_مين ياسمين اللي كاتبة اسمها دي يا زعفرانة؟
_حكاية جديدة.
_يعني أجهّز الأوراق عشان هتخليها تحكي؟
_بالعكس، اللي هتحكي صابرين جارتها، لأن ياسمين نفسها ماتت من فترة طويلة!
**
"ياسمين هَتنتِقم؛ ياسمين مُش هتسيب حقها".
دَه كان كلام الحاجة صفية وهي بتحتضِر.. محدّش كان عارف سبب الكلام اللي هي بتقوله، كل اللي سمعها فسَّر كلامها على إنه مجرد تخاريف بسبب الاحتضار، وغاب عنهم إن اللي بيحتضِر مُش بيخرَّف، دَه بيكون مكشوف عنه الحجاب، وشايف حاجات اللي حواليه ميقدروش يشوفوها..
عن نفسي كنت واثقة من دَه، وعارفة إن كلامها وراه حاجة اتأكدِت منها قبل ما تموت، ولما قالت إنها شايفة ياسمين بنتها؛ وهي اللي طلبت منها تبلّغ الكلام ده، كنت مصدَّقة إنها شايفاها فعلًا، بَس ليه دلوقت بالتحديد؟ ياسمين انتحرت ليلة دخلتها، والحادثة كانت صدمة للبلد كلها، خصوصًا لما اتعرِف السَّبب اللي انتحرت عشانه، واللي حصل كان سبب في رقدة أمها – الحاجة صفية – لحد ما ماتت، ياترى إيه الحكاية بالظبط؟!
*
بعدها بـ 3 ليالي من موت الحاجة صفية...
عيني مشافتش النوم من 3 أيام تقريبًا؛ من وقت ما الحاجة صفية ماتت، أنا جارتها وفي مقام ياسمين بنتها الله يرحمها، وكنت براعيها لأن بنتها الوحيدة ماتت، وابنها مشغول في حياته، وأثناء وجوده مبيقدرش يهتم بيها زي ما يكون جنبها بنت، عشان كده كنت بحاول أكون جنبها على قد ما أقدر، وبوازن بين بيتي وبينها، والنهارده بعد ما التالِت خلِص، قُلت أشوف بيتي ناقصه إيه، واتضح لي إن ورايا غسيل ياما، شغلت الغسالة برغم إن الوقت متأخر، وبدأت أغسِل في أول فُم...
أخدت الهدوم المغسولة وخرجت من الدار عشان أنشرها، أصل المَنشر في ضَهر البيت من ناحية الأرض الفاضية، الدنيا كانت ضلمة، ساعتها افتكرت إن اللمبة اللي عند المنشر محروقة، وموت الحاجة صفية نسَّاني أطلب من علي جوزي يغيَّرها، وقفت أنشر في الضلمة، كنت بمِد إيدي عشان أعرف مكان حبل الغسيل؛ قبل ما أحُط حتة الهدوم فوقه، لحد ما حسيت بحاجة هزَّت إيدي وأنا بنشر؛ وبدل ما أحط الهدوم على الحبل حطيتها على الهوا ووقعِت، ولما نزلت في الأرض عشان أجيبها، لمحت في الضلمة قدامي كفوف رجلين؛ كانوا منفوخين ولونهم أزرق!
صرخت ومقدرتش أقوم من الأرض، جسمي تلِّج وأعصابي سابت، رجليا كانت عاجزة إنها ترفع جسمي، الوقت كان بيفوت وكفوف الرجلين قدامي، وغصب عني عيني كانت مبحلقة فيهم؛ ومكنتش قادرة أمنع نفسي من الصريخ، لحد ما لقيت نور كشاف بيقرَّب منّي، وساعتها كفوف الرجلين اختفت، ولقيت قدامي علي جوزي، مسكني من دراعي وساعدني أقوم من الأرض وهو بيسألني:
-مالك يا صابرين؟ قاعدة في الأرض وبتصرخي ليه؟
جاوبته وقُلت بنفس مقطوع:
-كفوف رجلين لونها أزرق يا علي، أنا شُفتهم بعيني!
لمَّا قُلت كده علي اتلفّت حوالين نفسه وهو بيضرب نور الكشاف في كل حتة، وبعدها قال:
-إيه اللي بتقوليه دَه يا صابرين، أنتي عاوزة تلبّشي جتِّتي ولا إيه؟ ما أنتي عايشة هنا من سنين، ودي مُش أول مرة تنشُري الهدوم في نص الليل، اشمعنى المرَّة دي بتقولي كده!
-لأن ده اللي حصل.
-طيّب قومي وابقي كمّلي لما النهار يطلع، الصباح رباح.
دخلنا البيت؛ حتى ما أخدتش باقي الهدوم معايا، قفلت الغسالة وقعدت، فضلت صاحية طول الليل، قعدت على الكنبة ودماغي كانت بتودّي وتجيب، حتّى علي كان مستغرب، المفروض إني معرفتِش أنام الفترة اللي فاتت بسبب العَزا، وبرغم كده فضلت صاحية، عيني مفنجلة، وقدامهم صورة كفوف الرجلين الزرقا، وكان بيتردد في وداني كلام الحاجة صفية وهي بتحتضر، دماغي كانت هتنفجر من التفكير، لحد ما لقيت علي خارج من الأوضة، ووقف قدامي وقال:
-صاحية ليه يا صابرين؟
-مُش قادرة أغمض عيني.
-واحدة تانية مكانك كان زمانها نامت على نفسها، أنتي تقريبًا صاحية من وقت موت الحاجة صفية الله يرحمها.
-كلامها بيتردد في وداني ومش قادرة أبطَّل تفكير فيه.
-كلام إيه بالظبط؟
-اللي كانت بتقوله عن ياسمين بنتها الله يرحمها.
-خلاص بقى الله يرحمها، ماتت وسيرتها ماتت معاها، اذكروا محاسن موتاكم.
رفعت عيني ناحيته وقُلت:
-أنت كمان مصدَّق اللي اتقال عنها يا علي؟
-أنا لا أقدر أصدَّق ولا أكذّب، بس كله كان عارف إنها بترفُض العرسان، لحد ما أخوها عرف إنها بتحب عيّل زميلها في الجامعة، وأجبرها على الجواز من أوّل عريس اتقدّم لها، ربنا يستر على ولايانا.
-وفَّر كلامك اللي مالوش لازمة دَه يا علي، ومتبقاش زي الناس اللي بتردد كلام وخلاص، ياسمين صاغ سليم وبنت بنوت، وموتها وراه سبب تاني غير اللي عريسها وأمه كانوا بيقولوا عليه.
-الله أعلم بالحقيقة يا صابرين، هي عند ربنا ومفيش أحن منه.
معلَّقتش على كلامه، ولما سألني إن كنت هنام ولا لأ، قُلت له إني قاعدة لحد ما يجيلي نوم..
الوقت فات وبقينا قُرب الفَجر، كنت قاعدة على الكنبة اللي في ضهرها منَشر الغسيل.. بدأت أسمع خطوات ماشية برَّه، معرفش ليه تفكيري مراحش ناحية إن في حد ماشي، ولقيتني بفتكر كفوف الرجلين الزرقا..
بمجرَّد ما الفكرة دي جَت في بالي لقيتني بقف على الكنبة، وبفتح الشباك اللي بيبُص على منشر الغسيل والأرض اللي ورا البيت، كنت لسه سامعة صوت الخطوات، لكن عيني مكانتش شايفة حاجة، الدنيا ضلمة ومفيش حاجة ظاهرة، مُش عارفة مين اللي ماشي، فضلت أبُص يمين وشمال والخطوات بتقرَّب من البيت، لحد ما ظهرت قدامي ملامح فجأة، وِش واحدة لونه أزرق، بوقّها مفتوح واللسان خارج منه، العينين كانت مفتوحة على آخرها، وبرغم إن اللي شيفاه قدامي بيقول إن دَه وش واحدة ميِّته، لكن لقيته بيبتسم برغم تفاصيله المرعبة..
غصب عني عيني نزلت على باقي جِسمها، كانت لابسة حاجة لونها أبيض، ولما وصلت عند آخر هدومها شُفت كفوف الرجلين اللي لونها أزرق، هي نفسها اللي شُفتها لما وقعت في الأرض برَّه.. من الخوف اللي كنت فيه حسيت إن عيني بتتحرك من نفسها، رجعت بصيت على وشّها من تاني، ولمحت ضحكتها المخيفة، فضلت مبحلقة فيها وفاقدة النُطق لحد ما لقيتها نطقت وقالت:
-إزيك يا صابرين!
قلبي اتقبض وجسمي ارتعش، ساعتها نطقت بلسان مهزوز وقُلت:
-ياسمين!
رغم إن الملامح متغيَّرة بطريقة بشعة، لكنه كان صوت ياسمين، لسه فاكراه رغم إنها ماتت من فترة طويلة، استغربت إزاي ملامحها اتغيَّرت بالشكل ده، واستغربت أكتر من وجودها قدامي رغم إنها ماتت، خصوصًا لما دقَّقت في هدومها اللي باللون الأبيض، واتأكدت إنها قماشة ملفوفة على جسمها، واتضح لي بعدها إنه الكَفن اللي اندفنت به، أنا اللي اشتريته بإيدي لما وصلنا خبر موتها..
-مُش هتقوليلي حمد الله على السلامة؟
كلامها خلَّى أعصابي تهرب أكتر، ولما لقيتها واقفة قدامي في مستوى الشباك، بلعت ريقي وأنا ببُص عند رجليها، ارتفاع الشباك أعلى من إن حد يكون واقف ورا البيت ويوصل لمستواه، وساعتها اكتشفت إنها مُش واقفة على الأرض، دي طايرة في الهوا، لساني اتلجلج ومعرفتش أنطق، لكن هي اللي كملت كلامها...
-أنا رجعت يا صابرين، أصل الواحد مننا لازم يستوفي رزقه بالكامل قبل ما يمشي منها خالص، سواء الرزق ده أكل أو شُرب أو كام نَفَس هيتنفّسه، أو لو كان سُمعه، فكان لازم أرجع عشان في شيء من حقي ناقصني في الدنيا.
لساني اتعقَد أكتر وأنا بسمعها، كلامها كان غريب، اتمنّيت اللي بشوفه يكون من تأثير الزعل على الحاجة صفية، مكانش عندي استعداد أصدَّق فكرة إن واحدة ماتت وترجع من تاني، لأ وتظهر لي أنا وتتكلم معايا، حتى وإن كانت قريبة مني وهي عايشة.
-هتفضلي مبحلقة فيا كتير؟.. على فكرة، عايزة أشكرك على مساعدتك لأمي من بعدي، هي دلوقت في مكان أحسن بكتير.
"واقفة في الشباك ليه دلوقت يا صابرين؟".
اتفاجئت بصوت علي، كان واقف ورايا بيبُص لي ومستغرب.. كنت لسَّه هجاوبه، يادوب بس بصيت برَّه عشان أقول له إن ياسمين هنا وبتتكلم معايا، لكن ملقتش ورا البيت غير الضلمة، ياسمين مكانتش موجودة، معرفش إن كانت الضلمة بلعتها ولا هي اللي فَص ملح وداب، أو مكانش عندها رغبة تعلن وجودها لحد غيري، ولو قُلت الكلام دَه لعلي؛ هيقول إني اتجننت رسمي، عشان كده عملت نفسي بطَّمن على الغسيل، كتمت الخوف والتوتر جوايا، قفلت الشباك وقعدت على الكنبة، بصيت ناحية علي وأنا ساكتة، لحد ما قال:
-بَس لو أعرف مالك!
-موت الحاجة صفية خلّى سيرة ياسمين تتفتح من تاني.
-الناس مش عاوزة مناسبة عشان تفتح سيرة حد يا صابرين، السيرة من وقت ما بتتولد وبتفضل عايشة طول ما الناس موجودة وبيقدروا يتكلموا، ولو في لسان تِعب من الكلام، بتلاقي لسان تاني بيتكلم مكانه، وأنتي عارفة الناس في بلدنا مفيش وراهم غير الكلام، يعني الستات هتتسلّى بإيه على المصاطب، ولا الرجالة هتتكلم في إيه على القهاوي.
-أنا مُش مفروسة غير من أخوها، كان شاطر بس يجبرها على جوازة مش عايزاها، لكنه مقدرش يخرِس لسان الناس اللي اتكلّمت عنها.
-أخوها معذور، برضه اللي اتقال يخلّي أخوها يحط راسه في الطين، جايز لو لسه عايشة كانت الحقيقة ظهرت، بس انتحارها أكّد كلام جوزها وحماتها وكلام الناس.
-كلام الناس؛ كلام الناس.. مخربش البيوت غير كلام الناس، لو الناس تسيب بعض في حالها مكانش حد تعِب في حياته.
-طبيعة الدنيا كده يا صابرين، مُش هنخيَّط لسان الناس ونمنعهم من الكلام، ربنا عالم بالحقيقة وده في حد ذاته كفاية.
كنت بسمع كلامه في نفس الوقت اللي عقلي كان بيربط فيه بين كلام الحاجة صفية وهي بتحتضر، وبين إني شُفت ياسمين من شوية واتكلمت معايا، ولما قارنت بين الكلام وبعضه، لقيت إن في شيء من التطابق، الحاجة صفية وهي بتحتضر قالت إن ياسمين هتنتقم، ومن شوية ظهرت لي وقالت إنها راجعة عشان تاخد حاجة ناقصاها من الدنيا، وقالت إنها تخُص سمعتها، عشان كده كان عندي يقين إن في حاجة هتحصل.
قفلت الكلام مع علي؛ لأنه هيبقى مجرَّد جدال مالوش لازمة، هنفضل نناقر في بعض بدون ما نوصل لشيء مفيد، ده غير إن مفيش حد مننا عنده دليل ينفي اللي بيتقال عن ياسمين الله يرحمها.
بعد ما علي سابني ودخل الأوضة يكمل نوم؛ لقيت دماغي بتتقل، جسمي كان مهدود ومقدرتش أقوم من على الكنبة، قرَّرت أنام مكاني، ساعتها شُفت نفسي في مكان ضلمة، غالبًا كنت في الأرض اللي ورا البيت ناحية المنشر، ساعتها سمعت صوت واحدة بتصرخ، الصوت مكانش غريب على وداني، سمعته قبل كده لكن مكنتش قادرة أحدد مين صاحبته، وفي عز الضلمة، كنت شايفة خيال بيتحرَّك، أخدت شوية وقت لحد ما فهمت إن ده خيال واحدة بتزحف على الأرض، ومش بتزحف بإرادتها؛ لأ.. دَه في حد بيجرجرها من شَعرها.
محسِّتش بنفسي غير لما لقيت إيد بتهزّني في كتفي بقوَّة، قُمت مفزوعة، وبرغم الفزع لكن مكنتش قادرة أقاوم النوم، راسي كانت تقيلة وعيني بتقفل، ومفوقتش غير على صوت علي وهو بيقول:
-قومي يا صابرين شوفي اللي حصل.
في الوقت ده بس فتحت عيني وبدأت أركّز في كلامه...
-حماة ياسمين الله يرحمها.
بصيت حوالين نفسي لما سمعته بيقول اسمها، ولما عيني جت على الشباك لقيت النهار طالع، وساعتها قُلت:
-مالها حماة ياسمين؟
-بيقولوا سمعوها بتصرخ بالليل وهي نايمة، ولما ابنها دخل عليها الأوضة لقاها واقعة على الأرض زي ما يكون حد كان بيجرجرها، وكانت بتطلَّع في الروح، وعلى ما شالها وطلب لها الإسعاف كانت ماتت.
النوم طار من عيني لما سمعت كلامه، معرفش ليه كان عندي إحساس إنها مش موتة طبيعية، مين اللي جرجرها على الأرض في أوضتها وكانت بتصرخ منه؟
جايز أكذّب نفسي لو قلت جوايا إحساس إني كنت معاها في الأوضة، لأني بعد اللي سمعته من علي؛ عرفت إن الصرخات اللي سمعتها وأنا نايمة كانت بنفس صوت حماة ياسمين الله يرحمها، ولأني مسمعتش صوتها كتير مكنتش حافظاه كويس، ومقدرتش أربط بينهم من أول مرَّة، لكن الكلام جاب بعضه وافتكرت.
البلد كلها كانت مشغولة في اللي حصل، عن نفسي رُحت الميتم رغم إني كارهاهم، لكن دي حالة وفاة والناس هتاكل وشّي لو محضرتش، وهناك شُفت مرات ابنها، اللي اتجوزها بعد ما ياسمين انتحرت بفترة قليلة، زي ما يكون اللي ماتت دي مجرد فرخة؛ مُش عروسته اللي انتحرت ليلة دخلتها.
قضّيت طارئة الميتم ورجعت على البيت، وافتكرت إني ركنت الغسيل من وقت اللي حصل وأنا بنشُر، شغلت الغسالة وبدأت أكمل، وعلى دخلة الليل كنت غاسلة وناشرة ومخلصة اللي ورايا، بعدها قُلت أرتاح على الكنبة، قعدت بعد ما عملت كوباية شاي، ولقيت علي داخل من الباب، أول ما شافني قال:
-السِّت جالها حالة صرع مفاجئ، قلبها متحمّلش وماتت.
-مين اللي قال الكلام ده؟
-سمعناه من ابنها وإحنا بنعزّيه.
حطيت لساني في بوقّي ومتكلّمتش، ساعتها علي لاحظ إني اتعمّدت مرُدّش عليه، وعشان كده سألني:
-مبترديش عليا ليه؟
-هرُد أقول إيه، أنا لا طايقة سيرة الست الله يرحمها، ولا طايقة سيرة ابنها.
-عشان حكاية ياسمين برضه؟
-تفتكر في سبب تاني؟ وعلى فكرة، حاسّة إن كلام الحاجة صفية الله يرحمها وهي بتحتضر مش من فراغ، وإن كلامها دَه ورا موت حماة ياسمين.
بمجرد ما قُلت كده لقيت علي بيبُص لي وبيقول:
-أنتي جرى لعقلك حاجة يا صبرين؟ إيه الكلام الفاضي اللي بتقوليه ده؟
-مُش كلام فاضي، والدليل في كلام اللي ما يتسمّى ابنها، تقدر تقول كانت بتصرخ من إيه؟ والسكتة القلبية اللي جَت لها سببها إيه؟
-الله أعلم يا صابرين، يعني هنعرف أكتر من ابنها اللي كان معاها؟
كالعادة، مرضيتش أجادل قصاده، ولمّا علي سابني ودخل الأوضة عشان ينام، فضلت قاعدة مكاني على الكنبة، مكنتش عارفة إيه اللي خلاني أفضل قاعدة مكاني، بَس تقريبًا عرفت السبب، لأني بدأت أسمع الخطوات من تاني برَّه؛ في الأرض اللي ورا البيت عند المنشر..
المرَّة دي قُمت وفتحت الشِّباك بدون تردُّد، ساعتها شُفتها، كانت بنفس ملامحها اللي فاتت، والكفن اللي حوالين جسمها، وكفوف رجليها اللي باللون الأزرق، في اللحظة دي طلَّعت إيدها من الكفن ورفعتها قدامي، لمحت شَعر أبيض ملفوف على صوابعها، مكنتش فاهمة هي عايزة تقول لي إيه، وفي نفس الوقت مكنتش عارفة أنطق، لكنها شافت فضولي في نظراتي ليها، عشان كده قالت:
-شَعرها، اللي على إيدي دَه شَعرها يا صابرين!
من غير ما تقول كلام زيادة؛ قدرت أفهم إنها كانت بالفعل بتجرجر حماتها من شعرها، سواء زي ما شُفتها في الأرض اللي ورا البيت، أو كان ده حصل في أوضة حماتها، مكانش يفرق معايا، كل اللي فارق معايا إن كلام الحاجة صفية الله يرحمه بيتحقق، مفيش حد بيحتضر بيخرَّف، ياسمين موجودة فعلًا، والكلام بدأ يتحقق، وفي اللحظة دي لقيت نفسي بسألها:
-قتلوكي؟
-أنا شنقت نفسي، لكن هُما قتلوني!
-مُش فاهمة حاجة يا ياسمين.
-اللي بيحصل بين أربع حيطان صعب إن حد يعرفه، خصوصًا لما حياة الطرف المظلوم تنتهي، والطرف التاني يقفل بوقّه ويحرَّف الحقيقة، كل اللي قالوه كِذب، والدَّم اللي اندفن بعد موتي يشهد على كذبهم، كل اللي شاركوا في قتلي هيدفعوا التمن، كل واحد هياخد جزاؤه على قد مساهمته في انتحاري.
قالت الكلام ده واختفت، وفضلت واقفة محتارة، ولما لقيت إن مفيش أمل من وقوفي في الشباك؛ قفلته وقعدت مكاني على الكنبة لحد ما النهار طلع، وساعتها سمعت قلق في الشارع، الناس كان صوتها عالي، لدرجة إن صوتهم خلّى علي يصحى من النوم..
خرجنا قدام البيت، وساعتها شُفنا كلب ماشي وفي بوقّه كيس أسود، الكيس كان مقطوع مكان أنيابه وخارج منه طرف قماشة لونها أبيض وعليها دَم، الناس كانت بتحاول تاخد الكيس عشان تشوف إيه اللي فيه، والدم اللي في القماشة اللي خارجة منه دَم مين، وقدام بيتنا، لقينا الكلب بيرمي الكيس وبيجري، وفي اللحظة دي سمعنا واحد بيقول إن الكلب ده يبقى كلب اللي ما يتسمّى، جوز المرحومة ياسمين، وإنه اشتراه من فترة قريبة عشان يحرس زريبة البهايم بتاعته.
بمجرَّد ما سمعنا الكلام ده؛ مدّيت إيدي ومسكت الكيس، كان عليه تُراب وطِين وكأنه كان مدفون، ولما فتحته، لقيت جوَّاه قماشة بيضا عليها دَم، ولأني مُش تايهة عن القماشة ولا عن شكل الدَّم اللي عليها، افتكرت كلام ياسمين لما قالت الدَّم اللي اندفن بعد موتي، عشان كده زعقت وقُلت:
-دَم ياسمين اللي جوزها وأمه اتهموها بالباطل، والناس اتكلموا في سيرتها، القماشة دي كانت مدفونة في زريبة البهايم والكلب اللي جوزها اشتراه نَبش وطلَّعها، كلام الحاجة صفية مكانش تخريف، وياسمين مانتحرتش عشان كانت خايفة من الفضيحة والكلام اللي الناس هتقوله عنها، ياسمين انتحرت عشان حاجة محدش عاش تفاصيلها غيرها هي وجوزها وحماتها اللي ماتت.
الكل كان مستغرب كلامي وأولهم علي جوزي، ولأن كان جوايا يقين إن اللي قُلته صح، رفعت قضية عشان أعمل تحليل دي إن إيه، وأطابق بين الدَّم اللي على القماشة وعينة من شَعر ياسمين الله يرحمها، القضية اتقبلت وفتحنا القبر وأخدنا العينة، ونتيجة التحليل أنصفتني، الدَّم دَم العذرية بتاع ياسمين، وزي ما يكون الكلب نبَش وطلَّع الكيس ولَف بيه شوارع البلد، عشان يخرِس لسان كل واحد اتكلم عليها.
لما الحقيقة ظهرت، أهل البلد اتفاجأوا إن أخو ياسمين ماشي في الشوارع ومعاه سكينة عليها دَم، وكان رافعها لفوق وبيقول: "قتلته، في البداية صدقت كلامه، وبعد اللي حصل كان لازم أقتله".
مكانش بيقول كده من فراغ، عرفنا بعدها إن قتل اللي ما يتسمّى، لمّا شافه واقف قدام البيت، قرَّب منه وطلع سكينة كانت معاه وطعنه كذا طعنة في ضهره، وكانت النتيجة إن اللي ما يتسمّى مات، وأخو ياسمين بعدها اتحكم عليه بسبع سنين سِجن.
رغم إن كلنا عندنا قناعة إن الحق بيظهر مهما طال، لكن الناس كانت مستغربة من اللي حصل، جايز كانوا مستغربين الطريقة اللي الحق ظَهر بيها، نفس الشخص اللي دفن دليل براءة ياسمين، هو نفسه اللي اشترى الكلب اللي نَبَش وطلَّع الدليل..
معرفش ليه كان عندي يقين إن ياسمين هي اللي دلَّت الكلب على مكان الدم، مفيش تفسير غير كده.. بس كتير سألوا: لمّا هي شريفة واللي اتقال عليها كذب ليه جوزها اللي ميتسمّاش قال كده؟ وليه ياسمين انتحرت ومواجهتش وأعطت فرصة للناس يتكلّموا؟
عن نفسي كنت بسأل الأسئلة دي كل ليلة وأنا سهرانة على الكنبة، لحد ما في ليلة سمعت صوت الخطوات في الأرض اللي ورا البيت، ساعتها فتحت الشباك وبصيت، الدنيا كانت ضلمة زي العادة كل ليلة، بس المرة دي شُفت ياسمين بشكلها العادي، كانت جميلة زي ما اتعودت أشوفها قبل ما تنتحر، وساعتها قالت:
_الدَّم ظهر وأظهَر الحقيقة.
_ليه انتحرتي؟
_لأني كنت رفضاه ومنعته يلمسني، ولما اعترفت له ليلة الدخلة إني بحب زميلي؛ اتهمني إني مش بنت وخايفة أمري يتكشف؛ عشان كِدَه بمنعه، ساعتها بعت جاب أمه، طلبت منه يقرّب مني بالقوة، عشان يثبت قدام الناس إني فرَّطت في شرفي لزميلي اللي حبّيته، ومحدش يلوم عليه لما يطلّقني.. سمع كلامها، مسكتني من دراعاتي ورا ضهري وكتّفتني لابنها، وهو اتعامل معايا وكأني بهيمة في الزريبة عندهم؛ بإيده، عملوا عليا دخلة بلدي رغم إن العادة دي انتهت من سنين، عاملوني كأني حيوانة ماليش شعور.. ده اللي بيدبح دبيحة بيغمّي عينيها، وأنا دمّي سال على القماشة اللي كانت في إيده قدام عيني، ولما اكتشفوا إن اتهامهم باطل سابوني وخرجوا من الأوضة، لكن أنا متحمّلتش اللي حصل معايا، وشنقت نفسي بملاية السرير؛ علَّقت نفسي في مروحة الأوضة، ولما دخلوا لقوني مشنوقة؛ أمه مسحت آثار الدم من على جسمي، وبعدها دفنوا القماشة بالدم في الزريبة وقالوا إني مش بنت، وإني انتحرت عشان أهرب من الفضيحة، الحقيقة اللي اندفنت كان لازم تظهر، وأنا رجعت عشان كده، كان ليا حق في الدنيا، ومينفعش أسيبها نهائيًا ولسه فيها حاجة تخصّني، كان لازم اللي قتلوني يموتوا، وكان لازم اللي اتجوزني يتقتل على إيد أخويا، عشان يترمى في السجن زي ما رماني لواحد بكرهه عشان البيت يفضى لُه، خصوصًا إنه بعد الكذبة قال "لو مكانتش انتحرت كنت قتلتها بإيدي!".
بعد ما خلصت كلامها اختفت، يمكن معرفة الحقيقة كانت أصعب من خبر انتحارها، بقيت حزينة أكتر من الأول، لأن في حاجات عدم معرفتها بيكون أفضل من معرفتها.
برغم إن كل اللي اتكلم في حق ياسمين عرف الحقيقة، لكن محدش عرف السبب، وطالما خصَّتني بالحكاية، يبقى أكيد ميهمّهاش إن الناس تعرفه، كفاية إنها اتبرّأت قدامهم..
الغريبة إنها ظهرت لي في المرّة الأخيرة على طبيعتها، مُش على شكلها وهي ميّتة مشنوقة، مفيش لون أزرق في وشها ولا كفوف رجليها، مفيش في ملامحه أي خوف، حسيت إنها كده ارتاحت، وفهمت كلامها الأخير ليّا، لما قالت إن كلهم هياخدوا جزاءهم، كل واحد على حسب مساهمته في انتحارها، عشان كِدَه اللي كانوا سبب مباشر في انتحارها ماتوا، وأخوها اللي رَمَاها للمصير ده، اترمى سبع سنين في السجن؛ جزاءً وفاقا.