هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • تزوج اتنتين معا | 2024-09-07
  • التنمية البشرية والمبادرة المنتظَرة، ، مقال | 2024-09-07
  • الصفر ….الصدئ | 2024-09-07
  • وصلنا لفين | 2024-09-07
  • كود 396 او كود تسلا بطيخة | 2024-09-07
  • ﻟﻠﻐﺮﺑﺔ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻭﺻﺎﻑْ  | 2016-12-28
  • خطأ التعامل مع الشخص علي أنه ذكي | 2024-09-07
  • لعنة الله علي المناصب | 2024-09-07
  • حسام حسن و العناد | 2024-09-07
  • وجبة بطاطا | 2024-09-06
  • دوامة البدايات | 2024-09-07
  • حبات الرمل (١) | 2024-09-06
  • عدة أوجه  | 2021-09-06
  • اريد | 2024-09-04
  • هذه الليلة صاخبة | 2024-08-02
  • أنت قدّها وقدود | 2024-09-05
  • خليفة إبليس في الأرض | 2024-09-04
  • للصمت حياة لا يعقلها الحالمين  | 2024-09-02
  • حياة نصفها كِتاب | 2024-09-03
  • مبعتمدش انتماءات  | 2023-09-06
  1. الرئيسية
  2. مدونة د أماني عبد السلام
  3. صندوق الخيوط

لا أعلم لم تذكرت جدتي هذا الصباح، وكأنها هي التي أيقظتني كما كانت تفعل حين أبيت عندها وتتهمني بالكسل لأنني أستيقظ بعد التاسعة صباحا! عشت عشرين عاماً أتردد على بيتها وحدي، أو مع العائلة. ربما شممت شيئاً ذكرني بها.. هل للأشخاص رائحة؟ رائحة مميزة، لا رائحة عطر ولا رائحة عرق، شيء كرائحة الكتب، كرائحة القهوة، كرائحة محل العطارة أو الصيدلية! مزيج من العطر والمشاعر والذكريات.

 وجدتها! العلبة الحديدية الدائرية الكبيرة، والتي أحضرها أبي إلى البيت بعد إخلاء شقة جدتي، موضوعة على مكتبي.. وبجوارها بقية من صابون جدتي. هذا الذي انتزعني من غيابات النوم.. ذلك الصابون العتيق الذي كاد أبي يخوض البحار ليجلبه لها دون أي نوع آخر!

منذ جاء الصندوق وهو يتنقل من غرفة إلى غرفة ومن طاولة إلى سرير إلى مكتب، بانتظار من يفتحه، يأخذ النافع منه ويرمي الباقي. اقترحت على أمي التخلص من الصندوق ككل، فلن يعدو علبة صدئة محشوة بالكراكيب! تقول أمي إن قلبي حجر لأنني أحكم عقلي في كل شيء، تقول إن العقل أحياناً لا يكفي.

قررت اليوم فتح الصندوق لإنهاء تلك المهمة التي يثاقل منها الجميع. جلست أرضاً وفوجئت بالذكريات تهب عليّ وأنا أحاول فتح العلبة الحديدية الدائرية، والتي كانت  -في زمن ما- علبة أسطوانات.

وكأنما أفتح صندوقاً سحرياً منتزعاً من القصص الخيالية، تعصف بي كل صور الطفولة التي أقاومها وأزيحها منذ توفيت جدتي. تأتيني الآن كأشباح من الماضي، وتجالسني في الأرض، تحاصرني، وكأنها تتطلع معي في فضول إلى محتويات الصندوق.

عالجت الغطاء المكبوس بأصابعي حتى انفك التصاقه بالعلبة، وانفتح عليّ كرنفال من الألوان والأشكال، تذكرتها الآن.. إنها علبة الحياكة الخاصة بجدتي. امتلأ المشهد ببكرات خيوط من عشرات الألوان بمختلف الدرجات، مغروس في كل منها إبرة بها بقايا خيط متبق من عملية إصلاح ما.

أخرجت بكرات الخيط وجمعتها جانباً بألوانها المدهشة لأخلي المجال لرؤية المزيد. قاطعتني أختي الكبيرة واقفة عند الباب تهتف: " ماذا تفعلين عندك؟!" رأت الصندوق مفتوحاً في الأرض فأقبلت في حماس. أين كان هذا الحماس حين كان ملقىً كالأرملة الحزينة منذ شهر؟!

تربعت في الأرض أمامي. شقيقتي ذات الخمسة والعشرين عاماً، تشبه جدتي بوجهها الأبيض وعيونها الواسعة تضيء بلون عسلي حين تنعكس عليهما الشمس. أخذت تمسك ببكرات الخيوط وكأنها تتحسس مجوهرات ملكية، تتمتم بالرحمات على جدتي وبكلام آخر لا أفهمه. قلت متهكمة: "ليتها تركت لنا صندوق مصوغات بدلاً من هذه القمامة!"

أكملت معي المهمة، بعد الخيوط كان هناك خضم متلاطم من الأزرار مختلط مع عملات عتيقة فضية ونحاسية. أزرار بكل الأحجام والأشكال والألوان، بعضها كبير وغريب، وبعضها ضئيل ولا يستحق أن يحتفظ به لأنه يشبه مليارات الأزرار، ويمكن شراء الألف منه بقرش. قلت: " ما كل هذا؟! لماذا تشتري جدتي كل هذا الكم؟" فقالت أختي ضاحكة: " إنها لم تشتر شيئاً، كانت تقص الأزرار من أي ثياب تبلى، تتخلص من الثوب أو تستخدمه كخرقة للمطبخ، أو تبطن به صندوقاً، أو تصنع منه ثياباً صغيرة للأطفال،  وتحتفظ بالأزرار ربما تصلح لقميص آخر إن احتاج الأمر." كنت فاغرة الفم فمدت أختي يدها تغلق فكي المتدلي وهي مغرقة في الضحك. كانت جدتي تصلح كل شيء، بينما لم نعد نصلح شيئاً، القديم نتخلص منه ونشتري غيره، وأحياناً دون حتى أن يصيبه البلى!  أخذنا نستخرج الأزرار المميزة النادرة، ونتخلص من الباقي. كانت أختي تتردد قبل إلقاء الأشياء القديمة في المهملات، تحتضنها في يدها وكأنها تودعها، ثم تتمتم : " لا يهم، لقد فقدنا من هم أغلى!".

حركة أصابعنا في العلبة الحديدية، وبحر الأزرار يصدر خشخشة  تحرك الذكريات الراسبة في القاع. كنت أقاوم التأثير الكاسح الذي يهب على وجهي من هذه العلبة، حين قالت أختي: كانت جدتي تطلب مني أحياناً إحضار العلبة من الدولاب، وأنا الوحيدة التي كنت أعرف مكانها، فأحملها وأجري بها متلذذة بضجتها، فتصيح أمي: كفاية جدتك صدعت! فتقول جدتي: بكرة يكبروا والبيت يفضى ويسكت، سيبيهم!"

عصفت تنهداتنا الحارة في محتويات الصندوق، قبل أن ننتبه لأمي التي أقبلت ووقفت بالباب تسأل بدورها عما نفعل. ولم تقاوم رغبتها في الاشتراك معنا، فجلست إلى جواري ببطء نسبي متناسب مع سنها الذي اقترب من الستين، أخذت العلبة بين يديها تتطلع إليها عن قرب. ضحكت للبكرة البيضاء التي غلفها كيس بلاستيكي، قالت إن تلك كانت تخصصها لخياطة الطيور المحشوة بالأرز أو الفريك! حكت أمي: كنت أمازح جدتك وأقول: " وماذا يضير الدجاجة لو خطناها بالخيط الأحمر أو الوردي؟!" فتقول: " يا بنتي العين تذوق قبل الفم".

 ثم أحكمت أمي زم فمها، أعرفها وهي تقاوم دموعها، قلبت في العملات تنظر لبعضها، ثم عرضت لي عملة نحاسية عتيقة لا يكاد يظهر ما عليها، وقالت وهي تعطيني العملات: انظري، إنه قرش من أيام الملك فاروق، وصورة الملك على ظهره! وهذه انظري، هذا  اسمه ريال!

أوقفتها وقلت: ريال سعودي؟! ضحكت وقالت: بل ريال مصري، عشرون قرشاً، كنا نشتري به على أيامي بعض الحلوى، وتقول جدتك إنها كانت تشتري به كيلو لحم!  إنه من الفضة حقيقة."

تنافسنا أنا وأختي على النظر للعملات، وجدت بعض العملات الأجنبية التي لم يعرف أحد – حتى أمي – مصدرها، رغم أن جدتي لم تغادر مصر طوال حياتها إلا للحج.

صعقتني عملة بعينها، تناولتها من العلبة فإذا بها مكتوب عليها " فلسطين" بالعربية والانجليزية، وحروف عبرية أظنها تعني فلسطين بالمثل. رفعت عيني بذهول أنقلها بين أمي وأختي متعجبة، " كيف أتت هذه يا ماما؟!" هزت رأسها في حيرة. كلمة فلسطين لم تعد موجودة إلا في كتب التاريخ العربية فقط! غير موجودة على الخرائط العالمية، ولا يعرفها نظام تحديد المواقع، كيف طبعت على عملة ما بهذه الأريحية؟! بغض النظر عن اتفاقي أو اعتراضي على القضية ككل، فإن هذه العملة كانت تحيرني بشدة. إنها منذ ثلاثينات القرن الماضي، جدتي كانت طفلة في ذلك التاريخ. قلت: "سأصورها وأبحث على جوجل" قالت أختي: " انتظري، نسأل بابا أولاً"، ثم فجأة رفعت صوتها منادية :" بابا!" ثقبت بها طبلة أذني. وصل أبي عند باب الغرفة وقال: " هل أنا أطرش حتى تسمعي الجيران صوتك هكذا؟"  نهضت أختي بسرعة وأرته العملة الغريبة وسألته عنها بفضول. عدل نظارته وأخذ يتأمل العملة، ثم تبسم بحنين أدهشني وقال: "من أين أتيتم بهذه العملة؟!"

أشرت للصندوق المفتوح فقال أبي بصوت شاع فيه فرح وشوق: "يااااه!"

وكأنهم جميعاً كانوا خائفين من فتح صندوق الخيوط، خائفين من الحنين الذي سيغمرهم مع فتحه. جلس على الأرض جوار أمي بصعوبة وركبتاه تخشخشان كمحتويات الصندوق، الذي تناوله منها، وأخذ يقلب في محتوياته وأختي تصر على السؤال: لمن هذه العملة يا بابا؟، تبسم وقال بغموض: إنها لجدتكم.

 تأخر ونحن جميعاً نتطلع إليه بانتظار بقية الإجابة، وهو على ما يبدو منغمس في ذكرياته البعيدة. يتذكر بلا ريب الأم النزقة صعبة الرضا. لم أفهم كيف كان أبي يقبل أن يحني رأسه أمامها كالطفل وهو الكهل ذو الخمسين، ويقول" أنا مخطئ يا أمي حقك على رأسي"، بل ويهمي على يديها وقدميها فيقبلها، فتدفعه جدتي برفق وتستغفر، تقطب لثوان وتبقي فمها الصغير المحاط بالتجاعيد مزموماً، ثم تبتسم ابتسامة مغضبة وتقول: " كل مرة أحلف اني ما أكلمكش وتضحك عليا يا بكاش!" فيضحك ويضمها. لقد ذاق أبي وأمي حباً لن يفهمه جيلي كله على الأرجح.

كان مبتسماً في حنين جارف، وبعد كثير من الإلحاح مني ومن أختي قال:

" كان لي خال يعمل بقيادة الشاحنات، وكان كثير السفر، وبينما كانت أمي طفلة أخذها في إحدى رحلاته إلى يافا الفلسطينية، وحينذاك لم تكن هناك حدود ولا أسلاك شائكة ولا نقاط تفتيش. قالت إنها لم تنس تلك الرحلة قط، واشترى لها خالي حلوى لم تنس طعمها، ورأت البحر والأشجار. وعندما عادا إلى البيت سقطت منه هذه العملة فاحتفظت بها لتعيدها له عندما تراه المرة القادمة. ولكنه لم يعد.. توفي وحيداً وغريباً في قرية مر بها في طريق سفره، واحتفظت هي بالعملة. هذه العملة أقدم من دول بأكملها!"

احتفظت بالعملة في يدي، بينما أخذ أبي يقلب في العلبة، والإبر الحادة توخز أصابعه، عيناه تفيضان بالحزن، يعود طفلاً مشتاقًا لأمه، يسترجع حكايات أراها في ملامحه ولا يبوح بها. ووجمت أمي وشقيقتي لوجومه. أعطاني الصندوق ونهض تاركاً الغرفة دون كلام، وتبعته أمي وشقيقتي التي تخلت عني بدورها. بقيت وحدي، أستكمل احتفالي العاطفي، وتسللت من بين صخوري دمعة أسرعت بمسحها. أمسكت هاتفي وصورت العملة التي أبقيتها في يدي، ورفعتها على فيسبوك وكتبت فوقها: "ورغم الفراق، ستظل تجمعنا!"

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

1458 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع