منارة ثقافية لا ينافسها سوى ضفاف نهر السين بباريس
ملتقى المثقفين ومعرض الكتاب الدائم في قلب القاهرة بأفضل الأسعار
من رواده جمال عبد الناصر وأنور السادات قبل وبعد أن أصبحا رؤساء لمصر

السور بدوره نال أهميةَ خاصة لدى مثقفي مصر والعالم العربي، حتى إن الأديب الأستاذ سليمان فياض في برنامجه الإذاعي من سور الأزبكية -قبل أكثر من 20 عامًا- أطلق عليه (جامعة الفقراء)، حيث يجد الراغبون في القراءةِ والعلم من أبناء الطبقة الفقيرة ضالَّتَهُم بأسعار زهيدة.
بل إن بعضا ممن صاروا رؤساء لمصر كان من رواد هذا المكان العتيق، فجمال عبد الناصر -رئيس مصر الأسبق- كان يتردد بنفسه على سور الأزبكية كثيرا؛ ليقتني منه الكتب التي يريدها، وليطمئن على حال بائعيه، وكذلك فعل بالمثل الرئيس السابق أنور السادات قبل أن يكون رئيسا لمصر، وبعد أن أصبح رئيسًا لها، كما ذكر هو هذا في كتابه الشهير (البحث عن الذات).
لذلك، فأهمية سور الأزبكية لا تنبع من أنه مكانٌ لبيع الكتب القديمة، وإنما لأنه أصبح على مرّ السنين واحدًا من أهم الأماكن التي يمكن لأي إنسان أن يجد فيها ضالَّتَه، حتى إنه أصبح -بلا مبالغة- المكان الذي يساهم في تشكيل ثقافة المصريين، نظرًا لما تزخر به مكتباته، التي يبلغ عددها الآن 133 مكتبة، بأمهات الكتب في كافة المجالات، فهو يُعَدّ مقصدًا لكل من يبحث عن أي كتب أو مراجع لا يجدها، سواء من طلبة الجامعات، أو من الأساتذة، والباحثين في كافة المجالات،كما أنه يزخر بالمجلات والصحف القديمة التي تؤرخ لتاريخ مصر.

من المعروف تاريخيا أن عمر منطقة الأزبكية يعود إلى أكثرَ من سبعةِ قرون، وقد سميت باسم الأمير عز الدين يزبك؛ قائد جيش السلطان قايتباي، الذي قام بتجميل منطقة الأزبكية، وجعلها حديقة للقاهرة ، واحتفظت الحديقة ببركة الأزبكية، واستمرت كذلك حتى أمر الخديوي إسماعيل بردمها، وأقام على جزء منها دار الأوبرا؛ للاحتفال بملوك أوروبا القادمين لحضور حفل افتتاح قناة السويس، فقد كانت بركة قديمة مساحتها حوالي 60 فدانًا، ثم رُدِمَت سنة 1864، وكلف الخديوي إسماعيل المهندس الفرنسي "ديشان" مسئول بساتين باريس، بإنشاء حديقة مساحتها 20 فدانا، وبالفعل أنشئت الحديقة، وزُوِّدَتْ بحوالي 2500 مصباح غاز.
ظلت حديقة الأزبكية مع ما مَرّ عليها من تغيرات تشتهر بسورها الحديدي الأسود، إلى أن تم هدم السور مع بداية ثورة يوليو 1952م، فتحولت الحديقة إلى مكان يدخله عامة الشعب، وتم إقامة سور حجري مكان السور الحديدي، الذي تحول إلى مكتبات ثقافية، تحولت بمرور الوقت إلى منارة إشعاع للفكر والثقافة، وشيئًا فشيئًا تحول المكان إلى معرض دائم ومفتوح للكتب القديمة.
كان باعة الكتب قديما قبل إنشاء السور يطوفون بالكتب على المقاهي، حتى بدءوا يفترشون كتبهم شيئًا فشيئًا في ميدان العتبة؛ أحدِ أهم ميادين وسط القاهرة، بالقرب من دار الأوبرا، وبمحاذاة حديقة الأزبكية .
وبدأ البائعون يعرضون كتبهم بجانب السور منذ عام 1926م ، وكثيرًا ما كانت البلدية(شرطة الإشغالات) تطاردهم.
وفي عام1957 تم منح هؤلاء الباعة تراخيصَ مؤقتة كباعة متجولين لبيع الكتب، وعندما هُدِمَ السور الحديدي الذي كان حول الحديقة جلس الباعة على الأرض حول أطراف الحديقة. وفي بداية التسعينيات نُقِلَت أكشاك السور(المحلات الصغيرة المؤقتة) إلى منطقة "الدَّرَّاسة"، ثم عادت الكتب مرة أخرى إلى منطقة الأزبكية عام1998م بعد غياب خمس سنوات,
يقول أحد قدامى الباعة على سور الأزبكية: أنا توارثْتُ مهنةَ بيع الكتب أبًا عن جد، وكان جدي أولَ القادمين إلى السور، وهو صعيديٌّ قادمٌ من أقصى جنوب مصر، ثم أورث المهنة لأبي، الذي كان يصطحبني إلى هنا وأنا طفل صغير، فوقعت في غرام هذه المهنة إلى الحد الذي دفعني إلى ترك التعليم والاكتفاء بالثانوية العامة!
وعن تاريخ سور الأزبكية يروي قائلا: بدأ السوق بمجموعة من باعة الكتب القديمة؛ حيث كانوا يقومون بشرائها من (درب الجماميز)، ومكتبات (دار السعادة)، (والآداب) وغيرها، وكانوا في البداية يقومون بشراء الكتب صغيرة الحجم، ويقومون ببيعها على مقاهي المثقفين (مقهى ريش، وزهرة البستان)، أما في ساعة القيلولة، وحين تُغلِقُ المقاهي أبوابها، فكان هؤلاء الباعة يلجئون إلى ميدان الأوبرا للاستراحة في ظل الأشجار التي كانت تملأ الميدان آنذاك، وأصبح شارع (حمدي سيف النصر)- الذي يفصل بين حديقة الأزبكية والأوبرا الملكية- مكانًا لعرض بضاعتهم من الكتب، ينجذب إليه المارة فيتوقف بعضهم لشرائها.
ومع الوقت استقر الباعة في المكان، وعلى الرغم من غرابة البداية فإن السور أخذ في التطور، وعلى الرغم من ملاحقة السلطات لهم، لقربهم من الأوبرا الملكية فإن الباعة تمسكوا بمكانهم، إلى أن وافق رئيس الوزراء (مصطفى النحاس) على بقاء السور، وتم الترخيص للباعة.
استمر الوضع هكذا إلى أن قامت ثورة 1952م، وقام الرئيس جمال عبد الناصر بإنشاء أكشاك ومكتبات لهؤلاء الباعة، إلى أن تم إنشاء كوبري الأزهر.
بعد ذلك جاءت المرحلة الثانية من مترو الأنفاق، ونُقِل الباعة إلى مكان مكتظ بالباعة الجوالين، الذين لا علاقة لهم بالكتب، وذلك بالقرب من مستشفى الحسين في منطقة الأزهر. واستمر الحال على هذا النحو لست سنوات إلى أن تم إعادتهم مرة أخرى إلى منطقة الأزبكية، ولكنها كانت عودةً رافقتها مشاكل متعددة، منها إغلاق الباب الخلفي للسور، وافتراش الباعة الجائلين.
