هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • تزوج اتنتين معا | 2024-09-07
  • التنمية البشرية والمبادرة المنتظَرة، ، مقال | 2024-09-07
  • الصفر ….الصدئ | 2024-09-07
  • وصلنا لفين | 2024-09-07
  • كود 396 او كود تسلا بطيخة | 2024-09-07
  • ﻟﻠﻐﺮﺑﺔ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻭﺻﺎﻑْ  | 2016-12-28
  • خطأ التعامل مع الشخص علي أنه ذكي | 2024-09-07
  • لعنة الله علي المناصب | 2024-09-07
  • حسام حسن و العناد | 2024-09-07
  • وجبة بطاطا | 2024-09-06
  • دوامة البدايات | 2024-09-07
  • حبات الرمل (١) | 2024-09-06
  • عدة أوجه  | 2021-09-06
  • اريد | 2024-09-04
  • هذه الليلة صاخبة | 2024-08-02
  • أنت قدّها وقدود | 2024-09-05
  • خليفة إبليس في الأرض | 2024-09-04
  • للصمت حياة لا يعقلها الحالمين  | 2024-09-02
  • حياة نصفها كِتاب | 2024-09-03
  • مبعتمدش انتماءات  | 2023-09-06
  1. الرئيسية
  2. مدونة عبير عزاوي
  3. القديس

غادر مدينته، أغلق الباب وراءَه بهدوءٍ، ويمّمَ وجهه شطر الجنوب، وقف على التلة المقابلة للمدينة، يتأمُّلها لآخر مرّةٍ، بدت له مهيبة وهي تمتدُّ على سفح الجبل، يحيط بها الغيم مثل تاج أبيضَ هشٍّ وتحته قمم الأشجار خضراء داكنة تحرُّكها ريح ٌخفيفةٌ فتتمايل كأنَّها في حَضْرة هادئة.
الصخور المدبَّبة التي تحيط بالمدينة وتفصل بينها وبين قمّة الجبل تبدو مسنونة كرؤوس حراب، خُيّل إليه للحظة أنّها تتحرك، وتتلوّى كأفاع، ارتسم تحتها نهر من زرقة هاربة من بياض الغيم المنهمر على الجبل، النسمات الباردة تهبُّ من الشمال، تتغلغل في ثنايا ثوبه الرقيق باهت اللون، وتنفلت لتباغت المدينة وتتسرّب من شقوق سورها المنيع، ثم تشتدُّ فيما وراء السور مما يوحي بأن الشتاء الذي يقترب سيكون بلا قلب.
زفر من صدره زفرتين حارّتين أخرجتا القشعريرة التي سبّبتها النسمات العابرة، ثم ولّى ظهره للمدينة المتهيّئة للدخول في طقس سباتها الليلي. وأغذَّ السير.
قدماه تنتعلان حذاءً خفيفاً مفتوحاً لايصلح للمشي الطويل، يداه خاليتان من أيِّ كيس طعام أو قربة ماء. كان فقط يربط وسطه بقطعة حبل تتدلى من أسفلها سكين صغيرة.
الظلام الذي بدأ يتسلّل من خاصرة النهار ويلفُّ الأفق الغربي زاد الطريق وحشة. الأشجار التي تكاثفت لتصير غابة بدأت تقسو وتتجهّم، ولكنه كان يسرع غير عابئ بشيء فهنالك موعد بانتظاره ولابدَّ أن يصل.
ولولا ذلك الصوت الذي شقّ عليه سكون ورهبة المدى المتّسع لما توقّف لحظة.
صوتُ أنينٍ رفيعٍ يبدو لحيوان يتألّم خمّن أنّه لغزالة تلد، أو لسنّور عالق في شقّ شجرة.
توقّف، أجال بصره في الأرجاء ،حدسُه ينبئه أنّ الأمر على غير مايفكّر به. وبسرعة غيّر وجهته، وتوغّل في طريق فرعية ضيّقة أخذت تضيق أكثر، ثم انفتحت فجأة على فَرجة بين جبلين، في جانب من الفرجة كان ثمة صخرة تسدُّ الطريق، بدا عندها الصوت أوضح مايكون، أنين متقطع وصوت لهاث وأنفاس متلاحقة، ميّزها وأيقن أنّها بشريّة بلا أدنى شكّ.
دار حول الصخرة حتى انتهى الى طرفها الملتصق بقدم الجبل فوجد كومة بلا ملامح مرميّة ومغطَّاة بعباءة سوداء. خفق قلبه وتوجّس أن يكون الشيطان قد تنكّر له بهذه الهيئة ليثنيه عن موعده، لكنه لم يستسلم لهواجسه اقترب بهدوء، وتمتم كلمات من سفره المقدس، ثم رفع الغطاء الأسود فوجد تحته امرأة عارية إلا ممّا يستر عورتها، خيّل إليه أنّها تلفظ آخر أنفاسها. على مقربة منها، أمام عينيها و قريب من متناولها قربة ماء وطعام لم يمس، طعام متنوع، يعرف بعضه وكثير منه لايعرفه، أخذه العجب من حالها، لكن استغرابه لم يطل فسرعان ما اقترب منها، وببطء وتوجّس، تحسّس الحبل الذي يوثق يديها بالصّخرة فبدا سميكا محكم الربط . رفع رأسها فتناثر شعرها بعيداً عن وجهها الأبيض الذي غار ماؤه وشحبت شفتاه وتيبست وعلا من صدرها صوت الأنين.
‏ فتحت المرأة عينيها وأغمضتهما مستسلمة للإغماء وطيف همسة يلوح على شفتيها المشققتين.
سارع بحمل القربة ونقّط منها على وجهها، وبلّل شفتيها، ثم استلّ السّكين وقطع الحبل فارتمت متمددة على الأرض الصخرية تناول العباءة وغطاها، ثم وضع القربة على فمها وسكب فشربت حتى دلق الماء من فمها.
عيناها تنفتحان ببطء، رموشها طويلة تنسدل على أعلى خديها ثم ترتعش وترتفع مّرات حتى أتمت فتح عينيها ووعت ما حولها، انتفضت وسحبت العباءة لتستر نفسها مستندة إلى الصخرة حيث كانت مربوطة.
سألها برفق:
من أنت؟!
من أين أتيت؟!
هل جئت لوحدك؟
أغمضت عينيها وتمتمت بذهول:
- إليه وحده يتّجه قلبي، خطوات الطريق تحملني إليه وزادي نظرة من وجهه البهي.
وأدارت نظرها صوب الجنوب
- من ألقى بك هنا ؟ أين تتجهين؟!
- هو وحده وجهتي وله فقط يهفو قلبي.
وبدت عيناها سابحتين في ملكوت الرب، النظرات الهائمة التي يعرفها والسطوة ذاتها التي تجعل قلبه معلقا بأفق السماء.
قال لها :
- قومي واتبعيني
- لايريد قلبي سواه،
هل تدلّني على طريقه؟
أغضى طرفه وتمتم :
- قلبك يدلّك أو لا أحد. انهضي وسيري خلفي وعندما نصل سأرشدك للطريق.
اشتملت المرأة بعباءتها، وأخرجت من جيبها منديلين، حملت بعض الطعام مما كان قربها بمنديل، وربطت رأسها بالآخر، ووقفت متلهّفة للمسير.
كان الليل قد أسدل أستاره على الخلائق، وغمر الظلام الغابة، فأشعل شعلة وأخذ منها قبسا ًصغيراً، وناوله للمرأة .
سار أمامها وهي تمشي وراءه متعثّرة.
أخذ يتمتم بآياته، فبدأت تترنم بمقاطع من أناشيد قديمة تمتدح ربَّ الأرباب، الربّ القادرعلى كل شيء، الربّ الملئ بالحنان والجبروت ، وعندما رأته يكفكف دموعه أمسكت .
في الغابة التي انتهيا إليها وقف قطيع من الذئاب يراقبهما، ويستعد للانقضاض، لكن وهجاً يصدر من شعلتيهما يبعده كلمّا همّ بالاقتراب .
لم تعرف الذئاب كيف يمكن أن تتسلل إلى الموكب الصغير. فثبتت في مكانها متحفّزة، وسكن الاثنان دون صوت أو حركة.
خبا ضوء الشعلة قليلاً، واهتزت اليد التي تحملها، فتحرك القطيع للهجوم، سقطت الشعلة من يد المرأة، فانقضّت الذئاب عليهما، جرّها من عباءتها ولفّ نفسه معها، وخبأها وراء ظهره، وقف بمواجهة القطيع المهاجم، زاد وهج شعلته، فأضاءت وجهه وعندما رأته الذئاب تراجعت منسحبة وركنت بمواجهتهما، تمتمت المرأة بصوت خفيض، بينما التزم هو بصمت عميق، وأسرع المسير مبتعداً بها عن العيون الذئبية المستكينة بشراسة.
عند منعطف التقاء الغابة بالبحر أخرجها من ورائه، وأعاد لفها بالعباءة . ناولها قبسا جديدا.
صاح صوت من بعيد:
- تلك المرأة عاشقة ...عاشقة آثمة ...
وما إن رفعا بصرهما يستطلعان مصدر الصوت حتى كان جماعة من الناس يحيطون بهما ويتعالى الصراخ:
- آثمان ...زانيان ....
‏أفسدتما طهر الغابة و لوثتما البحر ...
‏التف الحشد حولهما، وضيَق الخناق عليهما.
أخذ يرتل أسفاره، ولاذت المرأة بالصمت وعلى جفنيها ظلَ دمعة انعكس عليها شعاع من الشمس التي ارتفعت من وراء الشجر. ووقع على وجهه فأشرق، سالت الدمعة ونبض في قلبها يقين ووجد.
‏سرت همهمة بين الحشد ثم ‏تعالت الأصوات صائحة:
‏- الرجم ... الرجم
‏ سارع بعض الرجال لحفر أخدود يتسع لشخصين.
أما الذين كانوا أشدّ حماسة فراحوا يجمعون الحجارة والحطب .
تقدّمت بضع نسوة من بين الجمع المتحلق و أطبقن عليهما وأخذت أيديهن تتحسس جلديهما من تحت الأسمال وهن يهمهمن بحنق، ثم ابتعدن و اتسعت الدائرة من جديد، امتلأت الأيدي بالحجارة ، ثم بدأت تنهال عليهما حارّة وحادّة كأنّ بركان حمم انفجر .
من بين الدماء ‏نظرت المرأة في عينيه اللتين تنظران بعيداّ خلف البحر، فرأت قلاعا تتهدم، وجيوشاً تملأ ساح الحرب، وطيوراً تولد مثل فلق الصبح، جفل قلبها وشقَه شعاع وجد، خلعت عباءتها وطوّحت بها أمام العيون التي شهقت لرؤيتها عارية فتوقّف الرجم برهة.
حفنت بيدها حفنة من الرمل وذرَتها في الهواء فأعمت عيون الواقفين.
‏ركضت واقتادته عبر العتمة الشفيفة للغابة، كان الصباح قد أفصح.
و عندما وصلا الشاطئ أشارت إلى المركب الخشبيَ الذي لم يكن يتسع سوى لشخص واحد مسحت بعباءتها الدماء عن وجهه وأومأت برأسها.
حلت المنديل من شعرها، وربطت به صرة الطعام وقربة الماء التي احتفظت بهما طوال الطريق، وربطته إلى خصره، ‏أصعدته إلى المركب، دفعته بقوّة فأبحر وعندما ابتعد صاحت:
‏ - سأنتظرك عند باب المدينة.
تساءل في سره:
- من أين عرفت المدينة.
كان الحشد الغاضب قد وصل، وكان آخر مارآه هو أيادي الرجال والنساء وهي تتناهب جسد المرأة العاري وتمزّق لحمها وشعرها.
‏الأسوار تحكم الإطباق على المدينة الهاجعة، والمرأة التي تنتظر عودته بالشعلة الموعودة تقف أمام الباب الموصود وقد نقش عليه شعار الولاء لقديس جديد.

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

1831 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع