هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  •  أرجوحة 
  • مع خواطر روح آية الدسوقي
  • ذكرى توجع
  • البيض و البشر
  • بين أرطغرل وصلاح
  • لحظة للحب
  • صنع الله
  • عربة القطار
  •  مسلسل أولاد آدم 
  • غيمة خائفة
  • أبناء برج العقرب .. الوقت غير مناسب للبوح بالمشاعر
  • علاقة طاجن البامية بالسعادة
  • لا تكن وعاءا أجوف
  • إن لقلبي ذاكرة 
  • حول شريحة ايلون ماسك
  • حقدٌ دفين
  • نصيبٌ وفقر
  • كان للعيد بهجة
  • الأشباح لا تموت
  • ظلال المدينة القديمة الفصل الثالث
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة محمد شاهين
  5. ظلال المدينة القديمة الفصل الثالث

المصحة المنسية

 

وقف قلبي للحظة، أو ربما توقف الزمن ذاته. ذلك الوجه… عينيّ، وجهي، تعابيري، لكنه ليس أنا.

 

أخذت خطوة للخلف، فصدر عن الأرضية صوت طقطقة خفيفة. لم يتحرك الظل الذي يشبهني، لكنه كان يراقبني، عاكسًا ارتجافي بصبر غريب.

 

رفعت المصباح لأكشف المزيد من الغرفة، فارتطمت أنفاسي بحلقي عندما رأيت الجدران…

 

كانت مليئة بالكتابات، خربشات مضطربة، أرقام متكررة، أسماء ممزقة بين الخطوط. لكن أكثر ما جذب نظري كانت تلك الجملة التي كُتبت بعنف مئات المرات:

 

"تذكَّر من أنت."

 

لم أدرك أنني كنت ألهث حتى شعرت بصدري يعلو ويهبط بحدة. لم يكن هذا مجرد باب مغلق… لم يكن مجرد غرفة. كان هذا المكان يحمل شيئًا أعمق، شيئًا مدفونًا في ذاكرتي.

 

"دكتور ياسين…"

 

التفتُ بسرعة نحو الباب، كان كارم يقف هناك، لكن نظرته لم تكن غاضبة، ولا متفاجئة… كانت حزينة.

 

"ماذا فعلت؟" سألته، لكنني بالكاد سمعت صوتي.

 

تقدم خطوة إلى الداخل، نظر إلى الجدران، ثم إليّ، وقال بصوت منخفض:

 

"ألم يحن الوقت لتتذكر؟"

 

جاءتني الذاكرة كصدمة كهربائية. المكان… الممرات الضيقة، الغرف ذات النوافذ المغلقة، الوجوه المرتبكة للنزلاء… لم يكن هذا مجرد بنسيون.

 

لقد كان مصحة.

 

وكنتُ أحد مرضاها.

 

انحنيت على ركبتيّ، رأسي يدور وكأنني أغرق في دوامة لا قاع لها. لم يكن هذا ممكنًا… بالتأكيد جئت إلى هنا سابقا كطبيب شرعي، كنت أحقق في جريمة… كنت…

 

لكن الصور لم تتوقف.

 

وجوه الأطباء… همسات خلف الأبواب… قيود باردة حول معصمي…

 

وصوت طبيب عجوز يقول لي:

 

"ياسين… أنت لست وحدك في رأسك."

 

رفعت عيني إلى كارم، لم أعد متأكدًا إن كان هو مدير البنسيون… أم طبيبي القديم.

 

"من أنا؟" همست.

 

نظر إليّ طويلًا، ثم قال بهدوء:

 

"أنت من كان يبحث… لكنك لم تعرف."

 

وراءه، في الظلام، كان وجهي الآخر لا يزال يبتسم.

 

*****

 

تراجعت خطوة، بينما بدأ رأسي يضجّ بأصوات لم أكن متأكدًا إن كانت داخل جمجمتي أو في الغرفة ذاتها. شعرت وكأنني أقف عند حافة هاوية، وأنني لو تحركت خطوة خاطئة، فسأسقط إلى مكان لا عودة منه.

 

"أنا… جئت إلى هنا للتحقيق في جريمة قتل…أليس كذلك!"

 

سمعت صوتي وكأنه يخرج من شخص آخر، شخص يحاول التمسك بعالم ينهار من حوله.

 

لكن كارم لم يتحرك، لم ينكر، ولم يؤكد. فقط نظر إليّ بتلك العينين اللتين تحملان شفقة غامضة، وقال:

 

"وهل وجدت القاتل، دكتور؟"

 

الغرفة بدأت تضيق. لا، ليس الغرفة… بل رأسي. كانت هناك صور تتدافع، أصوات متقطعة، كلمات مبعثرة تتداخل مع بعضها:

 

"يجب أن يُعزَل… إنه خطر على نفسه."

 

"ياسين، انظر إليّ، هل ترى شخصًا آخر في المرآة؟"

 

"كانت مجرد حادثة، لم يكن يعرف ما يفعل."

 

أمسكتُ رأسي بيديّ، مصباحي سقط وتحطم، لكن الضوء لم يختفِ… كان هناك وهج باهت ينبعث من الجدران، كما لو أن الكتابات التي ملأت المكان بدأت تتوهج ببطء.

 

"تذكَّر من أنت."

 

ثم رأيت نفسي.

 

لكن ليس في المرآة هذه المرة.

 

رأيت نفسي في ذاكرة لم أعرف أنني أمتلكها.

 

كنتُ جالسًا على سرير معدني بملاءة خشنة، معصمي كانا يحملان آثار قيود قديمة. كنتُ أصغي إلى صوت شخص يجلس قبالتي، رجل أصلع بمعطف طبي، عيناه متعبتان لكنه يتحدث بثبات:

 

"ياسين، نحن هنا منذ ستة أشهر، ونتقدم بشكل جيد. لكنك تحتاج إلى أن تتقبل الحقيقة."

 

"أي حقيقة؟" سمعتُ صوتي القديم، متحشرجًا ومتعبًا.

 

الطبيب أمال رأسه قليلًا، كأنه يبحث عن الطريقة المناسبة ليقولها، ثم نطق بالكلمات التي مزقت عالمي إلى نصفين:

 

"أنت لم تأتِ إلى هنا كطبيب، ياسين. أنت جئت كمريض."

 

صرختُ.

 

كان الصراخ يخرج من داخلي كتمزق لحم حيّ، وكأنني كنت أسحب حقيقة مدفونة تحت جلدي منذ سنوات. تهاويتُ على الأرض، يداي تمسكان بلا شيء، أنفاسي تتسارع بجنون.

 

كارم لم يتحرك. لم يحاول منعي، لم يحاول تهدئتي.

 

لأنه كان يعلم.

 

لأنهم جميعًا كانوا يعلمون.

 

رفعت رأسي ببطء، وعندما نظرت إلى الباب، لم أرَ مجرد خشب قديم، بل رأيت زنزانتي.

 

رأيت نفسي، قبل سنوات، أجلس خلفه، أراقب الممرضين وهم يسيرون في الرواق، بينما كنتُ أهمس لنفسي بجنون:

 

"يجب أن أخرج من هنا. يجب أن أخرج."

 

لكنني خرجت.

 

أليس كذلك؟

 

أليس كذلك…؟

 

في تلك اللحظة، سمعت صوتًا خلفي.

 

كان أشبه بضحكة خافتة، لكنها كانت ضحكتي.

 

التفتُ، وهناك، في الظل، وقف هو.

 

أنا الآخر.

 

ابتسم لي، وقال بصوتي ذاته:

 

"هل عرفت الآن… من قتلهم جميعًا؟"

 

يتبع ...

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

1194 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع