في ساحات الوغى ليس لمن نقض العهد بعد إبرامه، ونكص على عقبيه صكًا يمنحه نعمة العفو، ونظرة الغفران، واسترداد ميثاق الثقة بعد كسره؛ لأنه هرب إلى طينه، ولاذ بثقله، وتمكنت منه لعنة الإخلاد إلى الهوى؛ فطفحت الأدواء والعلل على ملامحه واستقر بخوائه الهوان؛ فكان عاقبته الترك لشيخوخة الجبن ونار التخاذل تأكل جسده وتنهش روحه، والفصل عن ساحات العزة، مثلما فعل (طالوت) بجنوده قبل المعركة في محاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوسهم، ففصل الذين ركنوا إلى ضعفهم، وتركهم وراءه.
أما القلب الموصول بالله، النابض بنور العقيدة والإيمان، الذي انهدمت فيه أسوار الخوف، وتبعات الدنيا، وفر من ركام الغفلة لنور اليقين الذي غير موازينه وتصوراته، فرأى الواقع الصغير المحدود بعين موصولة بالسماء، اليقين ذلك النور الذي يمنح الروح سر الحياة وديمومة ثباتها على أرض الإيمان عند لفحة كل ابتلاء، ونضجها على كثرة الوعي والخبرة، ذلك الفجر الساطع الذي يبزغ في ثناياها فيكسر عتمة الليل ولجة الأحزان، ذلك اللطف الذي يسري في جحيم العمر حين تلطخ عقاربه بسم الخذلان؛ فترفل جنة اليقين لتذيق الروح حلا النسيان،
ذلك اليقين الذي ارتكزت عليه الفئة القليلة، المؤمنة، الصابرة، وثبتت، وخاضت المعركة، وتلقت النصر، كانت ترى ما يراه الآخرون من كثرة العدو، وتساقط فروعها المتخاذلة من شجرتها العفية واحدًا بعد واحد، حين هزت المحنة جذعها فسقط الوهن منها وثبت الأصل على ضعفه الظاهر للناظرين؛ لكن حين استعانت القلة برب الأرض وصاحب العزة؛ أضحت طوفانًا أودى بالعدو وكثرته إلى الهلاك وجعله كالعصف المأكول حين نادت بأصدق حِس:
(ربنا أفرغ علينا صبرًا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)
فجاءت الفاء على عجل بالبشرى، تربت على القلوب بقول الله جل في علاه:
(فهزموهم بإذن الله)