هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • الحب علامة بسيطة
  • جمال مصطنع
  • عدالة الأرض وعدالة السماء
  • عندما يغيب النور 
  • مش هاسمح لحلمي يموت
  • اعط تعطى
  • فتاه من الفيوم 
  • سيكون هناك
  • تتجول في ظلام السماء
  • أمانة يا صاحبي
  • قراءتي لكتاب لعنة فستان فرح لمايكل يوسف
  • خلاصة الكلام في حدود البدعة المذمومة:
  • زيارة القبور و الدعاء .. جائز
  • "بدون سابق انذار" نوعه إيه ؟
  • زمان بعيد فكريا
  • حبل المشنقة
  • رسالة إلى الله
  • رحلة سافاري
  • ألم أقل إنني
  • يا رعاكَ اللَّه
  1. الرئيسية
  2. مدونة عبير عزاوي
  3. مولوية في جامع سيدي محي الدين

آخر موعد : 24 أكتوبر

إضغط هنا لمزيد من التفاصيل 😋

قادماً من سوق الجمعة في نهاية الصالحية ترك عدنان النوري عربته التي يبيع فيها الذرة والترمس أمام الباب المزخرف للمسجد العتيق، وقف ،رفع بصره، ردد عبارة الحمدلله، تلا ورده اليومي من الاستغفار عاقدا على أصابعه، قرأ فاتحة الكتاب، تنهد، استند قليلا إلى الجدار المبني فوق حجارة تلتف مفضية إلى زقاق طويل، جال ببصره في المكان ، كان بعض المريدين يسارعون بلملمة ماتبقى من آثار الوجبة الأسبوعية التي يطهونها ويوزعونها على الناس؛ الحنطة المهروسة مع لحم الضأن المعد خصيصا لهذا اليوم، ورغم أن الكمية تقل في كل مرة لكنهم لم يوقفوا هذه السنة المتبعة منذ مايقارب ثلاثمئة عام.

 على جانبي الزقاق وعلى أطراف الساحة المقابلة لباب المسجد تجلس النسوة اللواتي يجمعن الصدقات. وعندما يطل بعربته يرفعن صوتهن متوسلات:  

- ياشيخ عبدالله لاتنسنا من الدعاء.

يراقبنه حتى يغيب داخل المسجد ويعدن لبيع الخبز والملح وبعض المأكولات الخفيفة، وتنظيم أكياس الصدقات.

أرخى عدنان النوري ركبتيه ثم مال بجسده الضخم وكتفيه العريضتين، ودلف إلى المسجد، وجهه الأبيض يشع بالرضا والطيبة، لقد اعتاد أن يمكث في المسجد في هذه الساعة المباركة التي تسبق صلاة العصر، وتلي انفضاض المصلين من بعد صلاة الجمعة، بعد أن يفرغ من الصلاة يخرج ليبيع رزقه من الذرة والترمس المسلوق، ثم يعود مجدداً للمسجد، يتوضأ بهدوء وخشوع، يجلس في زاويته التي يؤثر الاعتكاف فيها يسبح ويذكر ولايقوم إلا للصلاة وبعدها لحضور درس الشيخ عثمان.

أكثر ما يحبه في المسجد هو هذه الساعة، وهذه الزاوية، ووجه الشيخ عثمان الذي يشرق بالتقى ونور الإيمان، وصوته الرخيم حين ينشد أشعار الشيخ محي الدين بن عربي ويردد قصائده و ترجمان أشواقه. يستمع له بكل جوارحه، وتحمله الحال لعوالم لايحدها سقف المسجد المزين بالنقوش، والحروف البديعة.

أما أكثر مايحب في زاويته تلك فأنها جزء من المكتبة وامتداد لها، يصلها بمحراب المسجد ركن صغير كأنه وضع خصيصا له، فكان يتناول مايريد من الكتب ثم يطوي الساعات وهو يقرأ، ويطوف في حادي الأرواح وبلاد الأفراح، ورياض الصالحين، وزاد المعاد..وذلك العالم العلوي الذي لايبارحه إلا إلى خضم السوق حيث يجهد نفسه في العمل ليعيل أسرته التي لامعيل لها سواه، خلفته كانت ثلاثا من البنات، قدر لهن أن يبقين عنده فقد فاتهن القطار، أو كاد، وآلى على نفسه ألا يحرمهن من أي خير أو حاجة مما تشتهي أنفسهن، ولكن ضيق الأحوال منعه من استمرار تدليله للبنات وأمهن، فأخذ يتحايل على الوقت فيطيل المكوث في زاويته بالمسجد يتعبد ويتفكر ويدعو الله أن يكون الفرج قريبا.

  أنهى وضوءه وخرج من الموضأ، شعر بيد تلمس ذراعه، نظر فإذا برجل نحيل وضيء الوجه يبتسم وهو يقول:  

- حباك الله الدرر ويسر لك ماتعسر.

 هز رأسه بامتنان وهمس : 

- وإياكم سيدي 

سارا معا حتى دخلا المحراب، ثم اتخذ مجلسه في زاويته المعتادة يستغفر ويذكر الله وإلى جانبه، جلس الرجل النحيل بعمامته الغريبة الشكل وابتسامته نفسها لا تغادر شفتيه وكأنها مرسومة رسما بل لكأنه هو نفسه لوحة من جلال وبهاء.

قبل أن ينهي عدنان النوري ذكره صدح صوت صاحب الابتسامة مترنماً :

انض الركاب الى رب السموات وانبذ عن القلب أطوار الكرامات

وغب عن الكون بالأسماء ياسندي حتى تغيب عن الأسماء بالذات

كان صوته شجيا، حنونا كأنه صوت ملاك من السماء، أخذ عدنان يهتز طربا إلى الأمام والوراء كأنه في حضرة، والرجل يمد صوته بقصيد الشيخ ابن عربي، يختار منه ماطاب له، حتى أصاب عدنان من حال الذكر ما حمله لينهض، فنهض وارتدى حلة بيضاء كانت إلى جانب الشيخ المترنم، تقدم عدنان عدة خطوات حتى صار وسط المحراب، ثم أخذ يدور ويدور منتشيا بالصوت والحضور

كرر صاحب الابتسامة الأصوات التي انتقاها من ترجمان أشواق الشيخ ابن عربي وتابع إنشاده، وعندما وصل لمقطوعة:  

النار تضرم في قلبي وفي كبدي شوقا الى ذات الواحد الصمد

فجد علي بنور الذات منفردا حتى أغيب عن التوحيد بالأحد

 صار عدنان النوري يحلق رافعاً يديه في فضاء المسجد ويكاد يلامس نقوش زهرات القرنفل الموزعة على السقف وأعالي الجدران، يسرع الشيخ الصوت فيسرع عدنان الدوران، والحلقة البيضاء تتسع وتغمره أنوار لا يدري كيف شقت ثنايا المكان.

أمسك الشيخ الغريب عن الإنشاد وأفاق عدنان النوري من حاله، بحث عن صاحب الصوت الفريد والابتسامة العفية فوجد مكانه فارغا إلا من كتاب مفتوح على الأشعار التي صدح بها، قلب غلاف الكتاب فطالعه عنوانه " العقد اللؤلوية في طريق السادة المولوية" لمؤلفه عبد الغني النابلسي.

ابتسم وهمس لنفسه :

- السلام عليك ياسيدي النابلسي طبت وطاب عذب صوتك وكلامك.

 ‏أغمض عينيه يستعيد ماحدث قبل لحظات وتمتم: - لاحرمنا الله حضورك وصوتك ياشيخ نابلسي. 

 

 أقيمت الصلاة وقف عدنان خلف الشيخ عثمان كما اعتاد وبعد أن انتهت الصلاة، جلس الشيخ عثمان النوري للدرس، رمق عدنان بنظرة وهو يرفل بثيابه البيض ومايزال هائما في ملكوت اللحظات التي سبقت الصلاة.  

بعد أن انتهى الدرس خرج الشيخ عثمان من المسجد يرف بعباءته البيضاء وعمامته الملفوفة بعناية يتبعه عدد من مريديه وخلفه مباشرة عدنان النوري ، كان الشبه بينهما كبيرا بحيث أكد ظنون البعض أنهما أخوان بل وربما توءم. 

عندما صاروا خارج المسجد، بادره الشيخ عثمان قائلا لما رآه مخطوف اللب : 

- مالك ياشيخ عدنان أرى حالك قد تغير ؟

هز عدنان النوري رأسه ولم يجب، مضى يجر عربة الذرة والترمس، بينما راح الشيخ عثمان النوري يشيعه بنظراته وقد صارت عرجته أشد وضوحا وذكرته كثيرا بعرجة والده فتنهد ثم انعطف ليستقل سيارته " الأودي" التي ركنها أول الشارع لأنها لا تدخل في الزقاق الضيق المؤدي للجامع الكبير. 

 

 

1/سبتمبر أيلول/2023

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

930 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع