الفصل الأول: الطريق إلى البنسيون
لم تكن هذه الرحلة اختياري. بل كانت نصيحة طبية، أو بالأحرى تحذيرًا من زملائي في المشرحة، حين لاحظوا أن يدي بدأت ترتجف أثناء عملي. "أنت في حاجة إلى راحة، يا دكتور ياسين"، هكذا قال لي أحدهم، وهو رجل لا يعرف الرحمة حين يتعامل مع الجثث، ففهمت أنني تخطيت الحد الذي لا يجب أن يتخطاه المرء في مهنتي.
ولذا وجدت نفسي في عربة مهتزة، تجرها خيول متعبة، متجهًا إلى مكان بالكاد سمع عنه أحد، ولكنى ذهبت بتوصية أحد الزملاء عندما لمحت له بأننى أريد الهدوء التام . كان يحمل عنوان: بنسيون الشرق.
كان الليل قد استقر تمامًا حين وصلت، والريح تعوي كذئب جائع بين الأشجار العارية. بدا المبنى من بعيد كهيكل عظمي مهجور، جدرانه مشققة، وسقفه مائل كأنه على وشك الانهيار. توقفت العربة أمام بوابة صدئة، ونزلت وسط بركة من الطين، وقبل أن أطرق الباب، فُتح ببطء، كأن أحدًا كان ينتظرني.
ظهرت أمامي امرأة عجوز، تقف تحت ضوء مصباح زيتي، وجهها غارق في الظلال. حدقت بي لبرهة قبل أن تقول بصوت أجش:
— "دكتور ياسين البدري؟"
لم يعجبني أنها نطقت اسمي قبل أن أخبرها به، لكنني اكتفيت بالإيماء.
— "تفضّل… أنت متأخر."
لم أسألها كيف عرفت أنني قادم. كنت قد بدأت أشعر أنني تأخرت حقًا… لكنني لم أكن أعرف على ماذا.
*******
أدخلتني العجوز إلى ردهة واسعة، مضاءة بمصابيح زيتية ترمي بظلال مرتجفة على الجدران الملطخة بالسواد. كانت هناك طاولة طويلة، يجلس حولها بضعة أشخاص، كل واحد منهم يلتزم بصمته، كأنهم حضروا جنازة لا يعرفون صاحبها.
اقترب مني رجل قصير القامة، ممتلئ الجسد، يحمل ندبة طويلة تمتد من أسفل خده إلى عنقه. عرّف نفسه بأنه كارم، صاحب البنسيون، ثم أشار إلى المقاعد قائلاً بصوت خافت:
— "اجلس، يا دكتور. من الأفضل أن تتعرف إلى بقية النزلاء."
تقدمت وجلست، أشعر بنظراتهم تلتهمني في صمت. كنت أستطيع أن أرى في وجوههم شيئًا مألوفًا… ليس الخوف، بل الترقب. كأنهم ينتظرون مني أن أقول شيئًا محددًا.
تنحنح أحدهم، كان رجلاً نحيفًا، يرتدي نظارة سميكة، وسألني دون مقدمات:
— "طبيب شرعي؟ هل جئت للتحقيق؟"
رفعت حاجبي.
— "للراحة، ليس أكثر."
تبادل النزلاء نظرات سريعة، ثم خفضوا رؤوسهم في صمت. لكن امرأة كانت تجلس في الزاوية، نحيلة كظل، رفعت عينيها إليّ وقالت بصوت بالكاد يُسمع:
— "لا أحد يأتي إلى هنا للراحة، دكتور."
سألتها:
— "وماذا عنكِ؟ لماذا أنتِ هنا؟"
ترددت للحظة، ثم ابتسمت تلك الابتسامة التي لا تخبرك بشيء، وقالت:
— "أنا هنا منذ مدة… أطول مما يجب."
*****
في الليلة الأولى، لم أستطع النوم. كان هناك صوت خافت، كأن أحدهم يهمس خلف جدار غرفتي. نهضت بحذر، أشعلت مصباحي الزيتي، وخرجت إلى الرواق.
كان كل شيء ساكنًا، لكنني شعرت بأن المكان نفسه يتنفس. الأرضية تصدر أنينًا تحت قدميّ، والجدران بدت وكأنها تتقلص وتتمدد ببطء.
ثم لاحظت بابًا في آخر الرواق… بابًا لم يكن مثل باقي الأبواب.
كان مغلقًا بقفل صدئ، لكن الأهم من ذلك… كانت هناك علامات على خشبه، كأن أحدًا قد حفر بأظافره كلمات غير مفهومة. اقتربت، مررت أصابعي على الخدوش، وفجأة…
— "لا تلمس الباب."
تجمدت في مكاني، والتفت ببطء.
كانت المرأة النحيلة، واقفة في الظلام، عيناها مفتوحتان على اتساعهما.
— "لماذا؟"
— "لأن من فتحه قبلك… لم يعد ليخبرنا بما رآه."
ما الذي يخفيه الباب؟ ومن هم هؤلاء النزلاء حقًا؟ والأهم… هل كان ينبغي لي أن آتي إلى هنا؟
كل ذلك سأعرفه قريبًا، لكن ليس قبل أن يطرق الموت بابي.