رفعَ رأسَه المُثقَلَ
لا يدري أين هُو
يفتحُ عينيه و يغلقُهما عدةَ مراتٍ ..لا فارقَ بين الحاليْن
هل فقدَ بصرَهُ أم أن هذا هو القبرُ و قد أُحكِم عليه؟!
لا إنهُ لم يمُت
يتحسسُ بيديه الأرضَ الرطبةَ الغريبةَ الملمس
يتحسس صدرَه و قد ابتلت ثيابُه و التصقت بجسدِه
مازالت أنفاسُهُ تترددُ و مازالَ خافقُه يتخبَّطُ بالحياة و بالخوفِ
مِلحُ البحرِ يُلهبُ جلدَه
و الأرضُ ـ التي لا يعلمُها ـ تميدُ به كما يميدُ السفينُ بركابِه
أذناهُ تلتقطان أصواتاً لم يعهدْها
لعلها تسبيحُ مخلوقاتِ اللهِ في ذلك المكانِ الذي لا يعلمُه....
يا إلهي .. لقد تذكٌَر َ!
تذكَّرَ حين قفَزَ إلى البحر تدفعُه يد الأقدار ..
ألقى بنفسِه و هو يحملُ ذنباً يكادُ يشُدُّهُ بثِقَلِهِ إلى أعماقِ المحيط
يودُّ لو أن تلك الأمواجَ التي تتقاذفُه تمزقُ صحيفةَ ذنبِهِ كما تكادُ تمزقُ جسَدَه المُنهك..
يجاهدُ للإفلاتِ من فمِ البحرِ بلا جدوى ..
القلبُ يكادُ يقفزُ من حلقِهِ
و إذا بسوادٍ أضخمَ من سوادِ البحرِ و الليلِ معاً
و إذا الموج يصمُتُ احتراماً و هيبة
و الماءُ ينحني خضوعاً ثم ينسحب
و يبقى هو مُجهَدَ الذراعين و القلبِ في ذلك الحَرَمِ الرطبِ الغريب..
و ينام
.........
"لقد كان ذنبي عظيماً
و أنت يا ربُّ ما زلتَ تعطيني الفرصة"
لم يجاهدْ للبحثِ عن مخرجٍ ..
هو يعلمُ بالضبط من الذي أتى به هنا
و هو يعلمُ ما الذي أتى به هنا
ركعَ على ركبتيه و أخذ يبكي و ينتحبُ كالطفل الصغير
لقد أحضرَك اللهُ إلى حَرَمِ قوتِه و جبروتِه
أحضرَك هنا وحدَك
جِدْ لنفسِك عذراً يا صاحبَ الحوت
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"
لسانهُ عاجزٌ عن كل كلامٍ سواها
كلما أرادَ أن يقولَ شيئاً بكى
الدمع يحرِقُ عينيه اللتين تكادان تنسيان الإبصار
يغطي وجهَهُ بكفيه و يرتفعُ نشيجُهُ حتى يكادُ الحوتُ يرقُّ لَه
يبحثُ عن عذرٍ .. و هو يعلمُ أن اللهَ يحبُّ الأعذار
يحاولُ أن يذكرَ عملاً صالحاً سبقَ له
لا يقدرُ أن يقولَ شيئاً
خطر له أن أمَّهُ لو كانت هنا لرقَّت لحالِه .. إذن فلا شكَّ أن الله سيرحمُهُ .. لم لا و قد كان رحيماً منذ الأزل؟!
كم كان رحيماً حين لم يتركه فريسة لأمواجِ البحرِ الجائعة..و جعله في هذه الصومعة الطاهرة آمناً يذكرُ ربَّه
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"
لا يعلمُ كم مضى من الوقت
أرهقَهُ البكاء .. و ظهرُهُ انحنى من ثِقَلِ ندمِهِ و خشيتِهِ
يذكرُ النعمةَ التي كانت تكسوهُ من رأسهِ لقدميه
أخذ يعدّدُها واحدةً واحدة .. و يعودُ و يذكرُ ذنبَه فيَعظُمُ في نظرِه أكثرَ و أكثرَ ..و يملأُ عينيه دمعاً لا يملكُ له حبساً
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"
يا إلهي ..أهذه يده؟!
إنه يرى
يلتفتُ فيجدُ بصيصَ ضوءٍ لا يعلمُ من أين
لقد كان يسمعُه و يراه
لقد غفرَ له
خر ساجداً لا يبالي بالرطوبة التي تصيب وجهه
الضوءُ هناك
نسمةٌ رقيقةٌ مست وجهَه
الشاطئُ يظهرُ في الأفق
لم تنسَني يا ربُّ! لم تطردْني!
رغم أني لا أستحقُّ لا تزالُ تَفتحُ ليَ الأبواب
كيف أشكرُك؟ كيف لهذه النعمةِ أن تُشكر ؟
و أيُّ نعمةٍ أشكر ؟
نعمةَ النجاة ؟ أم نعمةَ المغفرة؟
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"