استكمالًا لرحلتنا حول موسوعية الحضارة الإسلامية، فإنَّ من العلماء الموسوعيين أيضًا: أبو محمد عبد الله بن محمد الأزدي الصُحاري، والمشهور «بابن الذهبي»، ولد في مدينة «صُحار» إحدى مُدن سَلطنة عُمان في أواسط القرن الرابع الهجري، وكان من العلماء الموسوعيين الذين مزجوا بين العلوم المختلفة، في نبوغٍ وتفوقٍ فريد شكلًا ومضمونًا.
ذلك ما قاله المؤرخ الكبير أبو العباس ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» حيث قال في ترجمة العلامة ابن الذهبي الصُحاري: «أحد المعتنين بصناعة الطب ومطالعة كتب الفلاسفة، وكان كَلِفًا بصناعة الكيمياء، مجتهدًا في طلبها».
ولعلَّ هذه الكلمات القليلة هي كل ما لدينا في سجلات التراجم عن هذا الرجل، الذي فُقدَ تراثه وطُويت صفحته مع ما فُقِدَ من تراث المسلمين إثر الحملات المغولية والصليبية الحاقدة.
لكن شاءت الإرادةُ الإلهية والكرامة الربانية أن تحفظ لنا شيئًا من تراث هذا الرجل العليم، ليظلَّ ذِكرُه باقيًا وخالدًا في ذاكرة التاريخ البشري وحيًّا لا يموت في ضمير الأمة الإسلامية.
فحُفظَ لنا من تراثهِ موسوعته المعروفة باسم «الـمـاء»، لتُمثلَ تلك الموسوعة أوَّل مُعجم طبي لغوي في التاريخ.!
نعم، في هذه الموسوعة الضخمة - التي حُقِّقَت في ثلاثة أجزاء وطُبعت أكثر من مرة وانتشرت بين العالمين -
أوضح دَلالة وأبرز شهادة على غزارة علم هذا الرجل وسِعته وتنوُّعه.
ففي هذه الموسوعة الكبيرة جَمَعَ ابن الذهبي بين علوم اللغة العربية والطب - بأمراضه وعلاجه - والنباتات والأدوية والكيمياء والحيوانات... كل ذلك متوَّج بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأخبار الأمم والشعوب.
وفي تسمية كتابه هذا بالماء مقاصد وأهداف، ذَكَرَها في مقدمة الكتاب فقال:
وبعد.. فإني لمَّا رأيتُ أبا عبد الرحمن الخليل بن أحمد، رحمه الله، قد أغرَبَ في كتاب (العين) فبزَّ به مَنْ كان قبله، وعنَّى به مَنْ جاء بعده، وجعله خالصًا للغة العرب وبيانها، وأحصى فيه ألفاظها ومعانيها، وسمَّاهُ بأول أبوابه...
ولمَّا كان الغالب على أبناء صنعتنا اللحن والغَلَطُ، وقد تفشَّت فيهم العُجْمَة والشطط..
عَزَمتُ على أن أكتب كتابًا يجمعُ بين الطب والعربية، ويضمُّ الأمراضَ والعلل والأدواء، وما يجب أن يتأتى لها من العلاجات والأدوية..
فأنشأتُ كتابي هذا على حروف اللغة مبتدئًا بالهمزة فالباء فالتاء، حتى آخر الحروف وهو الياء. ورتبتهُ على الثُّلاثيّ في جميع مادته؛ تيسيرًا للطلب، وتسهيلًا لمن رغب. وسميته (كتاب الماء) باسم أول أبوابه، على نحو ما رَسَمَهُ أبو عبد الرحمن الخليل، رحمه الله.
ومما قاله نرى أنه قد سمَّى الكتاب باسم أول أبوابه وهو (الماء)؛ أُسوةً بالخليل بن أحمد الفراهيدي الذي سمَّى كتابه باسم أول حروفه وهو (العين)...
مما يُطلِعُنا ذلك على مدى الحب والصفاء الذي كان يُكِنُّـه ابن الذهبي للخليل بن أحمد، كذلك مما يُلاحظ بسهولة عند قراءة الكتاب أنه كُلما ذَكَرَ اسمَ الخليل بن أحمد تَرحَّمَ عليه! وهذا مَلمَحٌ مهم له أبعاده وانعكاساته في تركيب شخصيته العلمية.
ثم ذكر المؤلف أنَّ هذا الكتاب - الذي قد جاء في ثلاثة أجزاء كبيرة - ما هو إلا مختصرٌ وجيز، فقال: «وجعلته مختصرًا لا يُمَلّ، ونافعًا من حيث لا يُخلّ، لمن شاء أن يتعرف داءً أو دواء. وقد ألزمني ذلك أن أذكر أسماء النبات والحيوان وأعضاء بدن الإنسان، مما يوجبه ذكر الداء أو الدواء».
وهذه لَمحةٌ أخرى تُطلِعُنا على ثراءه العلمي ورسوخه المَكين في تلك الميادين العلمية التي اختصر لنا بعضها.!
ومما يتميز به العلَّامة ابن الذهبي أنَّ موسوعيته لم تكن نقولًا نقلها عمن سبقه، أو أضاف عليها فحسب، بل كانت إبداعًا فريدًا له، كشفت عنها تجاربه المعملية ورحلاته الميدانية، وذلك ما نوَّهَ إليه حين قال: «وقد عَوَّلتُ في هذا الكتاب على ما اختبرتُه بنفسي».
وبهذا يتبين لنا أنَّ ابن الذهبي من أوائل علماء الحضارة الإسلامية الذين ابتكروا «المنهج التجريبي» قبل أن يأتي
«روجر بيكون» الذي ادَّعى أنه مبتكر هذا المنهج بعشرات القرون.!
وحتى لا يطول بنا هذا الحديث الشيق، فإنه يمكن تلخيص مشروع ابن الذهبي في النقاط التالية:
1- الاهتمام باللغة العربية، وأنَّ اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة.
2- الجمع بين علوم الشريعة من القرآن والسنة وبين علوم الحياة من الطب والنبات والأدوية والكيمياء...
3- الاهتمام بالمنهج التجريبي، وكان في ذلك من السبَّاقين.
4- مرعاة التوثيق العلمي وعدم التعويل على الأساطير الواهنة.
5- الوفاء واعترافه بالجميل والفضل لأساتذته وشيوخه، كابن سينا والبيروني والفراهيدي.
6- صاحب أول معجم جمع بين الطب واللغة العربية.
7- أول من استخدم التنظيم الهجائي في كتابة معجم طبي.
8- كان مثالًا عمليًا على الالتزام بأخلاق المهنة، فكان يقول: (وأعوذ به أن أروم ما ليس لي بحق، أو أقول في العلم بغير علم، أو أنطوي على غش أحد من الأنام، أو يأخذني العجب بما نولتنيه الأيام).
وفي الختام أقولُ: إذا كانت كل هذه المظاهر الفائقة قد بَدَت لنا من كتاب واحد، فماذا كان لو وصلت إلينا كل كتاباته؟!
إننا حقًا أمام موسوعة علمية ضخمة تستحق التقدير والاهتمام، وجديرة بالتأسي والاقتداء.