ها أنا بعد غياب عشرين سنة أقف وسط دار جدي القديمة، تملأ انفي روائح الياسمين والجوري وزهر الليمون والغاردينيا ؛ تتمايل أشجار الدار وتدفق الفسقية بمائها فيخرخر صوتها متناغما مع دقات قلبي .
ليت جدي يصحو لثانية فألقي عليه الأسئلة التي ظلت تلح ّ علي طوال هذه السنوات العشرين .
في باحة الدار تطوف حولي أخيلة جدتي و أمي، وأسمع طرق خطوات جدي بقدميه الواهنتين على البلاط كل صباح يهمهم قرب باب غرفتي : الصلاة الصلاة ؛ أغطي رأسي كالعادة متجاهلاً النداء ؛ فتنسحب الخطوات وتبتعد صعودا الى غرفته في النصية التي تتوسط البيت تظلل نافذتها عرائش الياسمين وتتطاول جوارها شجرة الكباد بأوراقها الخضراء وثمارها المتدلية كبطون نساء حوامل .
منذ وفاة جدتي توقفنا عن جني ثمار الكباد وصنع المربى اللذيذ الحريف من قشرها . جدتي تجمع ثمار أشجار البيت المشمش والتفاح والأكدنيا وتتحول على يديها الى مربى شهي .كل شيء سكن في هذا البيت بعد رحيلها ؛ صوت المذياع الذي يصدح كل صباح بأغاني فيروز ؛ أو بأغاني الست مساء ؛ وكذلك صوت المذيع الجهوري الذي يلقي بيانات الجيش أيام الحرب التي ذهب إليها والدي ولم يعد حين كنت في الثالثة من عمري ولم أعرف حينها لم انتقلت أمي بعد شهور من غرفتنا لتعيش في غرفة عمي حسان ؛ ثم بعد شهور أخرى لتحضر طفلاً تقربه مني وتقول لي : قبّله هذا أخوك الصغير ؛ لم أحب هذا الأخ ولست أدري لماذا؟!
أقبع في نصية جدي ساعات أراقبه وهو يركب ويفكك آلات لا أعرف ماهي ؛ دولاب متحرك ؛ قطع من أشرطة سوداء تطقطق بين يديه ؛ ثم ينهكني التعب فأغفو عند قائمة الطاولة التي يعمل عليها ؛ يحدثني وأنا أستمع له حتى أغفو . يروي لي الحكايات الغريبة التي أفهم بعضها وأسكت عن بعضها الذي لا أفهمه . / بعد رحيل جدتي دخل في صمته الكببر / .
مربى الكباد أيضاً يذكرني ب / إيلينا / زوجة المسيو كارفن الفرنسي صديق جدي الذي يشترك معه في حب صناعة الأفلام التسجيلية والتوثيقية جمعهما هذا الحب بعد أن عمل والداهما معا أيام احتلال الفرنسيين لدمشق في عشرينيات القرن الماضي ؛ كان والد كارفن مصوراً رافق الجيش الفرنسي ؛ حين التقى بوالد جدي أذهله أنه كان يحسن العمل في لف وتسجيل شرائط الأفلام السينمائية ، كانت مهنة نادرة في ذلك الوقت اكتسبها والد جدي من دراسته لمدة سنتين في إيطاليا ضمن بعثة تعليمية .
اختار والد كارفن أن يسكن بيتاً ملاصقاً لبيت جدي ليكون قريباً من صديقه الفنان وليعيش كل تفاصيل الحارة والمجتمع الدمشقي الدافئة والعميقة ويجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات والحقائق ؛ أحضر عائلته لتسكن معه في بيته الدمشقي.
كان كارفن وجدي بعمرين متقاربين نشأا معا ولازما والديهما واكتسب كل منهما حب تلك المهنة و بعد أن رحلت عائلة كارفن مع الفرنسيين عائدين الى بلادهم ظل الاثنان على تواصل يتبادلان الأفكار عبر رسائل بريدية عرض عليّ المسيو بيير كارفن ( الابن )عدداً منها احتفظ بها بعد وفاة والده منذ سنوات عديدة .
*****
صوت حوقلة عمتي زهرة وهي تخرج من غرفته أيقظتني من شرودي وأنا واقف وراء نافذته ذات الزجاج الملون الذي يحجب عني معظم السرير لكنه يتيح لي رؤية رأسه الأصلع الصغير وجبهته التي بدت لامعة بالعرق تحت مصباح غرفته الخافت .وتمنيت لو أن هذا الرأس المليء بالأفكار يعود الى نشاطه ساعة فقط لأسأله وأعرف كل ما أريد .
. مضت ساعة وأنا أراقب جسده المسجى والظلام حولي يغرق ساحة الدار ولاضوء إلا ذلك الصادر من المصباح الشاحب حيث يرقد جدي هائماً في عوالمه الغامضة . آلمتني ساقاي ؛ حركتهما قليلا ؛ صعدت الدرج الحجري المؤدي إلى غرفة النصية حيث يحتفظ بأفلامه؛ دفعت الباب فصرّ محدثا صوتاً طالما أحببته عندما كنت صغيرا؛ أهرب الى فضاء هذه الغرفة الصغيرة بعيداً عن الضوضاء وأعاود الجلوس أسفل الطاولة الكبيرة أراقبه وهو يقص السلاسل الطويلة للأفلام يلفها على بكرات ضخمة يدون عليها كلمات وأرقام أعرف أنها عناوين الأفلام ونبذة عنها وتاريخ صنعها ..لقد صنع جدي أفلاما عن كل شيء ؛ الحارة والبيوت ؛ الأبنية ؛ الأشجار ؛ الليمون ؛ الناس المساجد؛ القصور ؛ الآثار . وثق بأفلامه تاريخاً كاملاً .
الخزانة الضخمة التي يحتفظ فيها بأفلامه تمتد من الأرضية المبلطة بحجر مربع الشكل صقيل الملمس الى السقف المزين بالصدف والزجاج الملون .وكان مفتاحها كبيراً يحتفظ به معلقا بزاوية الغرفة محاطاً بعدد هائل من الصور التي التقطها لأعماله ؛ وقد غطاه بصورة كبيرة له وللمسيو كارفن بحيث لايظهر مكان المفتاح لأحد غيري كان هذا سرنا نحن الاثنين.
تناولت المفتاح واحتضنته بين كفي ، تذكرت ذلك اليوم الذي كشف لي جدي عن مكان المفتاح
وذلك قبيل سفري مع عمي حسان وأمي وإخوتي ؛ حينها حدثني طويلاً عن والدي وعن الحرب والأفلام؛ ثم أعطاني عنوان كارفن ووالده ؛ كان يعرف عشقي لصنع الأفلام وعرف بحدسه رغبتي..أنا الوحيد الذي شاركته هذا الشغف؛ فعمي حسان وإخوتي منه اختاروا العمل في مجال التجارة وقرر عمي أن نسافر إلى فرنسا ليتمكن من إدارة أعماله التي توسعت كثيرا في أوروبا كلها .
****
هزني صوت عمتي زهرة وهي تصرخ ناحبة ؛ كان الضوء يغمر النصية يبدو أنني غفوت تحت الطاولة مستنداً إلى قائمتها القريبة من الخزانة.. تماما مثلما كنت صغيرا ، انتفضت من مكاني نزلت درج النصية متعثرا ببكاء عمتي المبحوح وهي تتهاوى عند سرير جدي وهو ساكن بوجه متورد رغم أن نبضه توقف إلى الأبد غطيت وجهه وضربات قلبي تكاد تحطم صدري ؛ انهمرت دموع حارة من عيني لم أستطع حبسها تحولت الى مايشبه النشيج ، جلست إلى جانب فراشه أواصل احتضاني ذلك المفتاح وأنا أتذكر نظرات المسيو بيير كارفن وهو يمد أمام عيني شيكاً مفتوحاً مقابل أن أحضر له كل أفلام جدي .