمبروزيانا في إيطاليا.
⬅️ وأما في في باب الشعر: فله قصيدة مشهورة تسمى «الدامغة»، وهي قصيدة تتكون من 646 بيتًا، في مفاخر أهل اليمن ومآثرهم وذكر ملوكهم ومشاهيرهم في الجاهلية والإسلام، ردَّ بها على قصيدة الكميت بن زيد الأسدي في تفضيله لعدنان على قحطان، وهي متاحة على الإنترنت مكتوبة ومسموعة.
يقول في مطلعها:
ألا يا دارُ لوْلا تنطقينا
فإنَّـا سائلونَ ومُخبرونا
بما قد غَالَنا من بُعد هندٍ
وماذا من هواها قد لَقينا
وله أيضًا «ديوان شعر» في ست مجلدات، أشار له السيوطي في «البغية».
كما نجد نماذج كثيرة من شعره في «الاكليل»، وله قصيدة طويلة تدعى «قصيدة الجار» أوردها العلامة علي بن أحمد الأكوع في مقدمة «الاكليل». ويوجد على الإنترنت الكثير من أشعاره الرقراقة.
⬅️ وكذلك صنَّف في فقه الصيد: كتاب «اليعسوب في القسي والرمي والسهام».
ومحتوى هذا الكتاب كما قال القفطي يتكلم: «في فقه الصيد وحلاله وحرامه، والأثر الوارد فيه، وكيفية الصيد، وعمل العرب فيه، وغريب ذلك ونحوه، والشعر فيه، وهو كتاب جيد جدًا، مفيد للمتأدبين».
⬅️ وأما في الفلسفة: فقد كان فيلسوفًا كبيرًا، قال عنه صاعد الأندلسي في كتاب (طبقات الأمم): «وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله منه شيئًا، ولا هيأ طباعهم للعناية به، ولا أعلم أحدًا من صميم العرب شُهرَ به إلا أبا يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي وأبا محمد الحسن بن أحمد الهمداني». ووصفه الأستاذ الكبير عباس العقاد في كتابه «أثر العرب في الحضارة الأوروبية» بأنه محيطٌ بمباحث الفلسفة عن أصل العالم وقواعد المنطق والكلام.
ومن يستقرأ كتابات الهمداني بإمعان وخاصة «سرائر الحكمة» يقف بوضوح على فلسفته.
⬅️ وله مصنفات أخرى في علوم مختلفة:
فله في علم الحيوان: كتاب «أخبار الإبل».
وفي علوم النحو: المطالع والمطارح.
وفي علم الطب: كتاب «القوى».
وله كتاب في «أسماء الشهور والأيام».
⬅️ كما أنَّ الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة ذكرته كواحدٍ من أئمة التفسير واللغة.
فرحِمَ اللهُ أبا محمد الهمداني، وجزاه خيرًا على ما قدَّم لخدمة العلم والبشرية، كما نسأله سبحانه أن يفتح بصائر شبابنا على أولئك الأعلام، وأن يجعل لهم نصيب في إرث هؤلاء الشوامخ، فهي حسبنا ومقصودنا وهو على كل شيء قدير.