على عرش الطغيان يضطجع فرعون، ليسقي عبيده ويلات الضيم والعذاب، ويحتسي معهم نبيذ الخنوع والجحود بنعمة ربه؛ فيستمرئوا حياة الذلة والمسكنة؛ فيرسل الله موسى عليه السلام لتحرير بيت المقدس، وإقامة شرعه، ويشعل في نفوسهم انتفاضة العقيدة، فيرفض الجيل الجبان الدخول بحجة أن فيها قومًا جبارين ولا طاقة لهم بجهادهم، ولم يحرم الصف المسلم من رجال أتقياء أهدوا لهذا الجيل النصيحة على طبق من ود وصدق وإصرار، لكنهم رفضوا وتطاولوا على موسى وربه.
يقول الله تعالى:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23))
وهنا طلب موسى من ربه أن يفرق بينه وبين قومه، حتى
لا يشمله غضب الله عز وجل معهم، وعاقب الله هذا الجيل الجبان بالتيه والطرد من رحمة الله أربعين سنة.
والآن في ليالي العزة المراقة قهرًا وعدوانًا من انتفاضة تشرين الثائر، صار سوط العجز والقهر يجلد الأرض ويخسف بها، والحلم ضنينٌ مهيضُ الجناح، نبت في صدر طفلٍ عالق في أحضان القصف، فجرفه شيطانٌ مريد لا يرقب في مؤمنٍ إلًا ولا ذمة، ووأده في جب قعير، وتبخرت الآمال كالكحول، لم يبق منها سوى أصوات تلطم وجنات الأرض، وتقرع آذان السماء، فترتعد وترسل جنودها؛ فليتقطوا مشاهد مرعبة لأراضٍ دكت دكًا فوق أهلها دون مراعاة أحلام البراءة في عين طفل، أو عجز شيخ، أو ضعف امرأة، أو شاب أعزل، والأصوات تتصارع هاذية:
ابني (يوسف) يبلغ من العمر سبع سنابل خضر، حلو، شعره كيرلي ووجهه كالحليب، ابتسامته الرائقة تمنح الظلام بريقًا يهدي النفوس، أسنانه البيضاء المنسقة كقطع الكريستال الصغيرة...
ـ هذه أمي، أعرفها من شعرها.. لو خصلة من شعر أمي أتونس بها!
ـ كان عايش والله. كمال.. كمال..
ـ الأولاد ماتوا من غير ما ياكلوا
ـ عرائسي نسيتها في القصف
ـ ماتوا اخواتي
ـ رد عليَّ
ـ كنت أنتظر طفلي
ـ انقطعت الكهرباء.. توقفت الأجهزة الطبية.. مات الكثير.. وأخيرًا تم قصف المشفى
الأرض عارية إلا من الخراب، يسكنها الموت، وترويها الدماء، صارت جبانة تتضور لهفة لاحتواء أبنائها الذين أبادتهم أيادي الخذلان.
لكنهم رغم كل هذا الدمار هم لطف الله في أرضه الذي أيقظ قلوبنا من سباتها العميق ، وجبره الذي لملم شعثنا، وجمع فرقتنا، ووحد وجهتنا، طبتم أحياء في جنات النعيم آمنين.
يتبع