الفصل الثاني
تشعر بأنها تختنق من تلك الأحضان القاتلة والقبلات المميتة بعد أن تآكل قلبها من الشك والخوف، قلبها يريد أن يصدقه، وعقلها يأبى ألا يعترف بوجوده، فالحب مقبرة، تابوتها القلب، وحانوتها حبيب خائن.
عاشت شيرين تلك اللحظة في حالة من الرعب وما زالت غير مستوعبة كل ما يحدث لها، وسامر جوارها محاولًا تهدئتها، فيزداد صراخها وفزعها منه: ابتعد عني، أكرهك، لا أريد العيش معك، دعني وشأني، أنت ليس سامر، الشقة التي كنت تحدثني منها مهجورة، من أنت؟!
اقترب منها محاولًا السيطرة عليها قائلًا: ما هذا الهراء، ماذا تقولين؟! رجاءً اهدئي قليلًا، دعينا نجلس ونتحدث معًا.
ابتعدت عنه وبدا عليها الرعب والخوف منه قائلة: لا أريدك، ولا أريد التحدث معك.
- اصمتي قليلًا، واسمعيني يا شيرين.
هنا تتعالى صرخاتها، وتحاول أن تفتح الباب وتهرب، يجذبها سامر بشدة، ويصفعها على وجهها بقوة، ثم يحتضنها باكيًا مرددًا: غبية أنتِ، لم تدفعيني لذلك؟! أنا أحبكِ ولا أريد أذيتكِ، ساعديني يا شيرين، أنا سامر صدقيني، هناك الكثير لا تعرفيه، والأفضل لنا ألا تعرفيه، على الأقل الآن، أرجوكِ يا شيرين صدقيني، أنا سامر حبيبكِ وزوجكِ، تحملي غموضي وظروفي المجبر عليها، وأعدكِ كل شيء سيكون على ما يرام.
تبكي شيرين حظها العثر، وترتعش أوصالها خوفًا منه، لم تعد تشعر بالأمان معه!
هل تتهمه بقتل والديها؟! أصبحت في حيرة من أمره، أي ألم هذا؟! كم تمنت أن تحب وتتزوج من اختاره قلبها، والآن تعاني من سوء اختيارها، وتتعذب من قربه الذي كلفها فقدان أعز من تملك. تحدث نفسها هامسة "يا رب ليس لي سواك، ساعدني لاجتياز هذه المحنة، يارب دلني ونجني من كل شر".
تنام شيرين بعد يوم عصيب، ينظر إليها لا يريدها أن تعرف، ولا يقوى على مواجهتها بالحقيقة المؤلمة، يتأملها بشوق ويبكي "ليتك تعلمين كم أحبكِ! وبما ضحيت من أجلكِ! الأمر ليس كما تعتقدين، لن تتحملي هول الصدمة وبشاعة الواقع، لن تقوي على ذلك العبء الذي أحمله على عاتقي منذ سنوات، قلبي وعقلي يحملان ذكريات وأتراح لا يتحملها أحد، قدري أن أتحمل تلك اللعنة، نيابة عنكِ وعن الجميع، ليتني أمتلك الشجاعة لأعترف لكِ، وليتكِ بالقوة التي تتحمل، لكن خوفي عليكِ وحبي لكِ يجبراني على تحمل نظرات الشك منكِ، لن أتحمل رعبكِ وأصابتكِ بتلك اللعنة".
يتعالى أذان الفجر، يبكي سامر بشدة مرددًا "يا رب رحمتك بي، لقد تعبت كثيرًا، أتألم بشدة لا أقوى حتى على الدعاء، لا أجرؤ على مقابلتك بكل ما فعلت، يارب أنا مجبر على كل شيء، مسلوب الإرادة، لم أعد أعرف هل أنا سامر؟! أم ذلك الشيطان العاصي لك، أي سحر هذا؟! ماذا جنيت لتعاقبني هكذا؟ هل ترضى لي كل هذا العذاب؟! يا رب سأتحمل كل هذا وأكثر ولن أبالي، حتى لا يصيب شيرين مكروها أو أذى وضعتها في حفظك ورعايتك، أتوسل إليك بضعفي أن تحميها بقوتك، وألا تريني فيها بأسا أبدًا".
يرن هاتف سامر، كان على الجانب الأخر (ربيعة) تلك الحية التي دمرت حياته، ذات وجهين، نقمة، متلونة، تخشاها حيات الأرض، يرد عليها متأففًا:
- ماذا تريدين الآن؟ أنا متعب وأحتاج القليل من الراحة ألا تفهمين؟!
يتعالى صوتها بغضب: لا تحاول الهرب عزيزي، أنا ربيعة ولو كنت في جحر الضبع سأصل إليك، أحضر فورًا لدينا أعمال طارئة.
أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يرد بصرامة: هل بدأ الشقاء باكرًا؟!
زفرت ربيعة زفرة مشتعلة ثم هتفت بحدة: اسرع، ولا تثير غضبي، أنت تعلم جيدًا نتائج الغضب.
وكأن سحرها بدأ مفعوله، تغير صوته ورد بخضوع، وكأنه شخصًا آخر: سمعًا وطاعة سيدتي، سأكون عندكِ بعد لحظات.
ألقى نظرة على شيرين، لا زالت نائمة، أمسك يدها وقبّلها مرددًا: لم أعد أعرف حقًا من أنا؟! هل أنا سامر الذي يعشقك حد الجنون ومستعد أن يُضحي بكل غالٍ وثمين من أجلكِ، أم أنني ذلك الشيطان الذليل الخاضع لربيعة وأوامرها، أنا المجرم الذي ينشر كل شر ويطيع تلك الحية، ويقترف كل ذنب وجريمة، حقوقًا تُهدر ودماء تسيل، وأعراضًا تُنهتك، وأموالًا تُنهب، بيد ربيعة وأعوانها من الأنس والجن، هل تملك حقًا مصيرنا؟ هل تقوم بسحرها الأسود وتميت وتحيى، هل تملك قدرة خارقة على علم الغيب؟! أم أن كل ذلك أمور شعوذة ودجل ونصب واحتيال على خلق الله؟!
احترت كثيرًا من أمرها، أحيانًا أشعر بضعفي أمامها وذلي وهواني، وأحيانا أحس كأن وهمًا كبيرًا تملكني ناحيتها فقط، ولا يوجد سحر أو جان يتلبسني، أنا في حيرة من أمري.
ظل يفكر طوال الطريق وتذكر كلمات ربيعة له "ستذهب إلى بيت شيرين، وتدّعي حبها وتطلب الزواج منها، أريد الانتقام منها ومن أمها وأبيها، أبلغوا عني، لولا أعواني بالمركز لما علمت ببلاغهما وتم القبض عليّ، هربت وتركت مكاني بسببهما، لكن زوجي تم القبض عليه وضُرب بعنف، مر عام ولا أستطيع رؤيته، ولولا ما وجدوه معه من مخدرات لتم الإفراج عنه، لم يستطع المحامي تخفيف الحكم ولا مساعدته، ويل لأم شيرين وأبيها وشيرين من انتقام ربيعة!".
وصل إلى مقر ربيعة، وجدها تنتظره خارج المنزل، تعجب وسأل: ماذا حدث ؟! لم أنتِ هنا وليس بالداخل؟!
- سنذهب للحالة هذه المرة، هيا أسرع فالوضع خطير، سأشرح لك ونحن في الطريق.
وصلا إلى قرية صغيرة، اصطحبهما رجل كبير يرتدي جلبابًا، ودموعه تسيل بغزارة، داخل المنزل كان ما لا يتوقعه أحد، عروس في ثوب زفافها تسبح في بركة من الدماء، ممددة على سرير مزين، بجوارها شاب بقميص أبيض ويده ملطخة بالدماء، على ما يبدو أنه العريس، كان يركع على ركبتيه مستندًا على سرير العروس باكيًا، وبجواره سيدة كبيرة تربت على رأسه بحب وخوف شديدين، يبدو أنها أمه، وأبيه من جاء لاصطحاب سامر وربيعة، استنتج سامر من خبرته سيناريو ربيعة التي جاءت لتنفذه هنا، وهمس إلى نفسه "العريس قتل عروسته ليلة الزفاف، وربيعة ستعلن أنه ملبوسٌ من جن خفي دفعه دون وعي للجنون، أو جني عاشق للعروس وهو من ارتكب الجريمة، وستُدفن تلك الضحية البريئة، ولن تسلم من كل إشاعة تمس شرفها وشرف عائلتها، الأب والأم سيرضخان لرأي الشيخة ربيعة، التي يعتبرونها هنا من أولياء الله الصالحين، وأنا سأكون صوت الجن الذي يعلو ويتحدث بالحقيقة ليخاف الجميع، ويقتنعون بما يسمعون، والحاضر سيعلن الغائب. لكن هنا تدخل الغرفة سيدة بصراخها وعويلها، تضرب كفًا بكف وقد احتقن وجهها وامتزج أحمره بزرقة مكتومة، لطمت خديها، وتعال نحيبها: قتلت ابنتي! آه يا حبيبة قلبي