في أحد أحياء القاهرة القديمة، حيث تلتقي المآذن بأجراس الكنائس في سيمفونية متناغمة، بدأت حكايتي مع "مريم". عشت عمر بين الكتب في مكتبة صغيرة متوارية بين الأزقة، أبيع الكتب وأقرأ القصص التي تصطف على الرفوف. وفي صباح بارد، دخلت مريم للمكتبة لأول مرة، فتاة تبدو كحورية، طلبت كتاب عن اللاهوت المسيحي. وجهها مشرقاً يحمل ملامح الطمأنينة، وفي عينيها سكون بحر يحمل أسرارا الحياة.
بدءنا حديث لم ينتهي إلى الأن تحب سماع النقشبندي فصوته يحملها إلى عالم آخر كما تصفه، تشدو بتواشيحه بنعومه لتصبح الكلمات أجنحة تحلّق بنا نحو السماء. اخبرتها حبي للترانيم الكنسية، موسيقاها الهادئة العميقة تلامس روحي، تجعلني أشعر وكأنما أقف أمام باب السماء.
ذات يوم، وهي تختار كتاباً عن التصوف، سألتني:
"هل سمعت من قبل ابتهال "مولاي إني ببابك"؟"
أجبتها بابتسامة: "إنه صوت الطمأنينة. سمعت أيضاً ترنيمة 'أغنية مريم'؟" أخبرتها عن سورة مريم.
صرنا نتبادل الأصوات، وكأننا نبحث عن الله في الموسيقى الروحية، في كلمات الابتهال والترنيم، في لغة القلب التي لا تعرف إلا الإنسان.
دعوتها إلى رحلة لنسمع موسيقى النيل، قالت بصوت متهدج:
"أتعلم أن حبنا بالنسبة لأهلي خروج عن الإيمان؟"
إخترقت كلماتها قلبي. قلت: "هل هذا ما تشعرين به أنتِ؟"
بعينيها الممتلئتين بالحزن، قالت: "الإيمان أكبر من الحدود التي يضعها الناس. لكني خائفة. ماذا لو فقدت كل شيء؟ ماذا لو أصبحت غريبة في عيني من أحبهم؟"
أمسكت بيدها مواسياً: "الله وحده يعلم نقاء قلوبنا. نحن نصلي له معاً، بطريقتنا، وهو يسمعنا."
في رمضان، أرسلت لي علبة تمر مع رسالة بخط أنثوي رقيق: "أتمنى أن يتقبل صومك بالرحمة والمغفرة." وفي عيد الميلاد، أهديتها طبقاً صغيراً من الكنافة، وكتبت: "عيد ميلاد مجيد، يا مريمي الغالية."
غنت لي مقطعاً من ترنيمة "هللويا"، لأردُّ عليها بأبيات من موشح للنقشبندي والذي رغم موته جمع قلبينا، لم نكن نحاول أن نثبت شيئاً، فقط نتشارك ما يجعل قلوبنا تشعر بالخفة.
مع الوقت، صرنا نتحدث عن الزواج، عن بناء حياة مشتركة، لكن مريم دائماً تعود إلى نفس السؤال:
"هل يمكن أن أكون مؤمنة في عينيك، وأظل مؤمنة في عيون أهلي؟"
أجيبها: "الإيمان ليس قيداً إنه حرية الروح، لن أجبركِ على أي شيء. كل ما أريده أن تبقي أنتِ، كما أنتِ."
في ليلة شتوية هادئة، وقفنا على ضفة النيل، النهر الهادئ يعكس ضوء القمر. فاجأتني بحيرتها:
"هل تعتقد أن الله يبتسم الآن؟"
أجبتها: "إذا كان يسمع النقشبندي وترانيمكِ في آنٍ واحد، فلابد أنه يبتسم الله يريدنا أن نؤمن به وإن كنا لا نراه، يريد الحب لا البغض ولا الكره أو الحروب وبشاعاتها."
أشعلتُ شمعة صغيرة ووضعتها على سطح الماء، وهمستُ بدعاءً "اللهم اجعل هذا الحب صلاة لا تنتهي" وضعت يدها على قلبي مضيفة:
"تذكر دائما الله في الموسيقى، في الضحكة، في هذا الحب، حُبنا صلاة تتحدى الخوف، تثبت أن الله برحمته أكبر من أي انقسام بين البشر".
اطفئت الشمعه مودعة: لا تنساني سأبقى أحبك ويوماً قد أعود لأكون صديقتك الأقرب.
لم أرها ثانية لكنها بقت سر يسكن قلبي يسبح أمام عيني كلما سمعت المؤذن ينادي حي على الصلاة، كلما دقت أجراس الكنيسة المجاورة للمكتبة، وكلما سمعت النقشبندي يشدو بتواشيحه.